حوار/ الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري: حداثة ما بعد الإنسانية أكثر خطورة من أسلمة أوروبا


حميد زناز
الحوار المتمدن - العدد: 7224 - 2022 / 4 / 20 - 19:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ميشال أونفري، حينما تلتقي هذا الفيلسوف الفرنسي الأكثر شهرة اليوم تشعر ببساطة الرجل وتواضعه رغم النجومية التي يحظى بها ليس في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، بل حتى بالنسبة إلى مبيعات كتبه التي حطمت أرقاما قياسية وباتت الفلسفة معه ومع بعض الفلاسفة الجدد الآخرين تنافس الرواية والكتاب السياسي في فرنسا منذ حوالي أكثر من عشريتين من الزمن. في ما يلي حوار يفكك فيه أهم القضايا الفكرية الراهنة اليوم.

تجاوز عدد مؤلفات ميشال أونفري المئة، ونالت في مجملها أحسن استقبال من طرف القراء وقد وصلت مبيعات بعضها إلى حوالي 500 ألف نسخة وترجم معظمها إلى حوالي 30 لغة.

ولم يبق حبيس التأمل النظري المجرد والتلذذ بالكلمة الفلسفية، بل راح ينغمس في الفعل وينشغل بقضايا الحياة العملية والمشاركة في الصراع السياسي والثقافي. وهو ليس من الذين يخفون هويتهم السياسية، أناركي وتحرري وهو بذلك ينتمي طبيعيا إلى اليسار ولكن “اليسار الحقيقي” المعني بحياة البشر الواقعيين.

قرر الانسحاب من التربية الوطنية بعدما تأكد بأن تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية الفرنسية قد تم تحريفه وأدلجته ولم يعد يؤدي الوظيفة المنوطة به أساسا ألا وهي تنمية الروح النقدية وتقديم الفكر الفلسفي الحقيقي المغيب للناشئة بدل إلهاء عقولهم بفلسفة رسمية ملساء غير ثورية إن لم تكن رجعية تبليدية .

ويبقى إسهامه المتميز تأسيسه جامعة شعبية في “كون” سنة 2002 لإيصال “أم العلوم” إلى كل شرائح المجتمع مجانا ودون تمييز في السن أو في المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو في الجنس ونالت نجاحا منقطع النظير حضورا وإشعاعا إذ كانت لها بعض الفروع في جزيرة كورسكا ومرسيليا وغيرهما بل وصلت حتى كندا والمغرب.

فضلا عن سلسلة الكتب السنوية التعليمية التي كان ينشرها كل عام في سلسلة أسماها “تاريخ الفلسفة المضاد” وهي كتب تعتبر البديل لبرنامج الفلسفة الرسمي في فرنسا ولم يكتف بالتفكير في تثمين الجمال والذوق الفني بل نزل إلى أرض الواقع فأنشأ جامعة الذوق مع مجموعة من المزارعين المحليين وبعض الطهاة المشهورين.

من مؤلفاته: فن التلذذ، من أجل مادية متعوية / المنطق النهم / نظرية الجسد العاشق / من أجل نيتشوية يسارية / معدة الفلاسفة/ سياسة المتمرد / اللجوء إلى الغابات/ أفول صنم: الأكاذيب الفرويدية/ النظام الفوضوي، حياة ألبير كامو الفلسفية / بهجة الحب، كوسمس (الكون)، في سبيل حكمة بمنأى عن الأخلاق..

