التكوين الاقتصادي والطبقات في النظام الرأسمالي (ملاحظات أولية)


سلامة كيلة
الحوار المتمدن - العدد: 5473 - 2017 / 3 / 27 - 10:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     



موضوع الطبقات جوهري

ليس من الممكن أن نتجاوز أهمية دراسة الطبقات، حيث أن منظور الصراع قائم أصلا على أنه صراع طبقي. هذا ما تؤكده الماركسية، وهو في جوهر رؤيتها للواقع. وإذا كان للاقتصاد أهمية حاسمة “في التحليل الأخير” (كما أوضح إنجلز)، بالضبط لأنه المحدِّد لمجمل التكوين المجتمعي، أي للطبقات والدولة والأفكار، يكون النظر في التكوين الاقتصادي أساسيا ونحن نتناول الطبقات، وتكون الطبقات هي نتاج تكوين اقتصادي معيَّن. وبهذا فهي ليست ثابتة، بل يتغير وضعها مع تغير التكوين الاقتصادي.

لقد اتسمت السنوات السابقة باهمال البحث في الاقتصاد ومسألة الطبقات بعد أن سيطر “خطاب العولمة”، وتعممت فكرة “فشل الماركسية” بعد انهيار النظم الاشتراكية، ومن ثم جرى استبدال هذه المصطلحات بأخرى جديدة هي “دون حديثة”، مثل القبيلة والطائفة والمكوِّن. وأُهمل البحث في التكوين الاقتصادي للإشارة إلى “مؤشرات” عن وضع الاقتصاد، وكذلك أُهمل الاقتصاد الحقيقي لمصلحة “الاقتصاد الافتراضي”، والرأسمال لمصلحة المال، وفائض القيمة إلى التراكم المالي، والإنتاج بالمضاربة. وكانت هذه “معركة أيديولوجية” عملت الطغم الإمبريالية على كسبها، وإهالة التراب على الماركسية بمنظورها ومنهجيتها ومصطلحاتها، وتهميش “علم الاجتماع” بالإجمال، أو إحلال مصطلحات ما قبل حديثة، أو فئوية وعمرية و”جنسانية” كأساس للتحليل.

لكن كل هذا التحويل لا يفعل سوى تشويش البحث، وتحديد النتائج مسبقا، دون أن يكون قادرا على فهم الواقع، وهذا ما كان يريده “خطاب العولمة” بالتحديد، أي الانزياح عن البحث العلمي لمصلحة تهويمات أيديولوجية، و”منهجيات” تبرر الشكل القائم، أو تؤبده. لهذا كان لا بد من العودة إلى العلم، أي إلى الماركسية بمنهجيتها وأسس تحليلها لكي نفهم الواقع علميا. ليست الماركسية شعارات و”نظرية” و”شبح”، بل هي منهجية تحليل علمي، وترتبط بها مجموعة من المصطلحات والمفاهيم والقوانين. ومنها مفهوم الطبقات (أو مصطلح الطبقات)، وهي تبدأ بـ”التحليل الاقتصادي”، لكي تؤسس على ذلك فهمها للطبقات والدولة والأيديولوجية، وكذلك الثورة والتغيير.

الحلقة الأولى هنا هي مسألة: الاقتصاد/ الطبقات، وهو المبتدأ الذي يحكم تحليل الواقع قبل البحث في الدولة والأيديولوجية و”العلاقات الدولية”. وهو الأمر الذي يفرض البحث في الاقتصاد العالمي كون العالم صيغ بتأثير المراكز الرأسمالية بعد أن أصبحت أوروبا رأسمالية بفعل اكتشاف الصناعة. لكن لا بد من لمس أن العالم منقسم رغم وحدته، فهو موحد في إطار السيطرة الرأسمالية لكنه منقسم في طبيعة التكوين الاقتصاد، وبالتالي الطبقي، بالضبط لأنه صيغ بفعل رأسمالية المراكز. وهنا نحن إزاء “عالمين”: مراكز إمبريالية متطورة، وأطراف رأسمالية متخلَّفة، ولقد ترسلمت ليس بفعل تطورها الداخلي بل بفعل تأثير السيطرة الرأسمالية.

إن دراسة وضع الطبقات الآن، وفي الأطراف، يفترض بالتالي البدء من تحديد التكوين الاقتصادي العالمي الذي تشكل خلال العقود الماضية، وكيف تبلور الآن. ومن ثم طبيعة التكوين الاقتصادي الذي بات يسود في الأطراف على ضوء هيمنة التكوين الاقتصادي العالمي.

التكوين الاقتصادي العالمي ووضع الطبقات في المراكز

منذ تشكّل النمط الرأسمالي كنمط إمبريالي مع بداية القرن العشرين إلى اليوم، ربما لم يشهد تحولا كبيرا سوى مع بداية القرن الجديد. هذا التحوّل هو الذي يحكم العالم اليوم، وهو الذي يحدد وضع الطبقات في المراكز والأطراف. يمكن هنا أن نحدد أن التطور “العشوائي” أو العفوي للرأسمالية الذي بدأ منذ نهاية القرن الثامن عشر مع نشوء الصناعة، قد تبلور في نمط رأسمالي عالمي مع بداية القرن العشرين، في هذه اللحظة يمكننا أن نتحدث عن نمط رأسمالي عالمي، وهي اللحظة التي بلورت السيطرة على الأطراف وتشكيل “عالم رأسمالي موحَّد”، اتسم بطابعه الإمبريالي، وتكوينه القائم على اللا تكافؤ. التحوّل الجديد هو ما حدث تدريجيا منذ أزمة سبعينيات القرن العشرين، وتبلور بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أُعيد توحيد العالم، لكن تحت سيطرة الطغم المالية بعد أن هيمن المال على الرأسمال، بالتالي بات الطابع المالي هو الذي يحكم النمط الذي ظل إمبرياليا كذلك.

