تحليل باكونين للبيروقراطية كطبقة اجتماعية خاصة - عرض نقدي


عادل العمري
الحوار المتمدن - العدد: 6679 - 2020 / 9 / 17 - 22:27
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

(اعتمدت في هذه المقال على مقال فيليب كوريا: "الطبقات الاجتماعية والبيروقراطية في نظر باكونين"(1)، مع إيضاحات وشروح وانتقادات من جانبي)


كانت الدولة دومًا بمثابة الإرث الذي تتمتع به الطبقة المتميزة: الطبقة الكهنوتية، والطبقة الأرستقراطية، والطبقة البرجوازية، والطبقة البيروقراطية في النهاية
ميخائيل باكونين


ملحوظة مبدئية: المقصود هنا بالدولة آلة الدولة State وليس البلد Country أو الحكومة Government؛ تلك الآلة التي تتكون من الجيش وأجهزة الأمن وأدوات العنف "الرسمي" المختلفة.
المقصود هنا أيضا بيروقراطية الدولة وليس البيروقراطية عموما
***************************
عاش ميخائيل باكونين في الفترة من 1814-1876، قبل تحقق نظرية ماركس وإنجلز لدى انتصار الثورة الروسية عاد 1917. وقد قدم باكونين الأفكار التي نعرض لها هنا في سياق صراعه ضد ماركس، والواضح أن جل تصوراته عن البيروقراطية قد ثبتت واقعيتها، سواء في عصره أو قبله وبعده. فظاهرة البونابرتية وحكم الطبقة البيروقراطية في البلدان الاشتراكية، واتساع نفوذ الدولة الحديثة تؤكد بما لا يدعو مجالًا للشك أن وجهة نظر باكونين حول كون البيروقراطية هي طبقة اجتماعية نظرية لها أساس واقعي واضح. وهي رؤية تنقض رؤية الماركسية التي لا ترى في الدولة وبيروقراطيتها سوى مجرد أداة في يد الطبقة المسيطرة، حتى حين تحكم مستقلة عنها في حالة البونابرتية، فلم يشر ماركس وإنجلز أبدًا إلى أن البيروقراطية هي طبقة اجتماعية (لكن ربما يوحي وصفه لسمات نمط الإنتاج الآسيوي بأن الدولة – وليس البيروقراطية بالتحديد - في هذه الحالة بالتحديد هي الطبقة المسيطرة). وكان باكونين يقول لماركس: دعنا نتساءل؛ إذا ما أصبحت البروليتاريا طبقة حاكمة، فعلى من ستمارس سلطتها؟ باختصار ستظل هناك بروليتاريا أخرى تكون خاضعة للحكم الجديد، لتلك الدولة الجديدة، فإن قياديها سيحلون مكان الطبقة الحاكمة التي حاربوا ضدها. وهو ما تحقق بالفعل فيما يشبه النبوءة. ويضيف باكونين: "إن كل سلطة دولة، وكل حكومة، بطبيعتها، تضع نفسها خارج وفوق الناس، وإنه لأمر محتم أنْ تقوم بإخضاعهم لتنظيم وأهداف غريبة عنهم ومضادة لاحتياجاتهم الحقيقية ولطموحاتهم".
وقد ذهب باكونين إلى أن هيمنة الدولة لا تتحقق فقط من خلال علاقتها بالطبقة السائدة، بل وكذلك لأنها تمتلك القدرة على توليد وإعادة توليد طبقة مهيمنة أخرى: البيروقراطية.
تمتلك البيروقراطية السلطة وتحتكر صناعة القرار السياسي. فهي جماعة من السياسيين المميزين بحكم الواقع لا الحق، مكرسة تمامًا لإدارة شؤون البلد، مشكِّلة أرستوقراطية أو أوليجاركية سياسية. أما امتيازاتها، من امتلاك القوة واحتكار القرار السياسي، فتتمتع بها قلة، لكن غالبية أفرادها ليست مندمجة في جهاز الدولة، لكنها تشكل واجهة مهمة للبيروقراطية وقاعدة تؤمن سيطرتها.
