الطبيعة البشرية


عادل العمري
الحوار المتمدن - العدد: 6249 - 2019 / 6 / 3 - 23:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

(فصل من كتاب قيد الإعداد بعنوان: الثورة المستمرة)

إنَّ جوهر الإنسان ليس تجريدًا متأصلًا في كل فرد على حدة وإنما هو مجمل علاقاته الاجتماعية

ماركس



- لا يتوقف الجدل حول الطبيعة البشرية، من حيث وجودها من عدمه، ومن حيث مفهومها. وقد رفض هذا المفهوم أصلًا كثير من الفلاسفة والمفكرين (ميشيل فوكو مثلًا[1])، بينما رأى البعض أن الإنسان ليس له طبيعة بمعنى صفات ثابتة، مثل كونه شريرًا أو خيرًا، كما أنَّ قدرته على صناعة الثقافة تجعله قادرًا على تغيير نفسه، فهو الذي يحدد ماهيته، فهو حر، والحرية مفروضة عليه[2]، ولا ينتبه سارتر هنا إلى أن هذه الحرية التي جُبل عليها الإنسان – حسب زعمه - هي ماهية وطبيعة بشرية مرتبطة بوجوده وليست تالية له. بل وهناك – مثل إريك فروم - من ينفي الطبيعة البشرية أحيانًا ويشرحها أحيانًا[3]. وذهب ألفريد أدلر إلى أنَّ الشخصية مكتسبة، نافيًا أيَّ دور للوراثة[4]. وقد تناول ماركس الطبيعة البشرية بشكل عابر في بعض كتاباته. فـ "الجوهر الإنساني ليس تجريدًا ملازمًا للفرد المنعزل. فهو في حقيقته مجموع العلاقات الاجتماعية كافة"[5]. وهي "مجمل احتياجاتي ودوافعي التي تشكل قوة ضاغطة علي"[6]. "فالإنسان... كائن طبيعي نشط. وتوجد هذه القوى فيه كاتجاهات وقدرات – كدوافع.. فإن موضوعات دوافعه توجد خارجه، كموضوعات مستقلة عنه، غير أن هذه الموضوعات هي موضوعات لاحتياجاته – موضوعات أساسية لا غنى عنها لتجلي قواه الجوهرية و تأكده" (التشديد من عندي)[7]. يمكن إيجاز رأيِ ماركس في أنَّ الطبيعة البشرية هي عبارة عن ميول، دوافع، وغرائز، تعمل من أجل تلبية احتياجاته. فتفسير تلك الطبيعة هو بالضبط تفسير احتياجات البشر، مع ميله إلى سد تلك الاحتياجات. ويميز ماركس بين إنتاج الإنسان وإنتاج الحيوان: يحقق ناتج الحيوان حاجته المباشرة فقط، بينما ينتج الإنسان حاجته في ذهنه أولًا قبل أنْ يحققها. هنا نجد التأكيد على القدرة على الوعي كجوهر الطبيعة البشرية. اهتم بعض اليساريين بنفي وجود شيء اسمه الطبيعة البشرية، وكأنَّ الاعتراف بها يقود إلى الإقرار بوجود "قوانين" طبيعية؛ غير اجتماعية، للنظام الاجتماعي؛ وكأننا بذلك نبرئ الرأسمالية، ويميل كثير منهم بتحميل الانقسام الطبقي كل مسؤولية عن "الشر"، مبشرين أنَّ كل شيء سيكون على ما يرام في المجتمع الاشتراكي. كما اختلف الفلاسفة حول ما يميز الإنسان عن الطبيعة، فذهبوا مذاهب شتى، منها العمل في رأي ماركس، والعقل عند هيجل، اللغة لدى هابرماس..

- حسب ما أعتقد الإنسان في الأصل جزء من الطبيعة، لكنه قد تخطاها، فخلق شيئًا جديدًا، منتوج العقل، من أدوات، وأدوات استهلاك مصنعة، بل ومواد خام مصنعة، علاقات إنتاج، وفوق ذلك الفكر والفن، المبادئ والقيم، المؤسسات الاجتماعية والدولة. وبينما يكتفي الحيوان بالتكيف مع البيئة، وسد حاجاته المباشرة إن أمكن، ويموت إنْ لم يستطع تحقيق هذا وذاك؛ فيخضع لتوازن البيئة، ويحاول الإنسان في سعي مستمر إلى جعل البيئة تتلاءم معه، ويتجاوز توازنها، ويعيد الخلق لصالحه.. فهكذا هو الإنسان، منتوج الطبيعة ونقيضها. وعلى ذلك نستطيع تحديد لحظة تمرد الإنسان على الطبيعة باللحظة التي أعاد فيها الخلق من جديد؛ نتاج تفاعله مع البيئة؛ إنتاج المجتمع البشري؛ وهذا يبدأ منطقيًّا بإنتاج المفاهيم المجردة - اللغة، فقوى إنتاج مصنعة، عملية العمل المبرمج، علاقات إنتاج، مؤسسات وثقافة.. وبذلك صار- منذ بدء انفصاله عن الطبيعة - يعتبر الوجود كله ملكًا له، فيعامله على أنه ملكيته الخاصة.

- ليس بالإمكان الكشف عن حالة طبيعية للإنسان خارج الجماعة والتاريخ؛ فالإنسان لم يوجد إلا في جماعة لها تاريخ، بما في ذلك الإنسان البدائي. وبالتالي لا يمكن تحليل طبيعة بشرية خام. وعلى ذلك يمكن فقط أنْ نكشف عن الطبيعة البشرية بالاستنتاج ولا يمكن البرهنة عليها تجريبيًا، اللهم إلا في العموم.

- تشمل الطبيعة البشرية الجسم والنفس، وهما لا ينفصلان. ولا تقتصر طبيعة البشر على تكوينهم البيولوجي؛ فليست كل سماتهم موجودة في الجينات؛ فلا توجد جينات تجعلهم يصنعون علاقات الإنتاج، ولا الأيديولوجيا ولا نظام العمل الجماعي.. لكنهم لابد أن يصطنعوا كل هذا بدافع حاجاتهم البيولوجية والنفسية في مواجهة البيئة، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المحافظة على نوعهم وذواتهم وتحقيق راحتهم.

- لا يوجد علم نفس، بل نظريات، اختلف حولها العلماء أكثر مما اتفقوا؛ فهناك عشرات المدارس، والخلافات بينها لا تنتهي، ويكفي أنْ نرجع للفروق الشاسعة بين فرويد ويونج رغم انتمائهما لمدرسة التحليل النفسي. ويخضع هذا "العلم" للسياسة ولمصالح السلطة، مثله مثل الفلسفة؛ فمدارس علم النفس الأمريكية – على سبيل المثال - تطالب الفرد بالتأقلم مع المجتمع. هذا بجانب انتشار كثير من الخرافات "العلمية"[8]. وكل محاولة لجعله علمًا تجريبيًا أنتجت توجهًا معينًا لا يحظى باتفاق العلماء. ولم يتفق علماء النفس الاجتماعيين على منهج لدراسة طبيعة الإنسان الاجتماعية، كما أنَّ هناك الكثير من الأسئلة غير المجاب عليها، مثل تفسير استجابات الأشخاص لمؤثر معين[9]. بل لا يوجد اتفاق على غرائز البشر من حيث تحديدها أو حتى وجودها أصلًا؛ فهناك من يستعمل لفظ غريزة، ومن يقول ميول غريزية، واستعداد فطري. كما لا يوجد اتفاق حول طريقة تفسير السلوك البشري.

ولذلك لن آخذ باتجاه معين هنا، بل سأعتمد على الأفكار الأكثر عمومية وشيوعًا أو الأكثر اتساقًا مع الظواهر الاجتماعية الشائعة - حسب ما أرى، ومع الحقائق العلمية المعروفة.



- إنَّ العوامل الاجتماعية التي تقهر الفرد والجماعات ليست من خارج البشر، بل من إنتاجهم؛ فالملكية الخاصة والدولة هي نتاج الحضارة البشرية. وقد قام إنجلز - باسم الماركسية - بمحاولتين لتفسير نشوء الطبقات والدولة فلم يقدم أيَّ تفسير أكثر مما يُفهم أنه مجرد نزوع بشري نحو الأنانية والتسلط[10]. ولم تفلح أيُّ نظرية أخرى في إثبات حتمية نشوئهما رغم إرادة الناس. فـ"الخير" و "الشر" من الناس وليس من عوامل عرضية أو ميتافيزيقية. كل ما حدث طوال حياة البشر هو من صلب الطبيعة البشرية. وحتى الصفات والسلوكيات المكتسبة لا يمكن اكتسابها إلا إذا كانت هناك ميول فطرية لهذا الاكتساب.



- يتكون لب الطبيعة البشرية من عمليات التأقلم مع البيئة، والتوابع الجانبية لهذا التأقلم، ولا يمكن إهمال الرماد الذي يتبقى. يمكن تقديم مثال بسيط لهذه العملية من البيولوجي: الحبل السري هو ناتج للتأقلم مع البيئة لحفظ حياة وتطور الجنين، ويكون الناتج الجانبي لذلك هو السرة التي تنشأ في البطن بعد انتهاء دور الحبل السري، أما الرماد أو البقايا هنا فهو الشكل الخاص للسرة في كل فرد[11]. وهذا يحدث في كافة عمليات التأقلم.

- والغاية الأولى لكل كائن حي هي البقاء والتكاثر وإشباع الرغبات الغريزية؛ أيْ الاستمتاع، وهذه ميول فطرية؛ جينية. لذلك فأيُّ آلية نفسية توجد في الشكل الملائم لتحقيق هذه الغايات. وما نشاط النفس إلا مجموعة معقدة من آليات الدفاع والهجوم، غرضها النهائي هو ضمان استمرارية الكائن الحي وأنْ تعطيه القدرة على النمو والتطور بأمان[12]. إلا أنَّ الإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى في قدرته على خلق وإعادة خلق حاجات جديدة للاستمتاع، مثل ممارسة الجنس بطرق مختلفة، ألوان من اللعب غير الغريزية، صناعة أشكال وألوان من الأطعمة، أشكال عديدة من السياحة..إلخ. وكل هذا يدل على وجود آليات مختلفة للاستمتاع غير غريزية لكنها تتطلب استعدادًا طبيعيًّا للشعور بالمتعة.

