الحرّيات الأكاديميّة في الجامعة التّونسيّة: الواقع والآفاق
إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن
-
العدد: 7354 - 2022 / 8 / 28 - 02:22
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
مقــــــدّمة:
اقتنعت الهياكل النّقابيّة في قطاع التّعليم العالي بأنّ دور النّقابة ليس المطالبة بتحسين الأجور، والنّضال لتحقيق زيادات ماديّة لمواجهة تهرئة المقدرة الشّرائيّة للمدرّسين، والعمل على توفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم فحسب بل اقتنعت أيضا بأنّ تحسين الأوضاع الماديّة لا يضاهيه إلاّ إرساء مناخ للحرّيّة يساعد المدرّسين على التّدريس والتّأطير والبحث في ظروف مريحة ومشجّعة على العمل. وقد تولّدت هذه القناعة من واقع جامعي سمته التّضييق على البحث الحرّ والمستقلّ، وقوامه تواتر تجاوزات وزارة الإشراف ووضعها العراقيل أمام الأساتذة، واتّباع سياسة قائمة على الأمر والنّهي والمنع والتّحريم. وللتّصدّي لهذه الوضعيّة الغريبة فكّرت الجامعة العامّة للتّعليم العالي والبحث العلمي في بعث مرصد للحرّيات الأكاديميّة. فما هي الحرّيات الأكاديميّة؟ وماهي آفاق هذا المرصد؟
1-تعريف الحرّيات الأكاديميّة:
إنّ أفضل تعريف للحرّيات الأكاديميّة هو ما تضمّنته التّوصية الصّادرة عن اليونسكو بتاريخ11نوفمبر1997 والّتي جاء فيها ما يلي:
*على كلّ دولة أن تؤمّن ممارسة الحرّيات الأكاديميّة أي أن تؤمّن:
*حرّية التّدريس والنّقاش بعيدا عن أيّ إكراه عقدي
*حرّية إنجاز البحوث وتوزيع نتائجها ونشرها.
*حقّ المدرّسين في التّعبيرعن آرائهم بكلّ حرّية بشأن المؤسّسة الّتي ينتمون إليها أو المنظومة الّتي يمارسون في نطاقها مهامّهم.
* حقّ المدرّسين في عدم الخضوع لرقابة المؤسّسة وفي المشاركة، بكلّ حريّة، في أنشطة المنظّمات المهنيّة أو المنظّمات الأكاديميّة الممثّلة.
* النّفاذ إلى المكتبات الّتي تمتلك توثيقا محيّنا وغير الخاضعة لأيّ رقابة أو عائق ذي طابع فكري.
* النّفاذ دون أيّ رقابة إلى الشّبكات المعلوماتيّة العالميّة، والبرامج المرسلة عن طريق الأقمار الصّناعيّة وإلى بنوك المعلومات الضّروريّة للتّدريس والتّكوين والبحث.
*حريّة المشاركة في ملتقيات دوليّة حول التّعليم العالي والبحث العلمي والسّفرإلى الخارج دون رقابة أو قيد.
لكنّ المتابع لواقع الجامعة التّونسيّة يلاحظ مفارقة عجيبة بين الموجود والمنشود، بين ما توصي به اليونسكو وما يّكرّس عمليّا، بين الواقع المزري والدّعاية الرّسميّة المضلّلة. وسنقتصر على ذكربعض الأمثلة لتبيان هذه المفارقة.
2- واقع الحرّيات الأكاديميّة في الجامعة التّونسيّة:
في الحقيقة إنّ واقع الحرّيات في الجامعة ليس إلاّ انعكاسا لواقع الحرّيات في البلاد، وإنّ التّضييق على المدرّسين والباحثين والنّقابيّين ما هو إلاّ جزء من التّضييق على كلّ النّشطاء المدافعين عن حرية الرّأي والتّفكير والتّعبير، وإنّ تدخّل الوزارة لمنع تظاهرات وأنشطة فكريّة لا هدف له إلاّ مزيد تصحير البلاد وخنق كلّ نفس مستقلّ عن إرادتها. لذا لم تتورّع هذه الوزارة عن منع تظاهرات وأنشطة فكريّة على أهمّيتها وغزارة فوائدها. فقد قرّر قسم العربيّة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس تنظيم ندوة فكريّة في شهر أفريل 2006 وقرّر إهداءها إلى الأستاذ عبد المجيد الشّرفي. وقد أبدى مدير المعهد، في البداية، موافقته وتحمّس للفكرة ووعد بمساعدة القسم على إنجاز النّدوة لكنّه طلب، بعد مدّة وجيزة، التّريّث والتّمهّل، حينئذ تدخّلت النّقابة الأساسيّة للأساتذة الباحثين لدى مدير المعهد ورئيسة جامعة المنارالّتي أبدت بدورها تفهّما وأثنت على الأستاذ الشّرفي، ووعدت بتقديم الجواب بعد استشارة رؤسائها. وتوالت الأيّام وتعاقبت الأشهر وذهبت رئيسة الجامعة في سبيل حالها والنّدوة لم تُعقد لا لشيء إلاّ لأنّ الأستاذ الشّرفي مغضوب عليه. كما أنّ وزارة الإشراف منعت الأستاذ الشّرفي من تقديم درس افتتاحي بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة في مفتتح السّنة الجامعيّة 2006/2007 مدّعية أنّ الدّروس الافتتاحيّة لا يلقيها إلاّ الأساتذة المتميّزون.
