متلازمة العمى العصبوي


معتز حيسو
الحوار المتمدن - العدد: 5635 - 2017 / 9 / 9 - 10:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



تقع مقدمات نشوء ظاهرة الإرهاب على درجة عالية من التنوع والتراكب. ما يعني إن أسباب ومقدمات وأبعاد نشوؤها الموضوعية: متعددة ومتنوعة، متحركة وكامنة، مستقلة وتابعة، متموضعة ومتمددة، ظاهرة وخفية. وتحمل إمكانية التوالد والتعويض. ونشوءها ليس نتاج لحظة استثنائية، أو نتاج فكر متطرف فقط. لكنه حصيلة تلاقح التطرف والتخلف الثقافي، الاجتماعي والاقتصادي، مع سياسات غربية استعمارية استعلائية. وكلا العاملين يتقاطعان مع استمرار سيطرة أنظمة سياسية أحادية تسلطية لها دور أساسي في تخلف مجتمعاتنا وإبقاءها رهينة للتبعية. ويعود ذلك في بعض من أسبابه إلى طبيعة العلاقة بين تلك الأنظمة وحكومات الغرب.
يقوم الإرهاب«الديني» على ركيزتان لا فكاك بينهما: فكر أيديولوجي قابل للتحول في ظروف محددة إلى عقيدة جهادية تميل إلى اجتثاث الآخر انطلاقاً من مقدمات أيديولوجية خلاصية ترتبط عضوياً بالوصاية على المجتمع والإدعاء بتمثيل الدين، والحكم باسم الله. والثانية التعصب القائم على التطرف والانغلاق على الذات. وكلاهما يؤسس إلى عصبوية عمياء تقود إلى دمار العمران وخراب المجتمعات، وتعميق التخلف والعمى العقلي والانقسام على الذات والتناقص التناحري الهدَّام.
لقد وفَّرت الأنظمة السياسية المسيطرة في سياق سياساتها الاقتصادية الفاشلة، وتغوُّل الفساد، إضافة إلى تجفيفها منابع الفكر السياسي العلماني وتجلياته السياسية والثقافية المدنية، تربة خصبة لنشوء وتطور الفكر السلفي الجهادي. ومعلوماً أن غير حكومة عربية تعتمد البراغماتية السياسية في سياق تعاملها مع الأديان السائدة ورموزها البارزين. يضاف لذلك اعتمادها سياسات توفيقية بين الدين ونهجها المدني الشكلاني والوظيفي لتبرير وتدعيم سلطتها الأحادية القهرية. بالمقابل استغل زعماء التطرف الديني أوضاع حكوماتهم التوفيقية في تنشيط حركاتهم الدعوية السلفية ولاحقاً الجهادية من خلال استغلالهم الجوامع والمدارس الدينية ومعاهد تحفيظ القرآن. وجميعها ساهم بتشكيل حواضن الفكر السلفي الذي أسهم لاحقاً في تمكين الحركات الجهادية.
من جانب آخر يشكِّل الإرهاب ظاهرة متحركة وكامنة ـ متموضعة ومتمددة. بمعنى أنه يحمل إمكانية الانكفاء والنكوص إلى مقدماته الأولية التي يتمثل جانباً منها في النشاط الدعوي للتطرف والسلفية الجهادية، في حال كانت العوامل الموضوعية لا تساعد في التمدد وتحقيق أهدافه بقوة السلاح المحمول على عقيدة الجهاد. لكن في ظروف أخرى مختلفة كالتي نشهدها منذ سنوات، فإنه ينتقل إلى طور التمدد العلني المحمول على قوة السلاح والعصبوية. ويسهِّل من التحول المذكور دفع أطراف خارجية إلى تمكين الصراع بأشكال ومضامين عقائدية دينية وطائفية. ونلحظ تجليات ذلك في سياق الصراع الذي يجتاح غير دولة عربية. علماً إن مقدمات الصراع الراهن وأسبابه الموضوعية سياسية اقتصادية واجتماعية. ونشير إلى أن الدفع بالمجموعات المتطرفة ومنها الجهادية إلى خط الصراع، فرمل حركة الانتقال إلى دولة المواطنة. ومن البداهة بمكان، أن يكون لذلك تأثيرات ومخاطر متعددة على مستقبل تحولات شكل الدولة ونمطها، وعلى أشكال التحولات الاجتماعية.
نؤكد أخيراً على أن الإرهاب يمتلك القدرة على التناسل والتعويض. ويتجلى ذلك في سياق استغلال السلبيات والتناقضات التي تنخر بنية المجتمع والنظام السياسي، وأيضاً توظيف التطور التقاني لتحقيق أهدافه. من جانب آخر فإن ارتهان الحركات الإرهابية لمصادر تمويل خارجية، يفسِّر دورها الوظيفي، وارتفاع وتيرة تناقضاتها الذاتية والبينة. ونشير إلى أن العنف المحمول على أيديولوجيا جهادية يبقى القاسم المشترك لجميع المجموعات الإرهابية. أما العدو المراد قتاله أو تصفيته فأنه يتسع ويتقلص، يتنوع ويتحدد بأشكال ومستويات تكشف عن تركيبة تلك المجموعات، وعلاقتها بسياسات ومصالح وأهداف الدول والأطراف الداعمة. علماً أن كافة المجموعات الجهادية تندرج في إطار الهويات العدمية القاتلة.