حول الإمبريالية وروسيا الإمبريالية (1-2)


سلامة كيلة
الحوار المتمدن - العدد: 5524 - 2017 / 5 / 18 - 09:44
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

كما كان الوضع قبيل الحرب العالمية الأولى وخلالها، حيث دار النقاش حول طبيعة البلدان الرأسمالية، والتكوين الجديد الذي يدفعها الى الحرب، وطبيعة الحرب فيما بينها، نشهد منذ بضع سنوات ما يشابه ذلك. فقد انفتح الصراع من جديد بين دول راسمالية بعد أن أدت الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008 الى تراجع وضع أميركا. ومن ثم أدى انفجار الثورات في البلدان العربية، والدور الروسي الصيني في مواجهة الثورة السورية، الذي كان يُظهر تنافساً بين رأسماليات.
في هذه الوضعية انفتح النقاش حول طبيعة البلدان الرأسمالية والسمات التي تحكمها. وكما انفح النقاش قبلاً حول مفهوم الإمبريالية، عاد لينفتح من جديد النقاش حول هذا المفهوم. وكان النقاش حول طبيعة الاقتصاد الروسي، وطبيعة النظام الروسي في صلب كل ذلك. حيث أن الجديد في الصراع الراهن هو دخول روسيا والصين كطرفين في الصراع العالمي بعد أن باتتا رأسماليتين. وبالتالي بات النقاش يدور حول هل أن الصراع العالمي يدور بين دول تحررية وأخرى إمبريالية، أم أنه صراع بين إمبرياليات؟ هنا كان يظهر الخلاف العميق حول طابع روسيا، وهل هي إمبريالية أو دولة "مستقلة"، "تحررية"،عالمثالثية؟
ولأنني من الذين بدؤوا في التأكيد على إمبريالية روسيا منذ عقد تقريباً، كنت محطّ نقد و"هجوم" من قبل "اليسار الممانع"، وخصوصاً من قبل تيار قاسيون في سورية. ها التيار الذي لم يفوّت فرصة إلا وردّ على ما كتبته عن الإمبريالية الروسية. وفي الغالب كان الرد "هجائي" من طرف وتبريري من طرف آخر، حيث كان ولا زال يصرّ على نفي إمبريالية روسيا. ولا شك في أنني أجبت على جزء من تلك الردود، لكن هذه المرة يحاول مهند دليقان أن يرد بطريقة "أذكى"( مهند دليقان، روسيا: "الشبح الإمبريالي"...؟!http://www.ahewar.org/debat/files/548531.pdf) (1)، حيث يحاول أن يقدّم إجابة علمية جدية "تعلو فوق السجالات السياسية اليومية" حول هل أن روسيا دولة إمبريالية. ورغم "علميته" يؤكد منذ البدء أنها ليست إمبريالية، حيث يسعى لمواجهة الذين يؤكدون على أن "روسيا إمبريالية" بالاعتماد على تعريف لينين، لأنه هنا تكمن "الخطورة الحقيقية"، وليس أولئك منظري البرجوازية الصريحون. وهنا يشير في الهامش الى ما أكتب عن الإمبريالية الروسية.
في كل الأحوال تستحق الدراسة النقاش. ويمكن القيام بذلك من خلال مستويين، الأول يتعلق بتعريف لينين للإمبريالية، وتناول وضع روسيا انطلاقاً من "السمات الخمس" التي يحددها. والمستوى الثاني يتعلق بتعريف الإمبريالية ذاته، حيث يعتقد مهند أن هناك تحديد جديد يجب ان نعرّف الإمبريالية به، رغم أنه يؤكد أن تعريف لينين "لا زال صحيحاً تماماً من حيث جوهره". ولسوف أبداً من المستوى الثاني، بالضبط لأنه يطرح تحديداً جديداُ لمعنى الإمبريالية يتجاوز تعريف لينين. ولا شك أن الأمر لا يتوقف عند تعريف لينين، ولست ممن يلتزم النص كما يوحي، بالتالي سيكون هدف النقاش هنا هو حول صحة التعريف الجديد أو عدم صحته، ومن ثم سوف أتناول في النقاش تعريف لينين وفهم وضع روسيا الإمبريالي، ومن ثم النتيجة التي يصل إليها، والتي تعيد طرح "نظرية التطور اللارأسمالي" التي عممها السوفيت بداية ستينات القرن العشرين، وتوسعت في سبعيناته لتصل الى تسمية البلدان التي كانت تعتبر أنها تسير في طريق التطور اللارأسمالي، البلدان ذات التوجه الاشتراكي. وهو يكرر الفكرة انطلاقاً من برنامج حزب الإرادة الشعبية الذي ينتمي إليه، رغم أن الفكرة ظهر فشلها منذ زمن بعيد.
