مؤتمر المثقّفين التّونسيّين ضدّ الإرهاب


رجاء بن سلامة
الحوار المتمدن - العدد: 4899 - 2015 / 8 / 17 - 07:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لماذا هذا المؤتمر؟
آلاف من الشّباب التّونسيّ التحقوا بالتّنظيمات الإرهابيّة، منهم نسبة من الطّلبة. الصّورة التي ألحّت علينا هي صورة النّزيف. نزيف القتلى ونزيف جسد اجتماعيّ سياسيّ بأكمله. هل أصبحت مؤسّساتنا مصنعا لليأس؟ الظّاهرة عالميّة نعم. ونسبة المنجذبين إلى الإرهاب من شبابنا ليست أعلى من مثيلاتها في بلدان عربيّة أخرى. ولكنّ العدد يبقى كبيرا، والخسائر فادحة. وهذا الجسد ضعيف. والمخاطر محدقة.
كانت رجّة عقبتها استفاقة. قرّرنا أن نجتمع وأن نجمّع جهودنا، بعد أن بقينا طيلة السّنوات الأربع الأخيرة نتحرّك في الفضاء العامّ فرادى. قرّرنا أن لا نعقد ندوة، بل أن نعمل معا، كما لو كنّا خليّة نحل. عقدنا اجتماعين تحضيريّين، طلبنا فيهما ورقات حول مواضيع تتعلّق بثقافة الإرهاب. الفلسفة التي قادتنا إلى هذا : المسؤوليّة والفعل. أضيف إليها إزالة الجدران اللاّمرئية التي تفصل كلّا منّا عن الآخر وتفصلنا عن الشّباب نفسه.

نتيجة هذا العمل المشترك تقارير، وقرارات. وصلتنا خمس وثلاثون ورقة من جامعيّين وإعلاميّين ومتدخّلين في الشّأن العامّ. أكثر من نصف الورقات بالفرنسيّة والباقي بالعربيّة. وهو ما يعكس واقع الازدواج اللّغويّ المحمود في تونس. ولكنّ طموحنا هو التّعدّد اللّغويّ لا الازدواج. ولذلك حرصنا على أن تكون كلّ وثائق المؤتمر بأربع لغات : العربيّة والفرنسيّة والانكليزيّة والإيطاليّة. عملنا كخليّة نخل، تطوّعا، وتضامنا.