فقد انتقلت الرأسمالية من مرحلتها “التنافسية” ونموها العشوائي في بعض البلدان، إلى مرحلتها الإمبريالية عبر تشكيل نمط “موحد”، من خلال تشكّل الاحتكارات التي صاغت العالم وفق مصالحها، وأخضعت الأطراف لسياسة استعمارية أدت إلى أن تخضع للاحتلال المباشر أو غير المباشر. وهذا هو الأساس الذي فرض تمركز الصناعة والثروة والتطور في المراكز وتركز التخلف والفقر واستمرار الزراعة التقليدية في الأطراف، وأسس لعملية إخضاع طويل لهذه الأطراف. وهو الأمر الذي أفضى إلى نشوب الثورات “الاشتراكية” في الأطراف، بدءا من انتصار ثورة أكتوبر سنة 1917، وتعميم الاشتراكية على شرق أوروبا بعد الحرب الثانية، ثم انتصار الثورة الصينية وتوسّع “المد الشيوعي” إلى جنوب شرق آسيا. وأيضا نهوض حركات التحرر الوطني ونشوء تجارب البرجوازية الصغيرة في العديد من بلدان الأطراف. بحيث ظهر أن أكثر من نصف العالم بات خارج السيطرة الرأسمالية.

ضمن هذه الوضعية تطورت الرأسمالية، حيث كان السوق يتقلص، وبالتالي تشتدّ أزمتها. فأولا لا بد من ملاحظة أن جزءا من العالم خرج من “تحت سيطرتها” فلم يعد يشكل لسلعها ورأسمالها سوقا، وهو مجمل المنظومة الاشتراكية. وأن جزءا آخر، هو بلدان التحرر الوطني، قد تقلّصت قدرتها على الهيمنة عليه، ونهبه كما فعلت خلال مرحلة الاستعمار، رغم بقاء ترابطات في العلاقات الاقتصادية، واعتماد في التبادل التجاري على التعاون مع المراكز (أو بعضها)، وحتى في بناء بعض الصناعات. حيث كانت بعض بلدان أوروبا تحظى بالنسبة الأعلى من التبادل التجاري (فرنسا، ألمانيا)، ومن “دعم” بناء صناعة (ما أسمي التسليم بالمفتاح). وكان يبدو أن التنافس في إطار الرأسماليات كان يسمح بأن تتقدم بعض هذه الرأسماليات لـ”دعم” تطور تلك البلدان. هذه البلدان التي حظيت كذلك بدعم الاتحاد السوفيتي.

في هذا السوق المتضيّق الذي يشمل أقلّ من نصف العالم تمركز النمط الرأسمالي، كمراكز وكأطراف. وإذا كان التحرر هو الذي يحكم الشعوب المضطَهدة فقد شهدت الرأسمالية تفجّر التناقضات بين محورين فيها قاد إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، حيث استمرت محاولة ألمانيا في التوسع الخارجي للهيمنة على الأسواق بعد أن حُرمت منها طويلا، وكانت كل من إيطاليا واليابان تحاولان التوسع كذلك، في عالم كانت تسيطر عليه كل من إنجلترا وفرنسا، وتهيمن أمريكا فيه على بلدان أمريكا اللاتينية، انتهت بإعادة صياغة تكوين الرأسمالية على “أسس جديدة”.

فأولا، أفضى ضيق السوق إلى تسريع التمركز الرأسمالي، حيث أفضت أزمة الكساد العظيم التي حدثت سنة 1929 إلى انهيارات اقتصادية فرضت إفلاس شركات وصناعات وبالتالي تمركزها، خصوصا بعد أن أفضت إلى نشوب الحرب الثانية، وهزيمة ألمانيا وإيطاليا واليابان، وقيام شركات أمريكية “عملاقة” بإعادة بناء اقتصاد هذه البلدان. ومن ثم أصبح الميل الطاغي هو تشكيل الشركات العملاقة. لقد سبقت أمريكا أوروبا في نشوء “الشركات العملاقة”، وكان لأزمة الكساد العظيم دور كبير في ذلك، من ثم حاولت الدول الرأسمالية مجاراة الأمر للحفاظ على تنافس متوازن، وهو الأمر الذي دفع إلى قيام الدول بـ”التأميم” لضمان قدرة الشركات “القومية” على المنافسة، خصوصا في فرنسا وإنجلترا.

وثانيا، تداخل الرأسمال “بين الأمم” تلك وتشابك، كما خرج من إطاره “القومي” ليصبح سوقه هو المراكز ذاتها، وبهذا تشكّل كرأسمال “واحد”، وتحولت التناقضات إلى تناقضات “داخل بنيته” ولم تعد تتخذ طابعا قوميا بشكل ما، رغم وجود الدولة القومية كمعبّر عن الرأسمال في بلدها، هذه البلدان التي باتت تشكّل “ثالوثا” موحدا (أو متوافقا). بالتالي لم يعد الانقسام إلى رأسماليات متناحرة ممكنا رغم استمرار التنافس الذي بات يتخذ شكلا جديدا، كما أصبح لدى الشركات الاحتكارية الكبرى، حيث التوافق يسبق التنافس، و”كسب المواقع” يكون بحركات مدروسة “غير استفزازية”، وتتحدد الأسعار باتفاق بينها.

ثالثا، العنصران السابقان كانا يشكلان الميل المتسارع الذي أعقب أزمة الكساد، كما كانا يفضيان إلى تمركز وتركز كبيرين في الرأسمال، وفي تداخل الرأسمال ليتجاوز “ما هو قومي”، وتصبح الدولة جزءا من “العملية الاقتصادية”، ومن ثم ليكون التنافس و”سياسة القضم” هما المسيطرين في إطار العلاقة الداخلية للرأسمال. وبهذا باتت الرأسمالية “طبقة موحدة” داخليا، ومتوحدة في مجمل النمط الرأسمالي. وأصبحت المراكز الرأسمالية (أمريكا، إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، واليابان) مركزا إمبرياليا واحدا، رغم وجود الاختلاف في العديد من المراحل. لقد تشكّل “الثالوث” تحت السيطرة الأمريكية. وبهذا بات هناك مركز وأطراف، هو التعبير عن طابع النمط الرأسمالي في هذه المرحلة. وهنا نلمس كيف أن تضيُّق السوق فرض نشوء “إمبريالية عليا” كان كاوتسكي يهجس بها، رغم أن هجْسه كان يقود إلى سياسات خاطئة، ورغم أن ما فرض ذلك هو نشوء الاشتراكية وتوسعها عالميا.