1) الإمبريالية اليوم
ينطلق مهند من "أن راس المال المالي الأميركي بات رأس مال مالي عالمي مهيمن، يقتطع أرباحاً احتكارية، ليس كشأن رؤوس الأموال المالية الأخرى فحسب، بل ومن هذه الأخيرة أيضاً بوصفه محتكراً للدولار"، "وهذه السمة الأخيرة لرأس المال المالي العالمي المهيمن، والناتجة عن التشابك المشار إليه (بين آليات التبادل غير المتكافئ وأزمة الدولار)، هي السمة الأبرز في إمبريالية اليوم"، حيث مع وجود "مركز إمبريالي غربي" ينهب العالم، لكن "بات هنالك – مركز للمركز – ينهب لا الأطراف فحسب، بل وحلفاؤه ضمن – المركز الإمبريالي الغربي –".
إذن، يعطي مهند طابعاً جديداً للإمبريالية، حيث يقول " بكلام آخر، فإنّ مسألتي "المركز والأطراف" و"عالمية" الدولار، باتتا متشابكتين تشابكاً تاماً مع "الإمبريالية"، وبذلك فإنّ وجود صفة من الصفات الخمسة أو أكثر ضمن دولة من الدول في عالمنا المعاصر، لم تكن، وليست الآن، كافية لتوصيف تلك الدولة بأنها إمبريالية". بالتالي نجده يتجاوز تعريف لينين الذي أكّد قبل أسطر بأنه "لازال صحيحاً تماماً من حيث جوهره"، حيث "لم يعد ممكناً القول عن دولة ما أنها إمبريالية لأن فيها عمليات تصدير لرأس المال، أو لأن فيها درجات عالية من الاحتكار، أو أن فيها رأس مال مالي مهيمن، أو حتى إذا اجتمعت فيها هذه الصفات، مضافاً إليها وجود قواعد عسكرية على مساحات أو أسواق خارج حدودها"، ففي استخدام ذلك نصوصية (تمسك بالنص الذي أورده لينين والذي هو صحيح تماماً). لكن الأخطر هنا هو أنه يفصّل تعريفاً على مقاس أميركا، لتكون هي وحدها الإمبريالية، بالضبط لأنها "مالكة الدولار" الذي من خلاله تنهب ليس الأطراف فحسب بل ومن "رؤوس الأموال المالية الأخرى". وهو يقوم بهذه العملية وهو يعني المشكلة التي تنتجها، لهذا يشير الى "المركز الإمبريالي الغربي" (لاحظ كلمة الغربي)، و"مركز المركز" الذي بات ينهب المركز.
وهو انطلاقاً من ذلك يؤكد على " أنّ التمييز الفعلي والعلمي اليوم، والمستند إلى لينين، بين "دول المركز الإمبريالي" و"دول المحيط"، ينبغي أن ينطلق لا من وجود الصفات الخمس في الدولة المعنية فحسب، بل ومن طبيعة ذلك الوجود وعلاقته بالسمة المركبة (مركز أطراف- دولار)، ونتيجته النهائية؛ فوجود رأس المال المالي والاحتكارات في دولة ما كوسيلة لنهب تلك الدولة بالذات من جانب دول وبرجوازيات أخرى، مع ترك فتات للبرجوازية المحلية (كما هو الحال في بلدان الأطراف كلها) لا يجعلها "إمبريالية"، على العكس من ذلك، فإنه يجعلها موضوعاً لنهب أكثر وحشية من جانب الإمبريالية". وما دامت المراكز الأخرى تُنهب من قبل "مركز المركز" فهي ليست إمبريالية رغم وجود كل تلك السمات لديها. لهذا نحن إزاء إمبريالية وحيدة هي أميركا، تهيمن على المراكز الأخرى (التي يسميها ضمن المركز الإمبريالي الغربي، رغم أن تحديده لمعنى الإمبريالية يخرجها من كونها إمبريالية بعد أن بات الربط بالدولار جوهري وحاسم) وتنهبها، كما تهيمن على الأكراف وتنهبها، وتنهب نهب "الإمبرياليات" (التي لم تعد إمبرياليات) الأخرى.