* حميد زناز : توترات اجتماعية، تمزقات في الهوية، أزمة صحية، تقلبات اقتصادية.. يعتقد الكثير من الفرنسيين أن فرنسا في حالة تدهور؟ ما هو موقف الفيلسوف ميشال أونفري؟

لقد كرست كتابا من خمسمئة صفحة، “الانحطاط” سنة 2017. نعم من، لهذا الموضوع. من الواضح أن فرنسا تتجه نحو حركة السقوط التي تتعلق بالحضارة اليهودية - المسيحية المنهكة والتي تقع تحت وطأة الخارج الذي يحتقرها كالولايات المتحدة وتركيا والصين وأفريقيا وغيرها من البلدان الأخرى المستترة. وتحت تأثير الكراهية الداخلية الذاتية لأن النخب الأكثر نشاطا وظهورا تكره فرنسا، والحضارة اليهودية - المسيحية، وأسلوب الحياة العلماني والديكارتي والربليزي الفرنسي، حيث تم تصور الزواج الجنسي لبعض الوقت على أنه اغتصاب وفكر هوغو الاجتماعي الذي قدمته نزعة الوكيزم وإلغاء الثقافة باعتباره الآن نتاجا قديما أنتجه رجل أبيض قديم غير مثلي.

* حميد زناز : هل أصبحت فرنسا متعددة الثقافات، بمعنى هل الثقافة الفرنسية في طريق الذوبان في الثقافات الوافدة؟

ميشال أونفري: في المدن نعم أما في الريف فلا. لم يكن الشرخ بين العاصمة والمدن الكبرى والمقاطعات الفرنسية واضحا على هذا النحو من قبل. تقوم المدرسة بتعبئة الأطفال بهذه الأيديولوجية منذ سن مبكرة. سكان المدن أصحاب الشهادات العليا هم الأكثر قابلية للاختراق من طرف أيديولوجية التعددية الثقافية وهم ينقلونها أيضا إلى أطفالهم. إن عدم الاستسلام لضربات المدرسة والجامعة والإعلان والسينما والإعلام والضجيج السياسوي يتطلب قوة ذهنية معينة هي متوفرة أكثر في الأرياف حيث لا تسمح الحكمة التجريبية بأن تروّض بسهولة. لكن هذا الريف المرتبط شيئا فشيئا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي بالتنين الحضري لن يصمد طويلا.

* حميد زناز : ضباط شرطة، سياسيون، كتاب رأي… يتحدثون علانية عن حرب أهلية محتملة في فرنسا. ما رأيك؟

ميشال أونفري: أنا لست من أولئك الذين يعتقدون أن هذه الحرب الأهلية قادمة. أنا أرى بأنها قائمة بالفعل… إنها هنا بالفعل! إن تهاون الدولة في فرض قوانين على الأراضي التي فقدتها الجمهورية بهدف تجنب المواجهة يجعل هذه الحرب يخوضها طرف واحد إذا توغل الآخر في مناطقه بينما تخلى الآخر عن القيام بعمله. ليس لدينا نقص في الكفاءات لدى الشرطة أو الدرك، لكن السياسيين الذين يتبادلون على السلطة منذ نصف قرن وخلف الكواليس هم الذين يصدرون الأوامر بعدم التدخل.

إنها حرب غير متكافئة تشنها المافيا ضد بقية البلاد التي لا تحرك ساكنا. هذه الحرب الأهلية ليست دموية لأننا فقدناها بالفعل دون أن نخوضها. إذا خطر ببالنا أن نخوضها ستكون مذبحة. لذلك يتم تنفيذها بأقل صخب، وإلا فإنها ستؤدي إلى حالة غضب عارمة، لكن النتيجة معروفة ففرنسا ليست لديها لا الوسائل ولا الإرادة لبسط سلطتها
* حميد زناز : الشعبوية، هذه الكلمة التي تعاني من غموض مزمن، كيف تعرّفها؟

ميشال أونفري: إنها كلمة تندرج تحت مفردات الصراع الذي يقوده أولئك الذين أسميهم مبيدات الشعب، وهي كلمة ابتكرها غراتشوسبابوف، وتعني هؤلاء الذين يخدرون الشعب، يهينونه، ينسونه، ويحتقرونه. كيف نفهم أنه في عام 2005 دعا رئيس الدولة الناس عن طريق الاستفتاء إلى الموافقة على المعاهدة الأوروبية ورفضها الشعب في أغلبيته بشدة ومع ذلك ألغت الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ نتائج الاستفتاء؟ إن مبيدات الشعب هذه هي التي تقول عن أولئك الذين يطالبون بالاهتمام بالشعب إنهم شعبويون.

