نقد الثورة المصرية - الواقع والمستقبل


عادل العمري
الحوار المتمدن - العدد: 3566 - 2011 / 12 / 4 - 00:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

كل شعب يستحق حكومته
- جان جاك روسو

تمهيد:
هذه محاولة لفهم مصر وثوراتها وإمكانياتها كمجتمع وآفاق هذا المجتمع الشديد التعقيد والعراقة.أدرك أن العنوان وربما المحتوى أيضا سيثيران غضب البعض ولكن هذا هو اجتهادى،ويقال: لكل مجتهد نصيب.

أقصد هنا بالنقد:التقييم وتحديد الإمكانيات والآفاق وليس النقض ولا إظهار نقاط الضعف ولا تحديد "الأخطاء"،ليس خجلا من ذلك بل لأنه غير كاف ولا مفيد.بل أزعم أن قصورات الثورة و"أخطائها" مرتبطة أشد الارتباط بطبيعة القوى المشاركة فيها والوسط الذى جرت فيه أحداثها،وهذا لا ينفى وجود أخطاء بالمعنى الحرفى للكلمة،أى كان يمكن تداركها،من ذلك ما ارتكبه البعض من "القادة"و"الزعماء"،منهم من بالغ فى تأييد العسكر إلى حد العمل فى خدمتهم بحماس ومن استمتع بالظهور فى الفضائيات متصورا أنه بلغ النجاح المنشود،ومن تقلبت مواقفه بنفس الحدة والحماس والغرور من النقيض إلى النقيض،وخطأ اعتبار ميدان التحرير هو أرض الثورة المحررة وحق لها والمحافظة عليه هو محافظة عليها،وتصديق دعاية النظام بأن هذه مجرد ثورة شباب..إلخ [1].

ورغم أنه لم يمر سوى أقل من عام علي اندلاع انتفاضة 25 يناير وهو وقت غير كاف لتحديد النتائج والآثار إلا أن العقبات الجسيمة التى تواجهها العملية الثورية وما يشبه الانتكاسات المتوالية وشبح استعادة النظام لعافيته،يدفع المرء إلى التساؤل:ماذا حدث ولماذا؟.وقد نشرت من قبل عدة مقالات تحليلية عن الثورة وأعتبر هذا المقال استكمالا لها [2] وقد اقتبست هنا فقرات قليلة من بعضها.

وسوف أتناول هنا الخلفية الاجتماعية – السياسية لمصر المعاصرة التى أدت لانتفاضة 25 يناير ومسارها العام حتى الآن وإمكانيات التحول والآفاق الأكثر اتساقا مع هذا وذاك.

***************************************
مقدمة:
يقول واقع الأمور أن أغلب الشعب المصرى الآن يؤيد الثورة المضادة لثورة 25 يناير؛فالملايين يؤيدون السلفيين والإخوان المسلمين بخلاف الملايين من أعضاء الحزب الوطنى والمستفيدين من الفساد بالإضافة إلى مئات "المفكرين" والإعلاميين والدعاة والكتاب الموالين للنظام ويتفانون فى خدمته بل وهناك الكثير من المسيحيين يدورون فى فلك الكنيسة الموالية للنظام المتهاوى.بينما يعيش معظم الفلاحين فى الشمال والجنوب والملايين من سكان المدن الصغيرة فى عالمهم البعيد عن الحركة الثورية والسياسة بوجه عام.وتتضاءل القوى السياسية للثورة كل يوم ولم يعد لميدان التحرير سحره السابق كما أن الغالبية العظمى من القوى السياسية تنخرط الآن فى العملية الانتخابية التى ستعيد مشروعية النظام نفسه.

ومع ذلك تنضم باستمرار عناصر وقوى جديدة للحركة الاحتجاجية التى تتم من أسفل؛فحركات تطهير المؤسسات الحكومية تزداد والإضرابات التى تطالب بحقوق اجتماعية لأصحابها لا تتوقف .لكل هذا أرى أنه من الضرورى الآن أن تقف القوى المؤيدة لتغيير النظام لتلتقط أنفاسها وتحدد موضع قدميها وتجيب علي السؤال الأبدى:ما العمل؟.

أولا:تحليل سريع لوضع مصر العام:

1- النظام الاجتماعي - الاقتصادى:

- حين بدأ التحديث فى مصر منذ قرنين لم تكن بها طبقة راغبة أو قادرة على تحديث البلاد.وقد تولت الدولة هذا الأمر ابتداء من محمد علي الذى كان كل هدفه تأمين وضع عائلته فى مصر،وفى نفس الوقت كانت الرأسمالية الأوربية تسعى لإدخال البلدان قبل الرأسمالية للسوق الدولى.وقد أسفر المواجهات والتعاون بين محمد على والغرب عن إدخال مصر تدريجيا إلى عالم الحداثة وإدماجها فى السوق الدولي قسرا وتحقيق أمنية هذا الوالى فى تأمين حكم عائلته.وقد كان التحديث جزئيا فحسب:نمط استهلاك جديد - تنقيد - استيراد التكنولوجيا،صناعات تعبوية وتركيبية أساسا - زراعة تجارية – إنشاء جيش حديث وبيروقراطية جديدة - إلغاء السخرة - تحطيم جزئى لرابطة الدم،تحديث محدود للفكر الدينى – تعليم حديث.ومع ذلك ظلت أنماط إنتاج قديمة منتشرة ورغم التنقيد الواسع لم تصبح مصر بلد رأسمالى مثل بلدان الغرب.ورغم إنشاء مدارس ثم جامعات لم تتكون مراكز ذات شأن للبحث العلمى وإنتاج التكنولوجيا وفى النهاية تكونت مصر الحديثة كمجرد جزء ضعيف ومحطة صغيرة من السوق الدولي ولم تصبح عضوا فاعلا فى إنتاج الحضارة الحديثة.إذن لم يتم التحديث فى سياق ثورة اجتماعية تنقل البلاد من الإقطاع إلى الرأسمالية بل فى سياق تحويلها إلى مستعمرة مفيدة للرأسمالية الغربية،فتم خلق نظام يتميز بالنمو المتفاوت والمركب؛حيث توجد قطاعات متقدمة وأخرى متأخرة وتتشابك عناصر تنتمى للمجتمع القديم مع عناصر تنتمى للحداثة،يمكن تسميته:بنية التخلف [3].

- الطبقة المسيطرة

كانت الدولة المصرية علي مدى التاريخ هى التى تعيد إنتاج المجتمع بأسره فهى التى تحدد معدل وآليات التراكم الاقتصادى وتوزيع الثروة والتفاوتات الطبقية وكل شيء آخر حتى الانفجار السكانى المعاصر كان نتيجة سياستها فى الاهتمام بالطب الوقائى دون الاهتمام بنفس القدر بالتعليم.وهى التى بدأت وقادت التحديث وهى التى شكلت الانتلجانسيا [4] الحديثة وطبقة ملاك الأراضى وطبقة عمال الصناعة.

و الدولة هنا هى المثل الأعلي للمواطن. وحتى النخب المثقفة لا تتصور أبدا الاستقلال عنها.وهذه من أهم ركائز النظام الشمولي،فحتى معظم الثوار لا يفكرون فى تصفية دور الدولة بل فى زيادته:إلغاء الخصخصة،تأميم مزيد من المؤسسات،استمرار الدعم للسلع الضرورية،تعيين الخريجين،إنشاء مزيد من المشاريع العامة..إلخ.
ورغم أن الدولة – نظريا – هى أحد مكونات البناء الفوقى للمجتمع،كانت دائما فى مصر جزءا مهما من البناء التحتى أيضا من زاويتين: الأولي أنها أحد أهم قوى الإنتاج فى مصر خصوصا دورها التقنى فى تنظيم عملية الرى والصرف،والثانية ان كبار رجال الدولة يشكلون لب الطبقة المسيطرة:الحكام سواء المركزيين أو الجهويين وكبار الإداريين و يضاف إلى هؤلاء كبار رجال الأمن والجيش،ومعهم بالطبع كثير من المثقفين و "المفكرين" الرسميين والفنانين والسياسيين المحترفين والهواة.فالطبقة المسيطرة هى الدولة قبل أى شيء آخر رغم ضخامة حجم القطاع الخاص.فالدولة هى التى تملك الاقتصاد فعليا بما فى ذلك أغلب الملكية الخاصة،فهى قادرة علي إعادة توزيع الثروة وتستطيع التحكم فى نشاط القطاع الخاص تماما فهى تعز من تشاء وتزل من تشاء سواء من رجال الأعمال أو صغار الملاك أو حتى المعدمين.فرجال الأعمال هم قبل أى شيء مجرد وكلاء للدولة وهذا لا ينفى أن لهم هامش من حقوق الملكية ولكن لا يمكنهم العمل دون رضا بيروقراطية الدولة،فهى "الرجل الكبير" [5] دائما فى السوق وتستطيع فى ساعات أن تحول أكبر ملياردير إلى مفلس وسجين وتتمتع "بحق الليلة الأولي" [6] فى أى نشاط مهم فى المجتمع.

ويحتل الجيش حاليا مكانة أساسية داخل الدولة ويمتلك نسبة ملموسة من الاقتصاد ومختلف المزايا،ويضمن الجنرالات وظائف بأجور خيالية بعد تركهم الخدمة كما يمتلكون مشاريع ضخمة.

وقد تغير هذا الوضع الفريد للدولة خلال فترة الاحتلال البريطانى حيث كان جيش الاحتلال هو الحاكم الأول وتم تحويل البيروقراطية إلى خادم للاحتلال وفى السياق لرأس المال الخاص الكبير وكبار ملاك الأراضى المتعاونين معه،وبذلك تحققت خطوة فى اتجاه مزيد من التحديث حيث نشطت طبقة من رجال الأعمال الأجانب والمتمصرين والمصريين،لها نفوذها واستقلالها عن الدولة المصرية واكب صعودها انتعاش كبير للعلوم والأدب والفن وصار الفكر المصرى أكثر عقلانية وعلمانية وازدهرت الحياة السياسية فى مناخ نصف ليبرالي.

لكن جاء الانقلاب الناصرى ليعيق عجلة التقدم ويدمر طبقة رجال الأعمال ومعها الازدهار الثقافى والفكرى ويعيد بناء الطبقة الحاكمة فى صورة طغمة بيروقراطية طفيلية ويسحق المجتمع المدنى ويصادر حق المواطنة،واستمر الوضع نفسه حتى الآن.ومما عزز عودة الدولة للسيطرة علي البناء التحتى بعد 1952 تحول نشاط رجال الأعمال والبيروقراطيين تدريجيا إلى نشاط طفيلي ونهبوى فاسد،فأصبح تكوين الثروة يتم من خلال البيروقراطية وبأساليب طفيلية فاسدة مما جعل رجال الأعمال،اللصوص أغلبهم،رهائن فى يد الدولة التى تستطيع وضع من تشاء فى السجن بالقانون.

تتشكل بقية الطبقة المسيطرة من كتلة ممن يسمون برجال الأعمال وكبار ملاك الأراضى والعقارات.ويمارس هؤلاء نشاطا اقتصاديا يتسم بطابع طفيلي وتداولي،أكثر بكثير من النشاط الإنتاجى الضعيف عموما بالمقارنة بالمضاربة والتجارة والسمسرة وأشكال أخرى من "الاستثمار" مثل تهريب الآثار وتجارة الأعضاء والمخدرات وغسيل الأموال.ويتحصل هؤلاء "المستثمرون" علي الجزء الأكبر من الدخل القومى المتأتى من السياحة وتحويلات العاملين بالخارج وقناة السويس وعائدات البترول والرشاوى من شركات أجنبية وحتى يتم نهب جزء من المعونات الخارجية،ولا شك أن أحد مصادر أرباحهم هو عمل العمال ولكنه ليس المصدر الأساسى.باختصار يعتمد رجال "الطبقة" المسيطرة فى مصر علي آليات غير رأسمالية تقليدية فى تحقيق الأرباح بل تمارس الجريمة الاقتصادية وغير الاقتصادية علي نطاق واسع.

وقد أدت سياسة النظام الناصرى إلى تحويل الغالبية العظمى من رجال الأعمال القدامى تدريجيا إلى مجرد لصوص محترفين ودفع بالقوى الطفيلية بقوة،فقد حول الصناعات الكبرى لملكية حكومية صارت تكية للنهب وترك التداول أساسا للقطاع الخاص ونشر الفساد علي أوسع نطاق. يوجد الآن قلة من أصحاب المصانع المتقدمة وهؤلاء فى منتهى الضعف السياسى ولا حول لهم ولا قوة وخاضعون للدولة بشكل غير مباشر.

كما توجد "بورجوازية" متوسطة ؛أصحاب المصانع الصغيرة وبعضها حديثة تشكل قاعدة اجتماعية لنمو رأسمالى حقيقى إلا أنها ضعيفة سياسيا إلى أقصى حد وبلا أى نفوذ سياسى أو أيديولوجى وأفقها ضيق تماما وهذه تعانى من فساد الدولة وسياستها.

الطبقة العاملة(البروليتاريا) [7]:

نظرا لضعف الاقتصاد الإنتاجى والنشاط الرأسمالي المعتاد لم تتكون سوى طبقة عاملة محدودة الحجم بالنسبة لمجمل العمالة،بل توجد مقابل الطبقة الرثة من "رجال الأعمال" فئات ضخمة للغاية من الجماهير شبه البروليتارية؛المهمشة وشبه المهمشة التى يتضخم عددها بسبب استمرار الانفجار السكانى وارتفاع معدل هدم المجتمع القديم دون بناء فعال لمجتمع جديد.
لم تحاول الطبقة العاملة قط أن تقدم نفسها كقوة سياسية ولم تتعد طموحاتها تحقيق مطالب اقتصادية محدودة بل أعطتها الدولة الناصرية أكثر مما كانت تطلب.فالعمال فى مصر لا يشكلون طبقة عريقة ذات تقاليد خاصة،فمنهم كثيرون مرتبطون بأنشطة خاصة وبعضهم مازال منتميا للريف وأغلبيتهم الساحقة هم عمال يومية أى أشباه مهمشين،وهذا جعلهم طبقة غير متماسكة خصوصا أن جزءا منهم تم استيعابه فى منظومة الفساد طوال العقود الأخيرة (عمالة زائدة،حصول البعض علي أجور لا تتناسب لا مع الإنتاجية ولا ساعات العمل،والعمل المزدوج..)بل لم يكن بلا دلالة اشتراك قطاعات من العمال فى مؤامرة مارس 1954 لتثبيت الحكم العسكرى ضد الليبراليين واليسار مقابل رشاوى صغيرة وكانت هذه بداية لتدجين طبقة العمال .كانت مطالب الطبقة العاملة طوال العقود الماضية محصورة فى بعض الحقوق الاقتصادية وعلي مستوى الوحدات فقط تقريبا.بل لم تكن قادرة حتى علي تشكيل اتحاد عمال غير خاضع للسلطة.ومما له دلالة أن بعض المطالب العمالية كان رجعيا؛مثل المطالبة بتوزيع أرباح من شركات لا تربح أو الاستمرار فى تشغيل مصانع متخلفة أو المطالبة بحق العمال فى تعيين أبنائهم فى نفس الشركات، منها شركة الألمونيوم وشركة الكهرباء كأمثلة.وأحيانا طالب بعض العمال بتدخل جمال مبارك بالتدخل لتحقيق مطالبهم(مثل عمال الألمونيوم)،وفى كل عمليات الخصخصة تقريبا اعترض العمال،مفضلين ملكية الدولة،الفتوة الكبير وأكبر فاسد ورأس الرجعية فى البلد .وكل هذا يعكس حقيقة أن جزءا من العمال صار مندمجا فى النظام وخصوصا منذ انقلاب 1952 الذى قام بتغيير بنية الطبقة العاملة فى قطاع الدولة بتحويل بعض العمال إلى موظفين حكومة وكثير منهم إلى أشباه عمال.