يصل مهند الى هذا التحديد لـ "الإمبريالية اليوم" بعد أن يشرح علاقة المركز والأطراف التي "تطورت الى شكل أكثر تعقيداً وتركيباً بعد الحرب العالمية الثانية مع نشوء وتعزيز ميكانيزمات النهب ما بعد التقليدية، أي النهب بصيغته التالية للاحتلال العسكري المباشر". ومن ثم وضع الدولار، وطبيعة التشابك بين كل منهما. لكنه هنا ينطلق من أن كل تشكّل جديد يلغي سابقه دون أن يتضمنه، بالتالي كان نشوء الإمبريالية هو إلغاء للرأسمالية وليس تضمناً لها بعد أن فرضت آليات الرأسمالية الوصول الى مرحلة الاحتكار (وهو ما شرحه ماركس قبل أن ينشأ أصلاً، استناداً الى فهمه لميكانزمات الرأسمالية ذاتها). وهنا لم يعد كافياً وجود "السمات الخمس" (التي سأناقشها لاحقاً) لتحديد إمبريالية دولة، بل يجب أن يهيمن الدولار لكي يتحقق ذلك. هو هنا يلغي تكوين من أجل أن يفرض تكويناً جديداً محله،يلغي الإمبريالية كتكوين لدور رأسمالية بعينها، لأنها لم تفرض هيمنة عملتها. ولتكون أميركا هي الإمبريالية الوحيدة التي تهيمن على الرأسمال المالي والاحتكارات في الدول الأخرى، كما على الأطراف. وبالتالي لا تعود اليابان أو فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا دول إمبريالية، فقد باتت تنهب من خلال هيمنة الدولار، رغم أنها جزء مع علاقة مركز/ أطراف. وأيضاً لتجاوز ذلك يخترع صيغة تقوم على وجود "مركز إمبريالي غربي"، ومن ثم وجود "مركز المركز". مَنْ الإمبريالي من الإثنين؟ وفق السمة المتعلقة بهيمنة الدولار، ليس من إمبريالية سوى أميركا، التي تهيمن على "المركز الإمبريالي الغربي"، وتنهبه كما تنهب الأطراف. حيث أن السمات الخمس لم تعد كافية لتوصيف دولة أنها إمبريالية، "ففي الوقت الذي ظهرت فيه الخواص الخمسة ضمن دول النادي الإمبريالي، كانت لا تزال في مرحلة نشوئها الأول، ولذا فإنّ مجرد ظهورها كان كافياً –وإلى حد ما- للحديث عن "إمبريالية"، أما لاحقاً فإنها انتشرت بين دول عديدة على امتداد العالم كما سنبين بالأرقام ضمن السياق. ولذلك لم يعد ممكناً القول عن دولة ما إنها إمبريالية لأنّ فيها عمليات تصدير لرأس المال، أو لأن فيها درجات عالية من الاحتكار، أو أن فيها رأس مال مالي مهيمن، أو حتى إذا اجتمعت فيها هذه الصفات مضافاً إليها وجود قواعد عسكرية وسيطرة عسكرية على مساحات أو أسواق خارج حدودها". بالتالي ليس هناك "مركز إمبريالي غربي" بل إمبريالية وحيدة هي أميركا تنهب العالم.
يبدو أن مهند كان واقعاً، وهو يقوم بعملية الشطب هذه تحت عاملين، الأول: أنه لا يريد العودة الى كاوتسكي، والتأكيد على نشوء إمبريالية عليا، من "الثالوث" المهيمن عليه من قبل الرأسمال المالي الأميركي (رغم تشابك وتداخل الرأسمال، وهو ما سأشير إليه تالياً)، وهو يرفض هذه "الفذلكة" (هامش 9 انطلاقاً من فكرة كاوتسكي عن "سلام يسود العالم")، لهذا يتحدث عن مركز ومركز المركز، رغم أن ما يطرحه يوصل الى ذلك. والثاني أنه يريد إيجاد منفذ لنفي إمبريالية روسيا، لهذا هو هنا يخرجها من كل إمكانية لأن تكون إمبريالية بالضبط لأنها لا تمتلك عملة مهيمنة. رغم أنه في الأخير يضعها في الأطراف كما سنرى. ويبدو هنا أنه يميل الى القول أنه وفق السمات الخمس قد تشكلت إمبرياليات "غربية"، وبات لها مركز مهيمن، لكن بعد بروز هذا المركز المهيمن لم يعد كافياً وجود السمات هذه لتشكّل إمبريالية، وهو في ذلك يقطع الطريق على "روسيا الإمبريالية". لكن ربما طابع الإمبريالية يختلف، بينما تبقى سماتها هي ذاتها، ولهذا لا زالت اليابان وأوروبا إمبرياليتان، رغم الهيمنة الأميركية، وخصوصاً أن التشابك المالي يقوم بينها منذ أن تشكلت كثالوث بعد الحرب الثانية في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وأيضاً ستكون كل دولة رأسمالية "مكتملة" (أي صناعية) هي إمبريالية، بالضبط لأن الرأسمالية تفرض الاحتكار كضرورة في مسار تطورها، وتفرض التوسع كحتمية من أجل بقائها وتطورها. هذه بديهيات منذ ماركس، بغض النظر عن الشكل الجديد الذي تتخذه، ولهذا تميل الى التوسع والصراع مع "المركز المهيمن" الذي يحاول منع تطورها الإمبريالي.