* حميد زناز : ما الذي يجعل الشعبوية ممكنة؟

ميشال أونفري: هو ازدراء الشعب. الأمر بسيط للغاية. وضع الجنرال ديغول دستورا جاء فيه أن رئيس الدولة المنتخب يطالبه الشعب بالنتائج باستمرار طوال فترة ولايته وعلى الرئيس أن يأخذ رأي الشعب بعين الاعتبار: خسارة الانتخابات التشريعية كانت تعني تغيير رئيس الحكومة والسياسة أو الاستقالة.

اخترع ميتران وشيراك طريقة التعايش بين الرئيس والحكومة وهو إحدى الأدوات المبيدة للشعب. كانت وكان هناك أيضا استفتاءات انتهزها ديغول فرصة لتأكيد رئيس الدولة في منصبه. ولما خسر ديغول استفتاء عام 1969، لم يترك السلطة فحسب، بل ترك السياسة أيضا. ولكن لما خسر شيراك استفتاءه عام 2005 لم يستقل وبقي في الحكم وأهدى له ساركوزي عام 2007 معاهدة لشبونة التي تلغي نتيجة الاستفتاء. بعد ذلك من يستطع احترام ميتران وشيراك وساركوزي ومن دعمهم مثل هولاند وماكرون وبيكريس؟ لا أحد.

* حميد زناز : لقد بررت إنشاء “الجبهة الشعبية” بوجود “جبهة مبيدة”. هل هذا يعني أنك تدعو إلى “شعبوية يسارية”؟

ميشال أونفري: نعم فعلا. من ناحيتي، أنا لست خائفا من هذه الكلمة التي أعتبرها حملها كتقدير لي. فيليب سوليرس، الذي كان شيوعيا وماويا ومن أنصار إدوار بالادور رئيس الوزراء السابق، قال عني منتقدا بأنني “ممثل العوام”. لقد اعتقد أنه يهينني بذلك، ولا يعلم أن ذلك يمثل بالنسبة إلي وسام شرف، خاصة وأنه يأتي من أحد تلك المبيدات ادعاء رائع بالشهرة بالنسبة إلي، خاصة أنه يأتي من أحد مبيدات حي سانت جيرمان دي بري.

*حميد زناز : لطالما ارتبطت الشعبوية باليمين المتطرف. ومع ذلك، نشهد اليوم ظهور شعبوية يسارية وحتى يسارية متطرفة. ما هي أسباب هذا التحوّل؟

ميشال أونفري: نشر الفتى اللامع الذي هو أيضا صديق لـ”الجبهة الشعبية” رافائيل دوان كتابا بعنوان “عندما اخترعت روما الشعبوية” لإظهار أن الشعبوية كانت موجودة بالفعل في روما. لذلك فهي بعيدة كل البعد عن أن تكون قضية اليمين المتطرف، ولكن غالبا ما تقرن باليمين المتطرف، لأغراض جدالية وتشويهية.

أولئك الذين كانوا يدعون شعبويين في روما في الحقيقة كانوا ملتصقين بالشعب ويؤمنون بشخصية الرجل القوي، بالخطيب القادر على كسب الجماهير بكلماته. كانت الشعبوية آنذاك صوت الضعفاء والبسطاء ضد طغيان الأقوياء. كان الوضع هكذا دائما. مما سبق نفهم أن المهيمنين الأقوياء أرادو دائما تشويه الكلمة وما تدل عليه معا.

