حتى لا نجانب الصواب!


وسام رفيدي
الحوار المتمدن - العدد: 4788 - 2015 / 4 / 26 - 09:33
المحور: المجتمع المدني     





ليست وظيفة هذه المقالة التقدم بتحليل لاستطلاع الرأي حول موقف المواطنين من مظاهر الفساد في المنظمات غير الحكومية الذي أجرته مؤسسة أمان. إن هذا الاستطلاع، شأنه شأن أي استطلاع، يمكن إخضاعه لمبضع التشريح العلمي ومناقشة مفرداته ( الأسئلة، التعريفات المجردة، الفئة المستهدفة، طريقة بناء العينة، طريقة التحليل الاحصائي، الربط بين العلاقات....)، وسبق أن سُجلت ملاحظات عديدة وجيهة عليه في الورشة التي نظمتها أمان لهذا الغرض، وشارك بها كاتب هذه المقالة. إن المقالة تتناول بنقاط محددة ما يمكن وصفه بما هو" بين سطور موقف المبحوثين".
يمكن استشعار موقف ما للجماهير من المنظمات غير الحكومية، بمعزل عن أن الاستطلاع أظهر في نتائجه أن 57% من المبحوثين يعتقدون بوجود فساد في تلك المنظمات، على تنوع درجات شدة تحديدهم. وحتى لمطلع مثلي على وضع المنظمات غير الحكومية من الزاويتين، العملية والسسيولوجية، يمكنني الجزم أن تلك النسبة لا تشكل مفاجأة. وكقاعدة، يجب على المنظمات غير الحكومية أن تتعامل بحساسية إيجابية، أخلاقية عالية، تجاه موقف المبحوثين، والجماهير عموماً، فهي بالنهاية المستهدفة من وجود هذه المنظمات أصلاً، دون التمترس، على العكس من ذلك، عند نرجسية المثقفين المتعالية التي ترفض الإصغاء لرأي الجماهير التي لا تعلم ما يجري!!! دون أن يفهم من ذلك أيضاً، التعامل مع الرأي الجماهيري بقدسية، لا يستحقها أي رأي على العموم، إدراكاً منا أنه حتى الجماهير، والمبحوثين منهم، تصوغ أحياناً موقفها ( وفق حسابات) متأثرة بلحظات تبعث على النقمة، الانفعال، والتوتر...يمكن تفهم مصدرها ( الوضع المعيشي للمبحوثين)، لا بل يمكن تفهم الأخلاقية الطبقية الكامنة خلفها، مع أنها تكون أحياناً "غير علمية"، أو مجرد أوهام لا حقائق.
إن المقالة، والحال هذا، ستحاول قراءة موقف الجماهير، لا عبر البحث الكمي كما أجرته أمان، ولكن عبر التحليل السوسيولوجي النظري الذي لا يقل أهمية عن التحليل الكمي، هذا التحليل الذي يؤشر باعتقادنا إلى الخلفية الكامنة وراء ما نعتقده نسبة من عدم الثقة في المنظمات غير الحكومية.
1. باديء ذي بدء، يمكن تشخيص الوضعية الحالية للمنظمات غير الحكومية، بأنها، وإذ تمكنت من التحول إلى مكون أساسي من مكونات المجتمع المدني( وهذا مصطلح أسوقه على سبيل التقليد الكتابي المرعي بغض النظر عن صوابيته)، إلا أنها عجزت حتى الآن عن بناء حركة اجتماعية تقدمية، بالمفهوم التاريخي، تنهض على قاعدة هدف المساهمة في التغيير الاجتماعي. إن الانتخابات الأخيرة دليل على ذلك. ومع ذلك، سجل التاريخ الفلسطيني المعاصر، وعلى الأقل في السنوات العشرة الأخيرة، قدرات جدية للمنظمات غير الحكومية في ممارسة تأثير سياسي على المستويين المحلي والدولي في خدمة القضية الوطنية. حسبنا هنا أن نذكِّر بالمساهمات العملية والسياسية في منتديات ديربان وسياتل وبولتو أليغري...وأخيراً انتزاع قرار محكمة لاهاي ضد بناء جدار الفصل العنصري في تموز 2004، والمحاولات الجدية والنشطة، وإن غير المرئية، لتعزيز المقاطعة الأكاديمية، وفرض العقوبات على دولة الاحتلال.
2. إن الإشكاليات الجدية التي تعاني منها تلك المنظمات، ودائماً بتفاوتات بين منظمة وأخرى، بل وأحياناً تفاوتات حادة، يمكن اختصارها بالتالي:
• ضعف، إن لم نقل انعدام، القاعدة الشعبية لتلك المنظمات، مع تفاوتات بطبيعة الحال راجعة لطبيعة البرامج وظروف النشأة والتكوين الفكري للكادر الأساسي ومدى ملامسة الهم الجماهيري، ما يترك تأثيره على توجهات المنظمة وبرامجها ومدى ملاءمتها لاحتياجات الجماهير.....وعلى مصداقيتها بين تلك الجماهير، وهذا على سبيل الحصر لا التعداد.