مهند يعتمد على عنصرين، وعلى تشابكهما، كسمتين جوهريتين للإمبريالية اليوم، هما: المركز/ الأطراف، وأزمة الدولار. واللتين يعتبر أنهما حاسمتان في نشوء إمبريالية جديدة، رغم أنه لا يشرح طبيعة التشابك، ولا أثره في تشكّل الإمبريالية هذه. الآن، هل مسألة المركز/ الأطراف مستحدثة لكي تكون سمة جديدة؟ ألم يشرح لينين كيف أن تقاسم العالم كان يقوم في جزء منه على "التبعية الاقتصادية"؟
إن الميل للسيطرة على الأسواق بدون الاحتلال أمر قائم منذ نشوء الإمبريالية، وهو ما أشار إليه لينين في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، وفي العديد من الدراسات حول الإمبريالية. ولقد تحقق الاستعمار قبيل نشوء الإمبريالية، وبعضه قبل نشوء الرأسمالية. لهذا كان لينين مع بداية الحرب الأولى يشير الى إعادة تقاسم العالم وليس الى احتلال العالم الذي كانت قد جرت عملية استعماره. ولهذا أشار الى أن أزمة ألمانيا هي أنها تحتلّ مناطق قليلة، وأن تحولها الإمبريالي فرض عليها اللجوء الى الحرب لإعادة اقتسام العالم. ولقد أشار كذلك الى المناطق التي لم تكن محتلة بل كانت "تحت الهيمنة الاقتصادية"، فأميركا لم تكن تحتل أميركا اللاتينية لكنها كانت تهيمن عليها منذ "مبدأ مونرو" سنة 1823. والعديد من الدول قبلت أن تكون تابعة بدل أن يجري احتلالها كما يشير لينين.
ولا شك في أن هذا الشكل من السيطرة قد تعمم بعد الحرب العالمية الثانية، وميل أميركا لدعم "تصفية الاستعمار"، الحركة التي كانت نهضت في دول الجنوب (كما كانت تسمى). وبالتالي أصبحت السيطرة تتم من خلال الهيمنة الاقتصادية (التبعية) وليس من خلال الاحتلال. لكن لم يكن هذا هو كل العالم، فقد كان هناك "المعسكر الاشتراكي"، وهو خارج المنظومة الرأسمالية. وكان هناك "بلدان التحرر الوطني" التي تعاونت مع المعسكر الاشتراكي، وكذلك مع أوروبا في مواجهة أميركا. ولقد انتهى وضعها منذ سبعينات القرن العشرين لتتحول الى أطراف. لكن كل ذلك لا يعني شيئاً فيما يتعلق بسمات الإمبريالية، لأن السيطرة لم ترتبط بشكل وحيد هو الاستعمار، بل اتخذت منذ البدء أشكال أخرى، إلا إذا ساوينا بين الإمبريالية والاستعمار، وهو ما ينفيه مهند. فالأمر الذي تقوم عليه الإمبريالية يتعلق بتحويل هذه البلدان الى سوق للسلع والرأسمال الإمبرياليين، وهو ما ظل مستمراً في الأطراف بعد نهاية الاستعمار. طبعاً إلا إذا كانت الإمبريالية تعني الاستعمار كما راج لدى العديد من "الماركسيين"، وكما كان لدى كاوتسكي. الإحتكارات والرأسمال المالي يريدان الأسواق لتصدير السلع والرأسمال، ولنهب المواد الأولية، بغض النظر عن شكل السيطرة. الإحتكارات لا تلتفت الى الشكل بل يهمها السيطرة. إذن، حين الإشارة الى السيطرة والبحث عن الأسواق، لم يكن شكل السيطرة هو ما يميّز الإمبريالية بل تحقيق السيطرة بتحويل الأطراف الى أسواق للسلع والرأسمال، وللتحكّم بالمواد الأولية.