المهمشون [8]:

تشكل الجماهير شبه البروليتارية كتلا ضخمة ولم تعد مجرد جماعات متناثرة تمارس الجريمة،فلم يعد من المقبول وصفها بحثالة البروليتاريا.فهذه الكتل الضخمة ليست مجرد عصابات إجرامية أو خارجة علي القانون،بل ان الملايين من أفرادها يعمل وينتج .وهؤلاء لا يشعرون بأى قدر من الأمان ويعيشون علي هامش المجتمع،ولذلك فهم أكثر الفئات مصلحة فى إعادة بناء النظام الاجتماعي حتى يتمتعون بحقوق الإنسان المتعارف عليها. إن ضخامة عدد المهمشين يشكل أحد أهم سمات مصر المعاصرة وهو من أهم أحد عوائق التنوير ولكنه فى نفس الوقت أحد أهم عوامل انفجار الصراع الاجتماعي وشيوع الفوضى،وهذه الفئات قابلة بسهولة للاستخدام لصالح غيرها ولا تحمل طموحات كبيرة ولا أفكارا تقدمية محددة ولا فكرا حداثيا بشكل عام حتى الآن،ولكن تحمل شحنات هائلة من الحقد الطبقى وروح تمرد عالية للغاية. وقد تكون انتفاضاتهم قادرة علي إجبار النظام علي تقديم التنازلات.وعلي العكس قد تكون ثورتهم سببا للفوضى غير الخلاقة وتدمير البناء الاجتماعي المهترئ وقد تؤدى لحالة انفلات واسعة النطاق وطويلة المدى،والأمر يتوقف علي بقية القوى المنظمة.ولم يحول دون ذلك حتى الآن سوى القوة الهائلة للدولة المركزية وضخامة الانتلجينسيا المتحالفة معها أغلب الوقت.ومع ذلك فرضوا لغتهم وجزءا كبيرا من ثقافتهم علي الشعب كله . لذلك أرى أن دور انتفاضات المهمشين هنا حاسم تماما لإجبار النظام الاجتماعي علي التغير وبالتالي خلق وضعية أنسب للسير علي طريق الحداثة.

ولن يستطيع النظام أن يستوعب المهمشين إلا إذا أجرى علي نفسه عمليات جراحية كبرى وعديدة،فلن تصلح أبدا حلول مثل العمل الخيرى والتكافل الاجتماعي والصدقات والإعانات الاجتماعية فى علاج ظاهرة التهميش الواسعة الانتشار.وعلي سبيل المثال لن يمكن إطلاقا تصفية العشوائيات ومنح مساكن للمشردين إلا بإجراءات جذرية غير تقليدية وتقليل حجم الفساد جذريا.فتقديم أراض مجانا وقروض ميسرة ضخمة وإزالة العقبات أمام القطاع الخاص الصغير والمتوسط وتصفية الاحتكارات ورأس المال الطفيلي شروط لا غنى عنها لحل مشاكل المهمشين. والأهم علي الإطلاق:توسيع المشاركة الشعبية فى السلطة وإصلاح جهاز الأمن وتطبيق القانون علي الجميع ...إلخ،بحيث يشعر الناس أن الحكومة مخلصة فى تمثيل الصالح العام وبذلك يقبلون بعض الالتزامات من تخفيض معدل الاستهلاك والمحافظة علي الممتلكات العامة والإقبال علي العمل وإتقانه..إلخ.

وهكذا يستطيع النظام استيعاب المهمشين فقط إذا تغير بشكل جذرى إلى نظام أكثر شفافية وتبنى هدف تحديث البلاد وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية.

لذلك يعتبر استيعاب المهمشين معيارا لتغير النظام المصرى الذى استطاع أن يستوعب جل كبار أصحاب الأعمال ورجال الإدارة أساسا فى منظومة فساد معمم.
- كما يوجد عدد كبير من السكان يعمل بالزراعة وأغلبهم يعملون فى قطع أرض بالغة الصغر ويعانون من فقر شديد.

الفئات الوسطى: مثل المهنيين وصغار ومتوسطى أصحاب الأعمال وصغار الموظفين.وتتباين دخول هذه الفئات ولكن أغلبها فقيرة وأحيانا شديد الفقر مثل الموظفين الصغار.وتوجد انتليجينسيا ضخمة :مهنيون ومفكرون وكتاب وفنانون وقانونيون..إلخ.

- وقد استطاعت الدولة المهيمنة تماما تلويث معظم المستثمرين وحتى كثير من أبناء الطبقات الشعبية وتقريبا كل من يعتمد عليها فى تحقيق مصالحه.فالفساد تغلغل فى كل مكان وصار يمس المجتمع الرسمى – علي الأقل - بأسره.ومن الواضح أن الكثيرين جدا من معارضى النظام لديهم "ملفات" مشينة لدى السلطة تجعلهم عاجزين عن ممارسة المعارضة حتى النهاية كما أن الكثيرين من الكتاب والمفكرين يعملون بالتنسيق مع أجهزة الأمن أو فى الحدود التى ترسمها لهم هذه الأجهزة وهذا يشمل حتى معظم الأحزاب "المعارضة" وكثيرا من الصحف الخاصة،والمنظمات الإسلامية: جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والجماعات الإسلامية.كما تعمل النقابات الرسمية مع النظام بدرجة أو بأخرى.وبكل أسف يعمل كثير من المثقفين فى أجهزة الثقافة الحكومية ويستفيد كثير منهم من الفساد.

- قوى وعلاقات الإنتاج:

شهدت مصر منذ انقلاب 1952 وبعد أن سيطرت الدولة علي مجمل المجتمع المدنى انحدارا حضاريا مستمرا ولم تستطع استئناف دورها التحديثى السريع فى عصر محمد على،بل اكتفت ببعض التحديث المحدود للغاية،بل على العكس سببت جمودا بل ودمارا كبيرا فى كثير من جوانب النشاط الاجتماعى.

فالناصرية كان همها الأول تأمين نفسها وخلق وإعادة خلق شرعيتها،وفى إطار ذلك خلقت فئة مغلقة طفيلية وضيقة الأفق تحمل ثقافة محدودة من رجال الدولة سيطرت على السلطة والثروة والمجتمع المدنى،ومن أجل ذلك كانت مهمومة بالصراع ضد الشيوعية والليبرالية فاستخدمت طبعة دينية من الاشتراكية وخربت التعليم والبحث العلمى وجندت المثقفين فى خدمتها ونجحت فى النهاية فى إعادة الثقافة المصرية إلى الوراء.كما دفعتها ضغوط التوجهات القومية فى الداخل وفى العالم العربى والتوازن الدولى والحرب الباردة فرصة استخدام شعارات العظمة القومية الزائفة فتورطت فى معارك خارجية مكلفة،وارتبطت جزئيا باقتصاديات دول الكوميكون المتخلفة.وقد استمرت عملية التحديث غير المتوازن بالقصور الذاتى حتى انتهت بكارثة اقتصادية ثم عسكرية،بفضل السياسة الناصرية ككل [9].

ومنذ عقود لا يسمح النظام بتقدم قوى الإنتاج(مستوى مهارة العمالة ومعدات العمل والإدارة) إلا فى أضيق الحدود،فيضطر المصريين للسفر للخارج للتعلم الحقيقى ويستورد ما يحتاج من تكنولوجيا وينتج سلعا رديئة فى مجملها،وكل هذا بفضل انحطاط التعليم والثقافة وانتشار الفساد الذى يمنع العمل بمهنية فى كافة المجالات ويعيق التدريب واكتساب المهارات التقنية،ويشجع تطور التقنية فى ممارسات الفساد والنهب والسلب والتزوير والتهريب والمضاربة وتسويق السلع الضارة والرديئة ويجبر مئات الألوف من الفنيين والعمال وخريجى المدارس العليا ضعيفى الكفاءة علي العمل كباعة جائلين وعمال يومية وهى أعمال لا تتناسب حتى مع مؤهلاتهم العلمية المحدودة.

ومقابل ذلك يعود بعض من المصررين من الخارج وقد حصلوا علي مؤهلات محترمة أو اكتسبوا مهارات عالية،كما يستطيع بعض الشباب الالتحاق بالجامعات الأجنبية والخاصة داخل البلاد ويتعلم بعضهم من خلال الانترنت بعض المهارات منها مهارت الانترنت نفسه بفضل تعاظم شبكة الاتصالات الدولية وتوفر المعلومات علي مستوى العالم. ولا يستطيع معظم هؤلاء أن يجد مكانا ملائما لمهاراته فى سوق العمل إلا قليلا.

لقد صارت العمالة المصرية من أقل العمالة كفاءة فى العالم حسب تقارير دولية معتبرة وصارت الشهادات العليا المصرية موضع شك فى الخارج.بل ان الكفاءات عموما محدودة للغاية وتشكو المصانع من نقص الكوادر الفنية الصناعية المدربة حتى منذ ما قبل 1952،ويزيد الطين بلة ضعف الضمير وعدم الدقة فى العمل وعدم اتباع الأساليب العلمية الحديثة فى كل المجالات بما فيها مجال الطب والتعليم والتجارة والطرقات والصرف الصحى والكهرباء كنتاج لتدهور الثقافة المصرية عموما..إلخ.وينطبق الشيء نفسه على الإدارة.ويكفى أن نقدم مثالا ان السعودية أكثر تقدما من مصر بمراحل فى استخدام النت والكمبيوتر فى الإدارة على كل المستويات.وينعكس تأخر المهارات فى تخلف استخدام معدات الإنتاج واختيار تقنيات متخلفة أصلا لقصر نظر المستثمرين والإدارة.

والمسؤول عن ذلك هو الفساد المرتبط بالطابع الدولنى للاقتصاد حيث تهيمن الدولة،وسيادة الاقتصاد المالي التداولي عموما والاحتكار.فالبورصة المصرية هى مجرد سوق للمضاربة والبنوك هى بشكل أساسى وسيط بين تجار ومضاربين،أما التراكم الرأسمالي فى الصناعة والزراعة والخدمات الحديثة فمحدود بالنسبة لمجمل حركة الأموال.ويعاق البحث العلمى بل والتعليم نفسه عمدا ليس بفضل الاحتكارت الرأسمالية بل بفضل المستوردين والتجار والسماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية الذين يريدون قتل أى عملية تصنيع حقيقى.ويمكن وصف الطبقة المسيطرة فى مصر بالرأسمالية التداولية مجازا لتوضيح الأمر.وهذا النوع من "الرأسمالية" يعيق النمو الرأسمالي والتقدم.وفى الحقيقة إذا أردنا الدقة نجد أن هذا النظام الذى تشكل فيه الدولة لب الطبقة المسيطرة ويشكل رجال الأعمال وكلاء لها أساسا هو نظام يحمل الكثير من ملامح الإقطاع.فالدولة تتصرف كملك إقطاعي يهيمن علي مجمل الاقتصاد بما فى ذلك القطاع الخاص والطبقة المسيطرة ككل تعتمد بشكل أساسى علي نهب العاملين فى الخارج وريع القناة ودخل السياحة وصغار المنتجين،من خلال المضاربات والاحتكار.

يمكن وصف المجتمع المصرى بأنه مجتمع "متخلف":نظام رأسمالوى [10] لا يعمل بالآليات الرأسمالية التقليدية حيث يسيطر التداول علي الإنتاج وتشكل التحويلات الخارجية جزءا جوهريا من الفائض وينتشر نمط الإنتاج الصغير والعائلي علي نطاق واسع للغاية وتعانى البلاد من أزمات نقص إنتاج،وهى أزمات قبل رأسمالىة، فتستورد كثيرا من احتياجاتها من الخارج مقابل تصدير العمالة والخدمات.بل مازالت الدولة تلجأ لتشغيل بعض العمال بالسخرة:فى منشآت الجيش المدنية حيث يقدر كثير من المحللين والمتابعين يمتلكه الجيش من الاقتصاد بنسب تتراوح بين 12 ألى 45 % وهى نسب ضخمة للغاية،يتم العمل فيه بالسخرة ولا يخضع للضرائب ولا الرقابة،وفى جهاز المرور ووحدات الأمن المركزى يعمل مجندون بمقابل رمزى،كما يكلف الأطباء بالعمل الإجبارى فى المناطق النائية لفترة معينة كما يكلف الممرضون علي العمل إجباريا لمدة سنتين أو أكثر (فترة التكليف) بأجر رمزى.وفى قطاع الدولة الاقتصادى يعمل العمال مقابل جراية حيث لا توجد أية مساومة فردية أو جماعية علي "الأجر"،فأى نمط إنتاج هذا؟.

نستطيع إيجاز الموقف فى التناقض بين قوى الإنتاج والرأسمالوية البيروقراطية التداولية الفاسدة والمخربة،والتى تعيق تقدم قوى الإنتاج وكذلك اقتصاد السوق الحرة.ويترجم هذا التناقض إلى تناقض بين الفئات المهمشة وشبه المهمشة وصغار أصحاب الأعمال والعمال والتكنوقراط وبين الطبقة البيروقراطية – المالية المهيمنة علي كل شيء.

2- النظام السياسى:

- فى مصر المعاصرة تسيطر الدولة علي المجتمع المدنى،فمن خلالها يتم تكوين الثروات وإنتاج الثقافة وحتى ممارسة الألعاب الرياضية وطبعا تشرف علي التعليم والبحث العلمى والإعلام.ومنذ 1952 أصبحت تعتمد نظرية أهل الثقة أفضل من أهل الخبرة،فصارت العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة،فيتم الإعدام المدنى للأكفاء لصالح الجهلة،ويهرب العلماء إلى الخارج،ويهاجر المثقفون الأكثر جدية،وحتى أكثر رجال الأعمال الحقيقيين يستثمرون فى الخارج.وقد أصبحت مصر بلد اللصوص المحترفين والأفاقين.صارت الدولة عبارة عن عصابة مسلحة بشكل شبه معلن وصريح:اللصوص يحكمون والأمن المسلح يحميهم والبلطجية صاروا جزءا من جهاز الأمن.وفى النهاية يبارك رجال الدين هذا الوضع بالفتاوى،وصار القضاء جزءا من العصابة الحاكمة أو علي الأقل عنصرا مساعدا مقابل الامتيازات. فهذا نظام شمولي شهد قدرا من التفكك بعد هزيمة محمد علي ثم استرد عافيته منذ الانقلاب الناصرى وأصبح أكثر شراسة فى العقود الأخيرة.
- جهاز العدالة:
القضاء المصرى – من الناحية العملية - ملحق للسلطة التنفيذية يخضع لها رسميا (حيث أنه ليس مستقلا) وعمليا بترهيب أجهزة الأمن وكذلك بالإغراءات المادية،بل ان القضاء نفسه لا يختلف عن هذه السلطة من حيث إغراقه فى الفساد مشكلا جزءا من البيروقراطية الحاكمة،فالقضاة يعتبرون أنفسهم فئة مميزة و"يناضلون" لتوريث مناصبهم لأبنائهم وكثير منهم يصدر الأحكام التى ترضى السلطة التنفيذية بل بعضهم زور الانتخابات.لا يوجد فى مصر جهاز فعال لمراجعة أحكام القضاء بالكامل،و لا يعاقب بالتالي القاضى المخطىء. كل هذا يؤدى إلى فقدان الثقة فى جهاز العدالة و لا يشجع المواطن علي المطالبة بحقوقه بالطرق القانونية أو الإبلاغ عن المخالفات بل و يشجع علي ازدراء القانون . ومن هنا تنتشر "البلطجة " : و نعنى بذلك الخروج العلنى علي القانون . ومن الملاحظ أن أكبر بلطجى هو الدولة نفسها، التى لا تطبق لا الدستور و لا القوانين فى كثير من الأحيان و لا تنفذ كثيرا من أحكام القضاء و تفرض الإتاوات علي الناس بحجج غير قانونية و تبتز المواطنين تحت عناوين شتى .
ويساعد علي انتشار البلطجة الفساد الإدارى الهائل و ترهل البيروقراطية والتعقيدات الإدارية و تراخى أجهزة الأمن و ازدراء الأجهزة لحقوق المواطن.
لقد أصبحت البلطجة جزءا من نسيج الثقافة العامة ومبررة تماما من وجهة نظر رجل الشارع العادى،فهى بمثابة القانون والقضاء الموازى،جهاز عدالة بديل لغياب "العدالة" الرسمية .
- المجلس التشريعي:
منذ انقلاب 1952 بدأ البرلمان،الذى تم حله عدة مرات وتعيينه مرة وإلغاؤه لمعظم الفترة الناصرية يتحول من مجلس تشريعي ورقابى إلى مجلس خدمى،فصار المرشح ينتخب مقابل تقديم خدمات شخصية أو محلية للناخبين،بعضها غير قانونى مثل إيجاد وظائف وإصلاح شبكة المياه والتوسط لنقل موظف من منطقة لأخرى والإفراج عن محبوسين فى جرائم وتقديم رشاوى مباشرة مقابل التصويت،بخلاف التزوير المباشر وإغلاق دوائر بعينها..إلخ.وأصبحت الحكومة تقبل هذه الوظيفة وتتغاضى عن هذه "الخدمات" بل وتساعد الأعضاء الذين ترضى عنهم علي تنفيذها،وبالتدريج أصبحت حصانة المنصب ُتستغل لتحقيق ثروات طائلة بممارسات فاسدة وإجرامية أحيانا.هكذا اندمج البرلمان فى منظومة فساد شامل مقابل أن يفصل القوانين التى تريدها السلطة التنفيذية،بل واندمج البرلمانيون فى الحزب الحاكم عضويا ابتداء من الاتحاد الاشتراكى [11] وحتى الحزب الوطنى،والخلاصة أن الشعب لم يمثل فى البرلمان قط إلا فى أضيق الحدود.ولأن المعارضة المحدودة كانت تسبب قلقا للنظام خصوصا مع بروز مشروع توريث السلطة لجأت الحكومة فى انتخابات 2010 إلى تزوير واسع النطاق كى تهيمن علي كل المقاعد البرلمانية سوى عدد قليل للغاية،وبذلك أغلقت كل النوافذ أمام القوى المعارضة المتنامية التى لم يعد أمامها محال للحركة سوى الشارع،فبدأ العد التنازلي لانتفاضة 25 يناير.

