لينين: النظرية, والديمقراطية الحزبية الداخلية!


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6933 - 2021 / 6 / 19 - 02:40
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

تكتسب مسألة الديمقراطية الداخلية للحزب الشيوعي أهمية مختلفة تمامًا في المجتمعات الرأسمالية التي تمتلك فيها الطبقة العاملة الحقوق المدنية والسياسية الأساسية عن تلك التي لا تمتلك هذه الحقوق. في المجتمعات الاولى، على سبيل المثال، فإنه يصبح من الصعب جدًا على الأحزاب الشيوعية إقناع الناخبين أن الحزب الشيوعي يقدم للمجتمع درجة أكبر من الديمقراطية عندما يكون واضحًا لجميع أعضاء الحزب ومؤيديه إن لديهم حقوقا ديمقراطية أقل داخل حزبهم مما هو في الأحزاب الرأسمالية أو في المجتمع ككل (نشر وجهات نظر المعارضة، وتنظيمها، وما إلى ذلك). في مثل هذه السياقات، فإن مسألة الديمقراطية الداخلية للحزب هي في كثير من الأحيان مسألة تسويق: لا يمكن للحزب الشيوعي أن يفوز بالأصوات إذا كان يُنظر إليه على أنه غير ديمقراطي.

بالنسبة للينين، في سياق تم فيه إنكار الطبقة العاملة الحقوق السياسية الأساسية، كان لمسألة الديمقراطية داخل الحزب أهمية مختلفة جدا. كانت الديمقراطية أداة اتخاذ قرار بشأن مسار العمل، ولكن كان من المهم بالنسبة للينين أن يكون ذلك العمل على أساس النظرية والحجة والتحليل المناسب الذي تم تطويره والتوصل أليه بواسطة الحوار والنقاش الديمقراطي. وفي سياق حججه لأهمية النضال النظري, طرح لينين أولاً مسألة الديمقراطية داخل الحزب "في ما العمل؟" (1902):
"بدون نظرية ثورية لا يمكن أن يكون هناك حركة ثورية. لا يمكن المبالغة في أهمية هذه الفكرة في وقت عندما يسير الوعظ العصري للانتهازية جنبًا إلى جنب مع الافتتان بأضيق أشكال النشاط العملي. . . وما يبدو للوهلة الأولى أنه خطأ "غير مهم" قد يؤدي إلى معظم العواقب المؤسفة. انه قصر نظر لا غير اعتبار الخلافات بين التيارات والتفرقة الصارمة بين الفوارق الدقيقة للآراء أمر غير مناسب أو لا لزوم له. مصير الاشتراكية الديموقراطية الروسية لسنوات عديدة قادمة قد تعتمد على تقوية هذا"الفارق الدقيق" أو ذاك".

واني, في مكان آخر, اقتبست الفيلسوف الشيوعي والمحلل النفسي سلافوي جيجك بقوله:
-من الأفضل ألا تفعل شيئًا بدلا من الانخراط في فعل محلي تتمثل وظيفته النهائية في جعل النظام يعمل بشكل أكثر سلاسة (مثل توفير مساحة للعديد من الذاتيات الجديدة، وما إلى ذلك). الخطر اليوم هو ليس السلبية، بل النشاط الزائف، الرغبة في أن تكون نشطًا، المشاركة، لإخفاء عدمية ما يجري.-
https://www.facebook.com/booksiveloved/photos/a.765132210300962/2067099986770838/
وعلقت بقولي, لذا إن مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في مجلس حكم الاحتلال والعملية السياسية وانتحاباتها الاستعراضية, هي امتثال لفتشية تقدْس الفعل وتفصله عن النظرية, وهو انسجام مع خطاب السيد الديني او الهيغلي-وفي العراق هما سيان, مما يعني بالضرورة قبر النظرية والاحتكام الى قانون: ان الطبيعة تكره الفراغ. وهذا يضع الحزب (من غير السادة دينيا او كعبيد في خطاب مفترض) في موقع العبد حسب ديالكتيك هيغل في السيد-العبد. وبموجب (لا)حكمة جماعية-غوغائية تمجّد الفعل بحد ذاته: "في الحركة بركة", او "حشر مع الناس عيد", يوفر الحزب-العبد قناعا لأسياده في العملية السياسية, كالقناع الذي يجب على الرجل غير المرئي أن يرتديه في رواية H. G. Wells, او القفاز الذي يجب على اليد الخفية لآدم سميث وصبيان شيكاغو وضعه, لكي يعمل النظام النيوليبرالي في العراق بكل سلاسة وفعالية. إن الحزب يقبر النظرية (والعقل-الفكر كعنوان للحداثة), انسجاما مع تماهيه مع وضع السيد له في موضع العبد, او بسب قلق وجودي-ذاتي تأبى اللغة التعبير عنه, لأنه يقع خارج حيزها: ما قبل اللغوي pre -linguistic باعتباره لغة العقل الباطن.
Unconscious Thought in Lacan
https://link.springer.com/chapter/10.1057%2F9781137538130_9
فيلجأ الحزب الى الفعل الزائف, او ما يسمى في علم النفس والتحليل النفسي acting out
https://dictionary.apa.org/acting-out
كحصانة دفاعية ايضا ضد امكانية تلاشي قياداته وابتلاعها من قبل ثقب اسود (الرأسمالية العالمية واجهزتها القمعية. boogeyman) لتتقيئه وتتغوطه: اليس كل هذا هو وظيفة الفوضى, الخلاقة او غير الخلاقة, زيادة مقدار الانتروبي؟ القئ والغائط هما من تفرعات الموت كأعلى مقدار للأنتروبي. انه القلق الذي لا يمتلك لغة ولن تستطع كل مراواغات اللغة ومناورات السياسة إلغاءه. لان إلغاءه سيعني إلغاء الوجود نفسه. الحل هو الاعتراف بالقلق كشرط لا غنى عنه لإبطال فتشية الفعل وإعادة الاعتبار الى النظرية. ولكنهم تخلوا عن لينين وكأنهم تصوروا انهم سيخدعون هلعهم الوجودي ويحولون دون ان تبتلعهم الرأسمالية لتتقيئهم وتتغوطهم, ولذا ان مصيرهم هو نفس مصير سيزيف الذي حاول خداع آلهة الموت: التكرار هو الاسم الآخر للموت!