وهنا لا يتعلق الأمر بـ "التبادل غير المتكافئ"، بل بالسيطرة والنهب. ولا يتوقف عند الديون ومقص الأسعار والتبعية التكنولوجية وهجرة العقول،بل بالتحكم بآليات تطور الأطراف. ولا شك أن الأمر تعدى التبادل غير المتكافي، حيث باتت الأمور تنحكم لمسار واحد، هو مركز/ أطراف، حتى في الزراعة، فيما عدا النفط طبعاً، والمواد الأولية التي تنهبها الشركات متعددة الجنسية. التبادل غير المتكافي كان حينما كانت الدول "المستقلة" تصدر السلع الزراعية أو المواد الأولية، بينما بات الأمر أسوأ الآن، بحيث هيمنت الشركات الاحتكارية وانهارت الزراعة، والصناعات التي نشأت كمحاولة لتحقيق التطور الاقتصادي. وهنا يظهر إشكال فهم ما حدث من تطور في الإمبريالية، حيث أن التغيّر كان في مكان آخر سنأتي على شرحه.
أما حول الدولار فلا شك أن أميركا أمام الأزمة التي عاشتها نهاية ستينات القرن العشرين فكت ارتباط الدولار بالذهب، وتحررت من الحاجة لوجود مقابل لعملتها، وهو الأمر الذي جعلها تمعن في طباعة الدولار بلا رقيب. ولقد فعلت ذلك نتيجة الاختلال الذي حدث في ميزانها التجاري بعد أن نهضت أوروبا واليابان (رغم أن الرأسمال الأميركي هو الذي استثمر في إعادة بناء هذه الدول بعد الحرب الثانية). والذي أدخلها في أزمة، ارتبطت كذلك بدورها العسكري العالمي كحامي للثالوث، تمثلت في عجز الميزانية وتصاعد المديونية. ولهذا كانت تعوّض اختلال الميزان التجاري بطباعة الدولار. هل يعني ذلك نهب المراكز الأخرى؟ ربما في صيغة ما، لكن دون أن ننسى أن الحرب الثانية أفضت الى تشابك الرأسمال، والى تشكيل تحالف مالي "فوق قومي"، وشركات "فوق قومية"، وشراكات واسعة. وهي الحالة التي كان يشير كاوتسكي إليها كـ "إمبريالية عليا"، رغم أن النتيجة التي استخلصها من ذلك كانت خاطئة، لأنه ظنّ أن ذلك سوف ينهي الحرب بين الرأسماليات حينها، لكن بلاشك أن هذا التشكيل أنهى الحرب بين الرأسماليات، لكن ليس نتيجة طبيعة الرأسمالية، بل نتيجة وجود الاتحاد السوفيتي وتوسع الاشتراكية في العالم. إن تشكيل "إمبريالية عليا" تحقق بالفعل نتيجة نشوء خصم قوي، رأسه الاتحاد السوفيتي لمنه شمل ما يقارب نصف العالم، وهو ما ضيّق السوق الذي تهيمن عليه الإمبريالية، وجعلها تتكاتف لكي تستطيع المواجهة ضد عدوها الأخطر. ولقد سمح ذلك لفرض الدولار كعملة عالمية، رغم استمرار عملات البلدان الإمبريالية، ومن ثم نشأ اليورو كمنافس.
إذن، يمكن القول بأن "إمبريالية عليا" قد تشكلت، وهذا لا يعني أنه ليس من تنافس بين شرائح البرجوازية، وميل كل "برجوازية قومية" لتعزيز قدرتها في إطار الرأسمال المالي المهيمن. وأنه لا يتحقق "نهب" فئة على حساب أخرى، وهو ما ظهر من خلال اختلال العلاقة بين أوروبا واليابان من طرف وأميركا من طرف آخر، والذي تمثّل في اختلال الميزان التجاري، وبالتالي انزياح الرأسمال الى أوروبا واليابان. لهذا فإن ما قامت به أميركا هو حلّ لمعضلة واجهتها، جعلتها تحرر عملتها من مقياس الذهب، وتطبع وفق حاجتها لموازنة الاختلال القائم. وبالتالي فهذا تعديل للاختلال الأول، الذي كان يجعل أوروبا واليابان يربحان على حساب أميركا. ولا شك في أن قوة أميركا العسكرية، وهيمنتها السياسية، هما ما سمح بذلك. لكن ذلك لا يغيّر من طبيعة الإمبريالية، بل يعبّر عنها. فأميركا تستغل احتكارها للقوة من أجل تعديل الاختلال في العلاقة الاقتصادية مع الإحتكارات الأوروبية واليابانية.