3- الثقافة المصرية:

ترتب على وواكب هيمنة البيروقراطية العسكرية على المجتمع المدنى منذ الانقلاب الناصرى وما ترتب عليه من إحلال "أهل الثقة" مكان "أهل الخبرة" تدهور حضارى عام فى مصر أصبح بارزا ومتزايدا خاصة منذ عصر السادات.

فبعد أن أنتجت البلاد متميزين فى العلوم والأدب والفن والسياسة والفلسفة قبل 1952 راحت تنتج رجال دين وحفظة قرآن أكثر فأكثر،بل بلغ الحال درجة احتقار عام للمتعلمين والعلم خصوصا مع الصعود الاجتماعي السريع والحاد لطبقة من اللصوص وتجار المخدرات فى السبعينات.وفى النهاية انتصر البيزينس الطفيلي علي العلم وانهار البحث العلمى تماما كما انتصر الدين علي الفلسفة.أصبح المتعلمون بلا قيمة ولا يتمتعون بالاحترام بينما صار الأفاقون والمزورون نخبة المجتمع. لم تعد مصر من الأمم الأكثر تحضرا ، بل العكس.

والدين مازال محركا مهما ومازال المصريون يحتاجون إلى السماء كملهم ومصدر للمباديء بل إن المصريين هم أكثر شعوب العالم تدينا وفقا لاستطلاع أجراه معهد جالوب،بل ويسودهم التعصب بل الهوس الدينى .بل من الغريب أن أهم حركة شاركت وقادت ثورة 25 يناير وهى حركة 6 ابريل أعلنت علي لسام متحدثها الرسمى أنها لا تقبل الملحدين فى صفوفها.بل يتبارى الثوار فى إظهار رفضهم للإلحاد وحتى العلمانية،علي الأقل خوفا من الرأى العام. وهذا يتضمن شعورهم بالعجز عن تقرير مصيرهم.فالناس تلجأ إلى السماء لأنها تشعر بالعجز عن تغيير واقعها فتبحث عن الفردوس فى عالم آخر خيالي.وهم يسيرون وراء دعاة الدين لأنهم يقودونهم – زعما – إلى الجنة كبديل لشقائهم علي الأرض.كما يتطلع هؤلاء العاجزون لتغيير واقعهم إلى إلهام أو وحى من السماء ليرشدهم إلى الطريق.
كما أن الثقافة السائدة فى مصر معادية للديموقراطية والغالبية العظمى من الناس لا تؤمن بحقوق الإنسان المعروفة خصوصا حقه فى اختيار عقيدته بحرية وحريته فى جسده وحق الزواج المدنى وحقه فى النقد الحر، ولا بالمساواة بين المواطنين. و هى تتسم بعدم التسامح مع الرأى الآخر و عقيدة الآخرين، فالتكفير يسير علي قدم و ساق من جانب كل التيارات ، و الدعوة إلى قطع رقاب المخالفين فى العقيدة أو الرأى قائمة ، و ادعاء الوصاية علي فكر الناس و الأخلاق "الحميدة" و القيم مستمر .
وهذا مما يفسر ضعف الليبرالية المصرية والتى تضطر دائما للاستعانة بالدولة لإنقاذها من أعدائها،متخلية عن شعاراتها الديموقراطية.بل تتصارع الأحزاب "الليبرالية"- فرضا- فيما بينها بدون أى نزعة ديموقراطية بل ويتخذ "الحوار"الداخلي أحيانا شكل العنف الذى بلغ حد الحرق وإطلاق الرصاص واستئجار بلطجية..ويصر معظم رؤساء الأحزاب علي رئاستها مدى الحياة.
ومما له دلالة بهذا الخصوص أن الانتخابات تتم دائما فى حماية الشرطة وتمت مؤخرا فى حماية الجيش وهذا لايحدث فى البلدان الديموقراطية.
كان الوضع أكثر انفتاحا قبل 1952 ولكن الانحدار مستمر منذ رفع الشعب شعارات مثل:تسقط الحرية ،تسقط الديموقراطية وسلموا قيادهم للعسكر.

كما تدهور الفن بوجه عام منذ أخضعته الدولة لرقابة صارمة وتدخلت فيه بالكامل.
- كما تدهور الذوق العام وتذوق الجمال خصوصا منذ السبعينات مع الصعود الأسطورى للطغمة الساداتية وقد انتشر القبح والقذارة فى كل مكان،وبدلا من نمو الحضر تم ترييف المدن بما فيها القاهرة وانتشرت العشوائيات فى كل المدن.و لم تعد اللهجة المصرية هى المحبوبة فى العالم العربى بسبب تدهورها و سوقيتها . و رغم وجود عشرات القنوات التلفزيونية،فهى لا تقدم ما يبحث عنه الناس فى قنوات أجنبية.

- هذا بخلاف التدهور الأخلاقى والسلوكى الشديد والمتزايد وانتشار حالة من الهوس الجنسى فى الشارع المصرى. كما انتشرت فى العقود الأخيرة قيم أنانية فردية شديدة ولكنها ليست أنانية البورجوازى بل أنانية اللص،فهى ليست فى إطار نظام للضبط والربط،كما ارتفع معدل الجريمة وظهرت أشكال بشعة من الجرائم [12].
الغالبية العظمى من رجال مصر يحتقرون المرأة وما تزال أغلبية النساء تخجل من أنوثتها وربما يعبر انتشار الخمار والنقاب عن هذه الظاهرة المتزايدة التغلغل فى عمق الثقافة المصرية.
يضاف إلى ذلك انتشار عادات و تقاليد ضارة اجتماعيا و اقتصاديا منها ختان البنات و تعاطى المخدرات.وتسود الهمجية والعشوائية كل شيء ابتداء من قيادة السيارات و"التوك توك" الواسع الانتشار الآن وحتى التعامل مع الأمراض والأوبئة وانتهاء بالعلاقات الدولية .

إن الثقافة المصرية السائدة حاليا لا تلائم علي الإطلاق عملية التحديث و هى – فى مجملها- ثقافة عنصرية و لا ديموقراطية ، بل إقصائية لا تحترم الآخر، و هى ثقافة استهلاكية معادية للإبداع و العمل عالي الجودة ، و هى أيضا تمجد ادعاء العلم ؛الفهلوة لا العلم نفسه ، و تفضل التواكل و البحث عن الحظ بدلا من التخطيط و الحسابات العقلية و تحترم الماضى أكثر من الحاضر و الميت أكثر من الحى، و أخيرا يسودها الاعتقاد فى الخرافات بل و حبها .
ولقد انخفض إقبال المصريين علي القراءة وتدهور سوق الكتاب وأصبح الإقبال علي الكتابات الخفيفة أكثر من الجادة وعلي كتب الدين والخرافات أكثر بكثير من كتب العلم والفكر.
ورغم كل مظاهر التأخر هذه يؤمن أغلب المصريين أنهم أكثر شعوب العالم تحضرا وأنهم أفضل البشروأكثرعهم تحضرا و أنهم شعب " أصيل " لديه قيم " فاضلة " و أن " معدنهم " فريد من نوعه ، و تنفخ وسائل الإعلام الحكومية و الخاصة و دعاة المحافظة علي الهوية فى هذه الأفكار، كما يسود الشعور بكراهية الغرب المتفوق والتوجس منه ومع ذلك يتصرف المصريون كما لو أنهم سادة العالم أو يجب أن يكونوا كذلك. كل هذا يعبر عن حالة بارانويا متقدمة.
إن الكلام المكرر والروتينى عن أن "مصر تستحق"ما هو أفضل" أو أن "مصر تستحق الديموقراطية" ينطوى علي مشاعر غاية فى التعصب والعنصرية؛فإذا كان الشعب يرفض الثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان فكيف يقال هذا الكلام؟.فمعنى أن الشعب مؤهل للديموقراطية أنه يريدها ويناضل من أجلها.صحيح أن الكل يعلن ضرورة احترام صناديق الاقتراع ولكن لا تؤيد الأغلبية العظمى مثلا حرية الاعتقاد أو العلمانية،فأين احترام أى اقتراع أصلا؟.
- كانت تجارب الثورات كلها سيئة للجماهير الفقيرة،فقد ضحت مرارا عبر التاريخ ولكن كانت التورتة تقع دائما فى يد نخبة حاكمة جديدة،فالشعب المصرى لم يحكم نفسه أبدا وفى المرة التى استطاع أن يقرر من يحكمه عين محمد علي الأجنبى والطاغية حاكما راح يذيقه المر والهوان لتحقيق أطماع عائلته.وهذا ما يفسر جزئيا علي الأقل إحجام الجماهير عن العمل الثورى الدؤوب.من تجاربها الطويلة لا تثق الجماهير بأى ممن يدعون قيادتها لأنه فى كل مرة سلمت قيادها تعرضت للخيانة.ورغم أن جمال عبد الناصر استطاع أن يقدم رشاوى ملموسة لقطاعات شعبية مهمة شعر الشعب فى النهاية بالخداع والخيانة مع هزيمة 1967 المهينة. وهذا ما يفسر تواضع طموحات الشعب المصرى التى تنحصر فى استمرار الحياة التقليدية،وقصر نفسه وضيق أفقه،وهذا يدفع الناس للتغاضى عن أمور كثيرة ويفسر عدم وصول الصراع الاجتماعي أبدا حتى نهايته،كما يفسر نجاح الرشوة فى الانتخابات ولعبة السياسة عموما [13].

- المصريون يقدسون الجيش نتيجة كثرة الحروب الخارجية عبر التاريخ وتعدد اعتداءات الدول الأخرى والتهديد الخارجى الدائم تقريبا. خصوصا أن الجيش قد تبوأ قيادة بعض الحركات الوطنية مثلما حدث فى عهد أحمد عرابى وبعد ذلك مشاركة بعض الضباط فى الحركة الوطنية ثم انقلاب 1952 الذى دغدغ المشاعر الوطنية بشكل لم يسبق له مثيل.وهذا مما يفسر إلى حد كبير عدم استيعاب ما يحدث الآن من تآمر العسكر ضد الحركة الثورية الحالية. ورغم كل جرائم الجيش إلى فاقت جرائم أمن الدولة مازال الثوار يميزيون الجيش عن المجلس العسكرى.
رغم ما حققه النظام الناصرى من استقلال سياسى ومن رفع الشعور بالعظمة القومية،إلا أنه قد صفى فى الوقت نفسه الطبقة الأرستقراطية المتعلمة جيدا والمرتبطة بالغرب كما طرد الأجانب واليهود الذين كانوا حرفيين وتجار ممتازين ويحملون ثقافة حديثة كما وجه ضربات قاسية للشركات الأجنبية ذات التقاليد الحداثية فى التشغيل والإدارة.كل هذا التمصير حرم المجتمع من عناصر حداثية ولم يتخذ الناصريون إجراءات ما لإحلال قوى أكثر كفاءة محلها بل وضعت محلها عناصر أقل كفاءة بكثير.فكان التمصير بدوافع شوفينية فقط بجانب تفضيل أهل الثقة علي أهل الخبرة كسياسة عامة من أهم عوامل تدهور الحرف والإدارة والصناعات والتعليم وحتى اللغة الانجليزية والفرنسية صارتا تنطقان باللهجة الريفية المصرية،كما صار الوقت لا يحترم وانخفض إتقان العمل وسادت الفهلوة،وفى النهاية وجدت الفتاوى الدينية المتعصبة الطريق أمامها سهلا دون عوائق تذكر.باختصار فتحت الناصرية الباب علي مصراعيه للتراجع الحضارى الذى انفجر فى عصر السادات ثم مبارك.
وقد أصبحت الدولة أكثر عجزا باستمرار علي استيعاب المثقفين والمتعلمين فى دولابها مما أنتج أعداد كبيرة من المتعلمين مهمشين يعملون فى اقتصاد الظل أو لا يعملون أصلا وكذلك مثقفين لا يندمجون فى الدولة ولا يعملون فى خدمتها مما مهد أيضا لانفجار 25 يناير الذى قاده أساسا هذا الشباب المنبوذ من الدولة.

4- الانتليجينسيا [14] المصرية :