- لا يمكن تحديد طبيعة بشرية للفرد المجرد؛ فلا يوجد في الواقع فرد إنساني - كما نعرفه - ليس جزءًا من الجماعة، فالإنسان كائن نوعي، ولا يستطيع إلا أنْ يعيش في جماعة، لأسباب بيولوجية ونفسية، ويشترك الأفراد في سمات معينة لكن لا يمكن أنْ توجد إلا باعتبارهم جماعة. إذ لا يمكن تعلم واستخدام اللغة إلا في جماعة، ولا يمكن تربية الأطفال إلا في وجود جماعة، ولا يستطيع البشر مواجهة الكوارث الطبيعية والأمراض إلا في وجود جماعة، وإذا عاش الناس أفرادًا فسوف يكون معدل الوفيات شديد الارتفاع وسيظل الإنسان يعيش على التقاط الثمار وبعض الصيد؛ مما يعني أنه سيكون حيوانًا بدائيًّا إلى الأبد أو حتى يفنى؛ إذن الجماعة البشرية سابقة على الفرد، بمعنى أن الفرد الإنسان كما نعرفه لا ينشأ ويعيش إلا في جماعة. وتتميز الجماعة البشرية، نظرا للقدرات العقلية – اللغوية للبشر عن جماعات الحيوان، بالتنظيم الدقيق، والقدرة على الابتكار وصناعة الحضارة والتاريخ. وبدون هذه السمات الخاصة كان من الممكن أنْ يعيش البشر مثل الشمبانزي، في جماعات بلا تاريخ ولا حضارة. ولذلك تكون النفس البشرية هي نفس الفرد الاجتماعي، ابن الجماعة البشرية.

- ولا يمكن وضع تعريف مختصر للإنسان، من قبيل: حيوان اجتماعي أو سياسي، منتج للآلات، حيوان عاقل أو ناطق؛ فهناك حيوانات كثيرة لها نفس القدرات وإنْ بدرجة محدودة. لكن الإنسان يختص بعشرات السمات التي تميزه عن بقية الكائنات. فالتكوين الجسماني، شاملًا اليد، والقدم، والسير منتصبًا، وتركيب المخ، والقدرة على إنتاج لغة مجردة، بما تتضمنه هذه القدرة من تركيب الحلق ومركز الكلام في المخ، وهذا مرتبط بالقدرة على التفكير والتجريد وإنتاج مفاهيم، والذاكرة القوية.. إلخ. ويأتي بعد التكوين الجسماني قدرة الإنسان على إنتاج وتطوير وسائل إنتاج معقدة، وإقامة علاقات إنتاج ونمط إنتاج، أفكار وأيديولوجيا ومؤسسات اجتماعية مختلفة، وصناعة تاريخ، بما يتضمنه من تغير في كل ما سبق من منتجات الإنسان. كل هذه سمات تميز الإنسان، وجعلته في النهاية السلطة العليا على الأرض، وهو الكائن الوحيد القادر على التأقلم مع البيئة بوعي وإدراك، بالسيطرة المتزايدة عليها جزئيّا؛ بالتصنيع والتحوير وتغيير البيئة، بل ثم بإنتاج مواد مخلقة، ثم أصبح قادرًا على تحويل نفسه، بإزالة الأعضاء التالفة أو غير الضرورية (إصبع زائد مثلًا) وزراعة الأعضاء، وبتعديل وعلاج وتطوير الجينات، وكل هذا يعني القدرة على التطور، فلا يوجد أيُ كائن آخر على الأرض بقادر على تطوير مجتمعه وتطوير جسده بوعي. هذه القدرة تعود لكل السمات الخاصة التي ذكرناها.

- النفسية البشرية شديدة المرونة والتعقيد، وتتألف من عدد كبير من الآليات المعقدة والمركبة، مع عدد كبير من الدوافع والحوافز والغايات. ولأن الآليات النفسية معقدة ومتعددة، فإن الطبيعة البشرية تعبر عن نفسها بطرق متغيرة، وتعتمد علي السياق دون أنْ تكون نبضات ثابتة كما تذهب بعض نظريات الشخصية. ولا تنبع المرونة السلوكية البشرية من آليات النفسية العامة، بل من عدد كبير من الآليات النفسية المحددة التي يتم تنشيطها، والمتسلسلة في سلاسل معقده متفاوتة، اعتمادًا علي المشكلات التكيفية التي تواجهها. ويستمد البشر مرونتهم النفسية من امتلاكهم لعدد كبير من الآليات الوظيفية المعقدة. وهذا كله يجعل من دراسة الطبيعة البشرية مهمة صعبة، لكنها لا شك قابلة للمعرفة والفهم[13].

- إنَّ الذكاء والخبرة والثقافة تلعب دورًا جوهريًّا في تحديد رد فعل الفرد إزاء أيِّ محفز، فغرائز الإنسان هي مجرد ميول، ورد فعله ليس آليًّا، بل يستخدم الحسابات العقلية ويفكر بأفق واسع بالمقارنة بالحيوانات. فصناعة الحضارة جزء لا يتجزأ من الميول البشرية. فمن طبيعة البشر إنشاء حضارة، والجماعة التي لا تستطيع تحقيق ذلك تُزاح، إما بالانتخاب الطبيعي، أو بالإبادة. كما أنَّ الحضارة إنتاج الإنسان، تعيد تشكيله – جزئيًّا - وتؤثر كثيرًا في سلوكه.

- الوعي واللاوعي: الوعي هو الإدراك أو الشعور. وقد اختلف علماء النفس حول اللاوعي، من حيث وجوده من عدمه (أنكره السلوكيون والتجريبيون بحجة أنه لا يخضع للملاحظة المباشرة)، وحول محتواه، كما أفرد فرويد قسمًا سماه "ما قبل الوعي" ، ميزه عن اللاوعي. ولأغراض عملية هنا أعتبره يشمل الغرائز أو الميول الغريزية، والميمات المنسية، والرغبات المكبوتة، والغايات غير المتحققة وغير الحاضرة في الذهن، والقدرات الخاصة والفريدة لدى بعض الناس التي تسمى بالمواهب، وطريقة استعمال اللغة ومفرداتها المحفوظة، والخبرات الفردية والجماعية المنقولة عبر التاريخ، والتي تم تخزينها في الذاكرة العميقة. هذا تعريف مختصر وعام ومباشر. يمكن الكشف عن اللاوعي عن طريق تحليل السلوك، والأحلام، واللغة، وإنتاج المرء الأدبي والفكري، وغيرها.

- ليس الإنسان حيوانًا مفكرًا كما صورته بعض الفلسفات، فهو أحد أنواع المملكة الحيوانية، في الأصل يأكل حين يكون جائعًا، ويشرب في حالة العطش، ويفكر مثلما يتبول؛ حين يتطلب الأمر. الإنسان قادر على التفكير وإنتاج الوعي المجرد، لكنه لا يصنع هذا إلا كاستجابة لحاجاته البيولوجية والنفسية.. إنه لا يمارس هواية التفكير، بل تحكمه حوافز ما في هذا المجال، مثل كل مجالات نشاطه. فالذهن البشري - كما ذهب كاوتسكي – محافظ، يعمل استجابة لحافز ما، حين يتطلب الأمر[14]. ولم يكن ولن يكون الإنسان أبدًا بقادر على أن يتصرف ككائن مفكر، بل إنَّ اللاوعي أكبر وأكثر تأثيراً في سلوكه من الوعي، فهو يلعب دورًا كبيرًا في التاريخ والمجتمع، أكبر بكثير من دور العقل. ولا شك أنَّ العقل قد لعب دورًا كبيرًا في صناعة الحضارة، لكن لا يمكن القول بأن الحضارة نتاج للعقل، فميول الإنسان الغريزية هي الأساس في الحفاظ على الذات والنوع، بجانب تحقيق اللذة الجنسية وغيرها؛ إنها في صميم الطبيعة البشرية، وهي الحكم في النهاية للسلوك؛ فصناعة الحضارة هي نتاج رغبة الإنسان في سد حاجاته وتحقيق اللذة بأنواعها، والسيطرة على الطبيعة حماية لنفسه من شرها، والحفاظ على النوع.. وكل هذه نزعات غريزية، وما العقل إلا أداة لتحقيق هذه النزعات.

والذهن البشري ينتج الأفكار بفضل تفاعله مع ما حوله من معطيات بيئية واجتماعية، وبدافع من حاجته للمعرفة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمان. فمعرفة الأطعمة الضارة والقاتلة، وأسباب الأمراض، وكيفية بناء أماكن تقي من غضب الطبيعة، وصناعة الأسلحة، والأدوات اللازمة للحياة، ومعرفة الطريق.. كل هذا يتطلب البحث والاستقصاء والتفكير. لكن ما تفسير استمرار الميمات في أذهان الناس لمدد متفاوتة، تصل إلى آلاف السنين بعد اختفاء العوامل المادية لظهورها؟ فالإنسان لا يتصرف وفقًا لحسابات عقلية صرف، بل إنَّ العقل ليس إلا أحد أسلحته، فهو ليس منقادًا له وحده ولا أساسًا كما أسلفنا، بل هو أداة لتحقيق الرغبات. لذلك من المستحيل أنْ تكون كل تصرفات البشر "معقولة"؛ فهناك دوافع وراء السلوك لا تقتصر على العقل. ورغم تقدم المعارف والفكر المجرد لم يصبح الإنسان قط عقلانيًّا إلا من الزاوية التقنية، بل واستخدم العقل في تطوير أشكال القهر والتسلط، وابتكار أشكال من الاستغلال والقتل بالجملة بأبشع الأساليب، من أجل أهداف لا يمكن إلا أنْ نعتبرها حقيرة، مثل القومية والعنصرية والاستيلاء على جهد الآخرين، والتسلط لمجرد إشباع الرغبة في السيطرة وإذلال الآخر، كما فعل العكس أيضًا؛ فأنتج أشكالًا من التعاون والتضامن والتعاطف مع المظلومين والمستغلين، بل وحتى مع الحيوانات. فالتواصل البشري لا يخضع للعقل بشكل أساسي، بل تلعب الغرائز والمشاعر الدور الرئيسي، وهي لا خيرة ولا شريرة. ولا يمكن إغفال أنَّ ما نقوله الآن أيضًا يخضع لهذه الطريقة في التحليل. بل إنَّ الأفكار ليست نتاجًا لنشاط العقل المحض، بل نتاج لتفاعل الناس بكل مكوناتهم مع الواقع، كما تلعب الثقافة الموروثة والمخزونة دورًا مهمًّا - على رأي كاوتسكي – ولذلك تكون في غالبية الأحوال غير منطقية؛ أوهام وخيالات، بها ثغرات. فكثير من العمليات الذهنية تتم خارج نطاق الوعي. ويتباين مدى انتشار الأفكار مع قوة تأثيرها على رغبات الناس وليس مصالحها المادية بالضرورة، وليس تطابقها مع الوقائع الموضوعية. بل يمكن أنْ تصبح متينة ولكن حسب المدى الذي تكون به تلبيات لحاجات إنسانية نوعية من شخصية اجتماعية معينة[15]. ويفسر لنا سيادة اللاوعي اتخاذ الناس لقرارات تضر بهم، وظواهر لا يمكن تبريرها بالعقل، مثل عبادة الشخصية، وتقديس الدولة والجيش، والعنصرية وكافة أشكال التعصب. لكل هذا لا يؤثر البرهان والمنطق في معظم الناس. فمن المعتاد تمامًا أن تتعايش أفكار متناقضة منطقيًّا في أذهان الغالبية الساحقة من الناس، وأنْ يتصرفوا بعكس قناعتهم المعلنة. لكن ربما مع التقدم وتطور الحضارة يصبح الناس أكثر ذكاء وقدرة على التفكير البرهاني.

