حول «الماركسية التاريخية» نقاش مع سمير أمين


سلامة كيلة
الحوار المتمدن - العدد: 6947 - 2021 / 7 / 3 - 20:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يبدو أن منظورات د. سمير أمين للعالم الراهن تنبني على فهم لا يختلف عن الماركسية الرائجة في الأخير، رغم أنه يبدو مَنْ رفضَها مشيراً إليها بتعبير «الماركسية التاريخية». فهو ينطلق من أنها تتمحور «حول قضية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية»1.، ليصل إلى تقسيم العالم إلى أميركا و«أنتي أميركا» (anti-America)، حيث يتشكل العالم الجديد من الصراع بينهما.



لينين و«الماركسية التاريخية»

هذا التمحور لـ«الماركسية التاريخية» حول الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية يرتبط بـ«إنجاز الثورة وبناء الاشتراكية»، ويؤكد أمين أن «هذه النظرية» تبلورت «انطلاقاً من لينين»، ويلخصها في أربع نقاط، هي الآتية:
1.لابد من أن يؤدي صعود الصراع الطبقي الأساسي (الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا) إلى الثورة الاشتراكية على صعيد عالمي.
2.ينطلق التحرك نحو الثورة ذات البعد العالمي من تلك البلدان (مثل روسيا ثم الصين) التي تمثل «الحلقات الضعيفة» في المنظومة العالمية، وذلك لأسباب يجب اكتشافها وتوضيحها.
3.يمكن بناء الاشتراكية في تلك البلدان، بالرغم من تخلّفها الموروث من تاريخ التوسع الرأسمالي على صعيد عالمي.
4.يتجلّى الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية في التضاد والمنافسة بين النظامين، أي نظام الدول الاشتراكية من جانب، ونظام الدول التي ظلّت أسيرة الرأسمالية من الجانب الآخر.

ويؤكد سمير أنّ فكر ماركس «لا يتلخص في هذا المنهج» الذي ساد «الماركسية التاريخية»، الأمر الذي يشير إلى نوع من المغالاة المجرّدة والتبسيط لفكره، كما يظهر في النقاط الأربع سالفة الذكر، حيث «الماركسية المبسّطة» «تكاد تهتم فقط بصراع الطبقات في تفسيرها للتاريخ».

بهذا يكون لينين هو مؤسس «الماركسية التاريخية» أو «الماركسية المبسطة» وما يحكمها هو «صراع الطبقات». من يدقق في النقاط الثلاث الأولى يعتقد بأن سمير أمين يتحدث عن تروتسكي وليس عن لينين، خصوصاً أنه يشير في مكان آخر إلى فكرة لينين حول «الثورة الدائمة»2، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٤، ص ٧٩.، ليظهر كم أن الاختلاط يخترق ما يقوله. وليظهر كم أنه يتجاهل الصراع الذي جرى بداية القرن العشرين، وعلى أثر ثورة سنة ١٩٠٥ في روسيا حول طبيعة الثورة ودور الماركسية. وبالتالي يتجاهل أنّ الصورة التي يعطيها لـ«الماركسية التاريخية» تتناقض جذرياً مع «الماركسية الرائجة»، التي تعممت بالضبط منذ أواسط ثلاثينيات القرن العشرين، وليس قبل ذلك، والتي شكّلت استمراراً لـ«ماركسية الأممية الثانية»، وليست بأي حال من الأحوال استمراراً للينينية، رغم أنها تظلّلت بها، وسمّت الماركسية «الماركسية اللينينية».

في «موضوعات نيسان» التي طرح لينين فيها ضرورة الاستيلاء على السلطة وإقامة «دكتاتورية البروليتاريا» يؤكد أنّ الأمر لا يتعلق بـ«تطبيق» الاشتراكية. وفي الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر، يشير إلى تحقيق «المهمات الديمقراطية» وليس الاشتراكية. هذا المنظور اللينيني انبنى على فهم للواقع الروسي، حيث لم تكن الثورة الديمقراطية قد تحقّقت، والأغلبية الفلاحية تفرض سياقاً يكون الهدف فيه هو تحقيق المهمات الديمقراطية. لهذا رفض منطق تروتسكي الذي دعا سنة ١٩٠٥ إلى «دكتاتورية البروليتاريا» والاشتراكية، كما رفض منطق المناشفة الذي ينطلق من تحقيق هيمنة البرجوازية. وهنا، من جهة لأن البنية المجتمعية «الإقطاعية» تفترض الانتقال إلى الحداثة قبل الاشتراكية، ومن جهة أخرى لأن الطبقة العاملة قليلة العدد وضعيفة.