لقد أُنشئت الانتلجينسيا الحديثة المصرية إنشاء ولم تتكون تلقائيا. بدأ ذلك فى عهد محمد علي؛شكلتها الدولة فقدمت الإغراءات المجزية كما قامت بإجبار بعض الناس علي دخول المدارس ثم السفر للتعلم فى فرنسا بغرض أساسى هو إنشاء جيش قوى لتمكين أسرة محمد علي. ولم يكن التحديث الاجتماعي مطلوبا من قبل الدولة إلا بالقدر الملائم لإنشاء جيش حديث. وقد حملت الانتليجينسيا المصرية منذ البداية ثقافة مركبة؛حديثة علمانية و قديمة دينية،فرغم التعليم الحديث جاء هؤلاء المتعلمون من بيئة لها تقاليدها وقيمها ومعتقداتها التقليدية القديمة،.كما لم يشهد المجتمع المصرى انتقالا حاسما نحو الحداثة، ذلك أن عملية الانتقال من الإقطاع الدولنى إلى الرأسمالية ظلت محتجزة(حالة انتقال محتجز بتعبير سمير أمين)،فالقوى الاجتماعية المسيطرة ظلت منسجمة مع بعضها، وطبعا هذا لا ينفى وجود خلافات جزئية و صراعات علي توزيع الفائض،و فى نفس الوقت لم يفرز نمو التخلف طبقة ثورية جديدة ،فلم تقم الطبقات المهمة باحتجاجات جذرية ولم تقدم مطالب ثورية ملهمة للمثقفين.إذ لم تكن عملية التحديث فى مصر حادة تماما، مقارنة مثلا بروسيا القيصرية، فلم تنشأ هنا مراكز صناعية متطورة بحق، و تركز التحديث علي قطاع الخدمات اللازمة لإقامة اقتصاد تابع وهش و لإقامة صناعات حالة محل الواردات و كذلك لتقوية قبضة الدولة الحديثة علي المجتمع المدنى، فهذه الانتليجينسيا لم تتكون فى سياق عملية تحديث جذرية، بل فى سياق عملية تحديث قسرية وجزئية محدودة الأهداف. ولهذا السبب لم تتبن أيديولوجيا حداثية بالكامل، و لم تصبح علمانية بحق ولم تقد عملية تنوير حقيقية،و لم تشهر سلاح العقل فى وجه الأيديولوجيا القديمة [15]. لذلك ظلت الإشكالية المعروفة بمسألة العلاقة بين الأصالة و المعاصرة قائمة طوال تاريخ مصر الحديث.فالنمو المركب علي الصعيد المادى قد أنتج نموا مركبا علي صعيد الوعي كذلك،فنشأت الانتليجينسيا العلمانية نصف الدينية بجانب الانتليجينسيا الدينية نصف العلمانية، و الفكر العلمانى بجانب الفكر الدينى ، بدون صراع تاريخى ، حيث صودر الصراع منذ بداية التحول فى البناء التحتى علي صعيد الطبقة المسيطرة،حيث لم يحدث صراع طبقى بين البورجوازية والإقطاع. كما كان الفصل بين الدين و الدولة غير كامل، بل و كان عنصر الوئام بينهما يغلب أحيانا علي عنصر الصراع. فرغم حاجة الدولة المحدثة و الطبقة الحاكمة الجديدة إلى فكر جديد،ظل للأيديولوجيا القديمة دور هام للغاية بالنسبة لها ، بفضل حالة الانتقال المحتجز بالذات ؛ المتضمن لاستمرار التأخر و عدم خضوع قطاعات واسعة من السكان لآليات الحداثة الاجتماعية عموما و الإنتاجية خصوصا.و لذلك ظل للأيديولوجيا القديمة مكانة هامة لديها.
يمكننا أن نصف الانتليجينسيا المصرية عموما بأنها مثل المجتمع الذى تنتمى إليه؛ تحمل ثقافة مركبة؛قبل حداثية وحداثية،بل لقد اتجهت فى العقود الأخيرة أكثر نحو اللاعقلانية صراحة:فآلاف المتعلمين الآن هم سلفيون معادون للعلمانية. و لهذا كله شهدت ساحة الأيديولوجيا موقفا سلبيا من ِقبل العقلانية الحديثة فى مواجهة الفكر الدينى . و لم نرصد فى تاريخ مصر الحديث صراعا أيديولوجيا حاسما و تاريخيا . بل ساد الحل الوسط و الانتقاء. و من الملاحظ أنه نتيجة حالة النمو المركب علي صعيد الفكر لم تصبح الثقافة المصرية متماهية و لم تشهد انتصارا نهائيا لأحد قطبيها : الإسلام و العلمانية؛أو الأصالة والمعاصرة. و لنتذكر – للمقارنة- أن البورجوازية فى الغرب قد حققت هذا تقريبا، استنادا إلى إنجازاتها الاجتماعية -الاقتصادية الكبيرة. و فى المقابل نجد أن طبقتنا المذكورة لم تحقق أية ثورة بورجوازية بالمعنى المفهوم للكلمة ، كما أنه لم تتكون طبقة بديلة يمكن أن تحفز ظهور و انتشار ثقافة علمانية-عقلانية.باختصار تفتقد مصر المعاصرة إلى قوة اجتماعية لها مصلحة وقدرة علي تحقيق ثورة اجتماعية كما تفتقد للفكر الثورى؛الجذرى،المعادى فعليا للدولة الرجعية وللنظام الاجتماعي المتخلف.فحتى الحركة الشيوعية المصرية لم تزد عن كونها حركة وطنية قومية الأفق وكان أقصى أمانيها طول الوقت الحصول علي اعتراف المجتمع بشرعيتها [16].
و نظرا لغياب الحاجة الموضوعية لتصفية الفكر القديم و تحقيق نصر نهائى للعقلانية لم يكن فى مصر فكر ثورى إلا علي أضيق نطاق،وكانت أكثر فترة شهدت ظهور أطروحات فكرية ثورية قياسا بما قبلها هى فترة محمد علي والعقود التالية له حتى نهاية عصر اسماعيل والتى شهدت أعلي معدل للتحديث فى تاريخ مصر [17]. فبلوغ الحالة الانتقالية بيسر،والتى لم تقاومها الانتلجينسيا الدينية نفسها مقاومة تذكر، بل ساهم مفكرون إسلاميون كبار فى عملية تكييف الإسلام مع عملية التحديث الجزئى، لم تتطلب إنجازات فكرية ضخمة. لذلك لم تشهد مصر حركة تنوير واسعة ، مقارنة بأوربا و روسيا وغيرها.
ومع النمو الواضح للطابع الطفيلى للطبقة المسيطرة خلال العقود الأخيرة شهد الفكر المصرى تراجعا حضاريا:فقد انتصر الدين علي الفلسفة، إذ اختفى أمثال علي مصطفى مشرفة لصالح تجار المخدرات والآثار وبدلا من زكى نجيب محمود وفؤاد زكريا ومراد وهبة وعبد الرحمن بدوى ظهر الشيخ الشعراوى ومصطفى محمود وغيرهما ، وانتصرت السلفية علي الإصلاح الدينى فصار الشيخ محمد حسان والشيخ الحوينى وغيرهما من نجوم المجتمع بدلا من الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد الغزالي ،وانتصرت الغيبية علي العلم ،فالإعجاز العلمى فى القرآن والحديث صار يتمتع بشعبية هائلة أكثر من شعبية العلم نفسه فظهر زغلول النجار ومقلديه وصار لهم جمهور هائل ودعم مادى رهيب بينما يعانى العلماء من التجاهل والفقر ويضطرون إما للهجرة(مثل معظم علماء الذرة وعالم مرموق مثل أحمد زويل) أو لنشر أبحاثهم فى الخارج وليس فى مصر(مثل محمود بهجت ووفاء حجاج ومخلص عبد الملاك). وتحت ضغط العلمانيين والإعلام الغربى والمسيحيين لجأ الإخوان المسلمون إلى ابتكار "فقه الأولويات" أى ما يمكن وصفه بفقه التلون؛الخداع الإعلامى دون إصلاح الأيديولوجيا الفقهية نفسها.فقد استمر الفكر الإسلامى منذ حسن البنا دون تغيير يذكر سوى ما يتعلق بالخطاب الإعلامى،فظلت فكرة الحاكمية مسيطرة وأولوية الانتماء الدينى علي الوطنى ،رغم الخطاب الوطنى،والفصل بين الإسلام والمسلمين ؛الفكرة المسيطرة منذ التحديث.باختصار لم يحدث أى إصلاح دينى منذ العشرينات بل تلون إعلامى فحسب ولذلك ظلت الحركة الإسلامية تسير فى نفس الطريق وتصاب فى كل مرة بالهزيمة لتقوم وتعيد المحاولة نفسها.
وفيما مضى كان اليسار الماركسى أكثر "حداثة"،بمقياس عصره،أما اليوم فقد تجمد وتوقف عند أفكار "السلف"،بل السلف المحافظ وليس الثورى، رغم انتهاء وفشل التجارب الاشتراكية فى تحقيق الحلم الإنسانى المنشود وما يتطلبه ذلك من وقفة جادة وإعادة الحسابات ،ورغم تغير تركيب المجتمع المعاصر ورغم الخصوصية الفريدة للمجتمع المصرى المكتظ بالمهمشين الذى تسيطر عليه طبقة لا يمكن اعتبارها مجرد رأسمالية.وهذا الجمود والتسطح للفكر الماركسى فى مصر هو مجرد جزء من الظاهرة الأكبر:التدهور الحضارى العام واتجاه الفكر نحو "الأصالة" وضد المعاصرة.وقد ساعد على تدهور الماركسية انحطاط تكوين البروليتاريا ومحدودية "نضالاتها"،وهى الطبقة المفضلة تقليديا لدى الماركسيين.
يحتاج اليسار الماركسى خصوصا - حتى يصبح قوة سياسية فى الشارع – إلى إصلاح أيديولوجى جذرى.لا شك أن الماركسية كانت محطة فكرية شديدة التأثير فى التراث الإنسانى ولكن بعد مرور كل هذا الزمن دون أن تنهار الرأسمالية أو تنجح الاشتراكية رغم الثورات الكبرى أصبح من الضرورى عمل وقفة جادة.فلم يعد من السهل الآن تقديم حتى تعريف واضح للماركسية أو الاشتراكية ولا حتى الطبقة العاملة وبعد تطور الفكر البشرى أصبح من الصعب للغاية تبرير أفكار مثل ديالكتيك الطبيعة أو الحتمية التاريخية للاشتراكية أو إمكانية الثورة الاشتراكية فى مجتمعات متخلفة وغيرها.كما أن تحليل الواقع المصرى المختلف تماما عن واقع الرأسمالية الأوربية التى اعتمد عليها ماركس يحتاج لأدوات تحليل مختلفة ونحت مفاهيم خاصة،ومما يجب اعتباره كون الدولة هى الطبقة المسيطرة وضخامة عدد ودور المهمشين ونضالاتهم الأكثر راديكالية.
وكجزء من التراجع نحو "الأصالة" تنتشر نظرية المؤامرة وسط الفئات المتعلمة فى مصر علي نطاق واسع وبدرجة عميقة،شاملة الاقتناع بوجود مؤامرة يهودية أو ماسونية مزعومة وحتى تصور وجود تآمر دولي ضد مصر حتى لا تنهض...إلخ وتستخدم نظرية المؤامرة علي كافة المستويات العامة والخاصة لتفسير حتى أصغر الأحداث،فالمعاصرة أصبحت تمثل غولا لمعظم المصريين،فمن الطبيعى أن تتآلف الطفيلية والنهبوية البشعة مع فكر سلفى "أصيل" يكرس الواقع ويعادى التقدم .وتماشيا مع نظرية المؤامرة تصر كافة أطياف المثقفين تقريبا علي ادعاء احتكار الحقيقة رغم الزعم بعكس ذلك،فالكل يمتلك الرؤية الصحيحة والآخر كافر أم متآمر (يستثنى المتأثرون بأفكار مابعد الحداثة).ولذلك يمارس التكفير والتخوين علي نطاق واسع بأشكال مختلفة ويختلط السباب بالحوار.
وفى السنوات الأخيرة وتحت تأثير البطالة والتهميش والغضب الشعبى الواسع بدأت تنتشر وسط بعض تجمعات الشباب المتعلم أفكار أكثر تحررا إلى حد ما وأكثر عداء للطبقة المسيطرة،لعبت الدور الأساسى فى التحضير لانتفاضة 25 يناير.وهذه الأفكار تتعلق بالرغبة فى رفع مستوى المعيشة وضمان الحريات السياسية،فقد أصبحت الدولة عاجزة عن تقديم المنح الملائمة لجحافل المتعلمين الهائلة الحجم.ومع ذلك لم تصل هذه الأفكار حد الرغبة فى تحقيق ثورة شاملة.
فقد ظلت الانتلجينسيا المصرية علي مدى تاريخها حليفا استراتيجيا للدولة،إذ تربت أصلا فى حضنها والدولة هى التى تعيد إنتاجها الموسع وطالما منحتها كثيرا من العطايا وحينما أصبحت عاجزة عن استمرار دفع المرتبات الضخمة لها استمرت فى شراء وإعادة شراء النخب المميزة:إن الآلاف اليوم يحصلون علي مرتبات خرافية تصل إلى مليون جنيه شهريا،وألاف "المفكرين" والكتاب والأساتذة والعلماء والخبراء والصحفيين والقضاة يعملون داخل الأطر التى ترسمها لهم الدولة ويعمل مئات الألوف من خريجى المدارس العليا فى أروقة الحكومة،مما يمثل للانتلجينسيا أملا ممكن التحقيق.لكل ذلك لم تطرح هذه الانتلجينسا أبدا علي نفسها فكرة التخلص من هيمنة الدولة وتنحصر طموحاتها فى تغيير تركيبها لتعطيها المزيد من المنح والعطايا.
وهذا يفسر لنا موقفها المحافظ من مشاكل الجماهير الفقيرة والمهمشة بل وخوفها من هذه الجماهير،فلا تريد أن تصل فى عدائها للدولة مدى بعيد،رغم أن هذه النزعة المحافظة تضعف موقفها أمامها كما هو حادث الآن.إن طرح برنامج اجتماعى عملى وحقيقى الآن لصالح الفقراء يمكن أن ينقذ "الثورة" من التصفية التامة ومع ذلك لم يتم هذا من قبل المثقفين إلا كشعارات عامة يرفعها حتى النظام نفسه أحيانا.

5- نظام التعليم والبحث العلمى :

كان التعليم فى مصر الحديثة دائما تلقينيا ولكن العملية التعليمية قبل 52 كانت جدية أى كان تعليما حقيقيا والآن صار تعليما شكليا؛فهلوة،قدرة علي حل الامتحانات لا قدرة علي المعرفة.و هو نظام يقوم علي حفظ نماذج الامتحانات بشكل أساسى.واستمرت نسبة الأمية مرتفعة حتى بين "المتعلمين" وهذه الظاهرة الأخيرة لم تعرفها مصر قبل 1952 وبعدها بسنوات.وتفرض الدولة "رأيها" فى أمور يجوز للطالب أن يكون له رأى آخر،وهذا نظام يقتل أى نزعة إبداعية وتفكير خلاق ويعيق تأهيل العمالة للقيام بأعمال فنية بالمستوى الذى تتطلبه الصناعة و الخدمات الحديثة، وقد مات دور المدرسة لصالح الدروس الخصوصية وبالتالي انتهى العنصر التربوى فى العملية التعليمية،كما صارت الجامعة المصرية مجرد مدرسة لتخريج موظفين،ولا يوجد بها بحث علمى حقيقى ولا دراسات أكاديمية.ومن الغريب للغاية أن طلابا يضربون لتحويل معاهدهم إلى كليات كما توجد ما تسمى بلجان "الرأفة" فى امتحانات الجامعة والمعاهد العليا.لم تعد الشهادات المصرية تتمتع بأى احترام فى الخارج . بل إن بعض الشهادات العليا ( الدكتوراه ) تمنح ولا تؤخذ وهى تعد مجرد بوابة للترقية و الحصول علي وظيفة أكبر . لذلك أصبح معظم أساتذة الجامعات المصرية مجرد مدرسين يعطون الدروس الخصوصية أو يبيعون الملخصات ويستخدمون مناصبهم أو " رتبهم " للحصول علي وضع أفضل فى السوق.


6- الوضع الطائفي:

لعبت الدولة منذ الانقلاب الناصرى علي تحويل المسيحيين إلى طائفة،كأحد آليات مصادرة الصراع الطبقى فحولت تدريجيا الكنيسة إلى ممثل للمسيحيين وكأنهم مجتمع موازى.ولكن منذ جاء السادات راحت تُؤجج الصدامات الطائفية العنيفة عمدا وباستخدام الإسلام المتشدد.وقد حفز صعود الأخير قيادة الكنيسة على قبول هذا الدور إما بالاتفاق أو بالتوافق فصار البابا زعيما سياسيا يتكلم باسم المسيحيين ويسعي لفرض مزيد من سيطرة كنيسته عليهم واستغلال الفتن فى توسيع نفوذ الكنيسة وبناء المزيد من الكنائس لهذا الغرض وبالتالي الحصول علي مساعدات سخية من مسيحيي المهجر وزيادة أعداد ومزايا الكهنة والرهبان.صار المسيحيون فى عمومهم متعصبين دينيا مثل معظم المسلمين وشكلوا طائفة وتمحورت طموحاتهم حول بناء الكنائس وحرية العبادة أى – عمليا – توسيع نفوذ مؤسسة الكنيسة المتحالفة مع النظام خصوصا فى عهد مبارك والتى أيدت حتى مشروع توريث السلطة لابنه جمال متحدية غالبية الشعب المصرى.
ولا تعترف الدولة إلا بثلاثة أديان للمصريين ولا تقر لأصحاب الأديان الأخرى فى تدوينها فى أوراقهم الرسمية كما تضطهد غير السنة من المسلمين ،ولا تعترف بحق المسلم فى تغيير دينه.
وطوال العقود الأخيرة كانت الكنيسة حليفا وثيقا للدولة رغم الأحداث الطائفية التى تمت إما بتحرض وتخطيط أجهزة الأمن أو بتواطئها وإهمال القضاء والدولة ككل فى معاجتها.فالكنيسة تستفيد من الصدامات الطائفية،فتحصل مقابل سكوتها وتهدئتها للمعتدى عليهم علي مزيد من تراخيص الكنائس ومزيد من السيطرة علي المسيحيين وتأكيد اعتراف الدولة بتمثيلها لهم.
كما نشأ تنظيم الإخوان المسلمين منذ البداية كطائفة مسلمة خاصة وتصرفت طوال تاريخها على هذا الأساس فأنشأت مجتمعا موازيا له اقتصاده وحكومته وقضاؤه العرفى وثقافته وتفكر الجماعة حاليا فى إنشاء حتى نوادى رياضية خاصة بها.ويتصرف السلفيون والصوفيون بنفس المنطق وفى حماية الدولة،بحيث أصبح المجتمع ينقسم رأسيا أكثر مما ينقسم أفقيا.ويدور الصراع الطائفى المتزايد التصاعد على حساب الصراع الطبقى والسياسى.