وينتقل هذا الغضب من تونس إلى صفاقس حيث قرّرت النّقابة الأساسيّة بكليّة الآداب بصفاقس تنظيم مائدة مستديرة حول الحرّيات الأكاديميّة والحقّ النّقابي، واستعدّت لإنجاحها وذلك بتقديم مداخلات تتناول مختلف جوانب الموضوع. لكنّ هذه التّظاهرة تأجّلت ولم تنعقد منذ مارس2007 لأنّ وزارة الإشراف اشترطت عدم حضور ممثّلي الجامعة العامّة، وانتهى التّأجيل إلى الإلغاء. كما برمجت كلّية الحقوق بصفاقس ندوة في شهر نوفمبر2006 احتفالا بخمسينيّة صدور مجلّة الأحوال الشّخصيّة. لكن أُعلم منظّمو هذه النّدوة أنّه يستحيل عقدها في الكليّة. ويُعزي بعض الأساتذة هذا المنع إلى مشاركة وجوه أكاديميّة غير مرغوب فيها.
ويتكرّر نفس الشّيء في سوسة. فقد تقرّر عقد ندوة حول"المرأة والتّشريع" دعت إليها وحدة بحث بكليّة الآداب بسوسة أيّام 9 و 10 و11 نوفمبر2006 وذلك بعد اعتذار نزل في جهة القنطاوي ممّا دفع منظّميها إلى عقدها في مقرّ الكلية.
وقد تتّخذ العرقلة شكلا آخر أكثر خطورة. فالأستاذ رشيد الشّملي، أستاذ بكلية الصيدلة بالمنستير، اُضطرّ إلى شنّ إضراب جوع دام 28يوما"احتجاجا على التّضييقات المتكرّرة الّتي يسلّطها عليه عميد الكليّة وعلى صمت سلطات الإشراف عليها وعدم الإنصات والاستجابة لمطالبه المهنيّة" (الجامعي عدد13- مارس / أفريل2007 ص3). ومطالب الأستاذ الشّملي تندرج في إطار الحرّيات الأكاديميّة وتتمثّل في "إعادة إحياء حديقة النّباتات الصّيدليّة الّتي أنشأها واستئنافه لدروس المرحلة الثّالثة في التّداوي بالنّباتات ورفع العراقيل عن وحدة البحث الّتي ينتمي إليها وغيرها من المطالب المهنيّة" (مرجع سابق). أمّا استعمال الأنترنات والنّفاذ إلى المعلومة بكلّ حريّة فهما من أعسرالأمور في أغلب الأحيان ويتسبّبان في عرقلة البحوث وتعطيل الأنشطة العلميّة. لذا يشتكي كثيرمن الباحثين من الرّقابة المسلّطة على الأنترنات والّتي لا تمكّنهم من النّفاذ إلى المعلومة بيسر وتحرمهم من الاستفادة من خدماتها.
لقد كانت هذه الوقائع وغيرها حافزا إلى التّفكير في قضيّة الحرّيات الأكاديميّة وطرحها على بساط البحث والدّرس لاستنباط الآليّات الكفيلة بحمايتها من التّجاوزات والعراقيل بغية تيسير ظروف التّدريس والبحث.
3- إنشاء مرصد الحرّيات الأكاديميّة:
سعت الجامعة العامّة للتّعليم العالي والبحث العلمي والأساتذة المعنيّون بمرصد الحرّيات الأكاديميّة إلى توفير كلّ ممهّدات النّجاح لهذا المشروع، واتّسم عملهم بالتّأنّي والتّروّي، وشهد مراحل وحلقات متكاملة. فقد اعتمدوا مراجع يُعتدّ بها ووفّروا وثائق تمتّ بصلة متينة إلى هذا الموضوع لدراسته من كلّ جوانبه. فكانت البداية مع مقال الأستاذ محمّد الشيباني الموسوم ب" الحرّيات الأكاديميّة: الحقّ والخرق" والّذي استند فيه إلى مقرّرات المنظّمات الّتي اهتمّت بهذه المسألة من قبيل اليونسكو والمنظّمة الدّوليّة للتّربية والجمعيّة الدّولية للجامعات (انظر الجامعي عدد13-مارس/أفريل2007 ص5).