لهذا حين يشير د. سمير إلى أن الاشتراكية كانت الهدف لدى لينين يكون قد ارتكب مغالطة شديدة الوضوح. وأيضاً حين يعتبر أن «الماركسية التاريخية» قد انطلقت من أنّ صراع البرجوازية والبروليتاريا سوف يؤدي إلى الثورة الاشتراكية، يكون كذلك قد ارتكب مغالطة أشدّ وضوحاً، لأنّ «الماركسية التاريخية» التي تمثّلت في ما سمّاه الياس مرقص «الماركسية السوفياتية»، كرّرت هدف الأممية الثانية التي دعت إلى إعطاء البرجوازية كل الوقت من أجل أن تتطور وتنتصر. ولا شك في أنّ فكرة «أن يؤدّي صعود الصراع الطبقي الأساسي (الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا) إلى الثورة الاشتراكية على صعيد عالمي» هي فكرة تروتسكي وليس لينين ولا «الماركسية التاريخية»، اللذين كانا ضدّها. وهذا ما يشير لينين إليه في كتابه «خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية»، حيث ينتقد المناشفة أساساً، لكنه ينتقد فكرة تروتسكي في السياق. بالتالي يظهر هنا الخلط بين لينين وتروتسكي، ولكن كذلك بين «الماركسية التاريخية» وتروتسكي. فالخلاف مع «الماركسية التاريخية» ليس في أنها تطرح فكرة تروتسكي، ولا فكرة لينين، بل تطرح فكرة المناشفة والأممية الثانية، الذين كانوا يعتقدون بأن التطور التاريخي لا زال يفرض فسح المجال لتطوّر الرأسمالية لا لتجاوزها نحو الاشتراكية. وخلافها مع لينين ينطلق من أن الأخير توصل إلى أن البرجوازية موصولة الرحم مع الإقطاع، لهذا فهي عاجزة عن تحقيق ثورتها، وهو الأمر الذي جعل تحقيق المهمات الديمقراطية ملقى على عاتق الماركسية والطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بالتحالف مع الفلاحين المتوسطين والبرجوازية الصغيرة المدينية.

ولهذا لم يطرح لينين «بناء الاشتراكية» في هذه البلدان «بالرغم من تخلّفها الموروث من تاريخ التوسع الرأسمالي على صعيد عالمي»، بل انطلاقاً من تخلفها الموروث، اعتبر أنّ المهمات الديمقراطية تقتضي تصنيعاً وكهربة روسيين وإدخال الثقافة الأوروبية لها. وهو الأمر الذي جعله يطرح مفهوم «رأسمالية الدولة»، حيث تلعب الدولة دوراً جوهرياً في البناء والتحديث، بغضّ النظر عن التقييم الممكن الآن لهذه الخطوة.

لقد كان هَمّ تجاوز التخلّف هو الذي يحكم رؤية لينين وليس تحقيق الاشتراكية التي كان يرى أنها وهمية في مجتمع مخلَّف. ولا شك في أنّ كل ما كتب في السنوات التالية لثورة أكتوبر يشير إلى ذلك بالتحديد، وهو الأمر الذي جعله يطرح «الخطة الاقتصادية الجديدة» التي تدعو الرأسمال الأجنبي إلى أن يستثمر في روسيا.