ثمّ ماذا بعد؟
سنواصل. ومن بين قراراتنا هي أن نحوّل كلّ نقطة واردة في التّقرير التأليفيّ إلى مبحث، وان نتخلّى عن عبادة الكتاب، والشّعور بالتّفوّق، والحنين إلى الماضي على أساس أننا نحن أفضل، وأساتذتنا أفضل، والطّلبة والشّباب بلا مستوى ولا ثقافة.
والقرار الآخر هو أن نكون حاضرين في الشّبكة. هذه الشبكة التي يتمّ فيها انتداب 90 بالمائة من الشباب. لم لا نحاول منعهم من الانتداب بحضورنا، وبقولنا لهؤلاء الشباب : إنّنا قريبون منكم. لا نبيعكم أحلام حور العين والجواري، وفنتزمات قطع الرّؤوس لمن له ميول ساديّة، بل ندعوكم إلى التّفكير ونفكّر معكم في حاجيّاتكم الرّوحيّة والأقلّ روحيّة، وفي أسباب ضيقكم بما يقدّمه الانتقال الدّيمقراطيّ في تونس من أمل، ومن إمكانيّة لكتابة التّاريخ، مع أنّ كتابة التّاريخ، كما تقول صديقتي قمر بن دانة، وقد شاركتني صياغة التقرير، لا تتاح إلاّ في لحظة تاريخيّة مفتوحة على كلّ الممكنات.
ماذا يوجد ماذا في هذا التّقرير؟
في هذا التّقرير تحدّثنا عن البؤر التي يتمّ فيها إنتاج ثقافة الإرهاب. الإرهاب قتل، ولكن تسبقه مقدّمات أهمّها التّكفير، وتوسيع دائرة التّكفير، والتّحريم وتوسيع التّحريم. بيّنّا هذه البؤر من باب تحميل المسؤوليّة.
وفي هذا التّقرير تحمّلنا المسؤولية، فلم نقل إنّ المشكل هو في الإسلام الأجنبيّ، الوهّابيّ أو الجهادي أو السياسيّ لأنّه يتعارض مع "الإسلام المالكيّ المعتدل". بل قلنا ما معناه :
لم تفتح إلى الآن أبواب الاجتهاد حقيقة، فتحها بورقيبة والطّاهر الحدّاد في لحظتين فارقتين، ثمّ أغلقت. لا تفتح أبواب الاجتهاد فعلا إلاّ إذا تمّ الاعتراف بالتاريخ، وبأن المساواة والحرّية تعلوان ولا يعلى عليهما. الإسلام المعتدل الحقيقيّ الذي نصبو إليه هو ذلك الذي يحقّق المساواة التامة بين النّاس، ويتلاءم مع الحياة الدّيمقراطيّة، بحيث لا يمكن مسلم اليوم شخصا متمزّقا يضع رجلا في واد ورجلا أخرى في واد. الإسلام عبدة وأخلاق وليس تشريعا ونظاما للحكم. عندما نقول هذا بالوضوح الكافي، ويفهمه الجميع بالوضوح الكافي، نكون قد سرنا في الاتّجاه المحرّر للإنسان، والمخفّف من تناقضاته، والمسكّن من حدّة شعوره بالذّنب.
ولكنّنا بعد ذلك أردنا أن لا نكتفي بالإدانة، وأن نطرح أسئلة على أنفسنا وعلى مؤسّساتنا. والفكرة الأساسيّة التي أسعى إلى التّعبير عنها هنا هي أنّنا لا نحتاج إلى إصلاحات للمؤسّسات بقدرما نحتاج إلى إصلاح أنفسنا حتّى نخرج المؤسّسات ومجالات الحية العامّة من حالة الرّكود والجمود. لنأخذ الجامعة على سبيل المثال. لماذا تشبه جامعاتنا مدن الأشباح، فهي تخلو من سكّانها ابتداء من السّاعة الثّالثة بعد الظّهر؟ لماذا لا نعمّرها بالحياة ولا نقيم فيها مع الطّلبة وقتا أطول؟ ولماذا لا نبعث الحياة وروح المواطنة في الرياضة التي لا يكاد يستفيد منها الشباب لأنّ منطق التّنافس والفساد يفتكّانها منهم؟ ولماذا لا تتغيّر السّياحة أيضا، فتصبح بيئيّة وثقافيّة ويكون للتونسيّين منها الحظّ الأوفر؟ قلت : لا نحتاج إلى الإصلاح بقدرما نحتاج إلى الإحياء : إحياء أنفسنا ومؤسساتنا وحقول حياتنا العامّة.
والفكرة الأخرى الأساسيّة هي وجود شرخ بين الشّباب والكهول في بلادنا. ربّما يفسّر الإرهاب ويفسّر العزوف عن السياسة. كيف نتدارك هذا الشرخ دون أن نزعم احتواء الشباب و"تأطيره"؟ ثمّ هذه البلاد تنتج معرفة، وخاصّة في مجال الإسلاميّات، فالمشكل ليس في تحقيق الإنجازات بل في عمليّة نقلها. كيف ننقل المعارف وننتجها مع المتعلّمين؟
أختم هذا التّقرير بالشّكر : شكر كلّ من وضع ثقته فينا بحضور اجتماع أو كتابة ورقة، أو حتّى بإرسال فكرة. وشكر من ساعدنا بترجمة وثائق المؤتمر. وشكر كلّ الإعلاميّين الذين اهتمّوا بمؤتمرنا واحتفوا، وربّما آمنوا بأنّه يمثّل استفاقة.
ثمّ أنقل لكم آخر فقرة من التّقرير التّأليفيّ :
"وآخر ما نختم به هو عبارة "الإحاطة الفنّيّة لتكريس القوّة الشّبابيّة". هذه العبارة نطق بها تلميذ كان أوّل من أخذ الكلمة في اجتماع قليبية التّحضيريّ لهذا المؤتمر، يوم 6 أوت 2015. وعندما تحاورنا معه في نهاية الاجتماع، تبيّن أنّه خاض بداية تجربة انخراط في مجموعة جهاديّة، وابتعد عنها. وأصبح ينادي بضرورة الفنّ وضرورة "تكريس القوّة الشّبابيّة".
هذه العبارة ربّما كانت الرّوح التي سرت فينا وجعلتنا ننشط والسّؤال والكتابة. ولعلّها تسرّبت الآن إلى قاعة قصر المؤتمرات، المزدانة بحضوركم الحاشد والكريم.
*كلمة ألقيت في "المؤتمر الوطنيّ لمثقّفين التّونسيّين ضدّ الإرهاب"، وقد انعقد بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة يوم 12 أوت 2015، وحضره حوالي 1300 شخصا.