ثانيا:تصدع النظام والصراع الاجتماعي – السياسى:
- أدى مسار النظام المصرى خصوصا بعد إجلاء الاستعمار وتطبيق "الاشتراكية" الناصرية إلى تدهور متزايد العمق فى بنيته؛فصار المجتمع باستمرار مستهلكا أكثر فأكثر ويصدر أساسا العمالة والخدمات مثل قناة السويس والسياحة.وبعد ضرب القطاعات الرأسمالية التقليدية من الطبقة المسيطرة فتح الباب علي مصراعيه وإلى أقصى حد للبيروقراطيين والسماسرة والنهابين والمستوردين والأفاقين من كل صنف وأدى هذا إلى هيمنة الاقتصاد التداولي أكثر وأكثر مما نتج عنه إفقار شديد لقطاعات واسعة وإلى تهميش معظم السكان وسيادة قيم تمجد الفهلوة والخروج علي القانون والفساد الاقتصادى والأخلاقى وكسر أى نظام واحتقار الجمال والعلم والعقل.وفى نفس الوقت انتشر نوع من التدين يبرر كل هذا أو يغطيه،فصارت اللحية والحجاب بمثابة تعويض للفساد والخروج علي القيم المحترمة فى العرف الإنساني العام.
- تمكن النظام الناصرى من تقديم كثير من الرشاوى لجماهير غفيرة ولكن منذ انهيار مشروعه التنموى أصبحت قدرته علي استمرار هذه السياسة أضعف بكثير وحتى الدعم المتزايد للسلع الضرورية يذهب معظمه لرجال الأعمال ولم يعد يكفى لإرضاء الفقراء وقد أدى مسار النظام إلى اتساع الهوة بين الطبقات بشكل أسطورى وإفقار الطبقة الوسطى بشدة واتساع ظاهرة الفقر المدقع الذى أدى لانحرافات وفساد معمم طال المجتمع بأسره،بحيث صار الكلام عن الشرف والمباديء والقيم الأخلاقية مثيرا للسخرية بين قطاعات من المجتمع.لم يعد هناك قبول أو علاقة سلام بين الطبقات بل عداوة شديدة وحقد اجتماعي لم يسبق له مثيل.إن شعور الفقراء بالظلم والقهر صار عميقا للغاية ويبرر انتفاضاتهم العنيفة المتكررة وصار الوضع ينذر بتمردات شديدة الحدة.وبينما كان النظام قادرا فيما سبق علي تقديم الوظائف المضمونة للمتعلمين بدوائر الحكومة ومنحهم أجورا مجزية تقلصت هذه القدرة خصوصا منذ عهد السادات وأصبحنا نرى مئات الألوف منهم خارج دولاب العمل وصارت أجورهم ضئيلة للغاية،ومن هنا خلق النظام لنفسه عدوا لدودا ويائسا:المتعلم المهمش،وقد لعب هؤلاء دورا لا ينكر فى ثورة 25 يناير.

- كما أدى مسار النظام إلى ضعف فرص الحراك الاجتماعي وأصبح الصعود الاجتماعي مرتبطا بالقدرة علي خدمة السلطة أو رجال الأعمال اللصوص أو تنفيذ عملية نهب مباشرة.كما أصبحت ظاهرة التوريث منتشرة فى كل الأوساط ابتداء من رئيس الجمهورية وحتى الوسط الفنى والجامعي والقضاء والشرطة والجيش وغيرها.فهى ثقافة مجتمع وليست نزوة حاكم.ومغزاها هو سيطرة ثقافة الفئة المغلقة أوالطائفية وغياب تكافؤ الفرص بسبب البطالة وقلة الفرص أصلا وتكاثر السكان بمعدل كبير يتفوق علي نمو السوق وعدم حاجة النظام للكفاءات بل لأهل الثقة لأنه نظام قائم علي النهب وليس علي الابتكار والإنتاج.وقد اختفت – تقريبا المهنية من كافة الأعمال كما تغير معيار الكفاءة :الطبيب المثالي ليس مثاليا،الطالب المتفوق ليس بالضرورة هو المتفوق فعلا،الأكثر ولاء هو الذى يكسب أكثر،المنافق هو العنصر المفضل علي العنصر الشريف والعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة بوجه عام.وتصب ظاهرة توريث المناصب الزيت علي النار؛نار الحقد الطبقى،فهى تبلور غياب الفرص أمام الفقراء والمستضعفين وحرمانهم من كل طموح وإغلاق باب أى أمل فى التغيير.
- وضع مصر الدولي والإقليمي:سعت مصر الناصرية إلى اكتساب شرعية شعبية تبرر بها حكمها،فعملت علي تحقيق انتصارات ما،وفى الداخل اضطرت لتقديم رشاوى للفقراء والمتعلمين حتى علي حساب رأس المال الاجتماعي (فى أوائل الستينات مثلا كان معدل تزايد الاستهلاك أعلي من معدل نمو الإنتاج)وكانت كلما شعرت بضعفها الداخلي تلجأ لمحاولة تحقيق انتصارات خارجية فرفعت شعارات العظمة القومية ودخلت فى مغامرات خارجية مكلفة للغاية انتهت بالهزيمة المهينة فى 1967 مما اضطرها لبدء الانكماش.وجاءت الساداتية لتوجه موجة من المعارضة اليسارية الناتجة عن تحطم أحلام المثقفين بهزيمة الشعارات الناصرية،فلجأ إلى شعارات الإسلام السياسى والمزيد من تخريب التعليم والبحث وإطلاق القوى الأكثر طفيلية وملحقا مصر بالسياسة السعودية والأمريكية وأصبحت حتى حليفا لإسرائيل،خصوصا بعد انتفاضة 1977 العظيمة.ومع الهيمنة الكاملة للأوليجاركية من بيروقراطيين ورجال أعمال – لصوص عديمى الثقافة وضيقى الأفق وأكثر شراهة أصبح النظام لا يعنيه شيء اسمه الكرامة الوطنية ولا الدور الإقليمى ولا السمعة الدولية لمصر بل لا يستطيع حتى الظهور بمظهر الحكومة الوطنية.وأصبحت مصر الرسمية دولة تافهة سياسيا علي الصعيد الدولي وبلا دور إقليمى يذكر وتعرضت للإهانات المتكررة حتى من دويلات صغيرة،وهذا لا ينفى أن مصر كبلد ستظل لها أهمية ضمنية كبرى بحكم موقعها وضخامة مساحتها وعدد سكانها وتراثها الطويل وتأثيرها الثقافى التقليدى المهم فى المنطقة.والمثير أن النظام قد قزم دور هذا البلد المهم موضوعيا،ومن هنا خُلقت حالة استفزاز شعبى واسعة وشعور عميق بدونية مفروضة فرضا علي شعب يرى فى نفسه أهم وأرقى شعب فى المنطقة وربما فى العالم،وبالتالي عمق من الشعور بكراهية السلطة بشدة.
- تمكنت الدولة من تدجين الجماعات السياسية الشرعية والنقابات الرسمية بشكل أو بآخر،فالأحزاب الشرعية (منها الوفد- التجمع) تنسق مع السلطة علنا تقريبا و"المعارضة" الرئيسية؛الإخوان،رغم ما يبدو أن علاقتهم بالنظام هى علاقة عدائية ليست فى الواقع كذلك أبدا. فرغم تعرضهم للقمع،كانوا فى معظم الوقت فى حالة مودة وتعاون مع السلطة ،بخلاف التقارب الأيديولوجى وقد شكلوا احتياطيا استراتيجيا للنظام.فلم نجد الإسلاميين أبدا يتزعمون حركات ديموقراطية أو مساواتية أو تؤيد حقوق العمال والفقراء عموما أو تدعو لحقوق المرأة أو حقوق الأقليات أوللتقدم العلمى،وقد كانوا -مثلا - دائما فى طليعة مؤيدى الختان وقمع النساء والعداء لنظرية التطور وكانوا هم المتحفظون علي نقل الأعضاء والعلاج بالجينات والهندسة الوراثية..وأعداء الحريات الشخصية مثل حق الاعتقاد وحرية الجنس...إلخ.وكما لاحظ شريف يونس تؤكد وثيقة الإصلاح الصادرة عن الإخوان فى مارس 2004 رؤيتهم الاستبدادية. فبرغم أنها لا تضع شروطا بشأن تشكيل الأحزاب، فإنها تطرح قيام "نظام برلمانى دستورى ديمقراطى فى نطاق مبادئ الإسلام"، ونظام تعليم يتفق مع ما تسميه الجماعة "ثوابت الأمة وخصوصيتها الثقافية وميراثها الحضارى"، مع "دعم المعاهد الأزهرية والكليات الشرعية"، و"إحياء نظام الحسبة"، و"تحقيق التدين والربانية فى المجتمع" [18]. يمثل الإخوان والسلفيون قوة فاشية عاجزة عن النظر للمستقبل بعين تقدمية بل تريد لنفسها موقع قدم أكبر داخل النظام نفسه وهم عموما أضيق أفقا وأشد وحشية وشراسة من الدولة وهم لا يعترفون بالشعوب ولا بحقوق الإنسان.وهم علي سبيل المثال يؤيدون حماس وليس غزة (لو كانت غزة تحت حكم الشيوعيين فهل كانوا سيؤيدون رفع الحصار عنها؟!)..ويؤيدون المجاهدين وليس الشعب الأفغانى،ويؤيدون مشروعا إسلاميا فى أوربا وليس شعب البوسنة.

- لم تبد جماعات اليسار الرسمى (حزب التجمع أساسا)وغيرها قدرة علي تعبئة الجماهير ولم تقدم مشروعا مقبولا من القواعد الشعبية.بينما لعبت التجمعات عير الرسمية مثل حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير دورا لا يمكن إنكاره فى تعبئة الجماهير ضد النظام ومن ثم كان لها دور كبير فى تهيئة الأجواء لانتفاضة يناير 2011.


ثالثا:ثورة 25 يناير- ديموقراطية صندوق الاقتراع [19]:

بلغ قوى النظام قمة الانحدار خلال الأعوام الأخيرة فصارت فى منتهى الشراهة لدرجة إقدام بعض رجالها علي تجارة البشر والأعضاء بل حاولت تصدير المصريات للعمل كخادمات(أو مومسات)وحاولت تصدير جثث المصريين إلى ليبيا،وحاولت أن تشخصن السلطة بمشروع التوريث لشخص سيء السمعة،كما ظهرت فضائح فساد أسطورى مثل مشروع "مدينتى"،عمليات تعذيب وقتل بشعة مثل قتل خالد سعيد،فتن طائفية تشارك فيها أو تخطط لها الدولة،ارتفاع مستمر فى الأسعار،إهانات قومية متعددة من جانب دول عديدة،إجراءات متصاعدة لتكبيل المعارضة مثل إغلاق قنوات فضائية،تزوير فج للانتخابات البرلمانية بمباركة معلنة من رئيس الدولة،افتضاح فساد القضاء وتواطئه مع السلطة التنفيذية،اعتداءات متواصلة علي المهمشين والاستيلاء علي أراضيهم،قمع الأمن بوحشية للاعتصامات أمام مجلس الشعب بعد أن سمح بها لشهور عدة،تواطؤ الأحزاب الرسمية مع النظام...إلخ.

وفى مواجهة كل هذا لجأ الشباب المعارض إلى تنظيم صفوفه فى مجموعات علي الانترنت راحت تنزل الشارع وتواجه الأمن ..وبعد أن فاض الكيل جاءت الدعوة للنزول إلى الميادين يوم 25 يناير فكانت المفاجأة للعالم كله: استجابت الجماهير وبدأت الثورة.

وبسبب عدم وجود مشروع ثورى واضح أو قيادة وجبهة متحدة للقوى المشاركة فى الثورة لم تُطرح أصلا فكرة الاستيلاء علي السلطة،وقد لعب الوعي الجمعي دورا جوهريا،فقد كان مجرد طرح الفكرة كفيلا بطرح السؤال المشروع: من الذى يستولي علي السلطة،وكان من المؤكد أن ترفع وقتها الرايات المختلفة للإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين وتتفتت القوى المناهضة لمبارك فيضعف مشروع الإطاحة به تماما.لم تكن هناك قوى رئيسية فى هذه الثورة قادرة علي جر الجميع ورائها ولذلك سيطرت بقوة فكرة "ارحل" علي الوعي الجمعي قبل أى تفكير فى الحاكم القادم،وهذا ما يفسر أيضا الحساسية البالغة ضد أى محاولة لرفع شعارات حزبية أثناء الانتفاضة وإصرار الجميع علي رفع علم مصر مما يؤكد فكرة وحدة قوى الانتفاضة حول شيء غامض،فأى مصر يجب أن تكسب؟لم يكن يوجد اتفاق ولو ضمنى علي البديل المطلوب ولم توجد قوة أو جبهة معارضة قادرة بمفردها علي فرض أهدافها.

منذ بداية الانتفاضة كان أفقها محصورا فى طرد عائلة مبارك ورجاله المقربين،فرغم أن الشعار المركزى للانتفاضة كان:الشعب يريد إسقاط النظام،ظل الهدف الأسمى هو:ارحل:أى مبارك. ولم تكن الثورة الاجتماعية علي جدول الأعمال بجدية ومازالت،واكتفى الثوار برفع شعارات مثل : عيش – حرية – عدالة اجتماعية،وفيما بعد أصبح أقصى المطلوب هو حد أدنى وحد أقصى للأجور.لم يطرح أحد تقريبا فكرة تصفية الطبقة المسيطرة،مصادرة الأموال المنهوبة،وكان أقصى المطروح فى هذا الصدد استعادة الشركات التى بيعت بالمخالفة بالقانون.

لم تكن فكرة تحدى القانون وتجاوز الشرعية الرسمية موجودة بقوة إلا وسط المهمشين الذين دمروا جهاز الأمن فعليا بالعنف.ومما له دلالة أن العنف كان وظل مدانا بشكل عميق من قبل القوة القائدة للانتفاضة واعتبر تدمير جهاز الشرطة وكأنه تم بفضل الثورة السلمية أما عمليات حرق مراكز الأمن وآلاف من سياراته ومقار الحزب الوطنى وقتل بعض الضباط فتم اعتبارها عملا ثانويا وظلت النظرة السائدة للقائمين به كعناصر إجرامية خارجة علي القانون.وتم الاتفاق – تلقائيا – بين الأجهزة الرسمية وقادة الثورة المثقفين علي هذه الفكرة.وقد رفع المتمردون منذ البداية شعار:سلمية سلمية،رافضين لأى عنف،فلما حدث العنف يوم 28 يناير لم يُشر إليه إلا كعنصر ثانوى فى الانتفاضة؛مجرَّم وغير مقبول.أما الصورة التى أحب الثوار تقديمها للعالم فكانت صورة ميدان التحرير النظيف والمنظم والذى أدير فيه الاعتصام بشكل شديد التحضر بينما كان العنف الهمجى من قبل النظام فحسب.وقد أصر الثوار علي إبراز احترامهم للقانون وجهاز العدالة،باختصار:للشرعية،منتقدين العنف والاعتداء علي مؤسسات الدولة.ولم تكن صدفة أنهم لم يشكلوا محكمة ثورية ولم يعاقبوا البلطجية من رجال النظام بل كانوا يسلمونهم للجيش.

كل هذا يعنى لي أنها كانت ثورة سياسية محدودة الأفق،ولو أن الجماهير شبه البروليتارية قد خرجت بكامل عدتها لتغير وجه تاريخ مصر تماما ولكن كانت القيادة والمبادرة فى يد الطبقة الوسطى المحافظة.