لقد هيمنت أميركا على الإمبرياليات الأخرى بعد الحرب الثانية نتيجة أنها خرجت دون خسارة اقتصادية كما حدث لأوروبا واليابان، وظهرت كقوة حامية للنظام الرأسمالي، ومُنْهِضه من جديد بعد أن أطلقت مشروع مارشال. وهو الأمر الذي طوّر من قدرات شركاتها التي تحوّل الى شركات احتكارية متعدية الجنسية، وفرض على أوروبا الميل للتمركزة الأعلى لشركاتها. لكنه فرض تشابك الرأسمال الإمبريالي، وتداخله، ونشوء الشركات متعددة الجنسية والرأسمال المعولم. لكن نهوض أوروبا واليابان أفضى الى اختلال في الميزان التجاري، وتطور قدرات الصناعات الأوروبية اليابانية على حساب الشركات الأميركية، والميزان التجاري الأميركي. مما فرض تراجع الصناعات الأميركية وتحوّل أميركا الى "مركز مالي"، كانت طباعة الدولار، وفرض بيع النفط، والقروض التي يقدمها كل من صندوق والبنك الدوليين بالدولار، وكذلك نشاط البنوك والمؤسسات المالية الأميركية، هي ما أوجد ذلك. وبهذا أخذت أميركا تعوّض عن استيرادها المتصاعد بطباعة الدولار، وجذب الرأسمال الى هذا المركز المالي. وهو ما فرض تضخّم هذا المركز على حساب مجمل الاقتصاد الحقيقي.
لا شك في أن أميركا تكسب من "عولمة" عملتها، ومن تحريرها من المقياس الذهبي. وهي تربح من ذلك، لكن كتعويض عن خسارة. وبالتالي لم يؤسس ذلك الى "شكل إمبريالي جديد"، كما يحاول مهند القول، لكنه أوجد مشكلة عويصة أخرى، هي "السمة" الجديدة في الإمبريالية، وتتمثل في التراكم المالي الهائل الذي أصبحت تستحوذ عليه بنوكها ومؤسساتها المالية. وهو التراكم الذي أصبح يشكّل أزمة مستعصية، حيث أنه لم يعد قادراً على التوظيف في "الاقتصاد الحقيقي" (الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات و...) لأنها باتت في حالة إشباع، وأصبح الكساد سمة مستمرة في مجمل الاقتصاد الرأسمالي. وهو الأمر الذي فرض بزوغ النشاط المالي كعنصر جوهري في الرأسمالية، حيث بات يستحوذ على جلّ النشاط الاقتصادي (تقريباً 90% من حركة الرأسمال تذهب في النشاط المالي). بالتالي فإن الإمبريالية اليوم هي الإمبريالية في مرحلتها المالية، ولقد شرحت الأمر في كتاب بهذا العنوان. وفي هذه الوضعية بات الدولار جزء جوهري في الأزمة، بالضبط لأنه يمركز النشاط المالي في أميركا أولاً. ولهذا وقع الانهيار المالي سنة 2008 فيها، وهي معرّضة لانهيارات مالية عديدة.
إن ما يجب أن يسترعي الاهتمام هو هذه الهيمنة للطابع المالي في مجمل التكوين الإمبريالي، ويفرض فهم مشكلاتها الناتجة عن ذلك، والمآل الذي يمكن أن تصل عليه على ضوئه. لكن ذلك لا يلغي الطابع الإمبريالي لا عن أميركا ولا عن أوروبا واليابان، ولا يلغي الأسس التي قامت عليها، والتي يمكن أن تقوم عليها دول أخرى. لا شك أن في الإمبريالية تطورات كبيرة، ولكن ذلك لم يصل الى حالة من إلغاء الطابع الإمبريالي لمصلحة شكل أعلى. ولا أظن (مع لينين) أن هناك شكل أعلى. ليست هيمنة الدولار سمة مميزة، وتؤسس لنقلة نوعية، حيث كان دائماً هناك "عملة عالمية" بشكل ما. وإنْ كانت أميركا تستغلّ الأمر لتغطية العجز الذي تعانيه في العلاقة مع الرأسماليات الأخرى.