وخطاب السيد الهيغلي.السيد من نسل محمد هو خطاب من لا يريد ان يتعلم ويرفضه. ان السيد يعلم كل شيئ. انه المعرفة بكاملها. السيد هو الطفل في مرحلة المرآة اللاكانية,
-مرحلة المرآة لدى لاكان-
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=372614
حيث ينظر الطفل الى نفسه في المرآة وهو بالكاد يقف على قدميه ويتبول ويتغوط على نفسه فيرى نفسه انسانا متكاملا. وهذا الكلام ليس كلاما نظريا, فالوقائع الامبريقية يشرحها لنا
هذا الفيديو بخصوص العراق بكل بلاغة وفصاحة.
https://www.facebook.com/nash.khundy/videos/3163747810322656

ولكن اليس تكرار سيزيف لنفس الفعل (العبثي) هو ما قصده هيغل: "اننا نتعلم من التاريخ اننا لا نتعلم من التاريخ"؟
ورفع الطفل المرآتي الى مرتبة المرجعية, الحكيم والعارف بكل شئ, هو ليست خطيئة المتدينين فقط, بل انه ايضا خطيئة من التقمهم خطاب الطفولة والعبودية ممن يدّعي العلمانية ليتقيأهم ويتغوطهم كاكثر دعاة الفعل المزيف. وهؤلاء ينطبق عليهم قول الطبيب والمحلل النفسي البريطاني الراحل R. D. Laing
«إن واقعنا الاجتماعي على درجة كبيرة من القبح إذا نظرنا إليه من حيث الحقيقة المنفية، فليس هنالك تقريباً من جمال إلا وهو كذب.
ما العمل..؟ أبوسعنا نحن الذين لا نزال نعيش شبه أحياء في قلب الرأسمالية الشائخة الذي ما زال ينبض، أن نفعل أكثر من أن نعكس الخراب من حولنا وفي داخلنا؟ هل نستطيع أن نفعل أكثر من أن نغني بحزن ومرارة أغاني الخيبة والهزيمة؟»

ربما يكون التصوير الأكثر تعبيرا للفرق بين المفاهيم الثورية والبيروقراطية للديمقراطية, فيما يتعلق الأمر بالنظام الحزبي الداخلي, يمكن العثور عليه في هامش في "خطوة إلى الأمام، خطوتان الى الوراء" (1904)، الذي تمت كتابته بعد فترة وجيزة من انعقاد المؤتمر الذي شهد الانقسام الأول للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي الى فصيلتين, بلشفية ومنشفية:
"لا يسعني إلا أن أتذكر محادثة أجريتها في الكونغرس مع أحد مندوبي "المركز". . كيف هو قمعي الجو في كونغرسنا!" لقد اشتكى. "هذا النقاش المرير، هذا التحريض من أحد على الآخر، هذا الجدل اللاذع، هذا وضع غير رفاقي!" . . . "يا له من شيء رائع هو كونغرسنا!" انا رديت. "نضال حر ومفتوح. تم ذكر الآراء. تم الكشف عن الفروق ببنها. تشكلت المجموعات. رُفعت الأيدي. تم اتخاذ قرار. مرحلة تم اجتيازها بنجاح. إلى الأمام! هذه هي الأشياء المهمة بالنسبة لي! هكذا هي الحياة! هذا ليس مثل التشريح اللامتناهي والممل لكلمات مثقفيك الذي يتوقف ليس لأن السؤال قد تم تسويته، ولكن لأنهم تعبوا من الحديث." حدق رفيق "المركز" بي بحيرة وهز كتفيه. كنا نتحدث بلغتين مختلفتين".

