ياللخصوصية السوداء


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 7264 - 2022 / 5 / 30 - 10:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


لم أستغرب أن يكون اسم المفكّر الأكثر اجتذابا للبحث على الإنترنيت خلال الأسابيع الماضية هو الروسي ألكسندر دوغان ولا أشك أن عددا كبيرا من هؤلاء الباحثين عن الإسم ليسوا من المهتمّين بالفلسفة، التي هي ميدان اهتمامه الأساس، بل لأنه يوصف ب"راسبوتين بوتين"، أي أبيه الروحي وملهمه الفكري. البحث عن اسم دوغان هو من جانب ناقري الإنترنيت، إذن، هو بحث عن منظور بوتين الفكري ورؤيته للعالم والعلاقات الدولية، وليس هذا ما يدور حوله هذا المقال.
تصاعدت شهرة دوغان منذ ربع قرن، حين أصدر كتابه "أسس الجيوبوليتيك" أو "أسس الجغرافية السياسية" عام 1997 الذي بات مادة تدريسية مقرّرة على طلبة أكاديمية هيأة أركان القوات المسلحة الروسية. وسيجد المنشغلون بالهم السياسي المباشر في هذا الكتاب وفي أعمال ومواقف دوغان الأخرى الكثير من الأفكار المثيرة مثل دعوته إلى قيام امبراطورية روسية جديدة تمتد من فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي إلى جبل طارق في أقصى غرب أوربا، ودعوته إلى قيام تحالف ستراتيجي معاد لأمريكا بين روسيا ودول البلطيق والعالم الإسلامي، لا سيّما إيران ودعوته إلى قتل المتظاهرين ضد نظام الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا عام 2014 (التي أجبرت الجامعة على إيقافه عن التدريس).
هذا النتف من مواقف دوغان قد توحي للقارئ بأننا أمام مهرّج نازي لا ثقل فكريا له. لكن الرجل ليس كذلك بالتأكيد. فهو مؤلف ثلاثة عشرة كتابا عن هايدغر، الفيلسوف ذي العلاقة الملتبسة بالنازية. وهو بدأ حياته في العهد السوفييتي ناشطا في منظمة سرية وترجم كتابات للفيلسوف والروحاني الإيطالي جوليوس إيفولا الذي لعب دورا مؤثرا في الحركات الفاشية والنازية خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وكان ناقدا حادا للحداثة وللنظام اللبرالي ولمبدأ التقدم وقيم الحرية والمساواة.
يرى دوغان أن الصراع مع الغرب يجب ألا يُصوّر صراعا سياسيا، بل هو صراع روحي ووجودي على "روح روسيا". إنه صراع بين حضارتين تتبنّى كل منهما مفاهيم ومنظومات قيم متفارقة جذريا عن الحقيقة وعن الإنسان. فالحضارة الغربية، التي تمر بمرحلة انحطاط وتراجع في رأيه، تقوم على أسس فلسفية زائفة أساسها "خطأ كارثي" هو الحداثة، التي يرى أنها ليست مرحلة تاريخية بل هي بناء فكري أو إطار معرفي ينفي القدسية عن الظواهر ويحيل الحريات الفردية وحقوق الإنسان والحقوق المدنية إلى حقوق كونية فيما هي (وفقا لدوغان، بالطبع) ليست سوى تجريدات مصطنعة وأدوات آيديولوجية تخدم مصالح الجماعات المتسلّطة وتلقي غشاوة على أعين الجماهير لكي تبقي على تحكّمها السياسي والإقتصادي. أما قيم الكونية والموضوعية والوضعية فليست سوى غطاء لماكنة دكتاتورية تهدف لغرس وعي لبرالي في الأذهان. وليست العولمة سوى سلاح لنشر تلك القيم والمفاهيم عالميا بما يمكّن الولايات المتحدة من السيطرة على البشرية.
يطرح دوغان بديله المعادي للعولمة مطلقا عليه تسمية التعددية الكونية pluverslaism (وهو مصطلح نحته فقيه القانون النازي كارل شمت) منطلقا من أن الأمم هي كيانات عضوية لها تقاليد وقيم ومفاهيم مختلفة عن العالم تنشأ وتتبلور عبر تاريخها. ولابد من الإستماتة في الحفاظ على روح الأمة من خلال بناء قوة عسكرية تواجه التهديد الخارجي وعدم إخضاع تلك الروح لمقتضيات الرفاه الإنساني التي تتسبب بتحلل الروابط الإجتماعية ونشر القيم الفردية.