نصل الى أن الإمبريالية لم تبقَ كما كانت، لكن كل تطور رأسمالي يفرض الميل نحو تملُّك سمات الإمبريالية. وهنا أقصد بالتطور الرأسمالي امتلاك القدرة على بناء الصناعة والتكنولوجية والاحتكارات والقوة العسكرية. ولهذا يشهد العالم هذا الصراع بين إمبرياليات قديمة وأخرى مستجدة. رغم أن دخول الرأسمالية في أزمة مستعصية ينعكس على مجمل الأمم الرأسمالية، ويفرض إيقاعاً مختلفاً عما كان في النصف الأول من القرن العشرين. فالأزمة تفكك التشابك الذي نشأ قبلاً، وتعزز التنافس بين الإمبرياليات القديمة، في الوقت الذي ينفتح صراع مع الإمبرياليات الجديدة.
فقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي الى تخلخل العلاقة بين الإمبرياليات القديمة (وفتح على نشوء إمبرياليات جديدة)، حيث عملت أميركا على كسر الاختلال في العلاقات الاقتصادية مع تلك الإمبرياليات، والسعي للهيمنة على روسيا التي باتت رأسمالية، والبلدان الأخرى التي سارت في هذا المسار. لهذا رسمت إستراتيجية تقوم على خطين، الأول حصار الرأسماليات الجديدة (روسيا والصين خصوصاً)، والثانية تعديل الاختلال في التنافس مع الإمبرياليات القديمة. كل ذلك من خلال السيطرة العسكرية المباشرة على النفط في الخليج العربي، وعلى مواقع إستراتيجية (أفغانستان). ولن أدخل هنا في شرح كل ذلك، حيث شرحته في كتاب "العولمة الراهنة"، وأشرت الى انفتاح الصراع مع الإمبرياليات القديمة، واستباق تطور وضع روسيا والصين. بالتالي كان الاحتلال ضرورة من أجل تعديل اختلال التنافس مع الإمبرياليات القديمة، وقطع الطريق على الإمبرياليات الجديدة. وكانت هذه الخطوة توضح تفكك التشابك الذي تحقق في مواجهة الاشتراكية، وعودة التنافس بين الإمبرياليات. وهو أمر سمح بتقدم الرأسماليات الجديدة لكي تهيمن. وهو صراع بين إمبرياليات، أظهر أن "مركز المركز" بات يريد ابتلاع المراكز الأخرى من أجل حل أزمته، لكن أزمة سنة 2008 أوضحت حدود قدرته، أي عجزه عن تحقيق ذلك. وهو الأمر الذي فتح على عالم متعدد المراكز، وتنافس أكثر حدّة، وصراعات من أجل الهيمنة وتقاسم العالم.
إن أي تحوّل في تكوين الرأسمالية لا يلغي السمات التي تشكلت فيها بل يتضمنها في كل تحوّل جديد، ولهذا فإن أي إشارة الى أن إمبريالية اليوم قد انتقلت الى وضعية جديدة لا يلغي السمات التي تتشكل الإمبريالية فيها، كما أن الإمبريالية لم تنهي سمات الرأسمالية بل تضمنتها. ولهذا مهما كان توصيفنا لأميركا اليوم، وللرأسمال المالي الأميركي المعولم، ولدور الدولار، أو طبيعة علاقة المركز بالطراف، فإن تحوّل الرأسمالية الى إمبريالية يظل قائماً بالضرورة، كما ينشأ طموح لتكوين إمبريالية أعلى. ولهذا فإن كل رأسمالية تمتلك قدرات صناعية وتكنولوجية وتمركز مالي تميل بضرورة تكوينها الداخلي الى أن تكون إمبريالية، وأن تسعى الى السيطرة على الأسواق. فهذا جزء من التكوين البنيوي للرأسمالية ذاتها، والرأسمالية الصناعية خصوصاً، بالضبط لأن إنتاج السلع يفرض البحث عن أسواق، وهذه بديهية ماركسية كتب عنها ماركس وبحثها مطولاً في "رأس المال". ولأن التنافس الذي هو سمة الرأسمالية يفضي الى الاحتكار حتماً، ويمركز الرأسمال، ويفرض نشوء الرأسمال المالي. هذه كلها مفاعيل بنيوية في الرأسمالية، جرى شرحها مطولاً من قبل ماركس وإنجلز ولينين، وفي "الاقتصاد السياسي الماركسي". وحين تُشكّل مجمل هذه العناصر تكون الرأسمالية قد اكتمل تطورها الإمبريالي. هل تتطور الى مستوى أعلى؟ ممكن طبعاً، رغم أن لينين أشار الى أن الإمبريالية هي المرحلة الأعلى في الرأسمالية. وأظن أن ذلك صحيح، بالتالي ستكون كل التطورات في بنية الرأسمالية هي على هذه الأرضية. اي على أرضية مفاعيل هذه العناصر وليس بعيداً عنها أو بالضد منها. لهذا أشرت الى أن الإمبريالية قد باتت في "مرحلتها المالية" بعد أن هيمنت الطغم المالية، وأصبح النشاط المهيمن هو النشاط المالي (المضاربات والمديونية). وهذا يحدث ليس فقط في البورصة التي جرى عولمتها أواسط تسعينات القرن العشرين، بل في مجمل النشاط الاقتصادي، حيث أن النشاط المالي بات يتحكّم بنسبة 90% من مجمل النشاط الاقتصادي مقابل 10% للاقتصاد الحقيقي.