بالنسبة للينين، من الواضح أن الديمقراطية تتطلب تقديم الحجج ووجهات النظر بدون خَشْيَة، وحتى طرحها بشكل متطرف، بدلاً من السعي إلى وحدة مصطنعة عن طريق تجنب الخلافات وتمويهها وما شابه.

في نفس الوقت, مع التمسك بحق النقد داخل الحزب، أشار لينين إلى القيود التي لا مفر منها داخل الحزب في منظمة سياسية غير شرعية. في مثل هذا السياق، جادل لينين، "أي محاولة لممارسة "المبدأ الديمقراطي الواسع " [لإشراك أكبر عدد من المساندين للحزب في الانتخابات، وما إلى ذلك] سيسهل ببساطة عمل الشرطة في تنفيذ ما يلي- غارات واسعة النطاق، ستديم البدائية والإرادة السائدة وتصرف أفكار العاملين الجادين عن مهمة ملحة لتدريب أنفسهم ليصبحوا ثوارا محترفين الى إشغال انفسهم بوضع قواعد "ورقة" مفصلة لأنظمة الانتخابات." موقف لينين (ما العمل؟) هذا بخصوص الحاجة إلى حزب ثوار محترفين هو الذي أدى إلى اتهامه بعداءه للديمقراطية داخل الحزب. تستند هذه الاتهامات على سوء فهم لمفهوم لينين للديمقراطية. كما ذكرت أعلاه, فإن الجانب الأساسي للديمقراطية بعرف لينين هو الحق في طرح مواقف محددة بدقة, واستدعاء دعمها؛ لم يكن لينين صبورًا مع مفهوم منافس للديمقراطية على أنها بحث عن حلول وسط تهدف إلى أرضاء جَمهور أوسع. ليس من الصعب أن نرى، في ظروف غير قانونية، إن إنشاء منظمة حزبية منضبطة يجعل من الممكن اتخاذ مواقف أوضح وأكثر تحديدًا، بدلاً من العكس. علاوة على ذلك، بالنسبة للينين كان من الضروري الدفاع عن حقوق الاتجاهات المعارضة داخل الحزب لطرح افكارها وبرامجها، ليس فقط لضمان وضوح أكبر لوجهة النظر في داخل الحزب نفسه، ولكن أيضًا كجزء من مهمة الحزب في تمكين الجماهير لتوضيح مواقفهم. هذا ما أوضحه لينين في رده على " السخرية" البرجوازية من الانقسام في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وخلافاته المستمرة. وبخ لينين الإصلاحيين الذين رأوا أنه من المناسب "الحكم" على الاشتراكيين بهذه الطريقة:
لا، أيها السادة "القضاة"، نحن لا نحسدكم على حقكم الرسمي في ان تبتهجوا بالنضال الحاد والانشقاقات داخل صفوف الاشتراكية الديمقراطية. لا شك أن هناك الكثير في هذا النضال مما يجب أن نأسف له. بلا شك، هناك الكثير في هذه الانقسامات التي تعد كارثية بالنسبة لـقضية الاشتراكية. ومع ذلك، لن نفضل لدقيقة واحدة مقايضة هذه الحقيقة الثقيلة بكذبتكم "الخفيفة". مرض حزبنا الخطير هو الآلام المتزايدة لحزب جماهيري. لأنه لا يمكن أن يكون هناك حزبا جماهيريا، حزبا طبقيا، بدون الوضوح الكامل في الخلافات الأساسية، بدون صراع مفتوح بين مختلف الاتجاهات، بدون إعلام الجماهير فيما يتعلق في تبني قادة الحزب ومنظماته هذا الخط أو ذاك. بدون هذا, لا بمكن إنشاء حزب يستحق تسميته. ونحن نبنيه. لقد نجحنا في وضع وجهات نظر التيارين بصدق ووضوح أمام الجميع. المرارة الشخصية، الخلافات بين الفصائل, والفتنة والفضائح والانقسامات - كل هذا تافه بالمقارنة مع حقيقة أن تجرِبة اثنين من التكتيكات تعلم الجماهير البروليتارية درسا، هي في الواقع تلقن درسا كل شخص قادر على الاهتمام بالسياسة بذكاء. سوف تُنسى خلافاتنا وانقساماتنا. مبادئنا التكتيكية، المشحذة والمخففة، ستصبح هي حجر الزاوية في تاريخ حركة الطبقة العاملة والاشتراكية في روسيا".
Lenin, But Who are the Judges? (1907) in Collected Works, vol. 13