ومن الظواهر الفريدة أن هذه الثورة الديموقراطية أساسا شارك فيها بفعالية قوى فاشية ضخمة وملايين كثيرة معادية للثقافة الديموقراطية وقامت بدون طليعة تحمل مشروعا ثوريا،بل وترأسها فى نهاية المطاف الجيش الرجعي وربما شاركت عناصر من النظام فى تأجيجها بغرض إلغاء مشروع توريث السلطة.لقد شكل الجسم الرئيسى للثورة قوى غير ثورية أصلا،وتفتقد بشدة للفكر الثورى وبلا قيادة ثورية.ذلك أن الثورة هدفت إلى تحقيق ديموقراطية صندوق الاقتراع وليس إلى مقرطة المجتمع ككل،وهذه ما يفسر لماذا أصبح الفاشست أكثر اتساقا مع الشعارات الديموقراطية التى أُطلقت.
حققت هذه الثورة هدفها الرئيسى : طرد مجموعة جمال مبارك من السلطة.ولم تتطلع لأكثر من سيطرة الجيش،فقط أطلقت بعد 3 أيام من بدئها شعارا ينادى الجيش بالتدخل،وقد وجد العسكر الفرصة سانحة أمامهم لإلغاء مشروع التوريث العائلي فنزلوا وراحوا يلعبون علي التناقض بين السلطة الرسمية والمتمردين حتى حانت لحظة طرد مبارك واستيلاء الجيش علي السلطة بمباركة محمومة من الثوار.
فهذه حتى الآن هى ثورة سياسية محدودة تماما تمت فى شكل انتفاضة عفوية دون أفق بعيد المدى ولم يتم طرح مشروع لتغيير جوهرى فى العلاقات الاجتماعية أو توزيع الثروة ولم تسقط حتى النظام السياسى ولم ترفع شعارات ديموقراطية تتجاوز حرية التصويت.وفى السياق تحرر الشعب من الخوف وتعلم كيف يواجه السلطة التى أضعفت كثيرا كما أصبح اهتمام المصريين بالسياسة أكثر بكثير و ارتفع الوعي الطبقى والسياسى للملايين وانطلقت الحركة العمالية. كما ترتب علي قيام الثورة نمو كبير للتيارات الليبرالية والعلمانية بينما خرج الإسلاميون من السرية إلى العلن ليشاهدهم الشعب علي الطبيعة ويتعرف بمشروعهم السياسى ولتعلن الأغلبية تأييدها للفاشية الدينية.
كان ضمن عوامل نجاح الثورة التوحد الكامل وغياب الشعارات الفئوية والحزبية وغياب القيادة إلا أن نفس هذه العوامل تعيق الآن حركة القوى الثورية بينما تتحرك القوى المنظمة بشكل أكثر فعالية وهى فى مجملها قوى تسعي لوقف العملية الثورية والاكتفاء بما تحقق والحلول جزئيا أو كليا محل شلة جمال مبارك.

ومع بدء تقسيم الغنائم لاح الانقسام وتميزت الرايات وقرر الجيش الاستفادة من انقسام المشاركين فى الانتفاضة فى إضعافهم جميعا،فأطلق الإسلاميين من عقالهم وابتكر فكرة التعديلات الدستورية وراح يقرب بعض "الشباب" ويستبعد بعضهم وكلما شعر بقوة قبضته لجأ أكثر فأكثر إلى تصفية العناصر الأكثر راديكالية من الشباب الليبرالي حتى وجد أن العفريت الذى أطلقه من عقاله؛الإسلاميين قد توحش وأصبح يطالب بالكعكة كلها.

فى كل اللحظات عمل معسكر الثورة: اليسار واليسار الليبرالي والشباب غير المسيس، لصالح أعدائه:ففى الانتفاضة طالب بالجيش حاميا وتنحية مبارك تحت شعار :إيد واحدة،وكان مستعدا لسحل كل من ينتقد الجيش ومجلسه محققا هدف الجيش والمخابرات أساسا،وبعد أن اتضح له أنه لن يحقق حتى إصلاحات كبيرة فى النظام السياسى بدأ يناضل ضده مطالبا إياه مؤخرا بتسليم السلطة للمدنيين وتحديد موعد انتخاب الرئيس، أى – عمليا - للقوى المنظمة وأهمها الإسلاميين والأحزاب الرسمية المضادة للثورة،ذلك أن هذه القوى مشتتة وغير مندمجة مع الشارع وغير منظمة وبلا مشروع واضح،فتذهب كل تضحياتها لصالح غيرها.الآن ينخرط الجميع تقريبا – عدا قلائل- فى لعبة الانتخابات التى ستعيد الشرعية للنظام الشمولي نفسه،بل هناك من العلمانيين وحتى أقصى اليسار من يبدى الاستعداد للتحالف مع الإسلاميين من جديد ضد الجيش.

وفى 19 نوفمبر استفزت قوات الأمن الثوار بالاعتداء بشراسة علي بضع عشرات من مصابى الثورة المعتصمين وكان من الواضح أن الشرطة والحكومة يتعمدان استفزاز الثوار ليتواجدوا بأعداد كبيرة فى الميادين بغرض غير واضح حتى الآن ويبدو أن الجيش يريد إظهار قدرته على الحشد وإلغاؤه،وربما يتعمد كذلك إرهاب الإخوان مستخدما الشباب الثائر كعبرة،وإظهارهم فى صورة الانتهازيين المتعطشين للسلطة...

لقد كانت الثورة مجرد انتفاضة عفوية بلا هدف جذرى وانحصرت آمالها فى طرد مجموعة مبارك دون وضع مشروع مستقبلي وبذلك يمكن اعتبارها ثورة سياسية محدودة بحدود النظام الشمولي المتخلف - الرأسمالوى نفسه،ثورة داخل النظام؛ثورة بين قوسين.وقد حققت هدفها ثم توارت قواها الأكثر جذرية إلى الخلف.بينما صعدت علي السطح كلا من كتلة العسكر ومن يحالفونهم من البيروقراطيين وتابعيهم من رجال الأعمال،والإسلاميون الذين ينحون منحى فاشيا:أيديولوجيا هوياتية – مشاعر شوفينية شديدة العداء للآخر وخصوصا الغرب – مشروع نظام شمولي إقصائى – نزعة قوموية قد تورط البلاد فى حروب خارجية مكلفة،ويقودهم مجموعة من رجال الأعمال لا يملكون نفوذا دولنيا ملموسا.فالآن يحتل المشهد المصرى ثلاث كتل أساسية: النظام الشمولي بدون لحية والقوى الفاشية، والأقل قوة وتنظيما:القوى التى تسعى لاستمرار العملية الثورية.

والشيء الفريد جدا أن أكثر المنادين بالديموقراطية ويرفعون عاليا إرادة الشعب هم الفاشست الإسلاميون،ذلك أن قوتهم مضمونة فى صناديق الاقتراع وهم مع ذلك لا ينسون التشهير بأسس الديموقراطية:الليبرالية والعلمانية والثقافة الديموقراطية عموما.بينما يضطر الليبراليون والعلمانيون إلى الانتقال بين مطالبة الجيش بالرحيل والاحتماء به،موافقين بدرجات متباينة علي وضع مباديء فوق دستورية تضمن عدم قيام دولة دينية بضمانته ويطالبون بتجاوز استفتاء مارس الذى قال فيه الشعب "نعم" لخطة العسكر والإسلاميين لانتقال السلطة.وبعد معارك 19 نوفمبر أصبح الثوار فى مواجهة كل من معسكرى الثورة المضادة وكذلك الأغلبية الصامتة ضمنا.فديموقراطية صندوق الاقتراع التى مات فى سبيلها المئات أدت لصعود الفاشية والعسكر الذين يحظون بتقديش شعبى واسع.

- بعد 11 فبراير يوم تنحية مبارك عاد الملايين من المنتفضين إلى بيوتهم منضمين للأغلبية الصامتة ومشكلين أكبر حزب فى البلاد،يسمى ب"حزب الكنبة" ؛الجالس متفرجا وناقما علي كل شيء خصوصا الثورة وما ترتب عليها من وضع مضطرب دون أفق واضح،خصوصا أن الشعب لم يستفد شيئا ماديا حتى الآن والغالبية حققت خسائر ملموسة.وفى الوقت نفسه يستمر العمال وبعض الفقراء عموما و قليل جدا من الفلاحين وحتى أمناء الشرطة أحيانا ،والمهمشون فى الاحتجاج من أجل مطالب اجتماعية ولتطهير مؤسسات حكومية من أنصار النظام كما يشكلون نقابات مستقلة..وهؤلاء هم الذين يشكلون حركة ثورية مستمرة ضد النظام فعلا وهذا هو العامل الذى قد يكون إيزانا بتحولات أعمق.


رابعا:نظرة عامة علي الموقف الحالي:

إن التراجع المتواصل لقوى الثورة بعد أن حققت هدفها المباشر وظهور عدم كفايته لتطلعات الثوار والشعب ككل ليفرض علي المهتمين التوقف لإعادة تقييم الموقف.لم تعد القوى الثورية قادرة علي الحشد الواسع كما استطاعت من قبل خصوصا بعد خيانة الفاشست وانسحاب الجمهور الكبير من الميادين وانتقال قطاع كبير من الطبقة الوسطى من الاهتمام بالميادين إلى الاهتمام بالانتخابات.فلم يعد من الممكن طرح مشاريع جذرية للتنفيذ الفورى،من قبيل الاستيلاء علي السلطة أو دعوة الجماهير لانتفاضة واسعة جديدة. وللأسف لم يبد ذلك القطاع من الطبقة الوسطى الذي قاد انتفاضة يناير اهتماما مهما بتقديم برنامج اجتماعي جذرى وركز جل جهوده من أجل تغيير النظام السياسى ليستوعبه ولذلك لم ينجح فى حشد الملايين كما فعل من قبل وهو الآن يواجه النظام متحالفا مع أقلية من العمال والمهمشين،ولذلك يواجه وضعا شديد الصعوبة ويتعرض لقمع متواصل ولا يستطيع القيام بالرد الملائم. فالواضح من ملاحظة مجريات الأمور الآن وبعد أقل من عام علي الانتفاضة أن النظام مستمر مالم تحدث ثورة جياع كبرى،وإن كان من المؤكد أن هذا الزلزال سوف يترك بصمات قوية ومازالت توابعه تتوالى.

من الضرورى الآن ولإنقاذ ما تبقى من معسكر الثورة وهو ليس شديد الضعف علي العموم تجاوز حالة التشرزم الحالية والعمل علي تشكيل جبهة راديكالية وتقديم برنامج شامل ومحدد والبدء فى حشد الجماهير الفقيرة والعمل طويل النفس والانسحاب المنظم من الميادين حيث لم تعد الاعتصامات جذابة شعبيا بل صارت الميادين مصيدة للثوار يقتلون فيها دون مقابل يذكر.ومن الواضح أن الثوار سيظلون فى المعارضة فى المدى المنظور.لقد أمكن تنحية مجموعة جمال مبارك باحتشاد 10 أو 20 مليونا من الجماهير واستغلال الجيش للموقف،ولطرد العسكر من السلطة فعليا يحتاج الأمر لحشد أكبر ولصدام عنيف ولا يبدو أن مفجرى انتفاضة يناير قادرين الآن على تحقيقه أو حتى الحلول محل الجيش فى السلطة.فمن الأنسب الآن العمل بطريقة مختلفة. ليس أمام العناصر والقوى الأكثر استنارة إلا طريقين:إما أن تعمل بنفس طويل فى اتجاه حفز الانتفاضات الشعبية وتحويل الفوضى الناتجة عنها إلى بناء ،أو العمل علي أرضية النظام مع ممارسة أقصى الضغوط لإعادة ترميمه بأفضل الشروط ملاءمة لطموحاتها.

وفى ظل موازين القوى الحالية ليس من المتصور أن مجرد تشكيل حكومة من التحرير أو احتلال الميدان نفسه أو انتخاب برلمان شعبى سيجبر السلطة على الاستسلام،فالجيس ومجمل النظام يفضل حتما استخدام الدبابات وحتى الحرب الأهلية على الاستسلام أمام ضغوط معنوية أو مجرد اعتصام وبعض المظاهرات السلمية.

أما تصور أن النظام ملزم بالاعتراف بأن هبة 25 يناير هى ثورة وأن عليه بالتالى أن يرحل فهو مجرد خيال وتصور غير ناضج لحركة التاريخ وللصراع السياسى والاجتماعي.فالنظام لم يعترف بهزيمته لأنه لم يُهزم بالفعل بل رغم تلقيه ضربات قوية استفاد من الثورة فى تطهير نفسه جزئيا من عصابة جمال – عز.وهو يحاول إعادة بناء أجهزته وإعادة توزيع التورتة بالتعاون الوثيق مع القوى الكبرى وخصوصا الأمريكيين.وقد حفز النظام صعود الإسلاميين لكشف قوتهم ولإرهاب الثوار وتفكيك معسكر المعارضة كما اتبع سياسات تؤدى إلى تخريب الاقتصاد لإرهاق الجماهير وإجبارها على الاستسلام بينما يعد العدة جيدا لسحق التمرد المحتمل:غسيل مخ لرجال الجيش والشرطة ورفع رواتبهم وتجنيد مئات الألوف من البلطجية و"المواطنين الشرفاء" وتشويه لسمعة الثورة والثوار وقتل واعتقال عدد منهم.والآن تتم محاولة "ضبط" الإسلام السياسى بآليات متعددة منها:تقسيم صفوفه بحفز السلفيين ضد الإخوان – السماح له بدخول البرلمان من أوسع الأبواب لإدخاله دهاليز السياسة الواقعية - ومطالبته دوليا باتباع المعايير العالمية لحقوق الإنسان حتى يتم قبوله دوليا.


خامسا:دروس مستفادة:

1- معنى إسقاط النظام: تتضمن شروط إلغاء النظام الشمولي المصرى تحرير المجتمع المدنى والأفراد من هيمنة الدولة،بإلغاء سيطرة الدولة علي الاقتصاد وتفكيك اقتصاد الجيش وإطلاق اقتصاد السوق،وتحرير النقابات والجمعيات الأهلية تماما ،وجعل تكوين الأحزاب بمجرد الإخطار فعلا لا قولا،وحل وزارتى الثقافة والإعلام وتحويل مؤسساتها إلى مؤسسات أهلية مستقلة تماما عن الدولة ماليا وإداريا شاملة الصحف والتلفزيون،وإلحاق قصور الثقافة بالمحليات المنتخبة ونفس الشيء للمؤسسات الدينية وتحويل الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة إلى مؤسسات أهلية مستقلة ماليا وإداريا عن الدولة،مع إلغاء دعم الدولة لها جميعا،وإطلاق الحريات الشخصية علي أوسع نطاق مثل إقرار الزواج المدنى ،وجعل المحافظين والعمد بالانتخاب،وجعل وزارة الداخلية جهازا مدنيا بحل تشكيلاته العسكرية مثل الأمن المركزى وتفكيك أمن الدولة فعليا ،وووضع دستور ديموقراطى واعتماد النظام البرلمانى أو الرئاسى البرلمانى.

2- لا يوجد أبدا شيء اسمه ثورة سلمية،هذا إذا تكلمنا عن ثورة شاملة،فمن شروط أى ثورة شاملة تحطيم جهاز الدولة وبناء دولة جديدة،أى الاستيلاء علي السلطة.وقد أثبتت أحداث الثورة المصرية أن الجيش والأمن والجهاز الإدارى بقياداته وأنظمته ولوائحه،كلها مرتبطة أشد الارتباط بالقوى الاجتماعية المسيطرة بل إن الدولة المصرية هى تقريبا الطبقة المسيطرة أو لبها.وكل هذا غير ممكن بالمظاهرات أو حتى العصيان المدنى،فالثورة ليست مباراة ودية بل حرب طبقية تتعلق بمصالح ضخمة والطبقة المسيطرة المصرية لديها مصالح هائلة وكعكتها ضخمة للغاية فلن تتخلي عنها بأية ضغوط ماعدا القوة.وهنا أتذكر تساؤلا كثيرا ما يتكرر فى الإعلام المعارض :أليست هذه ثورة؟فلماذا لا تفعل السلطة كذا وكذا؟؟؟.إنه تساؤل يدل بوضوح علي طريقة نهج شديد البراءة،فالسلطة تريد قتل الثورة لا تحقيق ما تريد والثورات تحقق ما تريد بنفسها.ولا يمكن إغفال دور العنف الجماهيرى فى إضعاف النظام يوم 28 يناير كما يمكن التصدى للبلطجية بعنف شديد بدلا من تسليمهم للجيش كما حدث فى موقعة الجمل وغيرها.وإن استمالة الجنود والضباط لهو ممكن أيضا وكان محتملا لولا انسحاب الثوار يوم 8 ابريل؛يوم اعتصام 22 ضابط جيش.وليس من المعقول اعتبار العنف الثورى(الجماهيرى بالطبع) شيئا همجيا أو معيبا،فالثورة هى خروج علي القانون ولكى تتم يجب أن تتجاوز القانون وتصنع قانونها الخاص.لا يمكن للثورات أن تكتمل دون تجاوز القانون والدستور والقضاء وكل مؤسسات النظام وخلق مؤسساتها الخاصة،ولا يمكن لثورة أن تكتمل دون إقصاء أعدائها وليس التحاور معهم،ودون تصفية عناصر النظام بالكامل تصفية عضوية بمن فيهم رجال القضاء والجيش والأمن وكبار الموظفين..إلخ.

