عن تكوّن الدول وصناعة الأمم وتفسّخها


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 5191 - 2016 / 6 / 12 - 12:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


باستثناء كتّاب المناسبات ومحبّي المديح، لا أظن أن كثيرين اهتموا بذكرى مرور ستّين عاما على استقلال الأردن قبل أسابيع. لا أنتمي للفصيل الأول من الكتّاب لكن المناسبة تهمّني.
تترافق المناسبة مع مرور قرن على اتفاقية سايكس- بيكو التي يُفترض أنها رسمت خارطة لدول منطقتنا لاتتوافق مع تركيباتها السكّانية والإجتماعية بل تلبّي المصالح الإستعمارية. كتب كثيرون، وكتبتُ، عن توحّد العرب المتنافرين في الجزم بأن إسقاط نظام البعث العراقي ومآلات ثورات الربيع العربي وصعود داعش وإعلان دولتها الإسلامية أنهت عملية أنتجها الخارج الإستعماري. نهاية تثير نشوة كثيرين لا سيّما الكرد لإنهيار مؤامرة تقسيمهم بين الدول وحرمانهم من حقّ تقرير مصيرهم وتثير حيرة وجودية لدى العروبيّين وكثير من اليساريين الذين ثقّفوا أجيالا بأن أمّتهم العربية تفتّتت بسبب هذه السايكس- بيكو وأن عليهم إعادة التاريخ إلى طبيعته بتوحيد الأمّة فإذا بداعش تنجز في أشهر ما لم ينجزوه طوال أكثر من نصف قرن من تحكّمهم المطلق بالسلطة في مصر والعراق وسوريا. هم ضدّ مايرونه مؤامرة جارية لتفتيت الدول القائمة لكنهم ضد داعش التي أعلنت دولة تسقط الحدود بين العراق وسوريا.
لمرور ستين عاما على استقلال الأردن دلالة كبيرة في هذا السياق. فهو البلد الأكثر اصطناعا وفقا للمؤمنين بجهنّمية سايكس- بيكو. وهو إذن حالة مختبرية لتفحّص هذا الأمر. هي ارض حار الغرب والجيران في إطلاق إسم عليها. هي جزء جنوبي مهمل من ولاية الشام. ثمة عراق شرقها، وفلسطين غربها. لكنها ليست أيّا من هاتين البقعتين. هي أرض تتعرّف بما هي ليست عليه لا بما هي عليه. صار اسم هذه البقعة إمارة شرق الأردن نسبة إلى اسم النهر الممتدّ أمتداد أرضها غربا. ثم صار اسمها المملكة الأردنية الهاشمية بعد عقدين.
طوال ستين عاما عايشت هذه الدولة ثلاثة حروب كبرى مع إسرائيل وحدودها أطول من حدود أي دولة عربية معها. هزّت تلك الحروب سوريا ومصر وحتى العراق البعيد. سقط نظام تلو الآخر في تلك البلدان لأن القادة الجدد رأوا في من سبقهم خائنا لقضية فلسطين. وكان الأردن متّهما على الدوام، صراحة أو ضمنا، بخيانته للقضية أو تخاذله في الدفاع عنها في أحسن الأحوال. وظل البلد متماسكا حتى وهو يخوض حربا دموية شبه أهلية عام 1970 مع منظمة التحرير الفلسطينية مع أن الفلسطينيين يشكّلون أكثر من نصف سكّانه.
تماسك الأردن يمثّل حالة مختبرية لتفحّص الفرضية التي انغرست في الأذهان وباتت مسلّمة يبتدئ كل محلّل للوضع بترديدها لإثبات استنتاجات متناقضة. والإشارة إلى هذه الحالة لا تنصرف إلى الإشادة بالبلد أو توجّهه السياسي، بل إلى التذكير بأن تفتّت العراق وسوريا وقبلها التفتّت المزمن للبنان ليس نتاج خرائط تم رسمها خطأ أو سوء نيّة حتى لو كان الأمر كذلك. تماسك سكّان دولة أو تفتّتهم هو نجاح أو فشل بناء أمّة داخل تلك الخرائط. والأمة صناعة لا معطى أزلي وليس هذا ما يراه القوميون المتحدثون عن "روح خالدة" للأمة العربية.