والبيروقراطية تنبثق عن الدولة، مشكلة قاعدة اجتماعية لها، وهي التي تخلق وهم معقولية الدولة وضرورة وجودها، وهي التي تجعل من الدولة شيئًا واقعيًا؛ قوة ذات مضمون محدد. وهي التي تبلور فكرة معكوسة في الحقيقة؛ أنها هي التي تشكل جهاز الدولة وليس العكس. وفي النهاية تبدو البيروقراطية وكأنها هي الدولة نفسها، أو ما أسماه باكونين: الجسد الكهنوتي للدولة. وهنا يبدو كأنه يرد مقدمًا على ماكس فيبر( 1864 -1920).
مع ظهور الدولة الحديثة وتقويتها، فإنها تنسجم وتتداخل مع البيروقراطية، التي على الرغم من أنها تأتي من طبقات مختلفة، تعطي معنى ومضمونًا للدولة نفسها. وهذه ينتهي بها الأمر بالدفاع عن مصالح الدولة، بجانب تكريس مصالحها الخاصة باعتبارها طبقة منفصلة، وتبرر وجودها الحاجة إلى إدارة عقلانية للسياسة. وإن ملكية البيروقراطية لوسائل الإدارة والسيطرة والإكراه، بما يتجاوز المصالح السياسية المتعلقة بالسلطة، تعني أيضًا مزايا اقتصادية لأفرادها، والتي قد تكون مؤقتة إلى حد ما، وتتشكل بآليات وراثية، وبالتجنيد من بعض الطبقات الاجتماعية أو المنتخبة "ديمقراطيًا" من بين السكان..
وتميل البيروقراطية إلى أن تكون مستقلة عن الدولة، بالضبط مثلما تميل الدولة إلى أن تكون مستقلة عن المجتمع ككل. هذا الميل إلى استقلال البيروقراطية يتشكل دائمًا وهو في حالة توتر دائم مع آليات العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني بشكل عام، وبين الدولة والطبقات الاجتماعية على وجه الخصوص. كما أن هناك توترًا مستمرًا، بدرجات متعددة تتراوح بين الكمون والسفور، بين الأصل الطبقي لأعضاء البيروقراطية والطبقة البيروقراطية نفسها. وبخصوص مصالح أفرادها، فعلى الرغم من أنها لا تنشأ آليًا من موقعهم الوظيفي، إلا أنها تتأثر به بالتأكيد. وبغض النظر عن هذا التوتر، تميل الطبقة البيروقراطية إلى تطوير مصالحها الخاصة، على الرغم من سعيها إلى التوفيق بينها وبين القوى الاجتماعية الأخرى.
عندما يبدأ الناس في إدارة الدولة، فإنه يحدث تداخل بين المنطق غير المرن لتركيبتها وعوامل تكوينية أخرى تمليها اعتبارات معينة لمنظومتها الهرمية، وبين مصالحها السياسية. يضاف أن مصالح أو طموحات أي كيان معين تكون دائمًا أقوى من المشاعر والدوافع الخفية ونوايا الخير لأفراده. لهذا السبب يمكن أن نرصد تناقضًا واضحًا بين السلوك الشخصي للحاكم مع سياسة دولته.
وبمرور الوقت، تتعزز بنية الدولة وتصبح قادرة على إعطاء استمرارية لعلاقات الهيمنة، ذلك أنها قادرة - إلى حد كبير- على تشكيل مصالح أعضائها وتكييفها في طبقة اجتماعية متميزة. لقد تم إنشاء هيكل الدولة لضمان الهيمنة الطبقية، وبالتالي تبقى مستقلة عن إرادة أعضاء البيروقراطية، بغض النظر عن أصلهم الطبقي. بالإضافة إلى ذلك فبمجرد اندماج هؤلاء الأعضاء في هذه الطبقة البيروقراطية، يصبحون، بطريقة أو بأخرى، أعداء للشعب؛ فحتى لو لم يرغبوا في ذلك كأفراد، فإن أعضاء البيروقراطية محكوم عليهم بتعزيز الهيمنة لأنهم يجسدون هيكلًا مهيمنًا بشكل أساسي. النتيجة أن تحليل سياسة دولة ما ينبغي ألا تركز على شخصية أفرادها، بل على المنظومة ككل.
