سايكس- بيكو كردياٍ


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4874 - 2015 / 7 / 22 - 10:23
المحور: القضية الكردية     


اختصر الكرد مسافة احتاج عرب المشرق إلى أكثر من نصف قرن لإجتيازها.
تربّى معظم عرب المشرق، كما كتبت وكتب غيري مرارا، على أن دولهم نشأت بفعل مؤامرة سايكس- بيكو لتقسيم أمة يتخيّلون أنها كانت موحّدة مما يسهّل للبريطانيين والفرنسيين التحكّم بها وأن هذه الأمة لن تستعيد مجدها ولن تحتلّ الموقع اللائق بها مالم تستعِد تلك الوحدة. وتربّوا على أن أنظمة الحكم التي تولّت السلطة بعد نيل الإستقلال، وهو استقلال زائف في رأيهم، لم تكن ذات مصلحة في استعادة المجد التليد إذ هي صنيعة الإستعمار. لكن تلك الوحدة المنشودة ظلّت مستعصية على التحقيق بعد استلام الوحدويين الحكم فتعدّل الخطاب ليقول أن الإستعمار وإسرائيل والرجعية العربية تدقّ الأسافين بين الأشقّاء. وانقضى نصف قرن أو أكثر من الحروب والمؤامرات والإنقلابات والإتفاقات ونقض الإتفاقات قبل أن تصحى الغالبية من الكابوس/ الوهم.
لم يختلف الكرد عن أقرانهم العرب في تفسير تكوين دول المشرق بالمؤامرة. لكن المؤامرة تكمن في أعينهم في إلحاق كردستان بالدول الجديدة لافي تكوين دولة كردية حُرموا منها حتى لو كانت مصطنعة. وتطابقوا مع العرب في إشاعة خطاب عن أمة كردية موحّدة تم تقسيمها. فالخطاب الكردي المحرّض للعواطف حريص على تجاهل حقيقة كون كردستان إيران كانت طوال قرون جزءا من الإمبراطورية الفارسية التي لم تطلها خطط التقسيم الإستعماري لتركة الحرب العالمية الأولى إذ هي لم تشارك في تلك الحرب. ومثله خطاب العروبيين المتجاهل لكون المغرب لم تخضع لسلطة خليفة أو سلطان ولحقيقة أن خضوع مصر والجزيرة العربية كان شكليا فقط. خطاب الكرد، كما خطاب العرب، يعفي النفس عن مسؤولية قيام الدول هنا وتعذّر قيامها هناك بإلقاء المسؤولية على المتآمر الأجنبي.
وكما هو حال عرب فترة صعود نظم القومية العربية، خاض الكرد حروبا أهلية ونظّموا مؤامرات ومؤامرات مضادّة. طوال ربع القرن الأخير كان لأكراد العراق، على خلاف كل أكراد المنطقة، أرضهم وسلطتهم. وككل حركة قومية كانت القوى السياسية الكردية المتنافسة في العراق ترى نفسها ممثلة للأمة الكردية كلها. يدعم هذا الطرف أكراد إيران حاظيا برضا نظام البعث العراقي، ليدعم الطرف الآخر أكراد تركيا حاظيا بدعم إيران.
بعد قرن من الأهوال التي تعرض لها الشعب الكردي يرى الكرد تهاوي دولتي العراق وسوريا بشكلهما العروبي. وهو أمر يحق لهم اعتباره بداية لتحقيق حلم كافحوا من أجل تجسيده. لكن أكراد العراق، وقد اقتربوا من تحقيق استقلالهم الكامل وتكوين دولتهم، يقتربون أيضا من الإعتراف بما احتاج عرب المشرق نصف قرن للإعتراف به وهو أن الوحدة الكردية، كما الوحدة العربية ليست غير وهم وأن التفاوت والإختلاف التاريخي والمجتمعي والإقتصادي بين أبناء الأمة وليس التآمر الإستعماري هو ما يملي على أكراد كل من البلدان التي يخضعون لها بناء كياناتهم الوطنية التي قد تتخّذ شكل دولة مستقلة وقد لاتتخذه. فلا الإشتراك في اللغة، وهي كما لغات المشرق العربي ومغربه ليست مشتركة، ولا التجاور بين الأقاليم قادران على محو التفاوتات وإلا لكانت الولايات المتحدة وكندا بلدا واحدا و كذلك أمريكا الجنوبية (عدا البرازيل الناطقة بالبرتغالية).