*حميد زناز : في ظل صعود الشعبوية في عدة دول أوروبية، هل تعتقد أن ظهور ترامب فرنسي أو أوروبي ممكن؟

ميشال أونفري: كل شيء ممكن في زمن الانحطاط وقد يحدث في سرعة البرق لما تتوقف البوصلة عن الاشتغال. التاريخ مصاب بالحمى ورجل العناية الإلهية غواية سهلة، يعتقد البعض أنه سيحل كل المشاكل في لمح البصر. هذه فكرة آتية من اليهودية – المسيحية: إنها تتبع نمط مجيء المسيح الذي سيحقق المجيء الثاني. أنا كملحد، بما في ذلك في المجال الاجتماعي، لا أؤمن بهذا النوع من الحلول. وغالبا ما يأتي الدم والدموع مكان ذلك الخلاص الموعود. بالتأكيد كانت هناك استثناءات تسمح بعدم اليأس النهائي. أفكر في الجنرال ديغول. لكن الفرنسيين انتهى بهم الأمر إلى طرده: العظمة لا يمكن أن تكون من اهتمامات تطلعات نفوس صغيرة.

*حميد زناز : كيف تحلل ظاهرة إريك زمور؟

ميشال أونفري: إنه يعبّر عن عودة المكبوت في تاريخنا على مدى نصف قرن. عاد بقوة إلى السطح كل ما تم حظره وما كان من التابوهات منذ ما بعد مايو 68. لقد تحمل الفرنسيون كثيرا ولم يعودوا يطيقون ما يحصل. لقد فقدوا الثقة في رجال السياسة ويعرفون أن الدعاية هي التي باتت تصنع القانون وأن تجريم كل فكر حر يؤدي حتما إلى الموت الاجتماعي لكل مفكر حر. لقد ملوا من نتائج سياسة معاهدة ماستريخت الوخيمة التي تبدي مرة أنها يسارية ومرة أخرى يمينية بينما هي ليبرالية ويمينية، وأن الذين يديرونها يتبادلون على السلطة منذ 1983.

أما إريك زمور فهو يرى الواقع كما هو ويعبر عنه مستنكرا التجاوزات والغباء والأخطاء. كما يجادل، ويفكر ويحلل، ويضع استنتاجاته في منطق حضاري، بمعنى يفكر من منظور طويل الأمد. ومن ثمة فهو عودة للمكبوت تجسد طريقة أخرى للممارسة السياسية بعيدا عن العادات السياسوية المترسخة بما فيها طريقة مارين لوبان نفسها. يبقى أن جانبا آخر من الرجل لم يتضح إلى هذه الساعة هو ذلك المتعلق باقتراحات المرشح زمور وهذا ما يقرر الرغبة في الانضمام إليه أم لا من طرف الكثيرين لأن هذا يكون باقتراح الحلول لا بالمعاينات فقط.
*حميد زناز : ما هو دور الفيلسوف اليوم؟

ميشال أونفري: كما كان الأمر دائما، واسمح لي أن أقتبس من نيتشه “إيذاء الغباء”.

لقد صرحت ذات يوم بأن أفغانستان هي مقبرة حق التدخل. ألا تجد أن عدم التدخل يكون أحيانا بمثابة عدم إسعاف شعب في خطر؟

ما هو الشيء الذي يعطل حق التدخل في العشرات من البلدان التي قد تستحق مثل هذا التدخل ومع ذلك لا أحد يتحرك؟ لماذا لا يتم التدخل في الصين وباكستان والسعودية وكوبا؟ لماذ لا يتدخل برنار أونري ليفي واللاهثون وراء الحروب عندما يتعلق الأمر بهذه البلدان أو بكوريا الشمالية؟

علاوة على ذلك وعلى ضوء ما يحدث في الضواحي الفرنسية، في مرسيليا حيث تجمع جثث القتلى كل يوم. ما رأيك لو تذرعت تركيا أو الجزائر أو المغرب بالحق في التدخل وإرسال جنودها إلى تلك الضواحي الباريسية أو إلى مدينة مرسيليا وحل المشاكل المرتبطة بهذه الحرب الأهلية المشتعلة.