للأسف اعتاد المثقفون والمؤدلجون عندنا إدانة العنف الجماهيرى بل وإلصاقه بعناصر مندسة من بلطجية أو أمنية(مثل:حريق القاهرة – انتفاضة 1977 – عنف المهمشين فى يناير 2011 ).بينما تمثل الفئات الفقيرة العنيفة بطبعها الجسد الرئيسى لأى ثورة مصرية حقيقية.تعبر هذه الإدانة كما أظن عن قبول عموم المثقفين،وهم أبناء الدولة على العموم،للنظام بشرط تعديله.

3- إقامة سلطة شعبية فى الشارع مقدمة ضرورية للاستيلاء علي مؤسسات الدولة،بتشجيع الجماهير علي الاستقلال بنقاباتها وجمعياتها الأهلية وإنشاء لجان شعبية للسيطرة علي حالة الأمن وحماية السكان من بطش البلطجية والسلطات .

4- لتحقيق طموحات الجماهير العريضة فى مصر فى الرخاء والعدالة،يجب أن تكون الثورة اجتماعية وليست سياسية فقط وعلي المنظمين أن يدعوا الشعب للاستيلاء علي ممتلكات الطبقة المسيطرة شاملة مؤسسات الدولة وأن تقوم حكومتهم بتصفية الاحتكارات وفرض ضرائب كبيرة علي مضاربات البورصة وأرباح الاقتصاد الورقى وفرض ضريبة تركات ضخمة ..إلخ.

5- لا يمكن أن تقام الديموقراطية السياسية بدون ثقافة ديموقراطية.وهذه مفتقدة حاليا فى مصر إلى حد كبير،فالشعب لا يؤمن بحقوق مثل حرية الاعتقاد ومساواة المرأة بالرجل والزواج المدنى ومختلف الحريات الشخصية مثل اللبس والحرية الجنسية..إلخ،وهذا يفسر جزئيا على الأقل لماذا حصل الإسلاميون الفاشست على نسبة عالية من الأصوات فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

وليس من الممكن أن يحصل الإنسان علي "حقوق الإنسان" مالم يكن مؤمنا بها.كما لا يمكن أن تكون هناك انتخابات ديموقراطية فعلا فى مجتمع مازالت به وجود ملموس لرابطة الدم مثل الصعيد والريف المصرى وفى مجتمع به تناقضات اجتماعية رهيبة ونصف سكانه جياع،فممارسة الديموقراطية تتطلب وجود قدر ما من التوافق بين قوى المجتمع وقبول مشترك لقواعد ما فى التقسيم الاجتماعي للعمل وفى توزيع الثروة وآليات الحراك الاجتماعي.فحتى الطبقات المتناقضة فى المصالح تحتاج إلى الالتزام بما يشبه العقد الاجتماعي حتى تمارس الديموقراطية وهذا يشترط إعادة توزيع الثروة بشكل مرض لكل الطبقات.أما حين يكون هناك ملايين البشر مهمشين وشبه جوعي ويشعرون بظلم فادح مقابل حفنة ممن ينهبون أقواتهم بطرق خارجة عن العقد الاجتماعي المفترض ويمارسون سلطة شديدة القمعية بدون أى سند من الشرعية،أى باختصار حين لا تكون هناك شرعية للنظام الاجتماعي – السياسى لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية،بل صراع خارج العقد الاجتماعي المفترض نفسه؛عنف وتمرد علي القانون وبلطجة وإرهاب.هذا هو الوضع المصرى المعاصر.فالثقافة الحالية تحتاج إلى ثورة وهذا يتطلب تغيير ثورى فى العلاقة بين القوى الاجتماعية وهذا يشترط توجيه ضربة كبرى لبيروقراطية الدولة التى تشكل لب الطبقة المسيطرة،بتفكيك ملكيتها للاقتصاد والإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية وهذا يشمل تصفية النشاط المدنى والاقتصادى للجيش ،وتقليل حجم الجهاز البيروقراطى وتحقيق لا مركزية الإدارة وخصخصة الخدمات بقدر الإمكان. إعادة توزيع الثروة وإزالة عوامل التمرد بما يشمل تصفية الفساد وما جاء منه ورد "الحقوق" المتفق عليها عرفيا وقانونيا لأصحابها.

كما لا يمكن أن تكون هناك سيادة قانون بدون رأى عام قوى وديموقراطى لا يسمح باستغلال النفوذ والكيل بمكيالين أمام القانون.

باختصار تحتاج الديموقراطية إلى حركة ثورة اجتماعية أولا.

6- الثورة الاجتماعية عملية تتم علي مدى طويل وهى تشمل تحول جذرى فى نمط الإنتاج السائد ومجمل العلاقات الاجتماعية ومثالها الأقرب التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية. وتتم هذه الثورات فى صورة نقلات تتفاوت حدتها من صيرورة بطيئة إلى نقلات بالغة الحدة وقد تتم علي حلقات وتعمل الصراعات الاجتماعية دورا جوهريا فى إنجازها وقد يكون للعنف والحروب الأهلية دور فى الإسراع بها.

7- فى البلدان التى شهدت ثورات اجتماعية كبرى مثل فرنسا وروسيا كانت هناك عملية نمو اقتصادى سريعة وتطور للقوى المنتجة وزيادة سريعة فى الإنتاجية ارتبط بها تطور الفن والأدب وازدهار البحث العلمى وانتشار قيم حداثية وبلوغ نقد الفكر القديم درجة عالية تمثل فى انتشار العقلانية وعلمانية النخب المثقفة وازدهار الفكر السياسى الثورى ونقد الدين بل لقد هزم الدين فى فرنسا قبيل ثورة 1789 هزيمة نهائية لصالح الفلسفة.

وكل هذا مفتقد فى مصر الحالية،التى شهدت هذا الازدهار بشكل محدود قبل 1952 ولكن انقلب الحال منذ الحكم العسكرى فشهدت تراجعا حضاريا متزايدا يشمل انتشارا واسعا للفكر الرجعي.ولا يمكن رصد قوة اجتماعية تعكس هذا الاتجاه حاليا.فلا توجد عملية تقدم يعيقها النظام الاجتماعي بل هناك علي العكس عملية تراجع بشكل عام.وحتى قوة العمل التى تعتبر أهم عنصر فى قوى الإنتاج؛تتراجع كفاءتها وإنتاجيتها بالنسبة للعالم المحيط بل حتى فى نواح كثيرة بالنسبة لقدراتها من قبل.وكما ذكرنا من قبل يستثى عناصر تعود من الخارج بخبرات جيدة أو تتعلم فى الداخل فى جامعات أجنبية أو تكتسب خبرات من خلال الانترنت،وهذه العناصر المتقدمة نسبيا لاتجد لها مكانا فى النظام الاجتماعي.

هذا الوضع المتسم بالتراجع الحضارى وضعف الفكر الثورى وضخامة الفئات شبه البروليتارية يعنى أن مصر لا تمر بحالة ثورة اجتماعية لغياب قوة اجتماعية ثورية ولا حتى تشهد تحولا ديموقراطيا فى ظل السيادة الملموسة للفاشية.وهى مستعدة ومؤهلة لانفجارات عفوية (قد تكون ثورية الطابع مثل هبة 25 يناير)،خصوصا من قبل المهمشين والجياع والتى تستطيع أن تؤدى إلى إضعاف الدولة والنظام الشمولي وتقليل الفساد علي حلقات،مما يدفع إلى تحرير الاقتصاد من هيمنة البيروقراطية وبالتالي إطلاق قوى السوق مما يساعد علي حدوث تقدم اقتصادى وتكنولوجى وزيادة الاستثمارات وتقليل البطالة. ومن المحتمل بالطبع أن تحدث هبة شاملة تضم جحافل المتعلمين العاطلين والجنود وصغار الضباط الفقراء وحتى جنود الأمن المركزى،وهذه تحتاج لظروف كارثية حتى تنجح فى تدمير جهاز الأمن ومؤسسات الدولة الرجعية. والتى قد تكون فى منتهى العنف وتؤدى إلى حالة من الفوضى التى يتوقف مسارها علي تشكل تنظيم قادر علي قيادتها لتحقيق الأمانى الشعبية،أما إذا استمر افتقاد هذا التنظيم فلا يمكن أن تكون النهاية سعيدة.

إن مستقبل مصر المنظور غير قابل للتوقع ولا تحكمه حتمية ما ولكن المؤكد أن العوامل الخارجية سيكون لها دور حاسم.

8- الثورة هى عمل تقدمى،فمن شروطها أن تحمل قواها مشروعا أكثر تقدما من مشروع النظام القائم.والمعارضة المصرية للأسف لا تملك هذا.فقط شباب الانترنت هو الذى قدم ما هو أفضل قليلا من النظام.لا توجد فى مصر قوة اجتماعية تحمل مشروعا ثوريا أو تملك إرادة ثورية.وكما استعرضنا من قبل.لذلك السبب تحمل البلاد إمكانية انتفاضات عفوية وليس مشروع ثورة منظمة.

كانت الانتلجينسيا طوال العقود الأخيرة هى التى تنخرط فى العمل السياسى فى صراع مع السلطة بغرض الحصول علي أكبر قدر من المكاسب وأثبتت الأحداث أن جناحها العلماني هو مجرد نخب معزولة عن الشعب وتتذكره فقط حين تحتاجه كوقود فى معاركها مع السلطة،معارك تستهدف الحصول علي مكاسب لنفسها لا تتجاوز حدود نفس النظام القائم،فحتى اليسار الماركسى لم يقدم مشروع ثورة اجتماعية شاملة واستطاع النظام الناصرى أن يقدم مشروعا إصلاحيا أكثر جذرية بحيث هضم ذلك اليسار وتجاوزه .وعلي العكس كان الإسلاميون وأكثرهم رجعية أقرب لقلوب الجماهير الفقيرة رغم أنهم لم يتبنوا مطالب تحقق لها حياة كريمة وإنما لجأوا لرشوتها من خلال الجمعيات الخيرية وجمع وتوزيع الزكاة وتقديم مختلف الخدمات بسعر بسيط.ولهذا كانوا دائما أكثر شعبية.وهذه القوى الإسلامية لا تقدم أى مشروع ثورى أو حداثى.

وهذا ليس قدحا فى أحد بل تشخيص للطاقات المتاحة وآفاق الانتلجينسيا المصرية المعاصرة.

9- مصر المتراجعة حضاريا تحتاج إلى جهد كبير من جانب مثقفيها الأكثر استنارة المدركين جيدا لظروفها وإمكانياتها من أجل العقلنة والتنوير ومناهضة الخرافة والدعوة للعلمانية بطريقة مستقيمة وواضحة ويساعد نشر المعرفة العلمية بين الناس علي جعلهم أكثر قدرة علي قبول أفكار الحداثة.والفكرة هنا أنه إذا كانت الدولة قد قضت علي التعليم الجاد فيكون علي المثقفين المستنيرين إقامة تعليم موازى،وبدلا من التعليم الموازى فى مساجد السلفيين والإرهابيين يمكن تكوين مجموعات لمحو الأمية ونشر العلم بين الفقراء والمهمشين،ونشر العلوم الحديثة بوسائل مبسطة علي الانترنت أو القنوات الفضائية التى يمكن الوصول إليها أو حتى إنشائها وفى مجلات وصحف خاصة وفى كتيبات ونشرات قليلة التكلفة.

وإن لم تنجح مثل هذه الجهود فى تحقيق نقلة نوعية فربما تكون عاملا فى إنقاذ البلاد من مزيد من الانهيار.

10- النخبة والجماهير:

الفكرة التى تقول بأن الجماهير غير واعية أو وعيها مشوه وأن المثقفين ينقلون لها الوعي من الخارج أولا تصور الجماهير علي أنها مجرد مفعول به وثانيا تدعو لعلاقة تبعية بين النخبة والشعب وثالثا تروج لشيء وهمى:ان هناك فكر صحيح وفكر خاطيء.أنا أفهم أنه يمكن نشر معلومات أو وقائع غير صحيحة للخداع والعكس صحيح،أما نشر أيديولوجيا "خاطئة" أو "صحيحة" فهذا نفسه تفكير أيديولوجى غير بريء.فالشعب ليس مجرد متلقى بل يتفاعل مع الفكر ويختار حسب تجاربه الخاصة.أما النخب فلا تمثل أحدا أبدا بل تمثل نفسها فقط وقد تتلاقى نخبة ما مع جموع شعبية أو تقودها ولكن دون أن تمثلها لأن كل جماعة تعبر عن نفسها.والنخب لا تعرف مصالح الجماهير أكثر منها لأن المصالح نسبية فكل امريء هو الذى يحدد ماهى مصلحته حسب رغباته وأهدافه فى الحياة.
لذلك لم تستطع النخب المثقفة أن تنخرط وسط الجماهير بشكل فعال و"تنقل إليها الوعي" كما اقترحت دائما،وهذا ليس عيبا أخلاقيا أو حتى بنيويا فى النخب بل ان هذه هى طبيعة الأمور؛ففى كل الدنيا كلها تفرز الجماهير قيادتها بنفسها،وفى مصر لم تفرز الجماهير قيادات ثورية تقريبا لأن طموحاتها لم تكن جذرية وكذلك لم تكن النخب نفسها ثورية لأنها لم تُلهم من قبل حركة شعبية ثورية..لم يوجد مناخ تحول ثورى علي صعيد البناء التحتى..لم توجد طبقة ثورية.

وهذا ما يفسر أن النخب المثقفة قد شكلت تجمعات ثقافية أكثر مما يمكن تسميتها بتيارات سياسية،فحتى المنظمات التى قررت أن تعبر عن العمال والفلاحين لم تشكل تيارا سياسيا له شعبية،بل إن الجماعات الضخمة مثل الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية الأخرى قد شكلت مجتمعات موازية ضخمة؛طوائف وليس أحزابا سياسية،ومن يؤيدها من خارجها لا يؤيد برنامجها السياسى بل طائفتها،.بل إن حزب الوفد الليبرالي قبل 1952 لم يخلق تيارا ليبراليا شعبيا بل كون زعامات شعبوية.

لهذا لا أتصور أن يحدث سيناريو مثل ظهور طليعة ثورية وانخراطها وسط الفقراء وقيادتهم،بل الأقرب للواقعية أن تخرج الجماهير فى انتفاضات عفوية تفرز قياداتها وقد تصبح ملهمة للمثقفين.أى يظهر ثوار للميادين وثوار سياسيين.وتشكل ثورة 25 يناير والحركة التالية لها حافزا ممكنا لانتشار أفكار ثورية ومشروع راديكالي.

سادسا: طبيعة التحول الاجتماعي الثورى الممكن فى مصر:

إن الجماهير شديدة الفقر لا تريد مجرد تحقيق "العدالة" بل ان الهدف الأهم هو الرفاهية،والمساواة أمام القانون .ولا يمكن تحقيق هذا وذاك فى بلد كمصر دون التحديث لتوفير دخل قومى مرتفع وتحقيق قدر من التراضى بين الطبقات الاجتماعية يصلح أساسا ماديا للمساواة القانونية.ولن يمكن تحقيق التحديث والتقدم دون قدر من "العدالة"والشفافية ،فالظلم الشديد والفساد بالطبع يعيقان التقدم.