إنَّ العقل أداتي بطبعه؛ أداة للمعرفة؛ قادر على تحويل الأشياء إلى تصورات، وعلى التفكير المنطقي لعمل استنتاجات، لكن ما يقرره الإنسان ليس إلا ما ينزع إليه؛ ما يلبي نداء اللاوعي، خصوصًا مكونه من الغرائز كما أشرت؛ فبعد كل البحث والتقصى ومعرفة الحقائق يقوم المرء باختيار ما، وليس هناك "صح" و"خطأ" في الاختيارات حسب التفكير المنطقي. ولتوضيح الأمر أضرب مثالًا: يمكنك أن تعرف تمامًا أنَّ هذا الطعام أو ذاك يضر صحتك، لكن لا يوجد قرار صحيح بخصوص تناوله أو تجنبه؛ فالقرار يتوقف على توازن رغبات نفسية، مثل غاية المحافظة على الذات (سواء بتجنب الطعام الضار أو تناوله لعدم إمكانية توفير غيره)، ورغبة الاستمتاع بهذا النوع من الطعام بالذات بحكم التعود على تناوله[16]، وغاية إطفاء الجوع، وغاية إرضاء المحيطين بمشاركتهم في طعامهم حفاظًا على العلاقات الاجتماعية. كما يمكن بسهولة معرفة علاقات الاستغلال في المجتمع بحسابات العقل، لكن قرار قبولها أو مقاومتها يخضع لتفاعل عوامل نفسية عديدة، وليس هناك قرار صحيح وآخر خاطئ.. وهكذا تسير الحياة؛ العقل مرشد فقط، لكن اللاوعي هو الذي يقف وراء القرارات (وهذا نفس رأي فرويد). وحتى ما يقدمه العقل من حقائق واضحة قد يقبلها أو يرفضها المرء حسب دوافعه الشعورية؛ فقد ينكر حقائق صريحة ومؤكدة أو يقبل بمعلومات مغلوطة تمامًا، حسب رغبته. بل يمكن أنْ نضيف أنه حتى الاكتشافات العلمية ومسار البحوث العلمية تتم بدافع لاشعوري؛ فلا غنى أبدًا عن الخيال والحدس والتخمين والظن لعمل العقل "البحت"، ولا يجب أنْ نتناسى الخيال العلمي في هذا الصدد. بل إنَّ هناك أفكارًا تتضح وتتبلور في الأحلام، أو حين يكون المرء في حالة بين النوم واليقظة، فيما يُعرف بـ الوحي (لا أقصد أيَّ وحي ديني على الإطلاق). وهذا يشير إلى الدور الجوهري للاوعي. وحتى المفكر حين ينتج فكرة لابد أنْ يضع فرضيات وتخيلات لا علاقة لها بمنطق العقل. وفي النهاية تتم الصياغة العقلية للأفكار بعد أنْ تُكتشف وتتبلور تحت تأثير اللاوعي ونشاط العقل معًا. ويمكن بكل اطمئنان أنْ نقرر أنَّ كل أشكال الإبداع والتقدم تتم بدوافع من اللاوعي، وخاصة الغرائز أو المشاعر، وهي التي تقوم بتوظيف العقل لخدمة هدفها. فالتفكير غير المنطقي وغير الموضوعي يتفق مع نزعات معينة، مثل الخوف، الرغبة الداخلية في تحقيق غايات معينة، الرغبة في الشعور بالأمان، الرغبة في التفوق، الغيرة، والحسد.. إلخ. أخيرًا نحن نرى الواقع من خلال ذهننا، وهذا ليس عقلًا محضًا، فلا تكون رؤيتنا موضوعية تمامًا.

ومما يستحق التأكيد عليه هنا أنَّ الوعي أو العقل ليس منطقيًّا، بل هو الإدراك أو الشعور. هذا الوعي هو نفسه غير متسق ولا مرتب؛ بل مليء بالضلالات والأوهام والخرافات، بجانب المنطق. ولو كان الإنسان يفكر بالمنطق عمومًا لما احتاج لاختراع علم المنطق. تدفع سيطرة اللاوعي على العقل الذهن إلى استخدام الوهمIllusion الذي يعني استقبال شيء أو ظاهرة على أنها شيء آخر أو ظاهرة أخرى، مثل السراب كمثال، والدوجما أو الاعتقادDogma ، وهو التصديق بأشياء ما دون أيِّ برهان على وجودها أو صحتها، ومن أشهرها الإيمان بوجود آلهة، أو استنباط أشياء بطريقة غير منطقية ولا تعبر عن الواقع المعاش، أو الاعتقاد بتفوق عرق معين، والضلال Delusion، بمعنى تصور أشياء وأحداث غير حقيقية (مثل الشعور بالعظمة والاضطهاد بشكل وهمي). هذا بخلاف الكذب لتحقيق أغراض، مثل تحقيق القوة أو نيل المكانة أو الهروب من العقاب، أو كسب رضا الآخرين، بجانب الحيل الدفاعية (سيأتي ذكر بعضها لاحقًا) هذه تختلف عن التصورات المرضية، الناتجة عن أمراض عصبية ونفسية خطيرة، مثل التسامر أو التخريف (ذاكرة مضطربة ومخرفة): Confabulation - الهلوسة Hallucination (الشعور بشيء غير موجود أصلًا) – الشيزوفرينيا Schizophrenia...

ومما يعزز هذا الرأي أنَّ هناك الكثير من الظواهر التي لا تخضع للمنطق، ولا يمكن أن تفسر بالعوامل الاقتصادية ولا البيئية ولا الأيديولوجية: فلماذا قرر بعض الناس استغلال البعض الآخر، وبالتالي نشأت طبقات اجتماعية بعد أنْ كانت المجتمعات القديمة بلا طبقات؟ ولماذا رضيت غالبية الناس قبول الوقوع تحت استغلال طبقة معينة؟ ولماذا قرر بعض الناس قهر بقية المجتمع بإنشاء جهاز دولة بعد أن كانت المجتمعات القديمة بدون حكومة؟ ولماذا قبلت الغالبية هذا القهر؟ ولماذا يميل بعض أو كثير من الناس إلى زيادة ثرواتهم حتى بعد أن يجمعوا ما يكفيهم للحياة المرفهة؟ وبينما كانت الصراعات بين العشائر والقبائل القديمة وحشية، على الكلأ والمياه والنساء، فلماذا لم يقرر كل منهم اقتسام كل هذا بدلًا من الحرب والقتل؟ لماذا لا يخرج مجمل البشر لإسقاط الأنظمة المستغلة وهو قادرون على ذلك في بضع ساعات؟ كيف تلعب الأيديولوجيا كل هذا الدور في حياة البشر؟ فهل يمكن أن يُخدع معظم الناس لآلاف السنين دون لأن يكون لديهم استعداد لتلقي هذا المخدر؟

الخلاصة أنَّ الذهن البشري يعمل تحت تأثير اللاوعي أساسًا، كما أنَّ الوعي نفسه لا يعمل وفقًا للمنطق، بل يختلط فيه المنطق مع الوهم.