رابعا، فرض ضيق السوق أن يجري العمل على “توسيع السوق الداخلي”، حيث فرضت الضرورة على الرأسمالية أن تخفّض نسبة الربح في قانون فائض القيمة لمصلحة الأجور. فإذا كان انتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، والخوف من انتقال الثورة إلى “حضن الرأسمالية” فرض التفكير في عقد “مساومة تاريخية” بين الرأسمال والعمل، ودفع الرأسمالية إلى إعادة تشكيل النظام السياسي على أساس ديمقراطي، فقد أدت أزمة الكساد ومن ثم مجمل التشكيل الذي بدأ يتبلور حينها، إلى أن “تعيد صياغة” وضع الطبقات في بلدانها، يتضمن ذلك تحسين الأجور لزيادة الطلب على السلع (طبعا إضافة إلى تحسين شروط العمل وتحقيق الضمان الاجتماعي، وضمان البطالة وغيرها). هذه هي مرحلة “دولة الرفاه” أو “النيو ديل”، حيث جرى تخفيض الأرباح في المراكز، لكن مع زيادة نهب الأطراف التي ظلت خاضعة للنمط الرأسمالي. وربما يبرز وضع أمريكا اللاتينية، وبعض بلدان آسيا، كمجال للنهب خلال هذه المرحلة.

خامسا، في هذه الوضعية توسعت الفئات الوسطى أكثر، وتحدد حجم الطبقة العاملة في المراكز بنسبة الربع من القوى العاملة تقريبا، و”تبرجزت” حسب تعبير لينين الذي أشار إلى تبرجز جزء من الطبقة العاملة في زمنه، لكنها هذه المرة تبرجزت كلها. ليظهر أن المراكز تشكّل “الطبقة العليا” في إطار النمط الرأسمالي ككل، حيث هناك البرجوازية التي تحتكر الثروة، لكنها رفعت من سوية العمال المعيشية بشكل كبير، ووسعت من الفئات الوسطى المفيدة كسوق داخلي وكأساس لبنية السيطرة على مجمل النمط الرأسمالي. هنا “تحصّنت” الرأسمالية في المراكز ضد الثورات، وحوّلت الصراع الطبقي من أن يكون صراعا تناحريا إلى أن يصبح صراعا “سلميا”، سلسا، ويقوم على ممارسة كل أشكال الاحتجاج الشرعية. فقد وُضع “تحت السيطرة”، وكان يسهم في ذلك “الريع الإمبريالي” المتأتي من نهب الأطراف. ولا شك في أنه مرتبط بالقدرة على تحقيق “الريع الإمبريالي” من قبل الطغم الإمبريالية، وسيتهدد بالتأكيد في حال تراجع هذا الريع.

التحوّل الجوهري حدث بعد نهاية مرحلة “الاستقرار”، حيث أفضى التكوين الرأسمالي سالف الشرح إلى أزمة، تمثلت كما شرحها الاقتصاديون في ترافق الركود مع التضخم. وهو الأمر الذي أفضى إلى “عودة الليبرالية”، حيث بات خطاب الرأسمالية يركّز على “السوق الحرة”، وعلى التحرر من دور الدولة الاقتصادي. هذا هو منظور “مدرسة شيكاغو”، وهو الأمر الذي فرض انتصار مارجريت تاتشر في إنجلترا وهيلموت كول في ألمانيا، وحتى فرانسوا ميتران الاشتراكي في فرنسا (الذي قام بتطبيق السياسات ذاتها)، وريجان في أمريكا، حيث عمل كل منهم على التحرر من “دولة الرفاه”، وخصخصة القطاعات الاقتصادية التي حملتها الدولة سابقا، والضغط من أجل التخلص من كل “المنجزات” الاجتماعية التي تحققت. وظهر منذئذ أن سياسة التخلي عن “دولة الرفاه” يسير بشكل منتظم.

في الولايات المتحدة، التي شهدت الإشكالية ذاتها، أي الكساد والتضخم معا، كان الأمر أكثر تعقيدا، حيث ظهر أنها تدخل في أزمة طويلة تجرّ خلفها كل النمط الرأسمالي. فقد أخذت تظهر مسألة “التراكم المالي” نتيجة دور الرأسمال الأمريكي في بناء كل من أوروبا واليابان، والتمركز الكبير من خلال نشوء الشركات الاحتكارية الضخمة، وميل الرأسمال الأوروبي (والعالمي) إلى التوظيف في أمريكا “بلد الفرص الكبيرة”. هذا التراكم الذي كان يؤشّر لمشكلة كبيرة ستظهر بوضوح شديد في السنوات التالية، حيث أصبح المال المتراكم ظاهرة تؤشّر إلى أزمة من نوع جديد. لكن سنلاحظ أن الولايات المتحدة باتت تعاني، بعد أن أسهمت في بناء ألمانيا واليابان وإنهاض أوروبا، من اختلال الميزان التجاري بعد أن باتت الصناعات الأوروبية اليابانية تنافس في السوق الرأسمالي ذاته. تبع ذلك عجز الميزانية وتراكم المديونية. وإذا كانت فكّت ارتباط الدولار بالذهب وفق اتفاق بريتن وودز، الذي يعني تحرير طباعة الدولار بعد أن بات بلا حاجة إلى كمية معينة من الذهب، فقد عملت على ربط سعر النفط بالدولار، لكنها كذلك تقدمت لتغيير “نظم التحرر” وتعميم سياسة الخصخصة، وفرض ميل هذه الدول إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي ومن البنوك العالمية.

لقد مرض الاقتصاد الأمريكي، ودخلت الدولة في مرحلة المرض كذلك. ولما كانت هي مركز المراكز، أي الدولة المهيمنة على الثالوث، وكانت الشركات متعددة الجنسيات هي في الغالب أمريكية، وأصبح التراكم المالي يتضخّم في البنوك (التي هي أضخم مما ينبغي) ويسبب حالة من “الركود” نتيجة إشباع الاستثمار في مجمل قطاعات الاقتصاد الحقيقي، باتت أزمتها هي أزمة الرأسمالية ككل. فقد فرض التنافس الذي أدى إلى عجز في الميزان التجاري إلى أزمة كبيرة للشركات الأمريكية فرض أن تشهد عمليات إفلاس وتمركز كبيرين سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. وكان من آثار هذه العمليات إخراج جزء من الرأسمال من التوظيف في “الاقتصاد الحقيقي”. كما أن التعويض عن عجز الميزان التجاري بطباعة الدولار قد راكم من كمية النقد بشكل متسارع طيلة تلك السنوات. وأدى فرض بيع النفط بالدولار إلى قدوم مليارات الدولارات إلى البنوك الأمريكية (بعض ذلك كان مفروضا على الدول المصدرة، خصوصا دول الخليج). كل ذلك كان يضخّم الكتلة المالية التي تنشط خارج الاقتصاد الحقيقي، ويدفع بها لأن تصبح هي الكتلة المهيمنة. وربما كانت هذه اللحظة هي حالة التحوّل “النوعي” في مجمل الاقتصاد الرأسمالي، حيث أصبح المال يهيمن على الرأسمال.