أمّا «الماركسية التاريخية» التي تبلورت في الاتحاد السوفياتي في ظل السير في تحقيق الاشتراكية بعد إلغاء الملكية الخاصة، فقد عمّمت «نظرية المراحل الخمس»، و«حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية»، وبالتالي وضعت الحركة الشيوعية في سياق وحيد هو دعم «التطور الرأسمالي»، وحتمية انتصار الرأسمالية، تحت شعار «تحقيق مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية»، أو في ما بعد شعار «استكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية»، التي تُعرف في كل الأحوال بطابعها البرجوازي. وبهذا تجاهلت تماماً الطابع الاستقطابي للعالم الذي صاغته الرأسمالية، وظلت تفكّر في سياق تطوري «تقليدي» يكرر مسار أوروبا. وهذا أساس جوهري في فشلها، لأنها راهنت على مشروع وهمي، هو المشروع البرجوازي، بينما مسار التاريخ كان يسير في واد آخر.

الآن، هذا العالم المستقطب هو الذي فرض أن تكون الثورة «من تلك البلدان (مثل روسيا ثم الصين) التي تمثل – الحلقات الضعيفة – في المنظومة العالمية». وهذا هو تحليل لينين وماو والشيوعيين الفيتناميين والكوبيين، وهو الذي فرض انتصار الثورات فيها، عكس الحركة الشيوعية التي كانت تعتنق «الماركسية التاريخية» التي ظلت تنتظر «غودو»، تنتظر البرجوازية التي ستنجز ثورتها لكي يكون ممكناً طرح هدف تحقيق الاشتراكية. هل في ذلك خطأ؟ إنّ اعتبار هذه الفكرة خاطئة يعني التخلّي عن الفكرة الأساسية التي ينطلق منها د. سمير أمين حول الطابع الاستقطابي للعالم. هذا الطابع الذي منع إمكانية الثورة، وليس الثورة الاشتراكية فقط، في المراكز الإمبريالية، تحديداً نتيجة «الريع الإمبريالي»، لكنه فتح إمكانية الثورة في الأطراف، التي هي ليست اشتراكية، لكنها كذلك ليست برجوازية. وبهذا تتجسّد فكرة لينين هنا بالضبط.



يتوضّح، بالتالي، أن د. سمير لا يناقش هنا «الماركسية التاريخية» بل يناقش تروتسكي، لكن عبر لينين من جهة و«الماركسية التاريخية» من جهة أخرى. فكلاهما طرح ما هو مختلف مع تروتسكي، والثورة الاشتراكية العالمية. ولا شك في أنّ خلط لينين مع «الماركسية التاريخية» يشكل «حبل إنقاذ» لهذه الأخيرة التي هي في النزع الأخير. كذلك يشوّه منظور لينين الصحيح، ويعيد تشويش آفاق التطوّر في الأطراف، وفي العالم، وهو ما يظهر من الفكرة التي يطرحها د. سمير حول «الانتقال الطويل إلى الاشتراكية»3، وهو الأمر الذي سيناقش تالياً.

ما بقي من «النقاط الأربع» هو «الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية»، «التضاد والمنافسة بين النظامين». لا شك في أنّ هذا «قانون» «الماركسية التاريخية» الذي كان يوجّه نشاطها، ويحدّد صراعاتها على الصعيد العالمي. فهذه هي «سمة العصر» التي تحكم بالتالي كل تناقضاته. سنوضح ابتداءً أن هذا «القانون» لم يتبلور زمن لينين بل في سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، بينما طرح لينين التحالف مع «حركة شعوب الشرق التحررية». وهنا ليس لينين معنياً بهذه النقطة التي حكمت السنوات الأخيرة من عصر ستالين واستمرت حتى بعد طرح شعار «التعايش السلمي».