- يتسم الإنسان كنوع بالضعف البيولوجي؛ فالطفل يحتاج إلى أمه لسنوات طويلة حتى يستطيع الوقوف والمشي والكلام وخدمة نفسه، وتحتاج المرأة لمن يساعدها في حالة الحمل والوضع والتربية، ولا يملك الإنسان قوة عضلية تمكنه من مواجهة الحيوانات المفترسة، ولا يمكنه مواجهة الأمراض والكوارث الطبيعية إلا من خلال العمل الجماعي، كما أنه يحتاج لسنوات طويلة لمراكمة الخبرة وتخزينها في ذهنه، وللتدريب على التعامل مع البيئة. وهو يشعر بهذا الضعف تمامًا، مما يدفعه لمحاولة التغلب عليه، بصناعة الحضارة والسيطرة على الطبيعة. ولا توجد وسيلة أخرى؛ فالإنسان كنوع لديه شعور ووعي بضعفه النسبي وبالتالي بعدم وجود الأمان الكامل، وهذا عامل محفز لاكتشاف أفضل وسيلة للتكيف مع الحياة على الأرض[17]. هذا الشعور يبدأ عند الطفل المحتاج لرعاية الآخرين. إذن فالضعف البيولوجي للإنسان شرط للحضارة الإنسانية[18]. وكل إنسان فرد يشعر بضعف أشد؛ لذلك فالإنسان كائن اجتماعي، يحتاج للجماعة وللحب مثلما يحتاج الطفل إلى أمه، ولذلك كانت عقوبة الطرد من القبيلة في المجتمعات القديمة شديدة القسوة. إذ أنَّ الجماعة شرط لاستمرار الحياة، ولذلك كان من الضروري تنظيم حياة هذه الجماعة، فأصبح وجودها فوق الفرد (حتى عند حيوانات أخرى). وقد توقف نوع القوانين الاجتماعية لكل جماعة على شروط الحياة بها، وعلى كم المعرفة المتاحة في وقت معين، ونوع الأخطار التي تواجهها، بما فيها خطر وجود الجماعات الأخري. هذه النزعة الجماعية تؤمن استمرار النوع، وبالطبع تؤمِّن للفرد ممارسة الجنس، والحماية، والشعور بالأمان، المفتقد عمومًا بسبب الرعب من الطبيعة المخيفة. وبالطبع لا يمكن إنتاج واستخدام اللغة إلا في الجماعة. في هذه الجماعة أو تلك يخضع الفرد لقواعد ونظم معينة، متنازلًا عن جزء من حريته مقابل الأمان. وهذا الخضوع أو التكيف مع الجماعة يجبر الفرد على ضبط أو كبت ميول غريزية معينة، خصوصًا الجنس، في حدود نظام الجماعة وثقافتها. كذلك علاقة الحب، والصداقة، تبدو أيضًا حاجة إنسانية غريزية، كآلية للحفاظ على الذات، بتحقيق الأمان، والحصول على حب مقابل، والاندماج في الجماعة. يضاف ضبط النفس فيما يتعلق بعمليات مثل التبول والتبرز وتغيير الملابس ومكان الممارسة الجنسية.. إلخ. وكافة أشكال الضبط والكبت، على رأي فرويد، لا تعني اختفاء الغرائز التي تخصها، بل تتحول إلى اللاوعي، سواء للصغار أو الكبار[19].

ويتميز شعور الطفل بالضعف إزاء الكبار بشدته مع شعور قوي بالعجز؛ فيلجأ إما للبحث عن القوة أو استخدام ضعفه وإظهاره للحصول على عطف الكبار، وهي أيضًا آلية للبحث عن القوة، ويؤثر تفضيله لإحدى الآليتين في تكوينه النفسي اللاحق.

والحياة في جماعة، والعمل الجماعي عمومًا يجعل الفرد يشعر أنه أقوى، ويكتسب شجاعة وجرأة. فالمجتمع يولِّد في البشر الشعور بوجود قوة فوق الأفراد، ولأن الفرد ينتمي لهذه القوة، يشعر بأنه قد تجاوز ضعفه. وقد يفسر لنا هذا الشعور ظاهرة الطوطمية كما تناولها دوركايم[20]، والتي فسرها على أنها تمثل المجتمع، كما قد يفسر ظاهرة المقدس عمومًا. لكن الحياة في جماعة يشعر الفرد أيضًا أنه أقل حرية، مالم يشارك مباشرة في وضع نظام الجماعة.

مع ذلك فالإنسان ككائن نوعي؛ كجماعة، يشعر أيضًا بالضعف إزاء الطبيعة، وقد تشعر الجماعات بالضعف إزاء الجماعات الأخرى، بالإضافة إلى الغيرة والحسد، ومن هنا تسعى أيضًا الجماعة إلى تحقيق القوة، سواء إزاء الطبيعة أو الجماعات الأخرى، بوسائل متنوعة معروفة، وضمن هذه الوسائل، الفعالة جدًّا، اختلاق أشياء ومفاهيم وهمية؛ مثل الطوطم، القبيلة، قرية كذا، مدينة كذا، أمة كذا، دولة كذا، وكافة المقدسات الأخرى، والطقوس الجماعية، بغرض توحيد جماعة كبرى لا يعرف أفرادها بعضهم البعض معرفة شخصية، على نمط "أسطورة بيجو"[21].

ليس فقط الضعف هو دافع الإنسان للتقدم، بل قوته أيضًا، أو قدرته على التغلب على ضعفه؛ قدرته على السير منتصبًا، يده الماهرة، قدرته على الكلام وصناعة اللغة، قدراته العقلية الفذة. ورغم التقدم المتوالي لن يستطيع الإنسان أنْ يسيطر على الطبيعة قط؛ فالكون الممتد إلى أبعاد لا نتخيلها غير قابل للخضوع، وسوف تظل الطبيعة متفوقة إلى الأبد.. إنَّ جسيمًا فضائيًّا قد يقضي فورًا على كل ما صنعه الإنسان على الأرض.

- يميل الفرد العادي – في سياق الصراع من أجل البقاء والراحة - إلى تحقيق مكانة أعلى Status Striving داخل الجماعة، أيْ تفوق؛ فالفرد في الجماعة يشعر بضآلته، ويجد نفسه في حالة تعاون وتنافس مع الآخرين؛ تعاون من أجل مصالح الجميع، وتنافس من أجل تأمين حاجاته الخاصة، البيولوجية والنفسية، وخصوصًا حاجاته الجنسية. وهذا الميل يحقق عدة غايات تتفق مع غرائز الحفاظ على الحياة، دون أنْ يكون هو نفسه غريزيًّا على نحو مباشر: توفير ظروف معيشية جيدة – زيادة فرص الاستمتاع بالجنس وغيره من أشكال المتعة – تحقيق ظروف جيدة لتربية الأطفال. هذا الميل يتضمن السعي نحو السيطرة والسيادة، المنافسة، التي قد تصير صراعًا عنيفًا، كما أنه ضمن آليات التغلب على الشعور بالضعف بهذه العملية التعويضية. وقد لوحظ نفس الميل في الحيوانات العليا (الشمبانزي مثلًا[22]). من هنا يعمل الانتخاب الطبيعي على تسييد هذا النوع من الناس على غيره. هذه المكانة تتحقق من خلال السعي إلى التفوق، المنافسة، والحسد، والغيرة، الكراهية.. وقد يؤدي العجز عن تحقيق المكانة والسيطرة بشكل مباشر إلى الإصابة بالعصاب، فيأخذ في اتباع "سياسة" تعويضية بطرق مختلفة حسب ظروف البيئة الاجتماعية. فيستخدم آليات غير مباشرة لتحقيق القوة، مثل الحب وتكوين صداقات، التعاطف مع الآخرين، وحتى الخضوع للأقوى والتماهي معه، وسلوكيات مثل النفاق والتذلل، الكبت، الإزاحة، التبرير، التسامى، الإسقاط، التكوين العكسي، التثبيت، التوحد (التقمص)، النقل، التحويل، التعويض، الإنكار، التخيل، الإبدال، السلبية، الانسحاب، العدوان، النكوص..إلخ. فالغاية هي الوصول للقوة، ولتحقيق حالة توازن داخلي للفرد. وهذا ما قد يفسر ظاهرة قبول معظم الناس للخضوع للسلطة القاهرة، كآلية تعويضية؛ فلا يمكن لأحد أنْ يتسلط على الناس دون أنْ يكون لديهم الاستعداد للخضوع.

وهناك حالتان للوجود الفردي: الأنا المستقلة، وهي مدركة لذاتها، وتستطيع أنْ تأخذ وتعطي بتوازن وباسقلالية، اعتمادًا علي مصادرها الداخلية – الأنا الضعيفة، وهي التي لا تستطيع الوجود بمفردها، فتلجأ لأحد آليتين تعويضيتين: إما أنْ تقهر الأنا الأخري وتسيطر عليها (الشخصية السادية) وإما أنْ تدمج نفسها مع أنا أخري (الشخصية التابعة أو الخانعة). فالبشر عمومًا لديهم ميول متعددة وقدرات متباينة تؤدي إلى هذه الظاهرة أو تلك. فالمرء يسعى إلى تحقيق المكانة، وإذا فشل يلجأ لآلية الخضوع للتماهي مع الأقوى، لكن إذا فشلت هذه الآلية هي الأخرى وصارت الحياة لا تطاق، فقد يلجأ إلى آليات أخرى: الهروب والبحث عن ملاذ، أو العصيان، وأنْ يهب ثائرًا، وفي الحالات القصوى قد تظهر لديه نزعة تدميرية للآخر في صورة العنف الفردي أوالثورات المدمرة، وحين يعجز عن تدمير الآخر فقد يلجأ إلى تدمير نفسه؛ فالشخص المسحوق يكون عدوانيًّا أو جاهزًا للعدوان مع ظهور الإمكانية.

من الأمثلة الساطعة على اختلاف آليات تحقيق القوة، سلوك قبائل البدو وقبائل الفلاحين في الماضي. فالبدو في العادة فقراء ويعانون شظف العيش، فيتسمون بالعدوانية والجرأة واليقظة لعدم شعورهم بالأمان، أما الفلاحون فيحققون القوة بالإنتاج الوفير، فيكون مسالمين، وأكثر ديموقراطية من البدو، وفي العادة يشعر البدو تجاه الفلاحين بالحسد ويمتلكهم الطمع فيهاجمون الفلاحين لسرقة ممتلكاتهم. وينطبق الشيء نفسه على قبائل الفلاحين الفقيرة التي أصابها الجدب. وإذا أردنا أنْ نمد هذا الكلام على استقامته، لقلنا إنَّ نزعة التعصب للقوم، والعنصرية، تنبعان من الرغبة في السيطرة، وإلى الحسد والطمع والجشع.. آفات الجنس البشري، وهي ضمن آليات تحقيق القوة. بل وُجد الميل إلى الأخذ بالثأر في كافة الحضارات، كآلية دفاعية. وحتى إظهار ضعفها أحيانًا يلعب دور الآلية الدفاعية (من ذلك مثلًا خطاب المظلومية الذي تتبعه بعض الجماعات؛ منها الصهيونية وجماعة الإخوان المسلمين). وضمن آليات تحقيق القوة العمل من أجل المستقبل؛ ادخار وسائل المعيشة والعنف والسيطرة.

وفي سبيل موازنة الأنوية وحفز الغيرية، أو عمل توازن، ابتكر الناس قيمًا "إنسانية" عامة، وكثير من الشعوب أضفت عليها طابعًا مقدسًا، بنسبتها إلى تعاليم الآلهة. ومع ذلك فشل ذلك في دفع الناس إلى تسييد الحب والتعاون، ذلك أن الأنوية – حتى الآن - أقوى من الغيرية.