تتمتع البيروقراطية بوضع مستقل نسبيًا عن الطبقات المهيمنة الأخرى. ويكون الدفاع عن مصالح الطبقات المسيطرة هو مبرر وجود الدولة والطبقة البيروقراطية. كما يمكن أن تمارس البيروقراطية عملية الإدارة بطرق مختلفة، في علاقتها مع الطبقات المسيطرة الأخرى، فهكذا تحقق مصالحها بأكثر الأشكال انسجامًا مع مصالح الطبقة المسيطرة اجتماعيًا. فتدافع الدولة عن مصالح إحدى الطبقات المهيمنة دون بقية المجتمع، حسب ظروف وتكوين المجتمع، فتتخذ شكل نظام ملكي إقطاعي، نظام دستوري، أو حكم ثيوقراطي.. في الحالة الثانية، التي تبدو الأكثر شيوعًا، تجد الطبقات المسيطرة اجتماعيًا نفسها متحدة ضد الجماعات التي تستغلها. ويضيف باكونين أنه يضاف إلى هذا الاستغلال الاجتماعي استغلال إضافي من قبل الدولة نفسها، وهو استغلال يتم بوسيلة سياسية، ويمكن أن يتعارض ذلك - في أوقات معينة - مع أشكال استغلال التي تمارسها الطبقات المسيطرة اقتصاديا. وفي هذه الحالة تتولى الدولة الدفاع عن الجماعات الواقعة تحت نير الاستغلال. ولكن في النهاية ما يسود هو اتحاد مصالح الطبقات المسيطرة، بحيث أن طبقة البيروقراطية لا تتأخر في الاتحاد معها لضمان الاستغلال الاجتماعي.
ويمكن استنتاج – حسب أطرحات باكونين - أنه يمكن أن تتخذ علاقة البيروقراطية بالطبقات المسيطرة الأخرى أحد طريقين: الأول، وهو الأقل تواترًا، عندما تدافع ببساطة عن مصالح أحدها. والثاني؛ الأكثر شيوعًا، عندما تشكل البيروقراطية مع تلك الطبقات حلفًا واحدًا لاستغلال الطبقات المضطهدة بشكل عام.
ويرصد باكونين حالة تقف فيها الدولة مدافعة عن مصالح المحرومين ضد الطبقة المسيطرة (مثلما الحال في حالة البونابرتية والاشتراكية). فهناك فترات تصبح فيها الدولة أكثر عداءً للطبقات المتميزة من الناس، بدافع غريزة البقاء التي قد تدفع آلة الدولة إلى العمل ضد منطق الهيمنة الطبقية. إلا أن هذه الفترات لا تدوم طويلًا، لأن الدولة، مهما كانت، لا تستطيع العيش بدون الطبقة المسيطرة اقتصاديًا ولا تعيش هذه الأخيرة بدون دولة. وهذا يحدث في بعض الظروف عندما تدفع البيروقراطية آلة الدولة إلى القيام بتقويض مصالح الطبقات المهيمنة الأخرى في سبيل الضمان طويل الأجل لاستمرارية النظام الاجتماعي الطبقي. ولا يتم تأسيس هذه الوضعية من خلال مصلحة الدولة في الدفاع عن الطبقات المهيمنة، ولكن من خلال حرصها على ضمان عمل النظام. لهذا السبب، تعمل الدولة في مواقف محددة ضد مصالح الطبقات المهيمنة، سواء كانت ضد كل هذه الطبقات، واحدة منها أو بعض أعضائها على وجه الخصوص. ونجد هذه الظاهرة بالغة الوضوح في حالة البونابرتية، وتشكل مصر الناصرية حالة نموذجية لها.