وأكرر هنا أنني أتحدث عن رأسمالية تمتلك القدرات الصناعية والتطور التكنولوجي، وتنتج لسوقها الداخلي سلعاً، وتراكم الرأسمال. ذلك للتمييز عن رأسمالية تابعة تنشط في التجارة والخدمات والعقارات والاستيراد، أي بعيداً عن الاستثمار في الإنتاج الصناعي/ الزراعي. وبالتالي تكون تابعة لأنها تنشط في "القطاع" المتعلق بالتوزيع والخدمات، بينما ما يفرض التمركز والاحتكار والبحث عن الأسواق هو إنتاج السلع بالأساس. لهذا هنالك فارق جوهري بين رأسمالية المراكز ورأسمالية الأطراف، حيث تكون رأسمالية المراكز توسعية بينما تكون رأسمالية الأطراف إنكماشية. وهي إنكماشية لأن دورها في بنية النمط الرأسمالي العالمي هو "التخصص" في سوقها الذي حددته رأسمالية المراكز، ويتعلق في ممارسة دور الوسيط بين دائرة الإنتاج في المراكز والسوق المحلي، وتسهيل نشاط الرأسمال الإمبريالي وتكييف السوق المحلي لكل آليات نهب الطغم المالية. بينما نجد أن رأسمالية المراكز، أو التي تطمح لأن تكون مراكز، تميل للحفاظ على سوقها الداخلي وضبطه، ومن ثم الميل للتوسع الخارجي بحثاً عن الأسواق للسلع والرأسمال. هذا تمييز جوهري، وأساسي، في فهم الرأسمالية، ومسارات تطورها، وميولها التوسعية أو الإنكماشية. حيث أن الصناعة هي مفصل نشوء الرأسمالية، وامتلاكها هو الذي يدفع الرأسمالية للبحث عن الأسواق، والمواد الأولية. وهو جذر نشوء الاستعمار في الرأسمالية، ومن ثم منع تطور الأطراف صناعياً، وتشكيل عالم يقوم على اللاتكافؤ، وفي جوهر هذا اللاتكافؤ هو حرمان الأطراف من التطور الصناعي. وكانت أهمية التجربة الاشتراكية تتمثل في أنها فرضت تطور روسيا والبلدان الأخرى صناعياً، بالتضاد مع الرأسمالية التي كانت تجهد لمنع ذلك. ولقد حاولت تدمير الصناعة بعد انهيار الاشتراكية، لكن من غير السهل تحقيق ذلك دون حرب مدمرة، وهو ما لم يحدث رغم الميل الأميركي لتدمير الصناعات الروسية عبر التحوّل المافياوي الذي دعمته بشدة. لكن ليس سهلاً الانكفاء في بلد حقق تطوراً مهماً، وراكم الرأسمال.
إذن، لقد تغيّرت الإمبريالية، لكن ليس نتيجة ما حدث في العلاقة بين المركز/ الأطراف، وليس نتيجة وضعية الدولار المهيمن، بل نتيجة التحوّل المالي الذي يشير الى حالة من تعفّن الرأسمالية، ودخولها في أزمة مستمرة بلا حلّ، ولا قدرة على الخروج منها.
(1) وهو منشور في: مهند دليقان، روسيا: "الشبح الإمبريالي"...؟!
http://kassioun.org/reports-and-opinions/item/20138-2017-02-12-20-29-48