ولا شك في أنّ «سمة العصر» هذه توحي بأن الثورة الاشتراكية هي السياسة التي حكمت «الماركسية التاريخية»، لكنّها في الواقع لم تكن كذلك، لأن السياسة العملية التي طرحتها الحركة الشيوعية تمثلت كما أشرنا سابقاً في «استكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية» البرجوازية الطابع، وهو المبدأ الذي يحكم بقاياها إلى الآن، بمرحلة انقطاع عاشتها وهي تعتقد بأن «حركات التحرر الوطني» التي انتصرت بعد الحرب الثانية سائرة نحو الاشتراكية، أو هي اشتراكية، إذ ترسخت في هذه المرحلة فكرة أن «سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية»، لكن خارج ذلك كانت تبدو كتحديد بمركزة الصراع بين الإ مبريالية الأميركية والاتحاد السوفياتي، وحيث يجري الاصطفاف خلف «الرفيق الأكبر» في هذا الصراع العالمي، وبالتالي في سياق مناقضٍ للسياسة العملية التي تقوم على دعم التطور الرأسمالي. وهو الأمر الذي أنتج فكرة البرجوازية الوطنية، التي تسعى إلى «الاستقلال» عن المراكز الرأسمالية، وتحقيق التطور المحلّي. ولهذا جرى «تلخيص» سمة العصر هذه في اعتبار أنّ الإمبريالية الأميركية هي «العدوّ الرئيسي»، والانطلاق من أنّ التناقض الأساسي هو معها، وتحديد أن «قوى الثورة العالمية» هي البلدان الاشتراكية (وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي) والطبقة العاملة في البلدان الغربية وحركات التحرر الوطني التي تسعى إلى الاستقلال.

ولسوف نلمس تالياً كيف أن د. سمير قد وصل إلى النتيجة ذاتها، بالتحديد في اعتبار أن الإمبريالية الأميركية (أو الثالوث، كما يكرّر دائماً المحكوم بالسيطرة الأميركية، والمكوّن من كل من أميركا وأوروبا واليابان) هو «العدو الرئيسي»، ومن ثمّ (وبعد انهيار الاشتراكية)، ومن هذا المنظور يعود إلى مسألة «الاستقلال» عنها كأساس لتحديد القوى «الثورية» التي ستحقق الانتقال الطويل إلى الاشتراكية.

هذا ما يظهر في تحليله لوضع روسيا، روسيا بوتين بالتحديد، حيث تظهر المراهنة على «الوطنية» التي تفرض الاستقلال، وبالتالي مواجهة الإمبريالية الأميركية، كما ظهر في الملف السوري، وفي إيران وأوكرانيا كما يشير 4.



روسيا في المنظومة العالمية 5

هنا سنلمس أنّ د. سمير ينطلق، كذلك، من الصراع العالمي، ومن منظور محورية الإمبريالية الأميركية، وبالتالي «وطنية»، و«استقلالية»، و«تحررية» الدول التي «تتصارع» معها. وربما كانت الوطنية والاستقلالية سمتين حتى للرأسمالية ذاتها، حيث ينشأ التنافس بين الرأسماليات على هذا الأساس. لكن هل يوضع ذلك في سياق مشروع تحرّري، أو يصبح جزءاً من الطريق الطويل إلى الاشتراكية؟

هذا ما يقوله د. سمير بالضبط وهو يناقش وضع روسيا في المنظومة العالمية. وهو هنا ينطلق من التعارض الحاصل مع الإمبريالية الأميركية بالأساس، وليس من التكوين الطبقي الروسي، ومن طبيعة الرأسمالية المسيطرة، التي ترسم سياسة الدولة. يشير د. سمير إلى أنه «يبدو أن بوتين قد بدأ يدرك مدى التدمير الذي أصاب الاقتصاد الروسي» في المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي يوصّفها بأنها وضعت روسيا في «وضعية تخومية»، حيث إنّ البرجوازية الروسية (وبرجوازيات الجمهوريات المستقلّة) «قبلت أن تتحوّل إلى برجوازيات كومبرادورية». وبالتالي بات «يعتمد نظام السلطة على طبقة – وسطى – جديدة نشأت مع التحوّل الكمبرادوري». لكنّه يكمل بأنّ هناك «إشارات توحي بأن بوتين بدأ يدرك خطورة الموقف»، ليصل إلى معنى الإدراك الذي يشير إليه، فـ«يبدو أن بوتين قد أدرك أن الغرب لا يزال عدواً لروسيا»، ويعتمد في ذلك على «مواقفه الجريئة التي اتخذها في مواجهة الأزمات الدولية الأخيرة (سورية، إيران، أوكرانيا)»، وأنه «أدرك أن الإمبريالية لم تزل تمثّل الخطر الرئيسي على صعيد عالمي».



