عن حلم الكرد في دولة


سلامة كيلة
الحوار المتمدن - العدد: 5649 - 2017 / 9 / 24 - 10:38
المحور: القضية الكردية     



القيادات الكردية شمال العراق تريد عمل استفتاء لتقرير مصير إقليم كردستان، رغم معارضات عديدة من الحكومة المركزية والأحزاب (ومنها حزب كردي)، ومن إيران وتركيا، ودعوات أميركية روسية للتريث في الخطوة. لكن الإصرار قائم الى الآن على إجراء الاستفتاء، رغم كل ذلك. وكل ذلك سيضع المنطقة في حالة استنفار، وتوتر، حيث أن كل من إيران وتركيا يتحسس ما يمكن أن ينتج عن هذه الخطوة فيما يتعلق بوضع الكرد في البلدين، حيث أن وضعهم هناك مشابه لوضع أكراد العراق. ولهذا تميلان الى التشدد، وتسعيان الى إفشال الخطوة، أو في حال تحقق انفصال الكرد سوف تقومان بحصار الإقليم، وهي خطوة ممكنة حينها، بالتوافق مع الحكومة المركزية في بغداد، الأمر الذي سيطيح بأحلام الأكراد، لأن الوليد الجديد سيُخنق.
هذا يعني أحد أمرين، إما التوافق مع بغداد لكي يكون للدولة الكردية الجديدة منفذاً خارج سيطرة الدولتين هاتين، واللتين لن تقبلا حتماً بدولة كردية شمال العراق، أو ربط هذه الخطوة بخطوات في كل من إيران وتركيا لكي يكون ممكناً تشكيل دولة كردية قوية، دولة الأمة الكردية. بدون أحد هذين الخيارين ليس من الممكن أن تنجح أي خطوة نحو الاستقلال في شمال العراق، وسيكون مصير الأكراد هناك صعباً. فالمسألة لا تتعلق بالعراق كما هو واضح، ربما إلا للذين يريدون إغماض العين، والتعلق بأمل محق دون فهم الوضع الجيوسياسي المحيط.
طبعاً، ليست هذه هي المشكلة الوحيدة، وهي كبيرة وخطيرة، بل سنلمس مشكلات تتعلق بمنظور القيادات والأحزاب الكردية ذاتها، التي تعيش حالة من “الغلو” يدفعها الى تضخيم حجم المناطق التي تعتبر أنها كردية، بما يفتح مشكلات مع القوميات الأخرى. وبالتالي فهي هنا تدخل في صراع مزدوج: مع الدول التي تسيطر على الأرض الكردية، ومع شعوب المنطقة، وهو أمر يضرّ بالضرورة بالمسألأة الكردية، ولا يفضي الى تحقيق حلم حقيقي ومشروع.
فأولاً، لا أعارض الاستفتاء، وأعتقد أن حق الكرد في إقامة دولة مستقلة وموحدة أمر حتمي، ويجب أن يكون ضمن أجندة كل تحرري وثوري، ويساري. حيث أنه دون بناء “الدولة/ الأمة” ستبقى مشكلات التعايش قائمة، ويظلّ الميل للتعصب القومي أمراً لا إمكانية لكبحه. فالتعصب القومي تنتهي أساسات وجوده حينما تتحقق المسألة القومية، أي حين يعيش الشعب في “دولة/ أمة”، فهذه هي “طبيعة” العصر، وهي ضرورة لتوافق الشعوب وتعايشها. ولا شك في أن أمم المنطقة تعيش حالة تقسيم وخلط، بالتالي ستكون إعادة البناء على أساس “الدولة/ الأمة” مسألة عامة تخصها جميعاً، ليعاد بناء الدول القائمة على هذا الأساس. وهو الأمر الذي يفرض اعتراف كل أمة بالأمم الأخرى وبحقها في العيش في دولة موحدة، دولة/ أمة. ويفرض تحالف الشعوب من أجل تحقيق ذلك بشكل مشترك، حيث أن المسألة القومية في الشرق تتعلق بأمم عديدة (العرب، الكرد، الترك، الفرس، الأذر، والبلوش،والأرمن ….)، وفيما عدا الفرس والترك نجدها موزعة بين دول متعددة، حيث أن أجزاء من أمم موزعة ضمن الدولة التركية، والإيرانية، وفي دول عربية، والعرب موزعون لدول، وجزء منهم ملحق بالدولتين التركية والإيرانية. وكل ذلك يفرض توافقاً يقوم على الاعتراف بمبدأ “الدولة/ الأمة”، والتعاون من أجل الوصول الى ذلك. ولا شك في أنه دون تعاون الشعوب سيكون الوصول الى هذا الحل مستحيلاً، بالضبط نتيجة توافق الدول القائمة على سحق هذا الميل التحرري الوحدوي الذي تحتاجه الشعوب.