اعتراف الكرد الضمني جاء عبر إعلان رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، الذي سبقه قبل يومين إعلان مماثل على لسان إبنه مسرور البارزاني وهو مسؤول الأمن القومي للإقليم، بأن حزب العمال الكردستاني, وهو الحزب القائد للحركة الكردية في تركيا وسوريا، ضيف انتهت فترة ضيافته وعليه العودة إلى اراضيه. هو اعتراف بأن حرمان الكرد من تأسيس دولتهم قد يكون مؤامرة، لكن انقسام الكرد، كما انقسام العرب، ليس نتاج مؤامرة. وهو اعتراف صحّي بالتخلّي عن خرافة الأمة المتجانسة التي ما إن تتخلّص من سيطرة الآخر فإن الطريق سيغدو سالكا لإعادة ما شذّ عن الطبيعة إلى طبيعته.
سلطة الإقليم في كردستان حفرت خنادقا على الحدود بين كردستان سوريا وكردستانها. لكن حزب العمال الكردستاني الذي يحظى بدعم إيراني والذي يتّخذ أسماء عدة في كل منطقة يحلّ فيها مقيم في سنجار اليزيدية التي حررها (وارتكب انتهاكات بحق عربها) وفي جبال قنديل المحاذية لتركيا بل وفي كركوك البعيدة المحاذية لإيران. وهو يكسب جمهرة واسعة من شباب كردستان العراق المبهورين بانتصاراته على داعش في سوريا برغم تضييقات تركيا على نشاطاته.
يسهل على القومي الكردي القول بأن الإنقسام سياسي فحسب. هو انقسام بين حركات تتصارع على النفوذ. لكن وهم الوحدة العربية تبخّر هكذا كذلك. صراع على من يقود الأمة العربية ويمثّلها وعلى من يدافع عن أمانيها المفترضة في الوحدة. صراع قادة على كسب جمهور لا يزال يؤمن بأن قوّة الدولة المستقلة، ودولة كردستان العراق لاتزال مشروعا لن يتحقق إلا بعد سنوات، تكمن في حجم المساحة التي تسيطر عليها وفي عدد من يخضعون لسلطتها.
صراع الزعامة بين البعث وعبد الناصر، وبين البعث السوري والعراقي، وبين هؤلاء والقذّافي كشف (إلى جانب عوامل أخرى) عورة الفكرة القومية العربية . واليوم ثمة صراع بين رؤيتين وشخصيتين. حتّى وقت قريب لم يكن بوسع الكردي، أيّا كان البلد الذي ينتمي إليه، الفصل بين قضيته وبين زعامة القائد الإسطوري ملاّ مصطفى البارزاني الذي قاد كفاح شعبه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن شبح عبدالله أوجلان، زعيم أكراد تركيا القابع في السجون التركية مدى الحياة، صار رمزا موازيا يهّدد ورثة تلك الزعامة التاريخية. ومحاولة مسعود البارزاني تكوين تجمّع يضم أكرادا من بلدان شتّى في مؤتمر عُقد قبل سنتين في اربيل لم تكن غير تأسيس لمنظّمة لا تختلف إلا قليلا عن جامعة الدول العربية.
في أواسط الثمانينات زار السيد مسعود البارزاني دمشق قادما عن طريق البر من كردستان. كان ثمة طوفان بشري من أكراد سوريا يحيط بموكبه ويحمل صوره. أما اليوم فليس ثمة غير صور أوجلان.
ستظل العائلة البارزانية متمثّلة برئيس الإقليم مسعود وابن أخيه رئيس الوزراء نجرفان تحظى بشعبية سياسية كبيرة بين أكراد العراق، لكن ألقها التاريخي العابر للحدود انطفأ بلا شك.