حق التدخل هو ورقة التوت التي يستعملها الاستعمار الجديد والإمبريالية الجديدة. ليمكث كل واحد في بلده ويمارس السياسة التي يريد. تلك هي عقيدتي السياسية.

*حميد زناز : الديمقراطية، هل يمكن أن تصبح عالمية في رأيك؟

ميشال أونفري: لا. العالمية هي حتما إمبريالية. عندما تذهب فرنسا لاستعمار الجزائر، فإنها باسم “1789” لحقوق الإنسان، واجب “نشر الحضارة” المزعوم. أذكرك أن جول فيري الذي كان رجل هذه الحضارة كان جمهوريا من اليسار.

علاوة على ذلك، إذا كانت الديمقراطية تتمثل في السماح للمرأة بإجراء عملية إجهاض لأسباب نفسية واجتماعية حتى بضع ساعات قبل موعد الولادة الطبيعية، إذا كانت تعني تأجير أرحام النساء الفقيرات لإنجاب أطفال في المختبر من أجل أزواج أغنياء، وإن كانت هي بالنسبة إلى هؤلاء الأزواج أنفسهم شراء أطفال وربما رفض الشراء عندما يتبين أن “المنتج” معاق، فلست متأكدا من أننا يجب أن نكافح من أجل هذه الديمقراطية التي يكون مثلها هو تشييء الأجساد والقلوب والأرواح لجعلها قابلة للتسليع.

*حميد زناز : هل ماتت الديمقراطية النيابية؟

ميشال أونفري: وهل كانت حية يوما؟ لنفترض أنها كانت أقل موتا في بعض المراحل التاريخية. لأن الديمقراطية دون مواطنين مستنيرين ليست ديمقراطية. هذا هو درس المفكر كوندورسيه.

ولكن من هو المواطن المستنير اليوم في عالم تتجاهله المدرسة ومعبأ بالتلفاز والشاشات والإنترنت والشبكات الاجتماعية؟ عالم اختفى فيه الحق والعدل والخير تحت ضربات الباطل والظلم والشر. لقد تم استبدال المواطن بخنزير مزرعة يعيش في بطارية ويصيح من وقت لآخر ليوهم نفسه بأنه لا يزال خنزيرا بريا.
* حميد زناز : لماذا يصعب إدراك الطبيعة الحقيقية للإرهاب الإسلاموي في فرنسا؟

ميشال أونفري: لأننا لم نعد نمارس التاريخ بل الأيديولوجيا، لأن المدرسة صنعت الكثير من الحمقى ومعهم وسائل الإعلام. أي شخص له رأي في الإسلام نفسه ولو أنه لم يقرأ القرآن مطلقا، ولا يعلم شيئا عن ماهية الأحاديث، ويتجاهل سيرة الرسول وغير قادر على التمييز بين السنة والشيعة، أعتقد أنه ستكون لدينا مفاجآت كثيرة لو سألنا هذا أو ذاك عن القرن الذي عاش فيه محمد.

وهذا لا يمنع العدد الأكبر من أن يكون لهم رأي نهائي في المسألة: بالنسبة إلى بعض اليساريين، الإسلام دين سلام وتسامح ومحبة، وهو فرصة جيدة لفرنسا. وبالنسبة إلى لبعض الآخر من اليمينيين، الإسلام معاد للمرأة وللسامية وللمثليين ويدعو إلى الحرب والتسلط على المرأة.

يضاف هذا الجهل بالإسلام إلى الجهل بالجغرافيا السياسية الشاملة. الحروب التي شنها الغرب ضد البلدان الإسلامية، الإمبريالية الأميركية والاتباع الأعمى الفرنسي للولايات المتحدة في هذه العمليات يفسر عدد من المشاكل الداخلية في فرنسا متعلقة بالتعايش بين الطوائف الدينية التي يتشكل منها البلد اليوم.