• افتقاد العديد من تلك المنظمات لرؤية تنموية مشتقة من مراعاة خصوصية المرحلة الفلسطينية ( الجمع بين مهام التحرر الوطني والبناء الديموقراطي)، رؤية تنموية تضع نصب عينيها بناء نماذج تنموية قادرة على الصمود وتوفير إسناد مجتمعي لفعل المقاومة، ومرة أخرى مع التفاوت القائم بين منظمة وأخرى. لذلك يلاحظ الإرباك النظري في المصطلح التنموي في برامج تلك المنظمات: فمرة مع عملية تنموية بالمفهوم الشمولي لتلك العملية( هكذا! دون الربط بين التنمية والسيادة الوطنية!)، ومرة مع تنمية مستدامة، وثالثة مع إنسانية... إن العجز عن اشتقاق رؤية تنموية يعني العجز عن ملامسة أكثر الاحتياجات الشعبية التنموية لتعزيز مقومات الصمود والمقاومة، وبالتالي بناء جدار بين البرامج والمشاريع المقدمة ( لتنمية المجتمع!) وبين الاحتياجات الفعلية للجماهير، ما يعزز من فقدان مصداقية تلك المنظمات أمام تلك الجماهير.
• الارتهان بالعموم للتمويل لخارجي، وتلك حالة إنكشافية يعاني منها المجتمع الفلسطيني ككل. وإذا كانت بعض المنظمات قد نجحت إما بتنويع مصادر الدعم( إضافة الدعمين، العربي والمحلي، للدعم الخارجي)، أو باقتحام مجالات استثمارية توفر مداخيل محلية، إلا أن الصورة حتى الآن لم تتغير بالعموم: إن تلك المنظمات لا زالت رهن التمويل الخارجي. وإذا كان بعض هذا التمويل( خاصة من منظمات غير حكومية) يقدم على قاعدة التضامن السياسي مع شعبنا ونضاله، إلا أن الكم الأكبر يأتي وفق أجندة سياسية لا تخفى على أحد، ما يحيل بعض المنظمات إلى مربع أجندة غريبة، بل وتخريبية.
قد تكون هذه من أكثر المؤثرات على الموقف الشعبي النقدي من المنظمات غير الحكومية، هذا الموقف الذي يتلمس، بآليات الوعي الشعبي اليومي، خطورة الدعم الخارجي وأجندته، متسلحاً على ما يبدو (بمقولة) الممثل توفيق الدقن في أحد أفلامه ( هي عمر حاجة جات من الغرب وتسر القلب).
• طبيعة التوجه الفكري الذي بات يحدد توجهات العديد من كادرات تلك المنظمات، خاصة القيادية منها، والذي يمكن وصفه بنسخة غير أصيلة من الليبرالية الجديدة، والتي باتت منذ أكثر من ثلاث عقود السلاح الفكري الأهم في التوجه الإمبريالي المعولم لإعادة بناء الوعي السياسي لشعوب العالم الثالث، وعلى الأقل للإنتلجنسيا فيه، عبر العديد من البرامج والمشاريع التي لا يمكن وصفها سوى بآليات غسيل للأدمغة (المتحجرة) التي كانت، في وقت من الأوقات، في صف قوى الثورة والتقدم العالمي.
وبالنتيجة، يسجل البحث السوسيولوجي أن تراكم الإشكاليات أعلاه، وتوجهات الممولين المحسوبة سياسياً، نجحت في تعزيز شريحة من شرائح الفئات الوسطى العالم ثالثية، ومنها الفلسطينية، هي الكادرات القيادية، بشكل عام، في المنظمات غير الحكومية...الأمر الذي يمكن للجماهير العريضة تلمس مفاعيله ( دون الحاجة لدراسات إحصائية علمية!) من خلال مستويات الرواتب، امتيازات السفر، الرأسمال الرمزي، بذخ الاستهلاك البرجوازي، الخطاب السياسي ( العقلاني)، تأسيس "منظمات" ( بالهبل) لا حاجة بها إلا لامتيازات ربحية المؤسسين (ألا يطرح هذا مثلاً ضرورة فحص صوابية مقولة منظمة غير ربحية؟؟) ....كلها مفاعيل لثقافة سياسية ومكانة اجتماعية يمكن للجماهير تلمسها في الحياة اليومية، نعتقدها هي الكامن وراء ما أسميناه نسبة من عدم الثقة لدى الجماهير.
إن قدرة المنظمات غير الحكومية على تجاوز إشكالياتها أعلاه سيمكنها من جسر الهوة بينها وبين فئاتها المستهدفة، والأهم سيمكنها من القيام بدورها المنوط بها وطنياً واجتماعياً: بناء حركة اجتماعية تقدمية تجمع بين مهام التحرر الوطني والبناء الديموقراطي.