- يميل الذهن البشري إلى الكشف عن العلاقات بين الأشياء والظواهر، وهو قادر على التجريد والتحليل والاستنتاج، ويستخدم هذه القدرة في إنتاج المفاهيم والفكر المجرد، وهي لا تعني مجرد الرغبة في التفكير، با هي آلية للسيطرة والتحكم في البيئة، تساهم في تسهيل سد حاجات البشر. إن الرعب من الطبيعة وتقلباتها وعدوانها المستمر يدفع الإنسان للسعي إلى فرض سطوته عليها وتوظيفها لحسابه. هذا السطوة تتطلب معرفة العالم؛ معرفة الضرورة حتى يمكن استخدامها، وهذ إحدى أهم دوافع التقدم وصناعة الحضارة. ومع ذلك فهو لا يفعل ذلك طول الوقت، بل حين الحاجة فقط، إلا أنه طول الوقت يتصرف وفقُا للاوعيه بشكل أساسي.

- الحاجات البشرية لا تنتهي أبدًا، ولا يوجد أبدًا شيء اسمه الحاجات الأساسية المنزوعة من الزمان والمكان، فهي نسبية دائمًا، ومتغيرة. ونقطة البدء هي تأمين الحاجات المباشرة، وكلما حقق البشر درجة من التقدم ظهرت لهم حاجات جديدة لا غنى عنها. وعلى سبيل المثال قرر الناس أن يستروا أجسامهم من البرد والحر، فلبسوا جلود الحيوانات، وحين اتضح أنها خشنة قرروا البحث عن مصادر أخرى، فظهرت صناعة الملابس من النباتات، وترتب عليها ضرورة صناعة أدوات إنتاج للغزل والنسيج، ثم الأصباغ، ثم تطوير هذه الصناعة للتناسب مع تكاثر السكان، ثم احتاج الأمر لإنتاج المعادن لصناعة الآلات وغيرها، وهكذا سار تطور الحياة الاقتصادية.. أما الحروب فتطلبت استخدام العصي والحجارة، ثم مع استمرار الصراعات ظهرت الحاجة إلى المعادن، ولعبت المنافسة بين الجماعات البشرية دورًا هامًّا في تطوير الأسلحة. ومع ظهور التبادل صار خفض تكلفة الإنتاج أفضل، كما صارت النقود ضرورية بما يستلزم ذلك من صناعة. بل إنَّ صناعة الدواء تطلبت أيضًا إنتاج عقاقير مضادة لآثارها الجانبية، أو تطويرها، نظرًا لهذه الآثار.. ولذلك فحاجات البشر لا متناهية ولن تكتمل أبدًا. وهناك ضرورة إشباع الحاجات النفسية الغريزية، والاستمتاع، والهروب من الواقع المؤلم؛ العالم القاسي بتحقيق إنجازات أو الهروب إلى خيالات وأوهام، وهو ميل لكل من الفرد والإنسان كنوع. المبدع لا يشبع أبدًا، ولا يشعر بالرضا، فيريد المزيد من النجاح، بل حتى الغني لا يكتفي بما حققه رغم أنه قد يجمع ثروة طائلة، فيسعى للمزيد. إنه يحتاج لهذا الإنجاز وإلى المزيد بلا نهاية؛ إنه في حالة كفاح مستمر من أجل النجاح. فإذا قرر المرء أنْ يكتنز المال فنهمه له لا يتوقف، لأن القيمة لا سقف لها، وهو يشعر بالفقر وبالحاجة في نفس الوقت، ويخشى على ضياع ثروته، فينميها باستمرار. وكما ذهب ماركس "كل ما لا تستطيع صنعه يصنعه مالك"[23]. وإذا توقف هؤلاء الأشخاص عن تحقيق المزيد من النجاح أصيبوا بالعصاب، بل هناك شك كبير، خاصة لدى فرويد، في أنَّ كفاحهم وراؤه حالة عصاب واضطراب في الشخصية[24]. كذلك الجماعة البشرية لم ولن تكتفي بما حققته من تقدم ورفاهية، وسوف تستمر في العمل من أجل المزيد. كل الإبداعات هي تعويض عن شعور ما بالنقص والضعف وقلة الأمان، إنها مسعى إلى تحقيق القوة، سواء المادية أو المعنوية. لقد وجد الإنسان نفسه ملقى في الكون بلا معين، معرضًا لغضب الطبيعة المخيف، ومحتاجًا للحماية دون أنْ يجدها، وهو وضع شديد الصعوبة. إنه محتاج للأمان الذي لا يكتمل أبدًا، وكلما حقق خطوة على طريق المعرفة والتقدم أمكنه تحقيق درجة أعلى من الأمان، ويظل الأمان المطلق حلمًا في طريقه إلى أنْ يوجد، دون أنْ يتحقق فعليًّا، فهذا يشترط أنْ يصبح الإنسان إلهًا، وهو المستحيل. ولأن الأمان هو شرط للحرية، نجد أنَّ البشر يمكنهم التضحية بحريتهم من أجل الأمان، وهذا يفسر لنا ظواهر اجتماعية كثيرة.

- توجد لدى النفس البشرية غرائز إرضاء الذات، شاملة حفظ الحياة وتجنب الألم والسعي إلى اللذة؛ الجنسية وغيرها، بالإضافة إلى غريزة الحفاظ على النوع. هذه الأغراض الأولى هي أساس الأنانية، والثانية هي أساس الإيثارية والتعاطف والمشاركة الوجدانية. وقد يتصرف الناس، فرادى أو جماعات بأيٍّ منهما حسب الظروف؛ حسب نوع ومستوى الخطر المحدق بالفرد والجماعة. فالحب الأبوي غريزي، ينطوي تحت غريزة استمرار النوع، تحت تأثير الجينات المتماثلة، وقد أثبتت بعض الدراسات أن حب الأم أو الأب للابن البيولوجي يفوق حبهما للابن بالتبني[25]، مما يعزز هذه الفكرة. أما حب الذات، فيبدأ منذ المولد؛ فالطفل أناني تمامًا (أو حتى نرجسي)، وهو يبدأ في التنازل عن أنانيته شيئا فشيئا مع إدراكه للآخر، لكن يظل كل إنسان أنانيًّا بقدر ما أو آخر، بمعنى سعيه إلى الحفاظ على ذاته وتحقيق اللذة وتجنب الألم، وبالتالي تفضيل نفسه على الآخرين، سواء بشكل مباشر؛ أنانية مباشرة، أو بآليات غير مباشرة، تتضمن التعاون مع الآخرين وتقديم العون لهم، والحب، انتظارًا لنفس المعاملة. فالغاية هي الذات في النهاية. ولا شك أنَّ الحضارة تلعب دورًا كبيرًا في خلق آليات الحفاظ على الذات وضبط هذه الغريزة نفسها، بما تخلقه من مثل وقيم، مثلما تؤثر في مختلف الغرائز البشرية. ومن الضروري أنْ يكون هناك توازن بين غريزتي الحفاظ على الذات والحفاظ على النوع، حتى لا تتسبب الأنانية في القضاء على النوع، إلا أنَّ الثقافة قد تصل في تأثيرها على المشاعر والسلوك البشري إلى حد خلق ميول تدميرية، تهدد حتى الحياة بأسرها، خاصة في عصر أسلحة الدمار الشامل.

يشكل التعارض بين الأنانية والغيرية مصدرًا للعصاب؛ فالفرد يطلب من الجماعة الأمان والحماية، ويندمج معها من أجل نفسه، وفي هذا السبيل يضطر للخضوع إلى ضغوطها، فيعاني الكبت والصراع الداخلي، وينتابه شعور بالذنب، إما خوفًا من العقاب المجتمعي، أو خوفًا من تأنيب الضمير. ويستمر الصراع بين الأنوية والغيرية داخل وخارج الفرد.. فالحضارة مأزومة طول الوقت، وكما قال فرويد: "الإنسان المتحضر منافق"[26].

والجماعة مثل الفرد، نرجسية إلى هذا الحد أو ذاك، حتى الجماعات داخل المجتمع الواحد، مثل الجماعات المهنية، والمؤسسات الاجتماعية، وهذه النزعة ضرورية لتطور الجماعات وحصولها على عناصر القوة وحماية نفسها. لكنها قد تتطرف لتنتج عنها أوهام وخيالات وعنصرية ونزعة عدوانية ضد الجماعات أو المجتمعات الأخرى. وقد وصف إريك فروم الأولى بالنرجسية المنتجة، والثانية بنرجسية خبيثة، تعتمد على صفات أو ممتلكات[27].

لقد فشلت كل الدعاوى الأخلاقية وكل الأديان في تهذيب هذه النرجسية، مما يعني أنها نزعة أصيلة في النفس البشرية.

- هناك نزعات موجودة لدى الجنس البشري، ليست بالضرورة جينية، منها الطمع والحسد والجشع والعدوانية والسادية والنرجسية؛ فلا يتسم كل الناس بهذه السمات ولا في كل العصور ولا كل الظروف. لكن توجد على الأقل إمكانية فطرية لاكتسابها، مثلما توجد إمكانية فطرية لاكتساب نقيضها. والأمر يتوقف على مختلف ظروف نشأة الفرد، والظرف الاجتماعي العام، والخبرات المتراكمة لكل جماعة..إلخ. والسؤال الذي يلح بهذا الخصوص هو: لماذا يلجأ الناس للعدوان والاستغلال والجشع..إلخ دون حلول أخرى لمشاكلهم؟ لماذا لا يسود الحب والتعاون والاكتفاء، إلا إذا كانت هناك ميول غريزية تدفع دفعًا لتلك السلوكيات "الشريرة"؟ في الغالب - كما أعتقد – هذه الميول المتناقضة هي جزء من الطبيعة البشرية، ليست جينية بالضرورة، لكنها تنشأ في نفس البشر كنتيجة لتفاعل ميولهم الغريزية مع تكوينهم الجسماني، مع طبيعة التكوين الاجتماعي العام، مع الخبرات الحياتية العامة المتوارثة عبر تاريخ البشرية.

