هل تحاول السياسة التركية اعادة التموضع تجاه قضايا الشرق العربى ؟؟؟


صلاح السروى
الحوار المتمدن - العدد: 6683 - 2020 / 9 / 21 - 04:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لقد راهنت الدولة التركية بقوة على التوجه شرقا (وجنوبا) فى محاولة منها لتعويض الاحساس بالاهانة القومية من جراء التعامل المتعجرف الذى مارسته قيادة الاتحاد الأوربى تجاه طلب تركيا, المتواصل باصرار, نحو الانضمام اليه. فكانت الشروط المجحفة تترى الواحدة وراء الأخرى, حتى اذا ظنت تركيا بأنها قاب قوسين أو أدنى من الانضمام فوجئت بشروط جديدة .. وهكذا. مما حدا بالدولة التركية, وبخاصة فى عهد أردوغان صاحب الأيديولوجيا الاسلاموية المفعمة بالحنين الى الماضى, اجمالا, والى الحقبة العثمانية, خاصة, الى الاتجاه شرقا. الى ما يسمى ب"العالم التركى" الذى يضم دولا كانت, فى معظمها, تابعة للاتحاد السوفيتى القديم مثل تركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان وأزربيجان .. الخ وكذلك الاتجاه جنوبا, الى العالم العربى الذى كان فى معظمه خاضعا للحكم العثمانى. مثل سوريا والعراق ومصر وليبيا وتونس .. الخ. وكان هذا الاتجاه مبنيا على اتباع استراتيجية سياسية جديدة عرفت باسم سياسة "صفر مشاكل" عام 2002, خطها أحمد داود أوغلو, المفكر ومستشار أردوغان ووزير خارجيته ورئيس الوزراء فيما بعد (سرعان ما وقع الخلاف بينهما واستقال من رئاسة الوزارة والحزب عام 2016). وكانت السياسة التركية حتى عام 2011 تجاه العرب تقوم على التعاون والتضامن والتأكيد على "المصير المشترك" !!!! (انظر مقدمة كتاب "العمق الاستراتيجى – موقع تركيا ودورها فى الساحة الدولية" لأحمد داود أوغلو – ترجمة محمد جابر ثلجى وطارق عبد الجليل الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز دراسات الجزيرة الطبعة الثانية 2011). وترتب على ذلك نشوء حالة من التقارب بين تركيا وسوريا منذ تولى وزارة نجدت سيزار 1998, وتطورت مع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة عام 2002 وصولا الى عقد اتفاق تعاون وشراكة استراتيجية وتجارة حرة والغاء تأشيرات الدخول مع سوريا عام 2004.
بيد أن الأهداف التركية الحقيقية تجاه الشرق العربى تجلت بوضوح مع أحداث ما سمى بثورات الربيع العربى, فأيدتها تركيا بقوة, ليس فقط من الناحية الاعلامية والسياسية, بل بادخال السلاح والمقاتلين من كل الجنسيات والمشارب الى سوريا. وعندما انتهى حكم الاخوان فى مصر عقب ثورة الثلاثين من يونيو 2013 ناصبت تركيا مصر العداء على نحو واضح لالبس فيه, سواء بايواء عناصر الاخوان الهاربين اليها ودعمهم على كل المستويات : بالعمل والمال وتسهيل شرائهم للقنوات الاعلامية .. الخ. ولا تزال تركيا تدعم الارهابيين فى ليبيا, وتحاول حصار مصر من جهة السودان والقرن الأفريقى, وفى المحافل الدولية .. الخ.

ومن الغريب ان الحكومة التركية التى تزعم الدفاع عن الاسلام والتضامن مع النضال الفلسطينى وبخاصة فى غزة, حيث سيرت السفينة "مافى مرمرة" عام 2010 لاختراق الحصار الصهيونى للقطاع ونالها من عنف اسرائيل ما نالها, تعد من أكثر الحكومات ارتباطا بعلاقات عسكرية وتجارية مع اسرائيل, قبل هذه الحادثة وبعدها, بل منذ انشاء دولة الكيان حيث كانت تركيا أول دولة اسلامية تعترف بالكيان عام 1949. واستمرت فى التعاون العسكرى والاقتصادى والتكنولوجى المتعاظم معها حتى الآن. حيث تزايدت قوة ومتانة هذه العلاقات حتى بلغ حجم التبادل التجارى, هذا العام 2020, مايربو على 3 مليار دولار, مع استمرار التعاون العسكرى الذى وصل الى حد تدريب الطيارين الاسرائيليين فى السماء التركية .

ولا يتعدى حجم التناقض التركى مع اسرائيل حد المناورة الاعلامية فى الظاهر, بينما تحتفظ معها بأقوى العلاقات فى الباطن. وذلك بهدف استغلال ورقة التقارب مع اسرائيل فى تسهيل وتحسين علاقاتها مع الغرب, وبخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية. حيث نجح اللوبى الصهيونى فى تعطيل تصديق الكونجرس على قانون يتهم الأتراك بابادة الأرمن عام 1915 ابان الحرب العالمية الأولى. كما أن أردوغان يبقى على العلاقات المفتوحة مع الولايات المتحدة على الرغم من قيامها بايواء فتح الله جولن, الذى يتهمه اردوغان بتدبير الانقلاب العسكرى المجهض عام 2016 . وعلى الرغم من التناقض التركى الأمريكى فيما يتعلق بجماعات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية العاملة فى مناطق شرق الفرات والشمال السورى. وعلى الرغم من امتعاض امريكا من التقارب التركى الروسى, وبخاصة فيما يتعلق بمحاولات تركيا التسلح بصواريخ S400 الروسية ..فان العلاقات التركية الأمريكية, وان بدت مأزومة, لاتبدو مرشحة لأى تصعيد, لأن الأتراك يخافون من استمرار دعم أمريكا للاكراد, من ناحية, ولأن الأمريكان يخشون من تعميق العلاقات التركية مع روسيا, من ناحية أخرى.