يشير هنا إلى «الشعور الوطني»، إذ إنه يمتدح تعبئة الشعور «الوطني» في الخطاب السوفياتي، الذي «وجد صدى ملحوظاً لأنه قام على حقائق – العداء للإمبريالية». لهذا بات «الشعور بالوطنية الروسية يقوم بدور إيجابي» اليوم «في ظروف صعود عداء الغرب لروسيا». بالتالي فإن «المراهنة» على بوتين نابعة من هذا التوصيف لحالة «العداء المتبادل» بينه وبين «الغرب». الأمر الذي يشير إلى أنه يسعى إلى إقامة «رأسمالية دولة مستقلة» هو هذا. طيب، ما علاقة ذلك بتكوين الطبقة الكمبرادورية المسيطرة، التي كان قد أشار إليها؟ أليست السلطة السياسية هي التعبير عن مصالح الطبقة المسيطرة؟ هنا نضع يدنا على إشكالية التحليل الذي يغلّب السياسي على الطبقي، ويتمحور حول «العداء للإمبريالية»، التي هي فقط الإمبريالية الأميركية (أو الثالوث المسيطر عليه من قبل الإمبريالية الأميركية).

يقول د. سمير »ثم بعد مضي سنوات ظهرت مرة أخرى إشارات تدل على أن بعض أقسام الطبقة السياسية الحاكمة (ولا بد من التمييز بين هذه الطبقة المسؤولة عن إدارة السياسة وبين الطبقة الحاكمة في المجال الاقتصادي، بالرغم من التحالف الذي يربطهما معاً) أصبحت تدرك مدى الكارثة. ويبدو أنّ بوتين ينتمي إلى هذه المجموعة واستغلّ الفرصة للصعود في سلم السلطة»، ليشير إلى أنها توجّهت توجهاً جديداً في ثلاثة مجالات، إثنان منها يتعلّقان بالسياسة الخارجية والموقف من «العرب». لكن ما يهمّنا هنا، أنّه يؤكد الآن أن الأمر لا يتعلق ببوتين وحده بل بـ«مجموعة من الطبقة السياسية الحاكمة»، التي «أدركت مدى الكارثة»، ولهذا قرّرت سياسة جديدة.



الطبقي والسياسي

نلمس هنا أنّ الأشخاص الذين يديرون الدولة باتوا يشكّلون طبقة، «طبقة سياسية» كما يسميها د. سمير، رغم أنه يشير إلى «تحالفها» مع «الطبقة الحاكمة في المجال الاقتصادي». وهو بالتالي «تحالف» مع الطبقة الاقتصادية. في الماركسية تعتبر الدولة أداة الطبقة المسيطرة، وهذا تعريف علمي، ليس من السهل دحضه. بالتالي فإنّ «الإدارة السياسية» للدولة هي أداة الطبقة المسيطرة. كيف إذاً يمكن أن تنطلق من أنّ هناك طبقتين، واحدة اقتصادية تحكم الاقتصاد وأخرى سياسية تحكم الدولة؟ وتعبير «تحالف» هنا غير علمي، حيث إن قوّة «الطبقة السياسية» في الدولة نابعة من تمثيلها للطبقة الاقتصادية المسيطرة. لهذا ليس من الممكن فصل بوتين عن الطبقة المسيطرة في الاقتصاد، ولا اعتبار أنه يعبّر في سياساته عن «الطبقة السياسية» عن السياسات التي من المفترض أن تتناقض مع الطبقة الاقتصادية لكونها طبقة، كما وصّفها، كمبرادورية.

هل الدولة فوق الاقتصاد؟ وأليست السياسة هي التعبير المكثّف عن الاقتصاد؟ هذه أفكار ماركسية، لكن هل وضع روسيا يشير إلى رؤى جديدة في هذا المجال النظري؟

سنحلّل هذا الأمر، لكن قبل ذلك لا بدّ من أن نستوفي النقاش حول «الطبقتين»، السياسية والاقتصادية. إن تحرير المستوى السياسي من قاعه الاقتصادي يعني أن هيغل قد عاد للوقوف على رأسه بعد أن أوقفه ماركس على قدميه، إذ إن «أهم مكتشف» حققه ماركس هو التأكيد أنّ البنية الاقتصادية وما يقوم عليها من طبقات هي الأساس لفهم الدولة والفكر في كل التاريخ6. لهذا فإنّ الفكّ بين هذا وذاك، واعتبار أنّ لكل سياقَه الخاص «رغم التحالف»، يعني العودة إلى منظور مثالي ينطلق من السياسي، من الدولة والملك أو الرئيس، كمحدِّد للتطور، للاقتصاد والمجتمع.