يمكن مضاعفة الاقتباسات من لينين. حتى عام 1920، نجده يدافع باستمرار عن حق تشكيل التيارات في داخل الحزب البلشفي ويسعى لانتخاب ممثليها لمؤتمرات الحزب وعلى أساس برامجها. من الممكن الاستشهاد بحادثة تلو الأخرى في كل حياة لينين, حيث وقف الى جانب
الحق في معارضة الحزب - الحدث الأكثر شهرة هو نشر -أطروحات أبريل- في عام 1917 - أو تشجيع الآخرين على القيام بذلك عندما عارضوه- على سبيل المثال، الموافقة على طباعة مليون نسخة في مايو 1918 من كتيب اختلف فيه بوخارين مع لينين في طائفة من الموضوعات المثيرة للجدل. سيكون من الممكن فحص الشروط الاخرى، بصرف النظر عن الاعتراف بحقوق التيارا ت الضرورية لديمقراطية حقيقية داخل الحزب. يقدم مارسيل ليبمان القائمة التالية:
مؤتمر الحزب باعتباره الهيئة التي تقرر سياسة الحزب, والقرارات التي ينبغي تتنفيذها بالفعل؛ إمكانية المؤتمر لمراقبة أنشطة اللجنة المركزية؛ عدم تدخل الأجهزة المركزية للحزب في انتخابات اللجان المحلية والإقليمية وفي ترشيح المندوبين إلى المؤتمر؛ الطرح الحر لوجهات النظر؛ اهمية تقديم معلومات وافية الى الاعضاء في الحزب فيما يتعلق بالقرارات التي تتخذها القيادة، إلى جانب الحقائق التي تستند إليها هذه القرارات.
Marcel Liebman, Leninism under Lenin (London, 1975) P . 295
https://www.amazon.de/Leninism-Under-Lenin-Marcel-Liebman/dp/0224010727

بالطبع هنالك صعوبات بخصوص الحرية الكاملة للنقد مع ضمان الوحدة في العمل داخل الحزب - الصعوبات التي عالجها لينين مرارًا وتكرارًا، بدرجات متفاوتة من النجاح.
Cf. Liebman, Leninism under Lenin , pp. 49-61

ولكن الأهم من أي من خطوط الاستقصاء هذه هو وضع الأساس الذي يقوم عليه التزام لينين بحقوق التيارات المخالفة فى تنظيم نفسها ديمقراطيا داخل الحزب. يتضح هنا أن ثقة لينين في قيمة الحرية والانفتاح وحشد الدعم لوجهات النظر المختلفة تكمن في ثقته في أن الجماهير ستتعلم من التجربة و يمكن أن تسترشد بالحزب بذلك، بشرط أن يمتلك الحزب نفسه آراء واضحة، وكذلك في اعتقاده أنه على الحزب تمكين الجماهير من توضيح وجهات نظرها من خلال السماح بالانفتاح و النقاش الديمقراطي. يمكننا أن نرى هذا من فكره بخصوص علاقة الحزب بالجماهير. ويمكننا رؤية هذا أيضًا في الظروف التي بموجبها كان لينين يقترح في عام 1921 حظرا مؤقتا على التيارات داخل الحزب البلشفي - عندما أصبح واضحًا له أن الطاقات الثورية للجماهير قد استنفدت
بسبب الحرب الأهلية والانهيار الصناعي والمجاعة. هذا ليس لتبرير الحظر المفروض على التيارات او الفصائل داخل الحزب الشيوعي, ولكن بدلاً من ذلك, للتأكيد على مدى الاختلاف هذا مع فكر لينين وممارسته حتى ذلك الحين، وكم كان ذلك نتاج ظرف تاريخي غير مسبوق. أي شخص يأخذ على محمل الجد الطموح الكامن وراء عمل لينين الى شن النضال الأكثر تصميماً إلى أقصى حد ممكن لتحرير المظلومين - لن يسعده الخيار المأساوي الذي فرضته الظروف التاريخية، لكنه سيسعى, بدلاً من ذلك, إلى تحديد أسسه الثورية والبناء عليها.