أشرت إلى أن أزمة “التراكم المالي” ظهرت منذ سبعينيات القرن العشرين قبل أن تتفاقم منذ تسعينياته، وتؤسس لـ”بنية” جديدة طابعها مالي. وهو الأمر الذي أدى إلى البحث عن حلول لهذه الأزمة منذ نهاية السبعينيات كذلك، حيث جرى الشغل على التوظيف في المديونية لبلدان الأطراف (وحتى بعض البلدان الاشتراكية) قبل أن تعمم المديونية داخليا في الولايات المتحدة. وجرى اختراع المشتقات المالية، ومن ثم تعميم أسواق الأسهم عالميا كي تُعمم المضاربة. ثم جرى التوظيف في التقنيات الجديدة (عقد التسعينيات من القرن العشرين). وفي الأبحاث حول التعديل الجيني. وانفلت المال للمضاربة على السلع والعملات الوطنية. وفي المضاربة في العقارات. وكان كل ذلك يعزز من التراكم المالي نتيجة نسبة الربح الكبيرة (بعكس نسبة الربح في الاقتصاد الحقيقي، وخصوصا في الصناعة)، وبالتالي يعمِّق من الأزمة، ويضخمها بشكل متسارع. هنا يمكن أن نشير إلى ماركس الذي اشار إلى تحوّل المال إلى رأسمال عبر التوظيف في الصناعة، ووضّح أن الربح كان في الشكل الأول يقوم على النشاط المالي ذاته (ن – نَ)، بينما بات يقوم على النشاط المنتج (ن – س – نَ)، أي عبر العمل الذي يؤدي إلى إنتاج السلع. ولنلمس أن الأمور تعود إلى “البداية”، لكن متضمنة الشكل الثاني، حيث بات الإنتاج تابعا للنشاط المالي.

في ظل هذه الوضعية باتت الطغم المالية هي التي تهيمن على اقتصاد العالم، وتتحكم بالدول الإمبريالية، وبالتالي تعمل على فرض سياسات تخدم التوسع المالي أكثر مما تخدم تصدير السلع. لكنها داخليا كانت تفضي إلى تراجع الاقتصاد الحقيقي، وزيادة نهب العمال، وتفقير الفئات الوسطى. فقد أصبح تسارع التمركز المالي واضحا بشكل فاقع، وباتت نسبة استحواذ أقلية ضئيلة تمثل أقل من 1% على النسبة الأكبر من الثروة. إن آليات التراكم المالي هي أسرع من آليات التراكم الرأسمالي، وهي تظل تتسارع بشكل كبير. وهو الأمر الذي يعني تقليص نسبة الثروة التي تخص الطبقات الأخرى، حيث تُفرض سياسات التقشف وتقليص الأجور، أو وقف زيادتها بالتوازي مع تسارع التضخم، وتُفقد الوظائف مما يؤشر إلى زيادة نسبة البطالة مع تقلص فرص العمل. كما يبدو واضحا الميل للتخلص من كل “منجزات” دولة الرفاه فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي وضمان العمل والشيخوخة. ويعود الاستغلال الرأسمالي الذي “تلاشى” عبر صفقة “المساومة التاريخية”، ليعود حراك الطبقة العاملة، والفئات الوسطى، التي يُضحَّى بها.

وفي هذا التكوين نلمس إزاحة في تشكّل الطبقة الرأسمالية لمصلحة سيطرة الطغم المالية، التي يقوم نشاطها الأساسي على التوظيف المالي بالتحديد، رغم أنه لا يوجد فصل بين هذه وتلك التي تملك الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات. ربما كان البعض يميل أكثر للنشاط في المال، لكن ملاّك الاقتصاد الحقيقي ينشطون كذلك في المال، بالضبط لأنهم من راكم الثروة من خلال الاقتصاد الحقيقي إلى أن بات التراكم أعلى من القدرة على إعادة توظيفه في الاقتصاد الحقيقي ذاته. وإذا أخذنا وضع الدول الرأسمالية نجد أن الطغم المالية هي الأكثر هيمنة في أمريكا بينما تسيطر رأسمالية منتجة في ألمانيا، ولهذا نجد أن أمريكا هي الأكثر تأثرا في ما ينتجه الوضع الجديد من أزمات عكس ألمانيا التي لا زالت الأقل تأثرا بأزمة الرأسمالية. وستبدو إنجلترا أقرب إلى أمريكا بينما فرنسا أقرب إلى ألمانيا في هذه السيطرة في إطار الرأسمالية ذاتها. في المقابل نجد أن روسيا هي أقرب لأن تسيطر فيها رأسمالية تنشط في المال بينما تسيطر رأسمالية منتجة في الصين، رغم أن الصين باتت تتأثر بالتحوّل المالي نتيجة التراكم الهائل لديها.

لقد تقلص الاقتصاد الحقيقي لمصلحة اقتصاد المضاربة، تقلص الرأسمال لمصلحة المال، وأصبح الميل المتسارع لتحقيق التراكم الأعلى ينعكس على البنية الداخلية في المراكز الرأسمالية، بحيث باتت البطالة قائمة وتتوسع، وانحدار وضع العمال والفئات الوسطى لن يتوقف. وهذا يؤذن إلى الدخول في مرحلة من الصراع الطبقي سوف تتصاعد. وما سوف يعزز ذلك هو الأزمات التي يمكن أن تحدث نتيجة “انفجار الفقاعات”، هذه الفقاعات التي هي نتاج التركيز في التوظيف على قطاع معين، أو الإفراط في المديونية، أو المضاربة غير المحسوبة، والتي تتضخم إلى حدّ الانفجار نتيجة ذلك، ويؤدي انفجارها إلى أزمة كبيرة في الاقتصاد الرأسمالي ككل. وهو الأمر الذي يؤدي إلى تقليص أكثر في فرص العمل، وتشريد عمال وموظفين، كما إلى تراجع الأجور وفرص الاستثمار.