كيف نفهم إذن ما يحدث مع الإرهاب الإسلامي الذي هو رد سياسي دموي على حروب الحضارات، لنستمع إلى ما يقوله عبدالسلام المتهم في اعتداءات باريس سنة 2015 في محاكمته… لماذا لم يرتكب أي عمل إرهابي على الأراضي الأيسلندية أو على الأراضي السويسرية؟

* حميد زناز : هل التطرف الديني شعبوية لاهوتية؟

ميشال أونفري: نعم بطريقة ما. إنه، لإعادة صياغة وتحريف لمقولة ماركس: أفيون الشعب، “زفير الإنسان المظلوم”.

تنبع مشكلة الغرب، بحسب مارسيل غوشي، من حقيقة أن هذا الغرب أصبح عاجزا تماما عن التفكير في الدين اليوم إذ اصبح غير مفهوم بالنسبة إليه باعتباره بنية مهيكلة لمجتمع بأكمله. ما هو تحليلك؟

الغرب قادر تماما على التفكير في الدين. يكفي تعليم الأديان بطريقة تاريخية من أجل توطيد التساكن والتعايش. لكن من يريد هذا، من، من يفعل هذا، في أي مكان؟ لا أحد ولا في أي مكان. منذ وقت ليس ببعيد، رأيت إعلانا عن محاضرة حول “العلوم الدينية” في مكتبة كاثوليكية في مدينتي. لا يوجد علم ديني، لكن يمكننا أن نؤسس علم الأديان. لم نصبح عاجزين عن التفكير في الدين، لكننا نفتقر إلى الرغبة في التفكير في الدين.
حميد زناز : كيف يمكننا إيجاد الطاقة للوصول إلى عيش “حياة طيبة” في أوروبا التي أصبحت تشك في ذاتها؟

ميشال أونفري: لم يتبق سوى الحل الفردي. لقد بدأت عملا واسع النطاق بـ”موسوعة موجزة عن العالم” (في الحقيقة الكتاب يتجاوز خمسمئة صفحة) وتبعه كتاب “الانحطاط” (2017).

لقد قمت بنشر كوزموس (2015) قبل ذلك وبعده “الحكمة” (2019). في هذا الكتاب الأخير أستعيد الحكمة الرومانية بالقول إنها قابلة للتطبيق في عصرنا عصر الانهيارات. إنه يحتفل بالأناقة، والشعور بالشرف، والوفاء، والشجاعة، والعظمة، ما كان يوما يكوّن ويهيكل ما كان يُطلق عليه “الروماني القديم”.

* حميد زناز : هل الجهادية الفرنسية عدمية جديدة كما يؤكد أوليفييه روا؟

ميشال أونفري: نعم، إنه في الواقع نتاج العدمية المعاصرة: القيم التي كانت تمثلها اليهودية والمسيحية لم تعد صالحة. إن الدين الإسلامي الذي لا يزال يؤمن بالجنة ويعلمها على الطريقة القديمة مع وعد بحياة أبدية من المتعة مقابل حياة أرضية من الزهد والنسك والحرمان، يجذب عددا كبيرا من الناس. عندما نعتقد أيضا أن قتل الكافر يفتح باب الجنة، كما يدعو القرآن في خمس أو ست آيات من بين أكثر من ستة آلاف، فنحن نحل مشكلة العدمية المعاصرة لأنفسنا: يصبح للحياة معنى فجأة. قتل الكافر هو أن تعيش سعيدا إلى الأبد في الجنة، من الصعب محاربة هذا الاعتقاد غير المعقول.
* حميد زناز : التوحش بين المراهقين في فرنسا، لماذا هذا الإنكار للثقافات الذي لا يعير أدنى اهتمام للبعد الثقافي لهذه الظاهرة؟

ميشال أونفري: لأن حضارتنا منهكة ويوجد في بطنها وعلى الخصوص ضمن النخب المنهكة هي نفسها، حقد رهيب على الذات يساهم في تدمير صرحنا الحضاري. تتوق هذه النخب وموظفوها السياسيون إلى تدمير فرنسا وتذويبها في أوروبا التي تم تصويرها على أنها دولاب العبور نحو حكومة عالمية تطمح إلى تحويل كوكبنا إلى سوبر ماركت عظيم.