لكن، وُجدت مشكلات في سياق التطور التاريخي لا بدّ من تناولها بشكل صحيح، وأساس ذلك هو التداخل السكاني الذي حدث خلال مسيرة الشعوب، وخصوصاً في العقود الأخيرة، بعد تشكّل الدول القُطْرية العربية والدولتين التركية والإيرانية. وهو الأمر الذي كان يعني “الحق” في التنقل والإقامة في إطار الدولة، وكان الوضع الاقتصادي يفرض ذلك. أو فرض الصراع ضد الدول التي قامت الى ترحال فرض واقعاً جديداً في بلدان أخرى.
ليس أمر الترحال جديداً، فقد مرت قرون دون استقرار سكاني، ونشأت أمم جديدة في أرض كانت لشعوب أخرى. وتحقق نشوء الأمم بعد عقود من الاستقرار، رغم أن “التوسع” ظل قائماً قبل أن تتحدد حدود الدول، والتي كانت غير مرتبطة، في الشرق، بالأمم، بل بتوازنات الصراع العالمي. فقد استقرّ الأتراك على أرض كانت يونانية، وأرمنية وعربية، في زمن قريب (1300/ 1500). ووجود الأكراد أقدم كثيراً من الترك، حيث استقروا بداية في شمال غرب إيران الحالية، وجزء من شمال العراق، وامتدوا غرباً نحو مناطق استقرار العرب والسريان في شرق وجنوب شرق تركيا الحالية. وباتت هذه أرضهم إذا نظرنا من منظار تاريخي. وفيها تشكّلت الأمة الكردية. والتي من حقها أن تصبح دولة أمة.
المشكلة تكمن، ليس في كل ذلك، بل فيما تطرح معظم الأحزاب الكردية، وجزء من النخب، حول “خريطة كردستان”، لتشمل مناطق هي خارج التشكيل التاريخي للوجود الكردي. وحتى يتطرف البعض لتكون كل المنطقة هي كردية، وأن العرب طارئون، وأن الكرد هم “أصل” المنطقة. لهذا يجري ضم مناطق متداخلة سكانياً، وليس فيها أغلبية كردية الى كردستان، منها كركوك، وحتى الموصل، والجزيرة السورية وحتى كل شمال شرق سورية (وهذا ما طرحه أصلاً حزب العمال في منظوره لكردستان). هذا التطرف لا يسمح بالوصول الى حلّ، ولن يفيد المسألة الكردية، التي تعاني أصلاً من تحالف كل من إيران وتركيا والعراق ضدها. وحتى الدول العظمى ليست معنية بحق تقرير المصير للشعب الكردي، وكل سياساتها تقوم على استغلال التناقضات من أجل تثبيت وجودها وتحقيق مصالحها، من أميركا الى روسيا. ولا شك في ان التطرف القائم لدى كل هؤلاء مبني على فهم خاطئ لمواقف هذه الدول، وتوهُّم انها ستدعم حق الأكراد في الاستقلال وفي دولة موحدة. أميركا طرحت تفكيك العراق الى ثلاث دول، لكنها أرادت تشكيل “إمارات” وليس دولاً حقيقية، وتحت سيطرتها، دون أن تسمح بتوحيد كردستان العراق مع كردستان إيران وتركيا. لكن هذا الأمر ليس سهل التمرير، بالضبط لأنه يصطدم برفض إقليمي، وبالتالي بارتباك السيطرة الأميركية على العراق (التي عادت لتفرضها تحت حجة الحرب ضد داعش). وبالتالي كان الموقف الأميركي واضحاً في الدعوة لتأجيل الاستفتاء، والتهديد بأنه إذا ما شمل الاستفتاء “المناطق المتنازع عليها” سوف تقطع العلاقة مع الزعامات الكردية، وأنه إذا شمل فقط الإقليم الكردي فيمكن أن “تسكت”. وفي هذه الحالة ربما تبقى نتيجة الاستفتاء مؤشراً تستغله هي للضغط على الحكومة المركزية فقط.
بمعنى، لا بدّ من التفكير في الأمر دون مراهنات على دول عظمى، ويجب أخذ مصالح الشعوب بعين الاعتبار، حيث لا بد من التفكير في كل كردستان وليس في جزء منها، لأن هناك استحالة لتحقيق حلم دولة فيه، لأن الأمر يتعلق بصراع مع دول إقليمية يجب التحالف مع شعوبها من أجل تغييرها لتحقيق هذا الحلم. ولا شك في ان صراع حزب العمال الكردستاني (PKK) طيلة عقود لم تحقق شيئاً في تركيا، لأن الجزء لا يستطيع تغيير الكل، بل يجب تغيير النظام بنظام يوافق على حق تقرير المصير لكي يتمكن الأكراد من الاستقلال. وهذا الأمر ينطبق على إيران وكذلك على العراق.