الأمة منتَج نجحت دول ذات أثنيات ولغات وديانات متعددة في صناعته وفشلت فيه أخرى. نجحت الهند متعددة الطوائف والقوميات واللغات في بناء أمة تضم مئة وثلاثين مليون مسلم وفشلت في دمج باكستان، نجحت سويسرا (التي نشير إلى كانتوناتها كمثال على التفتّت يجب تحاشيه) في تكوين أمّة من ثلاث قوميات وكان أكبر اختبار لتماسكها أن قيام الإتحاد الأوربي لم يغرِ أيّا من قوميّاتها في التوحّد مع القوميات الأكبر التي ينتمي إليها، فيما فشلت بلجيكا في تكوين أمّة.
لا تكمن المشكلة/ المأساة في الخرائط ولا في سايكس- بيكو إذن. تكمن بالأحرى في عجز سوريا والعراق، وقبلهما لبنان عن صناعة الأمة.
الدول التي تكوّنت عقب انتهاء الإمبراطورية العثمانية تشكّلت ضمن إطر وطنية، أي وفق معايير حداثية، أي دول المواطنة التي تستبدل تقسيم العمل المجتمعي الذي يتحدّد فيه موقع الجماعات تبعا لإنتماءاتها الطائفية/ الدينية/ العرقية بتقسيم عمل يتساوى فيه الأفراد قانونيا ويتبلور تمايزهم الإجتماعي وموقعهم في النظام السياسي بوصفهم افرادا لا أعضاء في جماعات لم يقرّروا انتماءهم لها. لكننا بعد قرن من الزمن ما زلنا نسعى لقيام دولة المواطنة المدنية. لايزال الشيعي والسنّي والمسيحي والعلوي يرى مظالمه مظالم طائفته وما يزال يرى حقوقه في النظام الإجتماعي- السياسي القائم حقوقا لطائفته. ومازال يستهدف مضطهديه بوصفهم ممثّلين لطائفة حاكمة تضطهد طائفته.
وسأستبق سؤال القارئ الفطن بالقول أن استقرار الأردن ودول عربية أخرى لا يعود إلى أنها بنت دولة المواطنة المدنية، بل إلى أنّها وبكل بساطة لم تدّع إقامتها نظاما حداثيا يرفع سقف توقّعات الأفراد في لحظات الفوران الثوري لتنهار بعد انحساره. هكذا كان حال العراق الملكي وسوريا ما قبل البعث. كان قادة تلك النظم يرون الوصول بمجتمعاتهم إلى الحداثة هدفا لا واقعا متحقّقا.
سلطات جمهوريات الحداثة صعدت إلى الحكم معلنة نهاية التراتب ومهاجمة توريث الحكم. أعلنت أن صعودها هو صعود الجماهير الكادحة التي باتت السلطة في يدها وهي في الحكم بوصفها طليعة تلك الجماهير. بذهنيتها العسكرية- الأمنية أصدرت مراسيم تلغي التركيبات الإجتماعية القائمة وانحازت الجمهرة لها. لكن طائفة الحاكم وعائلته تصدّرت المشهد. باختصار، أعيد انتاج النظام السياسي قبل الحداثي في ظل ادّعاءات ووعود حداثية.
وما يجري اليوم في العراق وسوريا ولبنان إنما هو "مفاوضات" بالسلاح بين طوائف وقوميات تغيّرت مواقعها صعودا أو هبوطا خلال نصف قرن ولم تكن ثمة سيرورة سلمية تعكس التوازنات الإجتماعية المتغيرة دوما فبات السلاح وسيلة السعي لصياغة عقد اجتماعي جديد بعد تهرّئ سابقه. قد تغالي طائفة أو قومية ما في تقدير وزنها، وقد يبخس الخصم وزن الطائفة أو القومية المنافسة فيصعّد شروطه.
ولعلّ علينا الرضوخ وانتظار نتائج تلك المفاوضات إذ أن فشلها سيوصلنا إلى لحظة تنصرف فيها كل مجموعة إلى كيانها الخاص لتستقل به.