التوحش الذي تمت رعايته بالطبع، شهد على أن النخب تنشط بقوة وبوعي لتدمير فرنسا. نحن نشهد تهديما مهولا للأرضية التي تقف عليها حضارتنا لكي يوضع عليها إسمنت ما بعد الحداثة الأميركية: حداثة ما بعد الإنسانية الكونية التي هي، على المدى الطويل، أكثر خطورة بكثير من أسلمة أوروبا. لكن ضد كلاهما لا يوجد شيء يمكن القيام به، إنه الإحساس العدمي بالتاريخ.

* حميد زناز : هل الهويات دائما وبالضرورة قاتلة؟

ميشال أونفري: لا بالطبع، هذا هو الخطاب السائد لأولئك الذين يتطلعون إلى عالم مرقمن تسيطر عليه حكومة عالمية والتي لن يمنع أحد توسعها لأنها تهيمن عن طريق عبودية الناس الطوعية. هؤلاء الذين يقولون كل شيء عن أنفسهم وعن حياتهم، ما يعجبهم وما لا يحبونه، حياتهم الجنسية، ممارساتهم، مشترياتهم، أحلامهم، إجازاتهم، أفكارهم، معتقداتهم، أديانهم، جنونهم، عاداتهم، رغباتهم، تطلعاتهم، عشاقهم، هواياتهم على هواتفهم المحمولة. من هو المناهض للبطاقات الصحية اليوم الذي ليس واحدا من هؤلاء.

الهوية هي التي تسمح بمقاومة هذه الموجة الكاسحة التي ستأخذ كل شيء في طريقها.

* حميد زناز : “حفلات حرق الكتب“ هو آخر كتبك. ما الذي جعلك تكتب هذا الكتاب اليوم؟

ميشال أونفري: قد رأيت الكثير، على ضوء الاستقبال الإعلامي لكتبي الأكثر نشاطا ضد الغباء السائد، كيف تعمل الرقابة ليس من خلال عدم الحديث عن الكتب، وهي طريقة شائعة للقيام بذلك، ولكن بالحديث عنها بشكل مغرض وسيء، بعبارة أخرى يُقوّلون الكتب ما لا تقوله من أجل حسن تشويهها.

عندما تقول عن كتاب إنه معاد للسامية، وفاشي، ومناصر للحكم الذي كان مناصرا لهتلر، ومعاد للإسلام، وكاره للنساء، ومقاوم للمثليين، فمن سيشتريه ويقرأه للتحقق مما يقال عنه؟ حتما سيكون رأي معظم الناس سلبيا عن كتاب لم يقرأوه بحجة أنه يدافع عن أطروحات ليست أطروحاته أصلا.

أردت أن أعطي أمثلة مع أرخبيل الغولاغ لسولجينيتسين، والملابس الجديدة للرئيس ماو لسيمون ليس، والكتاب الأسود للتحليل النفسي من تأليف جماعي، وأرسطو في مونت سانت ميشيل لسيلفان غوغنهايم، وصدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون وسفر عمق العسر الفرنسي لبول يوني غياهب الليل. هؤلاء الذين تعرضوا في عصرهم للشتم من قبل الصحافيين المنبطحين لقولهم الحقيقة حول الماركسية اللينينية والماوية والتحليل النفسي وخرافة الغرب الذي يدين بكل شيء للإسلام، وظهور الصراعات بين حضارات مبنية على الأديان، بماء عنصرية جديدة قائمة على نوع معين من مناهضة العنصرية. يعمل هؤلاء الصحافيون على إخفاء العالم في الوقت الذي يقولون فيه إنهم ينهلون من روح عصر التنوير. إنها واحدة من علامات العدمية المعاصرة.