- تلعب الغريزة الجنسية دورًا مهمًّا في حياة البشر، وهي أساسية للحفاظ على النوع، وإلى اللذة في حد ذاتها. وهنا يختلف الإنسان والحيوانات العليا (الشمبانزي والدولفين) مع الكائنات الأدنى؛ فغالبية الكائنات الحية لا تستمتع بالجنس وتمارسه فقط للتكاثر[28]. وعدم إشباع هذه الغريزة يؤدي إلى العصاب بالتأكيد. وضمن الميول البشرية اهتمام الأب بالأطفال (وكذلك الشمبانزي) وهو اهتمام يحتاجه الطفل أيضًا. تفسر لنا الغريزة الجنسية اهتمام الأفراد بأن يكونوا جذابين للطرف الآخر، بآليات عديدة تشمل تحقيق المكانة، والصحة الجيدة، والتجميل. وقد تتسبب في المنافسة بين الناس، والصراع. ولا شك أنَّ الغيرة الجنسية تلعب دورًا مهمًّا في تكوين الشخصية، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي سلوك الأفراد. وهي آلية دفاعية لمواجهة التهديد بفقد الرفيق، وقد كان لها دور في تحريم زواج الأقارب المقربين، ضمن عوامل أخرى.

- يختلف أفراد النوع البشري بيولوجيًّا ونفسيًّا. فردود الأفعال ليست واحدة، ومستوى الذكاء متباين، وكذلك المواهب والقدرات الطبيعية، كما تتباين التجارب الخاصة، ربما منذ تكون الجنين. يوجد هذا الاختلاف رغم وجود طبيعة بشرية، ويخلق ما يسمى بالشخصية. توجد بالطبع شخصية اجتماعية، تتكون وتتغير حسب تغير الظروف الاجتماعية، وفي الخلفية توجد مكونات الطبيعة البشرية، وتشكل هذه الشخصية نواة شخصيات الأفراد المتباينة. وهذه يمكن تعريفها بأنها: مجموع الخصال والطباع المتنوعة الموجودة في كيان الشخص باستمرار، والتي تميزه عن غيره وتنعكس على تفاعله مع البيئة من حوله بما فيها من أشخاص ومواقف، سواء في فهمه وإدراكه أم في مشاعره وسلوكه وتصرفاته ومظهره الخارجي، ويضاف إلى ذلك القيم والميول والرغبات والمواهب والأفكار والتصورات الشخصية[29]. وتتميز شخصية الفرد من واحد لآخر لعوامل عدة؛ فهناك فروق جينية (ليس من المستبعد أنْ تكون المطاوعة أو النزوع للسيطرة راجعين إلى الوراثة[30])، ودور للهرمونات، وتكوين جسماني متباين؛ الشكل وحجم الجسم ووزنه وقوة العضلات ومدى وجود عيوب خلقية أو أمراض مكتسبة، وحتى ترتيب الشخص في أسرته يؤثر في تكوينه النفسي[31]. ناهيك عن طريقة التربية، وما يتعرض له من تجارب خاصة، بغض النظر عن النظام الاجتماعي؛ مثل وفاة أحد الأبوين أو الإخوة أو الأصدقاء، أو مرضه، التعرض للحوادث والأمراض المختلفة، العلاقات داخل الأسرة، ظروف المعيشة وحالة الأسرة ومكان الإقامة، مدى الإشباع العاطفي والجنسي، كما يؤثر في تكوينه مدى اهتمام الكبار به وبسد حاجاته، وطريقتهم في العناية به، ومدى الفارق بينه وبين من حوله في القوة والقدرة. وهناك أفراد يتمتعون بقدرات خاصة أو خارقة للمعتاد، هي الموهبة، أو العبقرية (الفرق بينهما غير واضح)، وهي في الغالب نتيجة عامل جيني، وقد ينتبهون لها فينتجون إبداعات خاصة، وقد لا ينتبهوا إليها فتظل خامدة. وربما يمتلك كل إنسان مواهب معينة لكنها لا تتحقق إلا إذا سمحت له ظروفه الخاصة بإبرازها. من أمثلة ذلك إنتاج طفل صغير لمقطوعات موسيقية (هايدن مثلًا)، أو حل مسائل الرياضيات المعقدة بدون ورقة وقلم أو آلة حاسبة، أو التنبؤ باختراعات مستقبلية (دافنشي كمثال).. إلخ. وتتحقق القدرات الخاصة في اتجاهات متباينة بين فرد وآخر، حسب بقية سماته الشخصية وظروفه الاجتماعية. وتختلف درجة الذكاء حسب عوامل بيئية وتربوية عديدة، مع دور للجينات[32]. ونؤكد ملاحظة هنا؛ إنَّ هناك فروقًا جينية بين الأبناء والأبوين، بفضل الطفرة، التي تبلغ للفرد الواحد في كل جيل 1.62 طفرة[33]، وهي بوجه عام تكون ضارة، ولها علاقة بمعدل الذكاء والأمراض العقلية وغيرها.

إنَّ التفاعل بين الميول الغريزية الطبيعية، وخصوصًا الدافع الأنوي بمختلف مكوناته وظروف كل فرد تولد تشكيل الشخصيات المختلفة، فنجد ضمن ذلك عديدًا من الشخصيات، يدرسها علم النفس حسب ما يطلق عليها نظرية العوامل الخمسة[34]. ويلعب الدافع الأنوي دورًا أساسيًّا في خلق المشاكل النفسية الخاصة بالجنس، والطمع والعدوانية والجشع والرغبة في السيطرة والسادية.. إلخ.

ومن أهم الشخصيات وأكثرها خطورة على تماسك الجماعة: السيكوباتية، وهي تتسم بـ: ـتجاهل القوانين والأعراف - تجاهل حقوق الآخرين - غياب الضمير وعدم الشعور بالندم - الميل إلى العنف والهياج الشعوري الشديد، شاملًا الغضب الجامح - تقلب الأهواء - العصبية والاستثارة بسهولة - قد يكون مهمشًا اجتماعيًّا وغير متعلم، لكن في الغالب يكون ذو مركز اجتماعي مرموق - عدم القدرة عى الاستقرار في عمل محدد أو مكان واحد مدة طويلة - يمكنه أن يتعاطف مع أشخاص بعينهم فحسب، ويمكنهم الانخراط في مجموعة والارتباط بشخص أو أكثر، لكنه لا يندمج في المجتمع والالتزام بقواعده - الجرائم اتي يرتكبها تكون عفوية وغير مخططة. والرأي الغالب أنَّ هذه الشخصيات تنشأ بسبب عوامل البيئة مع دور للعامل الجيني وإصابات المخ[35].

- ومع ذلك لا نستطيع وصف الإنسان كنوع بأنه خير أو شرير؛ فالميول الغريزية هي كذلك وحسب، أما القيم المعيارية فهي من إنتاج الحضارة. والغرائز – كما ذهب فرويد - تحقق أغراضًا وعكسها كذلك، فقد تكون أنانية ثم تصبح غيرية أو العكس، وقد تؤدي إلى القسوة أو إلى الرحمة، أو تتبادلهما[36]. وقد يجتمع الحب والكره معًا، فالحب يعني العطاء؛ فهو قوة، لكنه ضعف أيضًا؛ إذ يعني الاحتياج للآخر. بل ذهب إريك فروم إلى أنَّ الحب بين الجنسين يتضمن الكراهية، وهي المشاعر الأصلية التي تعود للظهور حين يخبو الحب، في صورة حسد وطمع وعداء ورغبة في التملك[37]. كذلك قد يتحول المرء من السادية إلى حب الآخر، وقد يصير شخص دمثٌ ورقيق وحشًا ضاريًا في ظروف معينة. ومن حقائق الطبيعة البشرية انَّ الإنسان آكل للحوم وللنباتات.. عنده نزعتان: العدوان والسلام.. فأكل الحوم يستلزم القتل، عكس أكل النباتات (النبات لا يملك جهازًا للإحساس بالألم). ومن الظواهر الملفتة - حسب فرويد – أنَّ القبائل القديمة كانت تتحارب ويقاتل بعضها البعض، وفي نفس الوقت تمارس طقوسًا تعبر عن الندم على قتل العدو.. فالقتل يعامل كعمل مشروع وغير مشروع في ذات الوقت. وهذا يدل على أنَّ العدوان لم يكن يهدف إلى القتل، بل إلى تحقيق السيطرة، وانتزاع الثروات والنساء، أو إثبات الوجود والإعلان عن القوة. وقد بينت عديد من الدراسات الأنثروبولوجية ميولًا متعددة لجماعات البشر البدائية، تتراوح بين المسالمة الشديدة إلى العدوانية وحتى حب القتل، ومن الطيبة والوداعة إلى حب الغدر والسادية[38].

لو كان الإنسان "خيرًا" بطبعه لما احتاج لإنتاج الدعوات إلى القيم والمثل العليا، ولو كان "شريرًا" بطبعه لما تطلع الاهتمام بعمل الدعوات إلى "الخير".

حاول بعض المفكرين وعلماء النفس تبرئة الجنس البشري من الميول الغريزية للعدوان دون أنْ يبرروا لماذا لجأ البشر إلى "الشر"، وكل ما قدم هو الدوافع التي تقف وراء هذا السلوك، من عدوان دفاعي، إلى عدوان وسيلي (لتحقيق هدف آخر) إلى ندرة الإمكانيات، إلى النظام الاجتماعي القائم..إلخ. في الواقع الإنسان يسعى إلى تأمين حياته وفي سبيل ذلك يلجأ إلى كل السبل، وهو يملك القدرة على اتباع كل السبل، ولم تنجح الثقافة في توجيهه أيَّ وجهة.