في ظل تفاقم الصراع الطبقي ستكون المسألة محدَّدة في دور الطبقات المتضررة، فهل سيكون العمال هم مركز الصراع ضد الطغم الرأسمالية أو تتصدر الطبقة الوسطى التي تريد إصلاح النظام الرأسمالي؟

سنلاحظ هنا كيف أن الاتكاء على الريع الإمبريالي من أجل تحسين وضع الطبقة العاملة في المراكز قد جرى تجاوزه، على العكس من ذلك بات التراكم المالي يفترض نهب الأطراف بصورة أشدّ، وأيضا تشديد استغلال الطبقة العاملة وحتى الفئات الوسطى في تلك المراكز. لقد تصاعدت وحشية النهب إلى الحدّ الذي بات يفرض حتما نهب العالم. ولهذا أصبح “الاستقرار الطبقي” مهددا في المراكز ذاتها بعد أن صمد عقودا. إن عملية النهب التي ستطال شعوب المراكز الرأسمالية سوف تعيد صياغة تموضع الطبقات، بحيث يتراجع وضع العمال والفئات الوسطى نتيجة شطب الرأسمالية المسيطرة لكل ما تحقق من “حقوق” و”امتيازات” وشروط عمل، وهو الأمر الذي يعني انحدار وضعها في ظل تصاعد الأسعار وظروف المعيشة بشكل عام.

لقد بدأت الرأسمالية بتكوين مجتمع قائم على صراع: برجوازية- بروليتاريا، حيث كانت البرجوازية تتضيق عبر التمركز الرأسمالي، وتتوسع الطبقة العاملة نتيجة التوسّع في بناء الصناعة. لكن كانت السيطرة الرأسمالية على العالم تفترض توسيع الطبقة الوسطى نتيجة توسيع حجم جيوشها وبيروقراطيتها وموظفي الشركات، وهو الأمر الذي شكّل حلا لحدود قدرة التوسع الصناعي، الذي فرضت المنافسة أن يدخل الإنتاج الصناعي في نفق الكساد بشكل دوري. وبهذا أصبحت الطبقة الوسطى هي الأكثرية بدل الطبقة العاملة كما حلم ماركس. وأدت سياسة توسيع السوق الداخلي إلى ثلم “ثورية” الطبقة العاملة ودمج الفئات الوسطى في بنية الرأسمالية المسيطرة، وهو الأمر الذي حقق الاستقرار الطويل للرأسمالية في بنيتها المركزية. لقد تراجع “التناقض الرئيسي” إلى مرتبة ثانوية، وتحوّل الصراع الطبقي إلى آليات ضغط على البرجوازية، واختفى حلم الاشتراكية، كما جرى تجاوز السعي لتحقيق الثورة الاشتراكية، ومال اليسار إلى التكيّف مع بنية الرأسمالية، وبات معنيا بـ”الإصلاح” فقط. وكان هذا الأمر هو نتاج التكوين الطبقي الذي شكلته الرأسمالية، حيث بات ميل العمال “إصلاحيا”، وأصلا إن ميل الفئات الوسطى هو نحو التكيف مع النمط القائم.

ما يمكن أن يضاف هنا هو أن انهيار الاشتراكية أدى إلى انتقال الدول التي كانت اشتراكية إلى الرأسمالية. وإذا كانت قد انخرطت في النمط الرأسمالي فقد ظهر أن معظمها قبل أن ينخرط من موقع التابع، مثل دول أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا، حيث باتت خاضعة للمراكز الرأسمالية، بعد أن هيمنت ألمانيا على شرق أوروبا، وحاولت أمريكا العودة إلى جنوب شرق آسيا. بينما تقدمت الصين بهدوء لكي تهيمن كإمبريالية واستطاعت ذلك مستغلة سعة سوقها الذي مثّل إغراءً للشركات الصناعية الأمريكية الأوروبية، كما استغلت تراجع الإنتاج الأمريكي لكي توسّع من صادراتها. ومن ثم راكت رأسمالا هائلا بدأت توظفه في كل أطراف العالم. وبالتالي باتت منافسا خطرا، رغم هدوء توسعها ونشاطها. أما روسيا، التي عملت أمريكا على تحويلها إلى دولة “عالمثالثية”، فقد نهضت تحاول التوسع رغم ضعف اقتصادها، وربما كان هذا الضعف هو سبب توترها وعدوانيتها وعنجهيتها. وبهذا بات كل من الصين وروسيا مركزان جديدان، أو إمبرياليتين جديدتين تنافسان الإمبرياليات الأخرى.

بالتالي، السؤال الآن يتمثل في كيفية تحوّل وضع العمال والفئات الوسطى بعد أن أصبح الميل الأساسي للرأسمالية هو نهب الفائض كما بدأت. هذا الأمر يقود إلى الاستنتاج بأن الصراع الطبقي سوف يعود إلى هذه البلدان. لكن يجب التوضيح أن أثر الأزمة الاقتصادية، والسياسات التي يمكن أن تفرضها الطغم المالية ستنعكس بشكل متفاوت على مجمل الرأسماليات. خصوصا أن هناك فروقا في التكوينات الطبقية بين المراكز القديمة و”محيطها” الذي يعتبر جزءا من المراكز ذاتها (مثل جنوب وشرق أوروبا، وكوريا تايوان، وبعض بلدان آسيا الأخرى). حيث أن التشكيل الطبقي فيها لم يصل إلى ذاك المسيطر في المراكز ذاتها، فحجم الطبقة العاملة أكبر، ووضعها أسوأ، وكذلك حجم الفئات الوسطى ووضعها، وبرجوازيتها ضعيفة وتكاد أن تكون تابعة. هذا الوضع يشبه وضع الطبقات في روسيا، وأيضا الصين، رغم ميلهما الإمبريالي. وهو الميل الذي سيصطدم بعدم القدرة على التوسع الخارجي من طرف، والداخلي من طرف آخر. وبهذا سوف يظل وضع العمال والفئات الوسطى قلقا وقابلا للانفجار.

