واقعنا والهاجس الثقافي


نبيل عودة
الحوار المتمدن - العدد: 7035 - 2021 / 10 / 2 - 15:25
المحور: الادب والفن     

معالجة قضايا الثقافة، وبالأساس في العالم العربي، بدأت تتحول الى ما هو اشبه بالنعي الثقافي، بدل الاستدلال والاستنتاج، ووضع رؤية لانطلاقة ثقافية، تضعنا بوزننا الحضاري على خارطة الثقافة العالمية، مؤثرين ومتأثرين، مساهمين ومتفاعلين مع الثقافات العالمية، التي بدأت تتجاوز الترسیمات الإقليمية، نحو ثقافة كونية، او شبه کونية. رؤیتي کانت أن ازمة الثقافة العربية هي ازمة المجتمع العربي، ولا شك لدي آنها ازمة الأنظمة العربية العاجزة عن توفير أجواء مناسبة لإرساء القاعدة المادية والفكرية لبدء انطلاقة ثقافية حضارية، بدل التقوقع ومديح الذات (بل ومديح الظل) ومديح التاریخ، او النعي والتألم. ربما خطأنا الأساسي اننا نكتفي بالتعريف ونتجاهل التقييم، ليس لعجز فينا، انما لخوف أن يصل بنا تقييمنا الحاضر ثقافتنا، الى التصادم مع المؤسسة السياسية الملتحمة بالكهنوت الديني، او بمعنى آخر التصادم مع الكهنوت الديني بصفته ثقافة رسمية وحيدة مرعية ومحبذة من الأنظمة السياسية العربية كلها ، لا فرق بين نظام يدعي الثورية او نظام يدعی مخافة الله ولا بأس من السؤال التالي: ما هي العلاقة بين الاخلاق والثقافة ؟! اطرح هذا السؤال بهدف فهم أفضل لأزمتنا الثقافية والاجتماعية، وأشكال السلوك الموروثة والأخلاقيات السائدة التي كما ترتسم هي من عهود سابقة، لم تتطور ولم تتبدل رغم التغيرات التي تعصف بعالمنا وثقافات الشعوب. في نفس الوقت هي أشكال من السلوك المكتسبة عبر التربية التي فشلت في تنمية الوعي، لأنها أصلا تخضع لمقص الرقيب وقص الأعناق. ان التناقض الاساسي هنا هو بين الموروث والمستحدث الذي يفرضه التطور المتعدد الجوانب. وليس كل تطور في الأخلاق هو تطور للأفضل. ان تطور الاخلاق محکوم بشتى المؤثرات، منها السياسية، القومية، التربوية، الدينية، البيئية، الاجتماعية، الاقتصادية، الفكرية، الخارجية وغيرها ... من هنا ارى ان المجتمع الذي يعجز عن تطوير اخلاقيات ايجابية جديدة، هو مجتمع مأزوم ثقافيا. واضح أن المفاهيم هي مفاهیم نسبية، وما تراه القوى التقدمية والديموقراطية والليبرالية كتقدم لا بد منه، تراه القوى المحافظة والأصولية كأثم يجب قمعه. ويبرز هذا الصراع بالأساس على الجبهة الثقافية.
لا يعني حديثنا عن ازمة ثقافية للمجتمع العربي، كموت ثقافي، مشكلتنا ليست في الطلاق بين الثقافة ومجتمعنا، هذا الأمر مستحيل، المشكلة في سيطرة الفكر الاستبدادي القمعي والأصولي، بأخلاقيات وسلوكيات تحتاج لعلماء الآثار لفهمها، وفهم استمرار سيطرة نهج ثقافي واخلاقي حريص على أنماط الحياة لتي تشكلت سابقا، بظروف وعي انساني واجتماعي، وبحالة من التطور التي من المستحيل فرضها بالمنطق على الواقع الثقافي والاخلاقي والاجتماعي الحاضر. من هنا نشهد ان الفكر الاصولي يلجأ لوسائل شتی بدءا من الترغيب، مستغلا الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب والمتخلف، وصولا للإرهاب، عبر استعمال العنف بأقسى صورة، كالقتل... والنماذج امامنا متوهجة دون حاجة للإشارة اليها. ومأساة ثقافتنا ان الأنظمة رغم رفضها لأشكال العنف «؟!» تصادمها مع المنظمات التي تمارسها، الا انها لم تفعل شيئا لتغيير الواقع الاجتماعي والاخلاقي، وتطوير الوعي والفكر والثقافة عبر اجراء اصلاح جذري وانقلابي في اجهزة التربية والاعلام ووضع سياسات عقلانية لإخراج المجتمع العربي من كبوته الاقتصادية والحضارية.