- الوعي الجمعي: أو الضمير الجمعي، هو في الواقع لاوعي جمعي، لأنه مغروس في أعماق النفس، غير مدرك بالعقل، وهذا لا علاقة له بمفهوم يونج الغامض، الذي يرى أنَّ اللاوعي الجمعي هو عبارة عن نماذج بدائية أو صور جمعية تتضمن الصور الأزلية البِدئية، التي انوجدت ما قبل تاريخ النوع البشري، وهي لم تكن أصلًا جزءًا من الوعي، ويمكن الكشف عنها من تحليل الأحلام، وهي عبارة عن نماذج غريزية، تشكل جزءًا من الذهن، تارة يقول إنها موروثة وتارة ينفي ذلك، لكن غالبًا يعني أنها موروثة جينيًّا، تشبه مقولات كانت[39]. والأمر يتعلق بنفسية الجماهير؛ ليس أيِّ تجمع، بل جماهير متعايشة لمدة طويلة، مرت بتجارب مشتركة، وخاضت حياة مشتركة. وعند دوركايم يتضمن الضمير الجمعي ما هو أوسع من الحياة النفسية للمجتمع[40]، وهو يضعف مع اتساع تقسيم العمل الاجتماعي. لكل مجتمع ميول معينة، يسميها – نقلًا عن كتيليه – نموذًجًا محددًا، تعيد غالبية الأفراد إنتاجه بنحو أكثر أو أقل دقة، في حين أنَّ الأقلية وحدها تميل إلى الابتعاد عنه بتأثير دواع مقلقة ومشوشة[41]. فهناك ميل إلى التقليد لدى الفرد العادي، وميل إلى اتباع الأغلبية، تسمى بوعي القطيع (إريك فروم) أو وعي العشيرة (فرويد)، وهو ميل مهم للتعلم وانتقال الخبرة، كما أنه آلية للتأقلم والخضوع، ويؤدي للفرد ضمانة لحماية الأغلبية التي يتبعها. ويميل هذا النموذج إلى التغير البطيء نسبيًا بالمقارنة مع النموذج الفردي.

وهنا لابد أنْ نشير إلى إنجازات جوستاف لوبون[42] في هذا المجال، مع وجود بعض التحفظات. وضمن ما قدمه من إسهامات رصده لظاهرة تحرك الجماهير تحت تأثير اللاوعي (متفقًا مع فرويد)، وأنَّ التكتل البشري يمتلك خصائص مختلفة جدًّا عن خصائص كل فرد يشكله، ويتميز بالروح الجماعية، كما أنَّ الكفاءات العقلية للبشر وفرديتهم تذوب في الروح الجماعية، والفرد المنخرط في الجمهور يكتسب شعورًا بالقوة ويفقد الشعور بالمسؤولية. كما تنتقل المشاعر بين الأفراد بالعدوى، ويصاب الجمع بالتنويم المغناطيسي.

وضمن اللاوعي الجمعي يوجد جزء بشري عام، موروث من الخبرات البشرية الطويلة المشتركة بين مختلف الجماعات البشرية أو معظمها. وقد تتضمن تلك الخبرات الخوف من كائنات بعينها، حب مناظر معينة. فمن المؤكد أنَّ مختلف البشر قد تعاملوا في الماضي مع حيوانات كانت منتشرة، أو بشر أسبق في سلم التطور، وقد استخدموا طرق حياة متشابهة منذ ما قبل اكتشاف النار والزراعة، وسلكوا مسالك متشابهة تجاه الظواهر الطبيعية التي لم يفهموها، وتجاه الأحلام والأمراض والكوارث الطبيعية..إلخ. لقد عاشت أصناف عدة من البشر لمدة مليوني سنة، ومنذ ثلاثة عشر ألف سنة فقط أصبح الإنسان العاقل هو الصنف الوحيد على الأرض[43]. ومن المحتمل جدًّا أن أساطير مثل الغول، والبشر العماليق، والأقزام ليست أساطير في الواقع؛ فقد وجد عماليق وأقزام بالفعل، وبشر متوحشون كذلك، من المؤكد أنهم محفوظون في الذاكرة البشرية[44]. وقد يكون هذا اللاوعي أساسًا لوجود ضمير إنساني عام، ومشاعر التضامن بين بني الإنسان.

وتقدم نظرية الميمات ما قد يفسر هذه الظاهرة. والميمات هي عبارة عن وحدات ثقافية، تشبه فيروسات الكمبيوتر، وهي قابلة للتكاثر والانتشار والتوارث، بالضبط مثل الجينات. وقد ابتكر هذا المفهوم ريتشارد داوكينز[45]، ثم توسع البحث فيه فصار علمًا. وهذه الميمات مكتسبة؛ من إنتاج البشر، سواء بشكل متعمد أو تلقائي، وهي لبنات تشكل المشاعر والثقافة العامة للشعوب. فلأي شعب ثقافة هي عبارة عن مخزن الميمات في عقول أبنائه، هذه الميمات تتنافس معًا، ويعمل الانتخاب الطبيعي على إبقاء الأقدر منها علي التكيف مع المجتمع ككل. وهي كذلك ضمن أدوات السيطرة الأيديولوجية للسلطة من كل صنف[46]. يحدد اللاوعي الجمعي السلوك العام وردود أفعال غالبية أفراد المجتمع، دون طمس الفروق التفصيلية بين فرد وآخر. ومن الميمات التي تنتقل ميم التسلط. فتعرض إنسان للقهر يدفعه إلى قهر الآخرين، كآلية تعويضية لاسترداد الشعور بالقوة، فتصبح نزعة التسلط شاملة المجتمع ككل وليس فقط الطبقة الحاكمة. أما في الظروف المهمة، كالملمات والكوارث أو الانتصارات نجد أنَّ الجماعة تتصرف بنفس الطريقة في وقت واحد، دون أيِّ تنسق مسبق، وتزداد قوة اللاوعي، ويحدث أسرع للميمات داخل المجموع، كما تصبح الميمات المشتركة في المقدمة.

من مكونات الوعي الجمعي: بنية اللغة، والدين أو المعتقد عمومًا، والمقدسات، المثل العليا، والقيم السائدة، الأساطير.. ورغم الفروق بين أعضاء المجتمع، وحتى تناقض المصالح والغايات، إلا أن كل مجتمع ينتج ويحافظ على مشاعر وأفكار وحتى مقدسات جمعية، وتكون ثابتة خلال فترة زمنية طويلة، تمنحه شخصية معينة وقدرًا من الشعور بالانتماء المشترك. ومن مظاهر الوعي الجمعي طريقة الشعوب في الاحتجاج، والهستيريا الجماعية في حالات الكوارث والحروب، وهي تنتقل بالإيحاء والتأثير والتقليد، والتعاطف المتبادل. ومنها أيضًا التفاف جماهير غفيرة حول زعيم وتقديسه، التعصب الجماعي لفريق رياضي، العنصرية الجماعية.. وفي الانتفاضات الضخمة يتأثر الفرد بقوة الجمع، فيصاب - كما أشار جوستاف لوبون - بحالة تشبه التنويم المغناطيسي، فيسير في ركاب المجموع دون حسابات، فلا يهاب الموت، كما يفقد الشعور بالمسؤولية؛ فيخترق القانون، ويتحرر من الشعور بالدونية أمام السلطة، ويتجاوز الأنوية؛ فيكون أقدر على التضحية في سبيل المجموع. في هذه الحالة يكون انتشار عدوى التمرد سهلًا، وتسود روح التعاون، ويظهر مخزون الجماعة من اللاوعي إلى الوعي.

ولكل شعب لاوعيه الجماعي الذي يميزه. وقد يفيد هنا أنْ نذكر وصف سوزوكي للفرق بين الذهن الشرقي (شرق آسيا) والغربي كالآتي، دون أنْ نقع في التعميم ومع بعض التحفظ واعتبار التغيرات الحديثة: "فالذهن الغربي تحليلي، تمييزي، تفريقي، استقرائي، فرداني، عقلاني، تعميمي، مفهومي، تخطيطي، غير شخصي، قانوني صارم، تنتظيمي، مستخدم للقوة، مؤكد للذات، ميال إلى فرض مشيئته على الآخرين، وما إلى ذلك. ومقابل هذه السمات الغربية فإن الشرق يمكن أنْ توصف سماته كالآتي: تركيبي، إجمالي، تكاملي، غير متحامل، استنتاجي، غير منظم، دوغمائي، حدسي (أو بالأخرى عاطفي)، غير استطرادي، ذاتي، وهو روحيًّا فرداني واجتماعيًّا جماعي الذهن"[47].

إنَّ قيام الشعب الروسي بإنشاء السوفيتات في ثورتي 1905، 1917، واعتياد أهل باريس على إنشاء المتاريس في كل ثوراتهم، اعتياد الفيتناميين في هباتهم التوجه إلى الغابات وصناعة السهام وإطلاقها، لهي مظاهر للوعي الجمعي، وفي مصر كان قيام الجماهير في طول وعرض البلاد وفي نفس الوقت بإنشاء اللجان الشعبية أثناء انتفاضة 28 يناير 2011 نتاجًا لوعيها الجمعي.

- ظاهرة التسامي: وهي اتجاه الناس إلى أنشطة "راقية" مثل الفن والبحث العلمي، والرياضة. فقد يسعى الإنسان إلى تحقيق ذاته حين يشبع حاجاته البيولوجية، مثلما ذهب ماسلو[48]، أو في تحويل الدافع الجنسي إلى أنشطة بديلة ذات قيمة ثقافية اجتماعية، فيتم توجيه الدوافع والرغبات غير المقبولة اجتماعيًّا إلى مجالات مقبولة، كما ذهب فرويد[49]. وهذا مجرد تحقيق للقوة الكامنة داخله؛ إعلان عن قوته، وسعيًا إلى تحقيق مكانة أعلى. بغض النظر عن التفسير، فالتسامي ظاهرة إنسانية (وحيوانية أيضًا؛ فالحيوانات تلعب) والواضح أن الناس تستمتع باللعب وممارسة الفن، وغير ذلك من أشكال التسامي. سواء بممارستهما أو بتلقيهما سمعيًّا أو بالمشاهدة. بل قد يدخل كلاهما في العمل أيضًا، ولا يحب الناس العمل المحض، أي بدون استمتاع، والذي يحرمهم من ممارسة الفن؛ المهارة الشخصية، أو يفتقد لعنصر المتعة؛ التسلية. وقد اختلف علماء النفس في تفسير هذه الظواهر.

- مشكلة الموت: هذه المأساة واجهت البشر على مدى تاريخهم. يصاب الإنسان السليم بالشيخوخة مع الوقت؛ فهو يتجه إلى الموت منذ ولادته. وقد ولد اليقين بهذه النهاية شعورًا بالعجز وعبث الحياة، ودفع البشر للبحث عن علة الوجود، وعن الخلود دون جدوى. فقد ابتكروا أفكارًا مثل فكرة البعث، الروح (بمعنى عفريت الميت)، ازدراء الحياة "الدنيا" لصالح الحياة الدائمة في الآخرة، تناسخ الأرواح، تحريم القتل، محاولات إطالة العمر بتطوير الطب، وحديثًا ابتكار فكرة تجميد الجسد، والبحث عن جينات الشيخوخة.