بنية اقتصاد الأطراف

أسبقية الرأسمالية في أوروبا، مع كل التطور التقني الذي أنجزته أو أنتجها، جعلها في وضع التفوق مقابل الأطراف التي ظلت زراعية متخلفة، أو حتى قبلية وبدائية. ولهذا انحكمت الأطراف لمسارات الرأسمالية ذاتها من خلال التوسع الاستعماري، وفرض مصالح الرأسمال بالقوة. وتطورت في حدود تلك المصالح، إلى أن انتقلت بعض البلدان إلى الاشتراكية أو حكمت فيها “نظم تحررية” لبعض الوقت، الأمر الذي فرض تغيرات انعكست على الرأسمالية ذاتها كما لمست سابقا، وحتى بعد انهيار هذه المحاولات لتحقيق التطور، حيث عادت الرأسمالية لأن تصبح نمطا عالميا دون “خارج على القانون”.

فقد عملت الرأسمالية المستعمِرة على “ضبط” وضع التحوّل في هذه البلدان، وعملت على أن تخدم هذه التحولات مصالح الرأسمال. ولهذا أبقت على الطابع الزراعي، وحوّلت في طبيعة بعض الزراعات نتيجة حاجتها إلى القطن والحرير والقمح، مبقية على العلاقات الزراعية هي ذاتها، حيث تحالفت مع كبار ملاّك الأرض. ولقد نمّت فئة تنشط في التجارة هي من أبناء هؤلاء الملاّك في الغالب، وتقوم بدور السمسرة بين صناعات المراكز والسوق المحلي. كما نمّت فئة تنشط في المال والخدمات وبيروقراطية الدولة. وبهذا ظل الاقتصاد يقوم على الزراعة ويخضع لنظام إقطاعي رغم وجود “الهوامش المدينية”، لكن المتداخلة مع كبار الملاّك كما أشرت. وهي الوضعية التي حكمت الأطراف إلى ما بعد الحرب الثانية، حيث فرضت الحرب ونتائجها تراجع الاستعمار، واستقلال الدول المستعمَرة. رغم أن مصالح الطبقة المحلية التي حكمت تحت السيطرة الاستعمارية، وترابطت مع الرأسمال الإمبريالي، والتي ظلت في الحكم، فرضت الالتحاق السياسي بتلك المراكز، والتبعية لها. وبالتالي استقلت الدول لكن نظمها ظلت تابعة، وتعمل في إطار الرؤية الرأسمالية، رؤية المراكز الرأسمالية. كما ظل الاقتصاد وفق ما صيغ في المرحلة الاستعمارية، وبقي كبار ملاّك الأرض والتجار هم الطبقة المسيطرة/ الحاكمة. وكان هذا الاستمرار لسلطة هؤلاء سببه الواقعي، لأنهم ترابطوا مصلحيا مع المراكز الرأسمالية، وبات وجودهم، وأرباحهم، يتحققان عبر هذه العلاقة القائمة على التبعية. فهم ينشطون في “حلقة وسيطة” أصلا، لأنها تنشط في التجارة والخدمات والبنوك.

في هذه الوضعية كانت طبقة “إقطاعية” مترسملة تنشأ، وتصبح في ترابط مع الرأسمالية في المراكز، وكانت هي الطبقة التي تتولى السلطة تحت إشراف الاستعمار، ومن ثم “مستقلة” عنه، الاستقلال الذي كان شكليا بشكل كبير. بينما ظل الريف هو التكوين الأساسي، حيث أغلبية السكان، وحيث الإنتاج. وفيه كان يتمحور الصراع الطبقي، لأن يضم فئات من ملاّك الأرض المتوسطين والصغار، ومن الفلاحين الفقراء الذين كانوا هم الأغلبية فيه. هذه الفئات الأخيرة كانت “مغرقة في التخلف”، وفُرض عليها الفقر والجهل والسخرة، أي أقسى أشكال الاستغلال. وهو الأمر الذي كان يفاقم الصراع الطبقي في الريف، ويجعل التناقض بين الفلاحين وكبار ملاّك الأرض هو التناقض الرئيسي. كل ذلك رغم التناقض الذي كان يحكم المدن، وكان في جوهره ضد ملاّك الأرض والبرجوازية المتوالدة منها أيضا.

فقد كانت تنمو “طبقات جديدة” في المدن، حيث يقطن كبار ملاّك الأرض، وتنشأ الطبقة التجارية، والفئات التي تنشط في الخدمات والبنوك والعقارات. العمال الصناعيون وعمال الخدمات والبناء، والفئات الوسطى المتعلمة وموظفو الدولة، والتجار والحرفيون الصغار. وأيضا كان وضع هؤلاء صعب نتيجة الفقر وضعف فرص العمل والأجور المنخفضة. وهذا ما كان يجعل المدينة هي التي تحتوي حركات الاحتجاج، الإضرابات والاعتصامات وحتى الانتفاضات. لكن دون رابط واضح مع الريف وصراعاته، وهذا ما كان يُضعف تلك الحركات، ويجعل السلطة قادرة على سحقها. ولا شك في أن السبب الجوهري هو غياب فاعلية الأحزاب التي تعبّر عن هؤلاء، وانحسارها المديني أو غياب رؤية تغييرية لديها أصلا. وبهذا ظلت حركات الاحتجاج عفوية في الغالب، حتى وهي تتنظم في المدن ضمن نقابات واتحادات.

لكن نهاية الاستعمار فتحت على تفجّر الصراع الطبقي الذي أفضى إلى “قطع” مع هذا التكوين في الكثير من بلدان الأطراف كما أشرت قبلا. وكما أثّر ذلك على التكوين الاقتصادي الطبقي في المراكز أثّر على التكوين الاقتصادي الطبقي في الأطراف. حيث لعبت فئات ريفية، عبر الجيش في كثير من الحالات، دور القوة التي استولت على السلطة، فأنهت سيطرة كبار ملاّك الأرض والتجار (ومجمل البرجوازية المحلية)، وفرضت سيطرة الدولة على جزء مهم من الاقتصاد الوطني بعد أن حققت الإصلاح الزراعي ووزعت الأرض على الفلاحين، ووسعت من حجم القطاع الصناعي، ومن الفئات الوسطى. كما أدى ذلك إلى توسّع المدن على حساب الريف، وعممت التعليم. لقد أسست اقتصادا قائما على تحكّم الدولة بالعلاقة مع السوق العالمي، رغم أن ذلك لم يعنِ القطع، بل عنى ضبط العلاقة كي لا يهرب فائض القيمة إلى المراكز، ولقد حوّلت من علاقاتها التجارية من المركز الأمريكي إلى أوروبا خصوصا، بعد أن زادت في إنتاجية الاقتصاد ليتراجع الاختلال في الميزان التجاري.