لا أعني بما اطرحه نفيا مطلقا للموروثات الاخلاقية والسلوكية والثقافية، انما نحن هنا امام العملية التي تعرف بالثالوت (لا علاقة لها بالثالوث المسيحي) وهي من المفاهيم الأفلاطونية في فهم مراحل التطور. وقد استعملها «هيغل» في تفسيره لمراحل التطور عبر فهمه لفلسفة "الديالكتيك" حيت حدد ثلاث مراحل للتطور: المرحلة الأولى: الموضوع - في حالتنا الثقافة التطور الثقافي. المرحلة الثانية: النقيض - في حالتنا الثقافة القديمة. المرحلة الثالثة: التركيب الجديد - في حالتنا ما ينشأ نتيجة التطور، عبر نفي الجديد للقديم ، وقد فسر « هيغل » آن نفي الجديد للقديم لا يعني نفيا مطلقا ، بل يجري في التركيب الجديد الناشئ استعادة خصوصيات عدة وسمات مختلفة من المراحل السابقة. أي اننا امام تطور حلزوني من الدائرة الصغرى الى الدائرة الأوسع. وقد طور «مارکس» دیالكتیك «هيغل» واعطاه تعليله العلمي عبر القانون الفلسفي «نفي النفي». فهل يعمل قانون نفي النفي بالشكل المعاكس؟! أي هل نحن أمام معضلة فهم نفي القديم للجديد بشكل حلزوني، معاكس، دون أن يبقى شيء منه؟ رغم اني فلسفيا لا استطيع ان اعلل الانغلاق وافسره، وخاصة التراجع في المفاهيم الثقافية والاجتماعية، ولكني فكريا وسياسيا استطيع ان افهم آن زنازين الأنظمة العربية والمناهج الأصولية (زنازين الفكر) في حالات معينة، «انتصرت» على القوانين العلمية، اذ بلغ نفي الجديد من الشمولية والقوة، بحيث اكاد اظن ان مجتمعنا العربي (وانظمتنا العربية) باتت ليس خارج التاريخ البشري فقط، بل وخارج القوانين العلمية.
اعرف اني ابالغ، واعرف ان المستقبل هو للإنسان، للحضارة، وللتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وما اقوله هو ربما رد فعل لمثقف «محروقة بصلته» على الواقع الاليم والاسود، وليس الرمادي فقط. للثقافة العربية وللواقع العربي. ان مئات المثقفين العرب يمارسون نشاطهم الثقافي منفيين عن وطنهم، وأحيانا عن لغتهم، او يقبعون في غياهب سجون الانظمة، او سجون الرعب... وبعضهم محكومون بالإعدام، غير الذين اعدموا ... من جيوش الظلام، وهم ضمير ثقافتنا ومستقبلها رغم واقعهم التعيس. ولمزيد من الايضاح، لا بد من علاج مفهومنا للثقافة. ما هي الثقافة ؟! اذ أني أرى اننا نتركز حول المفهوم الفكري الابداعي فقط، ورغم كل اهميته الا أنه جزء من مفهوم الثقافة وليس كل الثقافة. اي ان انتاجنا الابداعي والفكري مهما تعاظم، سیبقى ناقصا، اذا لم تتطور الجوانب المادية الملموسة المؤثرة على حياة الانسان العربي ورفاهيته الاجتماعية. ولا بد من عودة للموضوع.