أما العلاقات التركية مع أوربا فهى تراوح على الدوام على صفيح ساخن, وبخاصة مع ألمانيا التى يقيم بها ملايين الأتراك والكرد من أصل تركى. الا أن الجديد فى السياسة التركية هو تلك الاستدارة الكاملة باتجاه الروس, بعد ان ناصبوهم العداء على نحو سافر, من قبل, وبخاصة, مع بداية الأزمة السورية, حتى وصل الأمر الى اسقاط الطائرة الروسية بواسطة الطيران التركى عام 2015 . حيث لم تحتمل تركيا العقوبات الروسية, بمنع السياحة, والتوقف عن استيراد الحاصلات التركية, وايقاف العمل فى خط ال"سيل" لأنابيب الغاز .. الخ. فقام اردوغان بتقديم اعتذار رسمى للقيادة الروسية وقام بزيارة الى روسيا أنهى فيها كل ألوان النزاع بين الدولتين, وصولا الى عقد شراكات ضخمة فى ملفات عديدة ومنها ملف الأزمة السورية. حيث باتت السياسة التركية أقل تحفظا على التواجد والتحركات الروسية فى سوريا, بل تبدو متعاونة الى حد بعيد فيما يتعلق بمنطق خفض التصعيد والتوتر فى المناطق السورية المختلفة وبخاصة فى شمال وشرق سوريا. وهو ما أدى الى اتاحة الفرصة أمام الجيش السورى لتحرير معظم الأراضى النى يسيطر عليها الارهابيون.
لقد انحازت تركيا الى قطر فخسرت العلاقات مع السعودية والامارات, وتحاول تعميق العلاقة مع اسرائيل وفى الآن نفسه, الظهور بمظهر الداعم للفلسطينيين. وتحاول تحسين علاقاتها مع روسيا دون أن تخسر شراكاتها الأطلسية ومشروع الطائرة الشبحية F35 مع أمريكا, التى تضغط عليها بورقة الكرد وفتح الله جولن. ووقعت فى أزمة العداء مع مصر بسبب ايواء عناصر جماعة الاخوان الارهابية العاملة ضد مصر, وبسبب التدخل التركى الغشوم فى ليبيا, ومحاولة تهديد المصالح المصرية الاقتصادية فى البحر المتوسط. مما أدى الى تحرك مصر بثبات وحسم فى مواجهة هذه التجاوزات التركية, باقامة حلف سياسى واقتصادى وعسكرى مع اليونان وقبرص, وتقديم الدعم غير المشروط لقوات الجيش الوطنى الليبى, ورسم الخط الأحمر (سرت – الجفرة) الذى أضحى أشهر خط عسكرى وهمى فى عالمنا, فصار مثارا للتندر والسخرية من العنجهية التركية التى تحطمت على صخرة الارادة السياسية التركية. وأخيرا قامت مصر بخطوة ترسيم الحدود مع اليونان, مما مثل ضربة قاضية للأطماع التركية فى غاز المتوسط, فكان بمثابة خط أحمر جديد ترسمه القيادة المصرية فى وجه غطرسة أردوغان, ولا يستطيع ازاءه تحريك ساكن. بل ان القيادة التركية تسجل الآن تراجعا على جميع المستويات.
فهى تحاول الايحاء بأنها قد أدارت ظهرها للجماعات الارهابية التى طالما ساعدتها ومولتها وسهلت مرورها الى سوريا وليبيا, مدعية رغبتها فى الحفاظ على وحدة الدولة والتراب السوريين. تماما, كما تدعى التحرك باتجاه حلول سلمية للصراع فى ليبيا.
فهل تتغير السياسة التركية حقا فيما يتعلق بالأزمتين السورية والليبية وباقى الأوضاع داخل المنطقة العربية ؟؟ أم هى محاولة لاعادة التموضع للتواؤم مع مستجدات لم تكن فى الحسبان.
لقد دارت الدائرة على كل أوهام وأحلام أردوغان العثمانلية الجديدة وباءت كل مشروعاته بالفشل وبات فى موقف سياسى بالغ الحرج فيما يتعلق بتعقد شبكة علاقاته التى تمتلىء كل يوم بالتناقضات والألغام, دون أدنى قدرة على الاستمرار فى اللعب على كل الحبال أو الامساك بكل الخيوط. وربما يكون للتطورات المنتظرة فى الآونة القريبة القادمة دور فى اظهار الخاتمة المستحقة لأردوغان وسياسته المتقلبة المغامرة المراوغة . والتى تبرهن كل يوم على انتهازيتها ولا مبدأيتها.