سيجد القارئ الذي عايش الفكر القومي والإسلامي كثيرا من أفكار دوغان مألوفا لديه، وسيتفهّم من ينظر إلى تلك الأفكار بعين متشكّكة أو نقدية أسباب تعاطف القوميين والإسلاميين مع المنظور الروسي الرسمي للعالم، وهو تعاطف من الخطأ اختزاله بالعداء للغرب وأمريكا فقط. كما أن دارسي النازية والفاشية سيجدون الكثير، الكثير مما هو مشترك بين كل تلك المنظومات الفكرية والقيمية. وسيجد من قرأوا "صدام الحضارات" لصموئيل هنتغنتون قبل ثلاثة عقود، تنويعا يتم استبدال الإسلام المتصادم مع الغرب فيه بالحضارة الروسية.
ليس بوسعي الزعم بأن دوغان لم يأت بجديد، إذ يتطلب زعم كهذا قراءة أعماله التي تتجاوز العشرين، وهو ما لم أفعله (ولا أخططّ لفعله). لكن بوسعي القول أن تأثير أعماله مرتبط بسياق تاريخي محدد فضلا عن أن تأثيراته على رسم سياسات واحدة من أقوى دول العالم عسكريا يثير مخاطر عدة. فمنذ صعود الحداثة خلال "عصر العقل" في القرن السابع عشر والتنوير في القرن الثامن عشر كان هناك على الدوام من يهاجمها من منطلق التأسّي على ضياع التقاليد الماضية أو من منطلق ديني أوتعبيرا عن السخط مما رافقها من مصاعب معيشية لقطاعات من السكان أو لمناطق جغرافية داخل كل بلد أو على مستوى العالم. لكن الهجوم الفكري على قيم الحداثة ومفاهيم المساواة والحريات ومساءلة السلطات لم يتبلور في حركات جماهيرية إلا خلال ربع القرن الأسود الممتد منذ صعود الفاشية في إيطاليا عام 1922 حتى سقوط النازية في ألمانيا عام 1945، حين بدا للعالم أن تلك كانت لوثة سوداء على صفحة التاريخ لن تتكرر أبدا.
ما نشهده اليوم هو أن الفكر القومي اليميني المتعصّب يكسب شعبية في دول ذات ثقل سكاني واقتصادي وعسكري كبير. وإن كان هذا الفكر يتّخذ بعدا استعماريا يتغلّف بمعاداة الإستعمار الغربي، فإنه اتّخذ في عهد ترامب في أمريكا واليوم في الهند في ظل حكم مودي شكل هجوم على قطاعات واسعة من المواطنين سواء كانوا مسلمين أم سودا. وكل هذه الحركات، فضلا عن أخرى أقل شأنا في أوربا تمارس عدوانيتها باسم الحفاظ على تقاليد الأمة العريقة التي تتعرض لتهديد تآمري من أعداء الخارج يسندهم فيه طابور خامس من غير "الأبناء الأقحاح" للأمة الذين هم البيض هنا والهندوس هناك والمسيحيين في هنغاريا وهكذا.
ولعل الظواهر الدوغانية والترمبية والقومية الهندوسية المتعصّبة فضلا عن حالات شبيهة لها في إيران تعيد تذكيرنا بأن الهجوم على الحداثة والحديث عن "خصوصيتنا" لم يعد يقترن بالتأسّي على القديم والرغبة بالعودة إليه بل هو مسعى يقدّس التكنولوجيا ويشجّع الصناعة لكنه ينخرط في أحلام لاعقلانية تفترض أن التقدم التقني والصناعي يجب أن يتوقّف عند أسوار المصنع والمختبر وألا يمتد إلى البنى الإجتماعية والسياسية. "روح الأمة" المتمثّلة بالنزعة العسكرية وإبعاد النساء عن مراكز القيادة (لاسيّما السياسية) وتجنّب الفنون المشجّعة على التحرر والحذر من "الآخر" من غير أبناء جلدتنا يجب أن تبقى ثابتة حتى لو انخرطت ملايين النساء في سوق العمل وشاركت فرقنا وفنانينا في فعاليات دولية وأطّلع شبابنا على مايدور في العالم.
أو ليس الخوف من الحداثة والعقل هو خوف المتسلّط على إفلات السلطة من قبضته؟