غريزة الموت: مع السن والمرض يتلاشى أمل الفرد في الحياة، فيتمنى الموت، ويحدث الشيء نفسه إذا فقد الأمل في الحياة لأيِّ سبب، أو إذا أصبحت الحياة أقسى مما يمكنه تحمله. وبعض الناس يلجأ للانتحار، بدوافع متعددة: أزمة اجتماعية – عذاب الضمير – أزمة صحية - أزمة نفسية غير معروفة السبب. وليس كل من يواجه نفس الظروف ينتحر، بل تتباين ردود الفعل، ويبدو أن الميول المشتركة للجماعة (أيْ تخص كل مجتمع) تلعب دورًا مهمًّا، يعزز ذلك ثبات المعدل الاجتماعي للانتحار، كما ذهب دوركايم[50]. وهذا المعدل قليل جدا (300-400 على الأكثر لكل مليون[51]) مما يعني أن غريزة الحياة أقوى بكثير.

تتخذ غريزة الموت حين يتلاشى الأمل في استمرار الحياة صورة النزعة التدميرية، سواء للفرد أو للجماعة، وهذا يصبح واضحًا في لحظات الانفجارات الشعبية المدمرة، فالجماهير تصاب بحالة جنون بسبب فقدان الأمل، فيصبح تدمير العالم هو خيارها المفضل. فعلى قول فروم النزعة التدميرية هي نتيجة الحياة غير المعاشة[52].

- الفروق النفسية بين الذكور والإناث: الفروق البيولوجية واضحة ومعروفة: وزن الجسم عمومًا (12% أكثر للذكور)، وحجم العظام وقوة العضلات، فالمرأة أضعف بدنيًا من الرجل، رغم أنها قد تكون أقوى فسيولوجيًّا. كما أنَّ المرأة هي التي تحيض وتحمل وتنجب وترضع وتربي الأطفال في بداية حياتهم، وهذا يستهلك منها الكثير بدنيًا. كل هذا يؤدي إلى اختلاف الدور الاجتماعي والميول. فعلاقتها بالأطفال مختلفة عن علاقة الذكور بهم، بغض النظر عن نظام التزاوج القائم. كما أنَّ مهمة القتال والزراعة والصناعة اليدوية ألقيت منذ بداية التاريخ على عاتق الرجل أساسًا. هذا الفرق في القوة وفي المهمات الاجتماعية يخلق مشاعر مختلفة، شعورًا بالقوة من جانب الرجل، وشعورًا بالضعف والغيرة والحسد من جانب المرأة، تعمل على تعويضه بآليات متعددة. وبوجه عام الذكور في البشر أكثر عدوانية للحصول على موارد الآخرين من الإناث، ربما لعوامل جينية، يضاف أنَّ هرمون التستوستيرون أكثر في الذكور من الإناث ابتداء من سن البلوغ، وهو يؤثر في السلوك، فيكون الذكر أكثر عدوانية وعنفًا من المرأة، وتكون القدرات والجاذبية الجنسية أكبر لدى الذكر الذي ينتج كمية أكبر من هذا الهرمون. وحسب علم النفس التطوري يبدأ الفارق في استخدام القوة البدنية بينهما في سن الثالثة[53]، وفي هذه السن يتساوى معدل التستوستيرون في الاثنين، مما يشير للعامل الجيني. وقد وجد أنه من بين عشرة ملايين نوع من الحيوانات يوجد اثنان فقط يقومان بشن هجمات منسقة مميتة على جماعات من نفس النوع، بمبادرة من الذكور، هما الإنسان والشمبانزي[54]. ولم يتم رصد أيَّ كائن لديه ظاهرة الاستمتاع بتعذيب الآخر وقتله سوى الإنسان.

- الوجود ورطة؛ فالإنسان ظهر في العالم دون إرادته، ولم يختر هذا الكون الذي يعيش فيه، وهو يدرك أنه متميز على الطبيعة التي هو جزء منها، وهو مضطر أنْ يعيش تحت ضغط غريزة الحياة، ومضطر إلى مواجهة الطبيعة والتي يعتبرها ملكًا له، والسعي إلى السيطرة عليها، لأنها تضغط عليه، ولا يستطيع أنْ يتخلص من قوانينها، فيتحايل عليها لتخدمه، وهو عاجز عن اتخاذ قرار بالانتحار لأن غريزة الحياة أقوى من غريزة الموت. بل يعرف أيضًا أنه سيموت، فيلجأ إلى العمل على إطالة عمره، وتربية أولاده، والمحافظة على استمرار النوع البشري.. إنه في صراع دائم مع ظروف بقائه، دون أنْ يرى أيَّ مبرر لوجوده ولا لوجود العالم. إنه يدرك كل هذا، ولذلك يعيش في ورطة.. كما تبدو الحياة مجرد عبث بلا قيمة، وهذا وذاك ضمن دوافعه لابتكار الأيديولوجيا، في محاولة لجعل العالم معقولًا وذو قيمة.





(ملاحظة: تفاصيل المراجع ستذكر في نهاية الكتاب)
[1] مناظرة بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو حول الطبيعة الإنسانية، عام 1971، ص 23.

[2] ممن ذهب هذا المذهب الوجوديون، مثل جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني.

[3] تناولها بالتفصيل في كتاب: المجتمع السوي.

[4] الطبيعة البشرية، ص 35.

[5] Theses On Feuerbach, 6

[6] The Grundrisse, NOTEBOOK II, The Chapter on Capital

[7] مخطوطات 1844.

[8] استعرضها سكوت ليلينفيلد وآخرون في كتاب "أشهر خمسين خرافة في علة النفس".

[9] وليم لامبرت – والاس لامبرت، علم النفس الاجتماعي، ص ص21 – 22.

[10] Anti-Dühring, V. State, Family, Education.

Origin of The Family, Private Property, And The State.

[11] Handbook of Personality, pp. 34-35

[12] ألفريد أدلر، الطبيعة البشرية، ص 30.

[13] Handbook of persnality, p. 40

[14] part 1, section 5, chapter 4 The Materialist Conception of History,

[15] فروم، الخوف من الحرية، ص 224.

[16] على سبيل المثال توجد ظاهرة إدمان السكر، والنشويات عمومًا، واسعة الانتشار في العالم كله، وهي تعد حالة مرضية، وهي من أهم انتشار السمنة ومرض السكر في العصر الحديث. والسبب في هذا الإدمان غير مفهوم جيدًا، لكنه في الغالب يتشابه إدمان المخدرات.

[17] أدلر، الطبيعة البشرية، ص 40.

[18] فروم، الخوف من الحرية، ص 34. يعتبر فرويد أن الكبت الجنسي هو الدافع للتقدم، وهو رأي يبدو مغاليًا جدًّا، ففي الحقيقة الكبت الجنسي، أو تنظيم الجنس، هو نتاج الحضارة.

[19] الطوطم والتابو.

[20] في كتابه: The Elementary Forms of the Religious Life

[21] Sapiens, A Brief History of Humankind,pp. 30-34

[22] Handbook of persnality, p. 41

Economic & Philosophic Manu-script-s of 1844[23]

[24] أنطوني ستور، العبقرية والتحليل النفسي، ضمن كتاب "العبقرية"، الفصل الثاني عشر.

Handbook of persnality, p. 44-45[25]

[26] الحب والحرب، ص 24.

[27] جوهر الإنسان، ص 102 وما بعدها.

[28] Jared Diamond, why is sex fun

[29] عبد الكريم الصالح، تحليل الشخصيات وفن التعامل معها.

[30] وليم لامبرت – والاس لامبرت، علم النفس الاجتماعي، ص 41.

[31] تم تناول هذه الظاهرة بواسطة وليم لامبرت – والاس لامبرت، المرجع السابق، ص ص 62-67.

[32] Robert Plomin, Is Intelligence Hereditary?

[33] Handbook of Personality, p. 50

[34] نجدها تفصيلًا في: Handbook of personality, chapter 5

[35] Handbook of personality, pp. 52-53

[36] الحب والحرب، ص 19.

[37] فن الحب.

[38] استعرض بعضها إريك فروم، تشريح التدميرية البشرية، الفصل الثامن. وهو قد بذل جهدًا كبيرًا للبرهنة على أنَّ ظاهرة التدميرية والقتل ليست فطرية في الإنسان.. وكان عليه أنْ يجيب على هذا السؤال: إذا كان الأمر كذلك فلماذا استجابت عواطف الإنسان للمؤثرات فمارس التدمير والعدوان؟!

[39] تناول هذا الأمر في كتابه The Archetypes and The Collective Unconscious، وفي "البنية النفسية عند الإنسان"، الفصل الرابع والخامس، وفي كتاب "جدلية الأنا واللاوعي"، الباب الأول، الفصل الأول، وفي : دور اللاشعور ومعنى علم النفس للإنسان الحديث، الفصل الأول.

[40] The Division Of Labor In Society, p.80

[41] الانتحار، ص ص 385 – 386.

[42] كافة الآراء المنسوبة إليه هنا من كتابه المهم: سيكولوجية الجماهير.

[43] Sapiens, A Brief History of Humankind, p.9 ,Yuval Noah Harari

[44] pp.14-15 Op.cit.

[45] The selfish gene, chapter 11

[46] Richard Brodie, Virus of the mind, chapter 8,

[47] مقال: الشرق والغرب، ضمن كتاب: بوذية الزن والتحليل النفسي.

[48] A. H. Maslow (1943), A Theory of Human Motivation

[49] الحب والحرب والحضارة والموت، ص 49 – 57.

[50] الانتحار، ص 384.

[51] المرجع السابق، ص 388.

[52] الخوف من الحرية، ص 148. وقد وصفها أيضًا بأنها بديل الإبداعية في كتاب: المجتمع السوي، ص 144.

[53] دافيد باس، علم النفس التطوري، ص 579.

[54] نفس المرجع، ص 570.