**************************
استنتاج: الواضح أن باكونين قد اعتبر البيروقراطية هي طبقة اجتماعية تشكلها آلة الدولة لتلائم مصالحها وطريقة عملها. في نفس الوقت تلعب دورًا هامًا في خلق الوهم حول ضرورة الدولة تاريخيًا. وهذا الدور هو دور أيديولوجي مهم للغاية، وهو أحد أهم أسلحة الدولة. وبالتالي تجعل البيروقراطية من الدولة فاعلًا رئيسيًا في النظام الاجتماعي وليس مجرد آلة صماء. إنها إذن طبقة ملحقة عضويًا بآلة الدولة؛ وهي طبقة وظيفية، متميزة عن أفرادها، بل هي (وآلة الدولة) التي تختارهم لعضويتها من طبقات مختلفة. وبالتالي تقوم بصهر أولئك الأفراد في جسدها، متجاوزة لتوجهاتهم وأفكارهم ومشاعرهم الشخصية.
**************************
أخيرًا نقدم هذا النقد لأطروحة باكونين: في تحليله التاريخي للدولة، أشار إلى أنها تأسست كأداة للسيطرة الطبقية ونتيجة للصراع الطبقي، وهو هنا يتفق مع الماركسية. في هذه العملية، تخلق طريقة عمل محددة تتضمن الهيمنة المعممة التي ترتبط بها البيروقراطية ارتباطًا مباشرًا. لكن في الواقع التاريخي سادت آلية لنشوء الدولة قبل تكون الطبقات وظهور الصراع الطبقي، من خلال غزو القبائل بعضها لبعض، وبالتالي كان نشوء الطبقات معلولًا بنشوء الدولة في غالبية الحالات، وهذا أيضًا يعلل العلاقة الوثيقة مع الطبقة المسيطرة مع استقلال الدولة النسبي. بل كانت البيروقراطية في كثير من الحالات هي نفسها الطبقة المسيطرة اجتماعيا، كما كان الحال في البلدان الشرقية عمومًا (حللنا هذه المسألة في كتابنا: الثورة المستمرة، الفصل الرابع (2)).
ولم يرصد باكونين ما يسمى بـ "الدولة العميقة". وهذه تتشكل من العناصر المتنفذة في قاع جهاز الدولة الرسمي والطبقة البيروقراطية، أو تشكل أذرعًا له من خارجه. وهي تشمل فيما تشمل أفرادًا وقطاعات من قاعدة البيروقراطية التي اعتبرها باكونين غير مندمجة في جهاز الدولة وبالتالي ليست جزءًا من الطبقة البيروقراطية. لكن في الواقع يشكل جزءٌ من الدولة العميقة شريحة مهمة من الطبقة البيروقراطية، كما يشكل جزءٌ آخر منها آلة دولة ظل أو دولة خفية (مثل البلطجية الرسميين؛ المتعاونين مع الدولة)، وقد كان ماركس مدركًا لدور ذلك القطاع الرث، أسماهم حثالة البروليتاريا، في ضرب الثورات لصالح الطبقة المسيطرة.
وقد تصور باكونين أن الدولة لا تستطيع أن تعيش بدون الطبقة المسيطرة اجتماعيا ولا العكس كذلك. لكنه لا يضع البيروقراطية ضمن تلك الطبقات، بل منحها وضعًا خاصًا، حيث إنها من إنتاج الدولة. وهذا التصور يتغافل إمكانية أن تكون الدولة وبيروقراطيتها هي نفسها الطبقة المسيطرة اجتماعيًا، كما هو الحال في الدول الشرقية القديمة، أو ما سماه ماركس بنمط الإنتاج الآسيوي. وما يمكن استنتاجه من كلمات باكونين أن وضعية هيمنة البيروقراطية على المجتمع وتبنيها شكليا لمصالح المضطهدين تكون دائمًا عابرة. لكن ما هو مغزى قيام الدولة بالتصفية الكاملة للطبقة المسيطرة اجتماعيا، فمن يحل محلها في هذه الحالة؟ ألم تشكل يست البيروقراطية السوفيتية وآلة دولتها الطبقة المالكة والحاكمة في ذات الوقت؟ ونفس الشيء ينطبق على بقية الدول الاشتراكية، وبلدان "نمط الإنتاج الآسيوي".

1- https://www.anarkismo.net/article/29744
2- https://www.ahewar.org/debat/files/656575.pdf