بالتالي، لن يفيد هنا التمسك بمناطق لم تكن تاريخياً أرض كردية، سواء في سورية أو في العراق (وربما في تركيا وإيران). وللتمييز بين أرض كردية وأخرى عربية (ولن أتناول هنا تركيا وإيران) يمكن البدء من الوضع قبل نشوء “الدول الحديثة”، أي دولتي سورية والعراق، وتحديد طابع الوجود البشري في المنطقة، وأي المناطق الكردية التي ضمتها معاهدة لوزان سنة 1923 الى العراق (وحتى إذا كان هناك مناطق في سورية). وكذلك أي المناطق العربية السريانية التي جرى ضمها الى الدولة التركية الحديثة (وحيث جرى ضم لواء الاسكندرون بعد إذ). إن هذا التحديد يؤسس الأرضية لتفهّم المشكلة، ويُظهر التغيرات الديموغرافية التي حدثت بعدئذ. والتي أنشأت تداخلاً بشرياً يحتاج الى حلّ مختلف عما يمكن طرحه ضمن الحدود التاريخية لكردستان. فقد سمح وجود الدولة العراقية بالهجرة من الأرياف الى المدن، فكركوك شهدت وجوداً كردياً ضمن ذلك، كذلك الموصل، ومناطق أخرى. وفي سورية كانت ثورات الكرد ضد الدولة التركية تفرض الهجرة الى سورية، ولهذا بات هناك وجود بشري كردي في الجزيرة السورية (وهناك وجود كردي في مناطق أخرى متفرقة في سورية ولبنان وفلسطين، نشأ خلال وجود الدولة العثمانية).
هذا الوضع بات يؤسس لوجود أقليات في تلك المناطق، وإذا كان من حق الأمم الاستقلال والوحدة فإن من حق الأقليات أن تكون جزءاً من الشعب، ولأفرادها حق المواطنة ككل الشعب، لكن لها حقوق قومية تتمثل في التحدث بلغتها وأن تدرس بها، والتعبير عن تراثها وثقافتها، وكذلك لها أن تشكل كياناً ذاتياً إدارياً وثقافياً في مناطق تمركزها. ويمكن البحث في مراحل تالية في شكل من أشكال الارتباط بينها وبين “الدولة الأم” (أي الدولة القومية). لكن يظل واضحاً أنها تقيم على أرض أمة أخرى.
هذا هو الحل الممكن، الذي يجب أن تتوافق عليه الشعوب وهي تخوض الصراع من أجل تشكيل “الدولة الأمة”، وكذلك وهي تتحالف من أجل تحقيق استقلالها معاً، وتطورها وحداثتها. وهو الأمر الذي يعني خوض صراع مشترك ضد كل النظم في المنطقة التي تمنع استقلال ووحدة هذه الأمم، وبناء تصوّر مستقبلي يوحّد منظوراتها، ويسمح بنهضتها. بالتالي يجب أن يكون واضحاً أن الكرد وحدهم ليس بمقدورهم الوصول الى الاستقلال، لا في كردستان العراق ولا في كردستان عموماً، حيث أن التوافق الإقليمي سوف يُجهض كل محاولة، وأن الدول العظمى ليست معنية جدياً في دعم حق الأكراد رغم اختلاف بعضها مع إيران أو مع تركيا، ورغم السياسات الأميركية التي طرحت مسألة تقسيم العراق. ففي معاهدة سيفر (1920) كان هناك توافق بين الدول المنتصرة على قيام دولة كردية لكن أهمية تركيا فرضت التخلي عن الفكرة في معاهدة لوزان (1923). حيث أن المصالح تطغى على المبادئ، وعلى الوعود، وعلى حق الشعوب بالطبع.
لهذا يجب الاعتراف المتبادل بالحقوق بين كل هذه الأمم، والإقرار بالحق في تشكيل “الدولة/ الأمة”، والانطلاق من منظور تاريخي في فهم وجود الأمم وحدود انتشار الشعوب، وهنا سيكون تشكيل “الدول الحديثة” هو الحدّ الذي يبدو علمياً في هذا التحديد، ومن ثم تحديد حقوق الأقليات القومية في حدود الدولة الأمة. وكذلك الانطلاق من تحالف الشعوب لتحقيق ذلك دون توقّع دعم، أو المراهنة على دعم دول عظمى أو إقليمية، فهذا المسار مناقض لمصالح الدول العظمى، والدول الإقليمية، وهو مسار تحقيق نهضة وتطور الشعوب، وتشكّلها في دول حديثة تعبّر عن مصالح طبقاتها الشعبية، ومنظورها لتكتل أممي يتجاوز الرأسمالية.