ولا شك في أنّ هذا هو المنظور الذي حكم «الماركسية التاريخية»، والذي يظهر هنا جلياً. الانطلاق من السياسة كمحدِّد. هذا باختصار هو إرث «الماركسية التاريخية»، والذي يتجلّى هنا بوضوح شديد، حيث التفسير انطلاقاً من السياسات، وربط الصيرورة بالأشخاص. وهو المنظور الذي يدرس الصراعات العالمية انطلاقاً من المستوى السياسي، من مستوى طبيعة العلاقات بين الدول. ويحدِّد الطبيعة الطبقية للنظم تأسيساً على ذلك وليس تأسيساً على طبيعة البنية الطبقية «المحلية» (أو القومية). لهذا باتت روسيا دولة «معادية للإمبريالية» لأنها اختلفت مع الإمبريالية الأميركية في سورية وإيران وأوكرانيا، ولأنها تمتلك «ميلاً استقلالياً». وهذا بالضبط ما يجعل بوتين و«الطبقة السياسية» (أو جزءاً من الطبقة السياسية كما يشير د. سمير) مختلفين عن الطبقة الكمبرادورية المسيطرة. هو تأليف تركيبي يعتمد على «إدراك أنّ الغرب لا يزال عدوّاً لروسيا». الإدراك هنا هو المحدِّد وليس الواقع الذي يشير، كما يقول د. سمير، إلى سيطرة طبقة كمبرادورية. فهذا هو الذي أوجد الإدراك في بلد في «وضعية تخومية» وذي اقتصاد ريعي، وتسيطر طبقة كمبرادورية على اقتصاده، أي إدراك العداء للغرب.

بهذا يقرّر الفصل بين «الطبقة السياسية» التي «أدركت»، و«الطبقة الاقتصادية» التي من المفترض أنها تابعة للغرب، وتستفيد من «الوضعية التخومية» لروسيا، ويصبح السياسي هو المؤشر وليس الاقتصادي، ويهمل كل التكوين الطبقي المحلي، حيث إن العالم يتشكّل من «إدراك» بوتين. طبعاً سنلمس أن د. سمير يضخّم الصراع مع أميركا، ويفسّر الخلافات على بعض المناطق على أنه تناقض «ضد الإمبريالية»، وليس خلافاً بين رأسماليات يسعى كل منها إلى فرض سيطرته، ويمدّ توسعه، خصوصاً أنه لا ينفي رأسمالية بوتين و«الطبقة السياسية»، لهذا يدعوه إلى تشكيل «رأسمالية دولة مستقلة». بالتالي ألا يمكن أن نفسّر الصراع بين روسيا (والصين كذلك) وأميركا (والثالوث عموماً) كتنافس بين رأسماليات؟

فكرة د. سمير تنطلق من «اللعب على التحليل»، فهو ينطلق من أنّ روسيا باتت دولة «تخومية» (أو محيطية كما كان يستخدم سابقاً)، أي أنها دولة «عالمثالثية» بالضبط. لهذا فإنّ ميل السلطة إلى «فك الارتباط» الذي يقوم على «قلب العلاقة بين نمط النموّ الوطني وبين نمط النموّ السائد عالمياً»، يمثّل خطوة مهمّة ومتقدّمة. ولتحقيق ذلك يجب أن يكون هدف التصنيع هو الأساس7. لكن لا يبدو أنّ بوتين يفعل ذلك كما يشير، وإنْ عمل «في مجال إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية الروسية» على شنّ «معارك ضد بعض عناصر الأوليغارشية» ولكن «ليس ضد الأوليغارشية بجمعها بصفتها طبقة حاكمة اقتصادياً». أي أنّ صراعه العالمي غير مرتبط بميل لتغليب النمو الداخلي على النمو السائد عالمياً.