وقد صارت الدولة هى أكبر مصدر للفساد وأكبر عائق أمام التحديث بعد أن كانت تقوده،ذلك أن البيروقراطية العليا صارت مع "رجال الأعمال"طبقة شديدة الطفيلية والفساد بحيث لم يعد من المتصور أن تقود عملية التحديث من جديد.

ولا يمكن تصفية منظومة الفساد فى مصر إلا بتصفية ملكية الدولة وملكية رجال الأعمال اللصوص لصالح توسيع قاعدة الملكية وإدماج الجماهير شبه البروليتارية فى الاقتصاد بإعادة توزيع الثروة.

والبديل الممكن فى المدى المنظور للطبقة المسيطرة المذكورة هو اقتصاد خاص غير احتكارى مع وجود كبير للتعاونيات والملكيات الصغيرة والمؤسسات الأهلية أى غير الباحثة عن الربح مثل المؤسسات التعليمية والإعلامية.كما يمكن الاستفادة من الاستثمارات الأجنبية فى القطاعات فائقة التطور ومن غير المتصور ألا تقوم الدولة بدور مساعد للبحث العلمى وتشجيع نمو القطاع التعاونى والصغير بالحوافز والتسهيلات.وهذا النظام هو اقتصاد سوق حرة ومفتوحة.

أما تنفيذ هذا المشروع فيتطلب قبل أى شيء قيام سلطة شعبية يشارك فيها الفقراء وصغار ومتوسطى الملاك والرأسمالية الحقيقية ؛فى صورة حكومة برلمانية ديموقراطية تجمع بين المركزية وسلطة مجالس محلية منتخبة ونظام قضائى يجمع بين القضاء المحترف والمحلفين،وإقصاء كل رجالات النظام وجل الطبقة المسيطرة الحالية من أى سلطة.ومثل هذه السلطة تشترط هبة شعبية أو سلسلة هبات متوالية واسعة النطاق وشديدة العنف لاقتلاع النظام من جذوره وتصفية عناصره تصفية عضوية،شاملا كل أجهزة الدولة بما فيها القضاء والأمن،وكافة رجال الأعمال اللصوص وكل النخب الجالسة علي حجر الدولة من إعلاميين وكتاب رسميين أو معبرين عن النظام.هذا إن أمكن لجماعات ثورية ومنظمة أن تستطيع تحويل الفوضى الناتجة إلى بناء جديد.

ولا يبدو فى الأفق أن التحرر من كل سلطة والتحول نحو مجتمع يسير نفسه ذاتيا أمرا ممكنا فى المدى المنظور،فالثقافة السائدة والتأخر العام لا تؤهل مصر لهذا التحول.فالانتفاضات العفوية والفوضى المحتملة لا تمهد لمثل هذا التحرر.
هذه طبعا مجرد تخمينات وتوقعات للمستقبل قد تكون مصيبة أو خاطئة وإنما أنا أفتح باب الاجتهاد.

سابعا:دور القوى الخارجية:

لا شك أن مصر بلد مهم من الناحية الجيو- سياسية،أهدرت طاقتها نخبة مبارك،وهى نقطة تتشابك فيها مصالح القوى الكبرى ومعها إسرائيل بالطبع وكذلك أصحاب البترودولار الخليجيين.وفى العالم المعاصر لا يستطيع بلد فقير ومتخلف أن يتصرف بحرية خصوصا أن الحرب الباردة قد انتهت.لذلك سيكون – كما كان - فى المدى المنظور هناك دور أساسى للقوى الكبرى وخصوصا أمريكا علي الساحة المصرية.ولا يمكن مثلا تصور أن ما حدث فى الآونة الأخيرة قد تم بدون ضغوط وتدخلات أمريكية منها تهديد الجيش المصرى أثناء انتفاضة يناير.ومن المؤكد أن هذه التدخلات ستستمر بشكل أو بآخر لصياغة النظام المصرى ومن المؤكد أن لهؤلاء خطوط حمراء وخضراء مختلفة وهم قادرون علي التأثير حسب طبيعة وإمكانيات ومصالح القوى الداخلية،ومن المهم ملاحظة أن موازين القوى الدولية لن تسمح بأن تتحول مصر إلى دولة متقدمة دون ثورة شعبية عارمة تفرض إرادتها علي أية ضغوط دولية.

ليس من المتصور أن يتم تحديث مصر بوضعها الحالى من خلال إعلان العداء للقوى المهيمنة فى العالم أو استفزازها،بل من خلال التعاون معها مع المحافظة بقدر الإمكان علي استقلال القرار ولن يُسمح لنا بالتقدم ونحن فقراء ومتخلفون دون إبداء الاحترام والتفاهم مع الآخرين.لذلك يجب نبذ الخطاب الشوفينى المتعالى ونزعة العظمة القومية واحترام ثقافات الشعوب الأخرى وإظهار القدرة والرغبة فى التعاون معها وإقامة مصالح مشتركة.

ولنفس الأسباب لن يكون مقبول دوليا أن يتولى أمر مصر نظام إسلامى متشدد يثير الاضطرابات فى المنطقة،وما هذا السماح بصعود الإسلاميين إلا فى سياق عملية " تقييف" وتدجين لهم،فسوف يتم التخلص من السلفيين بسهولة لأنهم لا يقدمون أى مشروع للشعب،أما الإخوان فسيجبرون على تهذيب خطابهم وإصلاح أيديولوجيتهم لتلائم الحدود المسوح بها دوليا ومحليا من قبل الطبقة المسيطرة وقد يتعرضون لضربات من هنا وهناك حتى يفهموا المطلوب منهم وسيكون إسلاميو تونس مثالا لهم لن يُسمح لهم بتجاوزه.

ثامنا:استنتاجات:

- النظام المصرى الشمولي صار عائقا منيعا لأى تقدم.

- لا توجد قوى اجتماعية كبيرة ثورية متحققة فعليا فى مصر حاليا،وحتى المهمشون؛الفئات الأكثر عداء للنظام هى الأكثر تمردا ولكنها لا تحمل جنين مشروع معين ولم تقدم نفسها بعد كقوة ثورية،فهى ثورية ضمنيا فقط،أى لديها طاقات ثورية كامنة.ويشكل بعض شباب الميادين جنين لحركة ثورية ممكنة. وهم لا يقدمون حاليا مشروعا عمليا يتجاوز النظام الشمولي بل يرفعون شعارات شديدة العمومية من قبيل إسقاط النظام،حرية عدالة..إلخ،دون وجود برنامج محدد الملامح،والواضح أن أهم ما استفزهم هو الديكتاتورية المفرطة والفساد الواسع الانتشار ومشروع توريث الحكم وتدهور دور مصر الإقليمى.وموقفهم السلبى من المهمشين والعمال ليس ناتجا عن عدم الفهم بقدر ماهو ناتج عن ضيق أفقهم ومحدودية تطلعاتهم.

- لا تمر مصر بمرحلة ثورة اجتماعية،ويشهد علي ذلك التراجع الحضارى المتواصل وتدهور مستوى العمالة وانهيار التعليم والبحث العلمى وسيادة الطابع النهبوى للنظام،المعيق لاقتصاد السوق.

- لا يمكن تحقيق ديموقراطية علي النمط البورجوازى أو غيره سوى بتحقيق ثورة اجتماعية تحقق قدرا من الرضا والقبول بين الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية المتعددة وتضع أساسا لثورة ثقافية.فالمصريون بوجه عام يفهمون الديموقراطية علي أنها خاصة بالانتخابات وعلي العكس يرفضون الديموقراطية كسلوك عام فيرفضون حرية الاعتقاد وحرية المرء فى جسده والمساواة الكاملة بين المواطنين ويفضلون الاحتكام للشريعة الدينية كمباديء فوق دستورية.وهذه الثقافة لا تؤهل البلاد للتحول الديموقراطي إلا فى حدود حرية التصويت.

- الفكر الثورى فى مصر محدود الانتشار والعمق للغاية،بل إن آخر ما فى جعبة اليسار الماركسى(الأكثر ثورية فرضا) هو إعادة إقطاع الدولة والعبودية المعممة،أما غالبية شباب الثورة الحاليين فطموحاتهم سياسية محدودة الأفق غير مسنودة بأيديولوجيا عقلانية علمانية حقا.ويشكل الأناركيون الاستثناء الذى يؤكد القاعدة:فلديهم مشروع يتجاوز النظام بالكامل ولكنه فكر يعبر عن الأزمة العالمية للنظام الرأسمالي خصوصا فى الغرب المتقدم ولا ينسجم لا مع الثقافة القومية ولا إمكانيات الواقع المحلي.

- مع ذلك قد تشكل انتفاضات المهمشين وثوار الميادين الحادة وغير المنظمة والعدائية للسلطة بشدة أساسا لتكون توجهات أكثر ثورية فى الفكر المصري.ومن غير المحتمل أن إعادة ترميم النظام ستؤدى إلى انتهاء توابع زلزال 25 يناير،فالجماهير قد تعلمت وتخلصت من الخوف وعرفت كيف تنتزع ما تعتبره حقوقها كما أنها لا تستطيع أن تواصل الحياة بنفس الطريقة وفى نفس الظروف الاقتصادية ولذلك ستستمر فى الاحتجاج وستطالب بالمزيد.

- ليس أمام من يريد تحويل مصر ثوريا سوى العمل الدؤوب علي نشر فكر أكثر استنارة ومجابهة الفكر الديني والعمل علي توجيه الحركات العفوية بصبر ودأب.



[1] بالمناسبة أجهزة الإعلام الحكومية والخاضعة للحكومة هى التى أضفت السحر على ميدان التحرير بحيث تخفى دور المدن الأخرى الأكثر ثورية من القاهرة ولتصوير العملية الثورية على أنها اعتصامات التحرير وصدق الثوار هذه الأسطورة واعتقدوا أن استمرار الثورة يساوى استمرار الاعتصام فى هذا الميدان الكبير.
[2] عبقريات ومعضلات الثورة المصرية، http://modernization-adil.blogspot.com/2011/03/blog-post.html
مسار وآفاق الثورة المصرية، http://modernization-adil.blogspot.com/2011/05/blog-post_07.html
نحو جبهة ثورية متحدة فى مصر- ما العمل؟، http://www.modernization-adil.blogspot.com/2011/06/blog-post_2534.html

[3] قدمنا (شريف يونس وأنا) دراسة بعنوان :بنية التخلف ،منشورة على: http://www.modernization-adil.blogspot.com/2011/10/blog-post_5738.html

[4] نقصد بالانتلجينسيا الأفراد الذين يتخصصون فى العمل الذهنى ؛ أى المتعلمين : الأطباء – المهندسين – المحامين – المديرين – المحاسبين – الصحفيين – العلماء – الباحثين – الكتاب – الفنانين – الأدباء – رجال السياسة – رجال الإعلام – الضباط – رجال الدين ..إلخ .

[5] استعرت هذا التعبير من الدراما المصرية التى تبرز دائما تقريبا هذه العلاقة بين رجل الدولة ورجال الأعمال.
[6] حق الليلة الأولى كان موجودا فى فرنسا فى عصر الإقطاع فى فترة ما،حيث يحق للنبيل أن يفتض بكارة أية عروس من رقيقه ليلة زفافها .
[7] أعتبر هنا العامل هو من يعتمد فقط على بيع قوة عمله وينتج فائض القيمة،بالضبط كما ذهب ماركس،وبوضوح أكثر:العمال المأجورين فى قطاعات الإنتاج السلعى.
[8] تناولنا دور المهمشين الثورى المحتمل فى مقال بعنوان:المهمشون هم الأكثر ثورية، http://modernization-adil.blogspot.com/2011/10/blog-post.html

[9] قدمت دراسة كبيرة حول الناصرية تناولت هذه الأمور بالتفصيل بعنوان:الناصرية فى الثورة المضادة، http://www.ahewar.org/debat/files/3925.doc
[10] هذا تعبير مكسيم رودنسون وصفا للبلدان المتخلفة.
[11] فرض الناصريون شرطا للترشح فى البرلمان أن يوافق الاتحاد القومى (سمى الاشتراكي فيما بعد ) على ترشيحه.
[12] تناول بعض هذه الجوانب إلهامى الميرغنى فى دراسته: ماذا حدث لمصر والمصريين ؟!
، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=184476

[13] كانت كل ثورات المصريين القدماء تقريبا انتفاضات عفوية كثيرا ما أدت لتدمير آلة الدولة دون أن يتمكن الشعب من إقامة دولة جديدة بنفسه بل كانت تتمكن قبيلة ما من إقامة دولة جديدة.وفى عصور الحكم الرومانى والعربى والعثمانى ظلت الانتفاضات عفوية أو محلية لا تسفر عن إقامة سلطة شعبية إلا نادرا مثل دولة همام فى الصعيد التى استمرت 4 سنوات من 1765 حتى 1769 .
[14] سبق أن تناولت هذا الموضوع فى مقال بعنوان:وضع الانتلجينسيا فى البناء الاجتماعى المصرى الحديث، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=8315

[15] شهد ت مصر منذ القرن التاسع عشر ثلاثة تيارات رئيسية : التيار الدينى المحافظ ، المعادى للحداثة وهو يشبه التيار السلفى المعاصر . و التيارالعلمانى ،وكان التيار الغالب يشمل المجددين الإسلاميين ، الذين حاولوا تطويع الإسلام التقليدى للمتغيرات الحديثة و مزجه بالعقلانية الأوربية . و فى رأي لم تعبر التيارات الثلاثة عن حركة تنوير حقيقية ، فالأول معاد للتنوير مباشرة كما هو واضح ، و الثانى ؛ التنويرى ( بالمعنى الأوربى ) لم يتعرض إطلاقا للأيديولوجيا السائدة و لم يمسها تقريبا و اكتفى بنقل بعض الأفكارالعلمانية و العقلانية من أوربا كما هى، و لم يجد استجابة ملموسة من جمهور الانتليجينسيا. أما الاتجاه الثالث ، الرئيسى ؛ النهضوى - بالمعنى الأوربى- فقد جذب أغلبية الانتليجينسيا و كان مهتما بتطويع الفكر الإسلامى مع عملية التحديث مع الاحتفاظ بنفس الأسس المعرفية. ومن الملاحظ أن العلمانيين و المجددين قد ركزوا جل اهتمامهم لا على الفكر النظرى بل على الفكر الاجتماعى- السياسى، فاهتموا بقضية المرأة والحريات الشخصية و فوق ذلك اهتموا أكثر مااهتموا بإقامة نظام برلمانى و حكم دستورى و نظام قضاء حديث، دون تجاوز الشريعة الإسلامية . مقابل هذا لم نلاحظ اتجاها واضحا لنقد الابستمولوجيا القديمة.
و قد عبر الاتجاه الثالث عن أقصى طموحات الطبقة المسيطرة . و رغم الخلافات و الصدامات المحدودة التى جرت بين الدولة و بين بعض عناصر المجددين ظل هو الاتجاه "الرسمى " للدولة دون أى نبذ أو تصفية للاتجاه الأول بالطبع ، المتركز فى الأزهر و الذى لجأ هو الآخر إلى تجديد جزئى.ولم يتغير هذا الوضع حتى الآن.

[16] قدمت دراسة بعنوان:تحليل عام للحركة الشيوعية المصرية، http://modernization-adil.blogspot.com/2008/09/blog-post_18.html

[17] شهدت هذه الفترة ظهور رفاعة الطهطاوى المستنير للغاية بالنسبة لعصره،ثم بدأ الإصلاح الدينى على يد الأفغانى ومحمد عبده،وفى الثورة العرابية تم وضع دستور عام 1979 وعدل عام 1882 وكان علمانيا (دستور 1882 منشور على: http://soutelramla.own0.com/t3907-topic)

[18] ماذا يفعل الديمقراطيون المصريون مع الإخوان؟، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=39668

[19] لم تجرؤ أغلبية العلمانين من قوى الثورة على معارضة المادة الثانية الشهيرة من الدستور التى تنص على اعتبار مباديء الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع،ولا على طرح فكرة الزواج المدنى أو إطلاق الحريات الشخصية بالكامل.ومما له بعض الدلالة قيام معتصمى اللتحرير يوم 25 نوفمبر 2011 بضرب وطرد علياء،صاحبة المدونة الشهيرة بفن العرى.والكل ينادى بالدولة المدنية وهو تعبير ابتكره الإسلاميون وهو كلمة السر لديهم للدولة الدينية.