هذه المرحلة شهدت استقرارا مجتمعيا نتيجة إنهاء سيطرة الطبقة القديمة. وتفكيك الملكية الزراعية، مما أوجد فئات فلاحية وسطى كبيرة العدد. والبدء ببناء الصناعة، مما وسّع من حجم الطبقة العاملة، التي أُعطيت حقوقا كبيرة (مشابهة لتلك في دولة الرفاه، وحتى في البلدان الاشتراكية). وفتح التعليم المجاني والتوظيف في أجهزة الدولة إلى توسيع الفئات الوسطى المدينية. وهذه هي القاعدة الاجتماعية التي قامت عليها تلك النظم، التي اتسمت بالدكتاتورية رغم سعة هذه القاعدة الاجتماعية. لقد قامت التجربة على دور فئات ريفية في الغالب كان الجيش هو الشكل الوحيد الذي سمح بـ”تنظمها”، وأداتها في التغيير بعد أن فشلت أو استنكفت القوى المدينية عن ذلك. ولهذا كان منظورها يتمثل في إنهاء الإقطاع وتحرير الفلاحين، ومن ثم حمل مشروع بناء الصناعة وتحديث المجتمع ونشر التعليم. بمعنى أنها حاولت تحقيق التطور الرأسمالي الذي كان محتجزا نتيجة ارتباط البرجوازية المحلية بالمراكز، وفرض استمرار “الاقتصاد الحرّ”، الذي هو الأرضية التي يقوم عليها تنافس غير متكافئ يخدم مصالح المراكز ذاتها. هذا الشكل من التطور الذي كان يحمل طموح بناء الصناعة والحداثة قام على يد فئات وسطى ريفية كان حلمها هو الإرتقاء الطبقي، وكان يسكهنا الجموح نحو التملُّك رغم أن مشروعها طُرح في إهاب اشتراكية، حيث لم تكن الاشتراكية سوى اشتراكية الفلاحين الطامحين إلى التملك. لهذا، إضافة إلى غياب الكفاءة والتأثر بصلات القرابة، عملت على نهب “القطاع العام” الذي كان عماد التطور الاقتصادي، فنشأ “البروز الرأسمالي الكبير” الذي فرض إعادة الربط مع النمط الرأسمالي بعد أن بات همّ الفئات الناهبة هو النشاط في التجارة والخدمات والعقارات، أي في “القطاع الثالث” كما يسمى في الفكر الاقتصادي.

أدى هذا التحوّل إلى تصفية الصناعة وإهمال الزراعة، والتركيز على الاستيراد، والعقارات والبنوك، في سياق العلاقة مع المراكز الرأسمالية. فقد تشكلت خلال هذه المرحلة طبقة من “رجال أعمال جدد” هم في الغالب ممن كان من بيروقراطية الدولة، ونهب ما يستطيع، فراكم الرأسمال الذي يمكن أن يوظفه. وهذه الطبقة التي سيطرت على السلطة قامت بإعادة البرجوازية القديمة بالسماح لها بالعودة إلى النشاط، وقامت بإعادة الأرض لملاّكها القدامى. من كل ذلك تشكلت الطبقة الجديدة التي يهيمن عليها “رجال الأعمال الجدد” كونهم الماسكين بالسلطة. وهي الطبقة التي قامت بالتخلي عن كل الحقوق التي حصلت الطبقات الشعبية عليها، من التوظيف إلى الضمان الاجتماعي إلى دعم السلع، إلى انهيار الأجور مع الانفتاح على الرأسمالية والاعتماد على الاستيراد، وانهيار العملة المحلية، والميل لخصخصة كل ما كان يقع تحت سيطرة الدولة. وهي العملية التي بدأت منذ سبعينيات القرن العشرين واستمرت عقودا ثلاثة بعد ذلك، وربما لا زالت بقاياها مستمرة.

بذلك تراجع حجم العمال وساء وضعهم، وانهارت الفئات الوسطى، وأُفقر الريف، خصوصا بعد أن جرى تحويل الأرض الزراعية إلى عقارات، والاعتماد على استيراد السلع الغذائية. بهذا توسّع “جيش العمل الاحتياطي” الذي ضم عمالا وفئات وسطى متعلمة، وبات وضع العمل صعبا نتيجة فقدان كل الحقوق وضآلة الأجر، وانهار وضع الفلاحين المتوسطين والصغار، والفئات الوسطى المدينية. وهو الوضع الذي شكّل الأساس لبدء حركات الاحتجاج والانتفاضات منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين.

لقد أصبح الاقتصاد ريعيا، حيث يتمحور النشاط الاقتصادي في قطاعات العقارات والخدمات والاستيراد والبنوك والسياحة. وهو الأمر الذي فرض الاعتماد على الاستيراد، ما أدى إلى اختلال فظيع في الميزان التجاري. وبدأت الطبقة المسيطرة تميل إلى الاعتماد على المديونية تحت حجة عجز الميزانية التي هي نتاج الدعم الحكومي! وكان ذلك مرتبطا ببدء التحوّل في الرأسمالية ذاتها، التي باتت تحتاج إلى توظيف المال المتراكم، فمالت إلى تعميم “خطاب المديونية”، الذي كان يشكّل استثمارا يدرّ الربح الأعلى. هذه هي سنوات “التحرر الاقتصادي” التي انحكمت لشروط صندوق النقد الدولي، الصندوق الذي اعتمد سياسة اقتصادية فرضها خبراء يتبعون الشركات الاحتكارية والطغم المالية، وهدفت إلى فرض سياسات تودي بالاقتصاد المحلي وتفتح لتوسيع الاستيراد ونشاط الرأسمال الإمبريالي، حيث تلغي دور الدولة الاقتصادي سواء بالتخلي عن القطاع العام، أو عن ضبط التجارة الخارجية وحركة رأس المال، وتنهي دعم الدولة للسلع وللخدمات ولحقوق العاملين. ورغم أنها تقوم بكل ذلك تحت حجة التخلص من عجز الميزانية تقوم في الوقت ذاته بـ”إقناع” الفئة الحاكمة بالحاجة إلى الاستدانة من أجل تجاوز عجز الميزانية. ولقد ظهر أن هدف الاستدانة، إضافة إلى أنه توظيف مالي مربح جدا، هو ربط الدولة بعلاقة قهرية مع الدول والبنوك الدائنة. واستغلال ذلك لتمرير قرارات تعطي حرية مطلقة لنشاط الرأسمال الإمبريالي ولنشاط الشركات الاحتكارية. حيث تنشط في قطاعات “سريعة الربح”، غير منتجة بالضرورة، وفي الغالب في العقارات والبنوك وأسواق الأسهم، والخدمات (المطاعم والمولات وغيرها).