ثمّ نظّمت الجامعة العامّة ندوة، في إطار الاحتفال بخمسينيّة الجامعة التّونسيّة، حول "الحرّيات الأكاديميّة" يوم السّبت 9فيفري2008 بنزل المشتل قُدّمت خلالها مداخلات وشهادات. فقد تحدّثت الأستاذة منية بن جميع عن الإطار القانوني للحرّيات الأكاديميّة، وتطرّق الأستاذ محمود بن رمضان إلى الحرّيات الأكاديميّة وإشكاليّة النّفاذ إلى المعلومات في حين ركّز الأستاذ جلّول عزّونة في مداخلته على الحرّيات الأكاديميّة وإشكاليّة النّشر، واختُتمت النّدوة بتوصية لبعث مرصد للحريات الأكاديميّة تولّى الأستاذ كارم داسي تقديم أهدافه والتّصوّرات الأولى عن كيفيّة تجسيمه.
وأثناء النّدوة الّتي عقدتها الجامعة العامّة، بمناسبة 5 أكتوبر"اليوم العالمي للمدرّس"، في كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس -9أفريل- يوم السّبت 11 أكتوبر2008 وفي إطار الاحتفال بخمسينيّة الجامعة التّونسيّة قدّم الأستاذ أحمد السّوسي محاضرة حول" المنظومة القانونيّة والإدارة الرّشيدة في التّعليم العالي" وتمّت مناقشة"مشروع ميثاق الحرّيات الأكاديميّة للجامعيّين التّونسيّين".
4- مضمون الميثاق:
تضمّنت توطئة الميثاق تقويما لمسيرة الجامعة التّونسيّة طَوال خمسين سنة، وتوقّفت عند تطوّرها والتّحدّيات لّتي تواجهها لتواصل وظيفتها في نشرالمعرفة و"تكوين أجيال من الباحثين والمدرّسين والإطارات العلميّة والتّقنية الّتي تحتاجها البلاد"، وأشارت إلى مواطن الوهن ومظاهر الخلل الّتي أضعفت أداءها، وأكّدت حرص الجامعيّين على صيانة مكاسب الجامعة وإصرارهم على تطويرها لتضطلع بمهامّها على أحسن وجه شريطة أن تتوفّر بنية ملائمة تساعد على البحث والتّطوير، وأعلنت الوثيقة تأسيس مرصد وطني للحرّيات الأكاديميّة وعلّلت ذلك بالوضع الخطير الّذي وصلت إليه الجامعة التّونسيّة والانتهاكات المتكرّرة الّتي تتعرّض لها. وركّزت الفقرة الثّانية المعنونة ب"الميثاق" على مجالات الحرّيات الأكاديميّة بشكل مفصّل ودقيق مستندة إلى المواثيق واللّوائح الصّادرة عن المنظّمات والهيئات الّتي اهتمّت بالموضوع من قبيل اليونسكو وغيرها...واختُتمت الوثيقة بالحديث عن واجبات المدرّس ذلك أنّ المطالبة بالحقوق تقتضي الالتزام بالواجبات.
هكذا تصبح الحرّيات الأكاديميّة مطلبا ملحّا وحاجة أكيدة وضرورة لاغنى عنها بالنّسبة إلى الأستاذ الجامعي في ظرف اتّسم بالانغلاق وقمع حرية العمل النّقابي، واتّباع وزارة الإشراف سياسة المكيالين في علاقة بسنّ التّقاعد واستهداف النّقابيّين والباحثين بعد استهداف الهيكل النّقابي، وحلّ لجنة دكتورا الدّولة حارمة عشرات الأساتذة من إكمال أطروحاتهم أو مناقشة ما هو جاهز منها.
5- الآفاق:
النّهوض بالجامعة التّونسيّة وانتشالها ممّا تردّت فيه وإعادة إشعاعها لتجاوز وضعها السيّء مهام جسيمة تحتاج إلى تكاتف الجهود والإيمان بدور الجامعة، هذه المؤسّسة العريقة والرّائدة في تكريس ثقافة الحداثة والمعاصرة وتطوير المجتمع. وممّا لاشكّ فيه أنّ إنشاء هذا المرصد قادر على دفع جانب كبير من الأخطار الّتي تتهدّد الجامعة إن تمّ تفعيله وتحمّل الأساتذة الجامعيّون مسؤوليّاتهم بكلّ جرأة، ووجد الدّعم الكافي من المرصد الوطني للحرّيات النّقابيّة ومن هياكل الاتّحاد المناضلة.