هذا ما هو واضح في ارتباط الاقتصاد الروسي عموماً بالاقتصاد العالمي، وتشابكه معه بنسبة كبيرة. ولأنّ د. سمير يلمس ذلك، نجده يشير إلى أنّ «وعي مغزى التحدّي وحقيقة طابع أوروبا الإمبريالية حليفة الولايات المتحدة لا يكفي في حدّ ذاته طالما لم تُحقق شروط دفع مشروع رأسمالية دولة مستقلة». لهذا يتساءل هل هو عازم على التخلص من تحكم الأوليغارشية، و«هل هو مستعدّ لأن يدفع ثمن انقلاب الميزان لصالحه من خلال سياسة اقتصادية واجتماعية تنقض السياسة التي استمر يسير في سبيلها إلى الآن؟».

يصدر هذان السؤالان عن تشوّش في العلاقة بين الطبقة والسلطة، ويحملان «أمل» وتخيّل نتيجة تغليب الصراع مع الإمبريالية، ولا يصدران عن فهم حقيقي لطبيعة السلطة في روسيا، ولا لوضع وطبيعة الطبقة المسيطرة، وبالتالي عن سوء فهم لطبيعة الخلافات التي تظهر في السياسة العالمية بين روسيا وأميركا.

إنّ تلمّس الخلافات بين روسيا وأميركا (والثالوث عموماً، رغم أن الخلاف مع ألمانيا كان محدوداً) هو الذي ينتج أوهاماً حول طبيعة بوتين، على اعتبار أنّ كل مختلف مع الإمبريالية الأميركية لا بد أنه يسعى إلى «فك الارتباط» وتشكيل «دولة رأسمالية مستقلة». هنا تشتغل الهواجس والتخيّلات وليس التحليل العلمي لوضع روسيا، ولطبيعة النظام السياسي فيها، ولدور بوتين. وهو المظهر ذاته الذي يبرز في «الماركسية التاريخية» (الماركسية الرائجة) التي ينتقدها د. سمير، مع الأسف دون أن يعرف ماهيتها، لهذا بالضبط هو يكرّرها، وفيها يطغى السياسي على الاقتصادي والطبقي، والإمبريالية هي فقط أميركا المهيمنة على الثالوث (أوروبا واليابان، وهي)، وليس من إمكانية لنشوء إمبريالية جديدة.



إنّ الرابط كبير بين بوتين والطبقة المسيطرة، ولهذا يصبح السؤال حول خلاف الطبقة مع الإمبريالية الأميركية، وليس خلاف «مجموعة من الطبقة السياسية» معها. على هذا الأساس يصبح فهم العلاقة مع أميركا أفضل، حيث إننا نتناول تكوين طبقة مسيطرة على دولة، لا فرد أو بضعة افراد لديهم «إدراك».

يظهر في الأخير أن «الوعي» ليس بالضرورة مرتبطاً بتشكيل «دولة رأسمالية مستقلة»، هي من يعتقد د. سمير أنها تتناقض مع الإمبريالية. طبعاً لن أدخل هنا في إمكانية نشوء «دولة رأسمالية مستقلة»، حيث ربما يجري تناول الأمر في الجزء المتعلّق بالطريق الطويل نحو الاشتراكية. لكن ما يهم هنا هو فهم بنية روسيا: الاقتصادية، الطبقية قبل الحديث عن سياساتها وطبيعة السلطة فيها.