وبهذا تشكلت طبقة من “رجال الأعمال” الذين ينشطون في قطاع ريعي، هو قطاع الخدمات والعقارات والاستيراد والبنوك والسياحة، وتجاهلت التوظيف في الزراعة (سوى ربما في زراعة التصدير جزئيا)، أو الصناعة. لقد سطا هؤلاء على ممتلكات الدولة بأبخس الأثمان، ونشطوا في قطاع ريعي يقوم على الخضوع للشركات الاحتكارية والطغم الإمبريالية. بينما أُفقرت طبقات شعبية، وازداد عدد الذين لا يجدون عملا، وباتت الأجور لا تفي بممكنات العيش، وخسر هؤلاء كل الحقوق التي تحصلت عليها، وانهارت الخدمات العامة والطبابة العامة، وتحررت أسعار السلع والخدمات.

ما أفضى إليه التحوّل المالي في الرأسمالية هو زيادة الميل نحو ريعية الاقتصاد، والتركيز على النهب. لقد أصبح للنشاط المالي الأثر الأكبر، سواء من خلال تعميم أسواق الأسهم، أو من خلال “الاستثمار قصير الأجل”، أو من خلال التوظيف في العقارات والفنادق والمولات والمطاعم. فقد أصبحت الأطراف جزءا من نشاط المال، الذي يسعى إلى الربح السريع والأعلى، بغض النظر عن النتائج التي يتركها هناك. إن ضخامة الكتلة المالية “الفالتة”، وبالتالي التي تبحث عن توظيف، هي التي باتت تفرض طبيعة العلاقات في الأطراف، وتسهم في إعادة تشكيل الرأسمالية المحلية، التي باتت كومبرادورية وباتت مافياوية. حيث أنها تحبّذ النشاط السريع (الاستثمار قصير الأجل)، والمضاربة في البورصة، والاستثمار في القطاعات المشار إليها، وحتى في أبسط القطاعات، بعد أن باتت تحصل على امتيازات أكبر من الرأسمال المحلي، وتُحمى بشكل كامل. هذا التدخل والاستحواذ هو الذي جعل الرأسمال المحلي يميل إلى “الهبش”، أي النهب الفظيع عبر العلاقة مع السلطة، وهو الأمر الذي أنتج رأسمالية بات يُطلق عليها: رأسمالية المحاسيب، لكنها في الجوهر هي أقرب إلى المافيا منها إلى الرأسمالية.

رأسمالية الأطراف

الآن نعود إلى رسملة الأطراف. البلدان التي تخلفت عن التطور، أو بشكل أدق التي سبقها التطور الرأسمالي في أوروبا. البلدان التي جرت السيطرة عليها استعماريا لكي تكون مجال حاجة الرأسمالية، سواء من خلال الحاجة للمواد الأولية والغذاء، أو نتيجة الحاجة لتصدير السلع والرأسمال في سياق عملية التراكم الرأسمالي الذي كان بحاجة لأن يكون عالميا منذ البدء. لهذا جرى إخضاعها لعلاقات رأسمالية دون وجود قوى إنتاج هي التي أوجدت الرأسمالية، وأقصد هنا الصناعة. وهذه الحالة هي التي أوجدت الربط بين المراكز والأطراف، حيث الأطراف تخضع لعملية التراكم الرأسمالي التي تحكم اقتصاد المراكز.

فقد جرى تحقيق الربط التجاري، وافتتاح البنوك، والتحويل الرأسمالي في الزراعة عبر إخضاع إنتاج الريف لصالح الحاجة الاستعمارية، من خلال توجيه الإنتاج الزراعي نحو زراعة معينة تحتاجها المراكز. وبهذا كانت أراضٍ زراعية تحوّل لزراعة أحادية مثل القطن الذي كانت تحتاجه صناعات “لانكشاير” في إنجلترا، أو الحرير الذي كانت تحتاجه صناعات النسيج، والقمح الضروري لعيش وصناعات الحلويات وغيرها. وكانت هذه العملية تفرض إعادة بناء العلاقات الزراعية، وتربط كبار ملاّك الأرض بالمراكز، وبالتمركز أكثر في المدن. هذا ما كان يفضي إلى مسار يتجاوز العلاقات الإقطاعية السائدة، رغم استمرار سيطرة هذه العلاقات، والتي لم تنته إلا بعد التغيير الذي حدث بالانقلابات العسكرية، وتحقيق الإصلاح الزراعي. هذه الخطوة فرضت نهاية سيطرة كبار ملاّك الأرض، وإنهاء البرجوازية التجارية (الكومبرادور)، في تلك البلدان التي شهدت سيطرة “نظم التحرر الوطني”، رغم أن البلدان الأخرى تكيفت مع التطورات التي حدثت بفعل موجة التحرر الوطني وانتصار الاشتراكية، فقامت بخطوات تهمّش العلاقات الإقطاعية، وتعزز من سيادة العلاقات الرأسمالية.

كل هذه العملية أفضت إلى نهاية الإقطاع، وتشكُّل بنية رأسمالية دون أن تستند إلى قوى إنتاج حقيقية، ساد فيها الاقتصاد الريعي وليس الاقتصاد المنتج، كما أشرت قبلا. وإذا كانت الزراعة قد تحولت رأسماليا فبات الإنتاج الزراعي يقوم على الاستثمار الرأسمالي (مع بقاء الملكيات الصغيرة)، فقد خضعت لحاجات التصدير أكثر مما خضعت للحاجات المحلية. وأصبحت التجارة “في إتجاه واحد” في الغالب، أو بات الاستيراد هو السمة الحاكمة. وما أضافه التحوّل في الرأسمالية هو الزيادة الكبيرة في نشاط المال، في العقارات وأسواق الأسهم والاستثمار قصير الأجل، وفي المديونية. وبهذا فقد أصبحت السمة الجوهرية للرأسمالية هو أنها ريعية، مافياوية، وكومبرادورية. رأسمالية تعتمد على نهب ما يقع تحت سيطرة الدولة، بالترابط مع فئات سلطوية تصبح هي كذلك جزءا من الطبقة ذاتها.