هل روسيا فعلاً دولة تخومية؟

لا أوافق سمير على أن روسيا في «وضعية تخومية»، هي ليست كذلك على الإطلاق، رغم أنّ النفط والغاز يشكلان نسبة ٦٥% من الدخل القومي، وأنّ وضع الصناعة «مزرٍ». قد يكون ذلك جزءاً من الموضوع، حيث إن نسبة «الريع الإمبريالي» 8 في أميركا أكبر من هذه النسبة، ونسبة الدخل الصناعي لمجمل الدخل القومي هي أقل في أميركا منها في روسيا. لقد باتت أميركا بلداً «مالياً» يستحوذ فيه المال والخدمات على النسبة الكبرى في الاقتصاد، واقتصاد المضاربة بات يحظى بالنسبة الكبرى من حركة الرأسمال. لكن يجب أن نفهم وضع روسيا في سياق تشكلها «التاريخي»، فقد أصبحت دولة صناعية في ظل الاشتراكية، رغم تخلّفها عن البلدان الرأسمالية. وإذا كانت قد جرت محاولة لتدمير الصناعة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتركيز على القطاع الريعي، فقد استمرّت صناعة السلاح وتطوّرت، وظلّ هناك قطاع صناعي لم يندثر كذلك.

وإذا كانت قد تشكلت طبقة كمبرادورية (أو الأدقّ مافيوية) في ضوء بيع القطاع العام، وإهمال الصناعة، والارتباط بالمركز الإمبريالي، فقد ظلت صناعة السلاح ولم تُمسّ، كذلك صناعات كثيرة أخرى. لهذا سيبدو الصراع داخل الطبقة المسيطرة هو بين المافيات التي تريد استمرار الوضع الذي تشكّل بعيد الانهيار، وبالتالي استمرار الطابع «الكمبرادوري»، وبين الفئات من الرأسمالية، وقطاع من الدولة، الذي يريد استمرار الصناعة وتطويرها. وقد يكون بوتين هو «الموحّد» بين الفئتين.

في هذه الوضعية يمكن أن نفهم سبب التنافس مع أميركا، والصراع أحياناً. فروسيا بتطورها غدت إمبريالية، وإنْ كانت متخلفة عن الإمبرياليات الأخرى، ولا شك في أنّ حصارها والسعي إلى تدمير تطورها الصناعي، سيؤسس لميل يهدف إلى الصراع مع الدول الإمبريالية، خصوصاً أنّ هذه الدول تفرض حصاراً على الصناعات القائمة (لاسيما السلاح، الذي هو محوري في الاقتصاد الروسي، والذي ربما به تكون دولة إمبريالية).

إن المنظور الذي يحكم هذه الفئة من الرأسمالية هو منظور تقاسم العالم، من أجل فتح الأسواق، وليس «القيم الإنسانية» التي يمكن أن توضع تحت عنوان «العدالة الاجتماعية» أو الاشتراكية. لا نستطيع إلا أن نعتبر أن روسيا إمبريالية نتيجة تكوينها ومطامح رأسماليتها، فقد تطورت إلى مستوى مرتفع رغم ما جرى بُعيد الانهيار، لكنّ النمط يعيد استنهاض ذاته ما دام يمتلك الأسس العلمية والتقنية التي تسمح له بذلك، وروسيا تمتلك كل ذلك.

روسيا ليست دولة تخوم، روسيا إمبريالية، لكنها لا زالت منهكة في تكوينها الداخلي رغم حاجتها الشديدة إلى التوسّع الخارجي. لهذا فإن تنافسها وصراعها مع الإمبريالية الأميركية أو الأوروبية هو نتاج ذلك، وليس نتيجة ميل «استقلالي» نحو تأسيس «دولة رأسمالية مستقلة».



1. سمير أمين، «روسيا في المنظومة العالمية»، موقع الحوار المتمدّن
2. سمير أمين، الخروج من أزمة الرأسمالية أو الخروج من الرأسمالية المأزومة
3. المصدر ذاته، ص٨،٩٨،١١٢.
4. سمير أمين، روسيا في المنظومة العالمية، سبق ذكره.
5. جميع الاستشهادات المشار إليها بين قوسين هي من: سمير أمين، روسيا في المنظومة العالمية، سبق ذكره.
6. إنجلز، «مقدمة البيان الشيوعي»، ماركس- إنجلز، البيان الشيوعي، سلسلة كراسات ماركسية (١)، روافد للنشر والتوزيع، طبعة اولى، ٢٠١٤، ص ٨٦.
7. وهذا ما يشير إليه في كتابه، عن الأزمة، سبق ذكره، ص ١٧٠١٧١.
8. سمير أمين، عن الأزمة، سبق ذكره، ص ١٩٨.

2015 / 8 / 21