خيار التوجه إلى الشرعية الدولية: استراتيجية أم مأزق مفاوضات؟


وسام رفيدي
الحوار المتمدن - العدد: 4759 - 2015 / 3 / 26 - 08:45
المحور: القضية الفلسطينية     


عندما اعتلى ياسر عرفات منصة الأمم المتحدة أصدرت جبهة الرفض حينها بياناً ندد بالخطوة باعتبارها تنازلاً. كان يبدو موقف جبهة الرفض في حينه، عند العديدين، عدمياً، خاصة ان عرفات حينها، وعندما تحدث عن غصن الزيتون الفلسطيني، كان يتمنطق مسدسه كقائد لحركة تحرر تتمسك بخيار القتال المسلح، وبالحد الأدنى هناك مَنْ اعتقد ان موقف الرفض جاء من باب المناكفة السياسية لقيادة المنظمة. واليوم، بعد أن أصبح خيار التدويل والشرعية الدولية هو الخيار الوحيد لقيادة المنظمة والسلطة معاً[1] يبدو من العلمية بمكان وضع خطوة عرفات حينها في العام 74 في سياق تاريخي متصل من التحول في الفكر والممارسة السياسية للقيادة السياسية المتنفذة في الحقل السياسي الفلسطيني.
ليست المسألة في وضع الخيارات المتاحة أمام اية قوة سياسية في تضاد مطلق فتلك عدمية بامتياز، بل وأكثر: إن التجربة التاريخية ذاتها أثبتت أن تناغم الخيارات أمام حركة التحرر كان عاملا هاما في تحقيق الانتصار. ولكن يبقى السؤال/ المشكل: اية الخيارات هي الرافعة الواقعية لممارسة الخيارات الأخرى في لحظة تاريخية محددة، وفتح الطريق أمامها للتحقق، وتالياً أي ما طبيعة الصراع التي تستوجب هذا الخيار الريادي بالذات دون غيره، من جهة، ومن جهة ثانية ما طبيعة موازين القوى التي تلقي بثقلها على قرار القيادة السياسية لاختيار هذا الخيار دون غيره في لحظة.
عود على بدء! كان لصمود المقاومة منذ انطلاقها في العام 67 وتخطيها لهزيمتها في الأردن ما استوجب لخسارتها لأطول خط حدودي للاشتباك مع العدو الصهيوني، وإعادة بنائها لقواعدها في لبنان، كان لذلك دوره الأساس في وصول عرفات لمنصة الأمم المتحدة، وفي ذلك درس تاريخي مهم: ليست البلاغة السياسية ولا ( تطويع الخطاب) بما يتناسب والشرعية الدولية هي ما يوصل لطرح القضية الوطنية على المحافل الدولية، بل أساساً المقاومة على الأرض والتي تفرض حضوراً، وتخلق موازين يصعب تجاوزها، وتحشد قطاعات دولية مؤيدة على المستويين الرسمي والشعبي، هي ما يطرح القضية على المحافل الدولية. وعرفات ذاته كان يدرك ذلك إذ خيّر المجتمع الدولي بين إبقاء غصن الزيتون أو إسقاطه، وعند إسقاط الغصن فالبديل جاهز: مسدسه على خاصرته.
ولكن هل استمر عرفات والقيادة الفلسطينية المتنفذة في التعامل وفق هذا الإدراك؟ ذلك ما تسعى هذه المقالة للإجابة عنه.
ليس شعار تدويل القضية الفلسطينية بجديدناهيك عن أت تدويلها تم، وفق ما أرى، منذ نشأة الكيان الصهيوني بقرار دولي بل وقبل ذلك بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. هذا من زاوية، ولكن من زاوية ثانية، فالتدويل منشاه الاساس من أن خطر الحركة الصهيونية ولاحقا كيانها، يطال ليس فقط فلسطين والوطن العربي بل ويتعدى ذلك للساحة الإقليمية والدولية، وبما يتفق وتوصيف الراحل جورج حبش للكيان الصهيوني بانه امبريالية صغرى. لقد طال نشاط الكيان الصهيوني دولا وحركات في افريقيا وآسيا والمعسكر الاشتراكي السابق، من باب العلاقة الايديولوجية والمصالح المشتركة بين الصهيونية والامبريالية، وبالتالي فالخطر الصهيوني جعل من المقاومة الفلسطينية لعقود رأس حربة عالمية في النضال ضد الامبريالية والصهيونية، ناهيك عن انه وضع القضية الفلسطينية لعقود أيضا على جدول اهتمام أحرار العالم ككل.
وتاليا للقرار الدولي بإنشاء (دولة إسرائيل) تتالت القرارارات المتعلقة بالقضية الوطنية إن كانت من مجلس الأمن أم من الجمعية العمومية حتى باتت ركاما من القرارات التي لم تجد طريقها للتنفيذ. وهنا ينبغي التوقف.
على النقيض من السذاجة الليبرالية المتغنية بالشرعية الدولية ينبغي الإشارة أن الشرعية الدولية ذاتها هي نتاج موازين القوى على المستوى العالمي، وحتى تطور وتغير قرارات الشرعية الدولية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية كان نتاج للتغير في موازين القوى. بالرجوع مثلا لقرار تقسيم فلسطين ودعم إنشاء دولة إسرائيل، فقد كان للموقف السوفيتي الظالم ذو الحسابات الغبية بتأييد تقسيم فلسطين وتأييد إنشاء (دولة أسرائيل) الأثر الحاسم في صدور القرار، ولاحقا كان لهذا الموقف الأثر الايجابي في صدور العديد من القرارات عن الجمعية العمومية. لنا في القرار بخصوص اعتبار الصهيونية حركة عنصرية مثالا صارخاً: عندما ان الاتحاد السوفيتي يتخذ موقفا معاديا ومناهضا للصهيونية ويرمي بثقله مع المعسكر الاشتراكي خلف هذا الموقف صدر قرار اعتبار الصهيونية حركة عنصرية. لاحقا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي صدر القرار بنقض القرار السابق وإلغاؤه.
ليست الشرعية الدولية ولا مؤسساتها بمعزل عن التوازنات والتكتلات الدولية، ولنا ان نتخيل مثلا لو أن الصين وروسيا، والثانية تحديداً، لا يقفان وقفة حازمة دفاعا عن سوريا منذ سنين؟ كنا امام تطبيق البند السابع من ميثاق الامم المتحدة بما يكفل توفير ( الشرعية الدولية) لاحتلال سوريا والسعي لاسقاط النظام.
هذا يعني ان الضرب على وتر التدويل اليوم والمطالبة بالشرعية الدولية لإحقاق الحقوق الوطنية، طالما يطرح بمعزل عن المقاومة على الأرض،  سيكون ضرباً من الأوهام، تماما مثلما جرى بالبهروجة الإعلامية المصاحبة لانتزاع مكانة فلسطين كعضو مراقب! الذي تم تصويره كفتح جديد في الممارسة الفلسطينية. وحتى مَنْ يعتد بالموقف الروسي في سوريا اليوم ليعول عليه موقفا لصلح القضية الفلسطينية، عليه اولا ان ينتزع الاتمام الروسي عبر المقاومة على الأرض ويكف عن وضع ( بيضاته) في سلة الإدارة الأمريكية كما هو الحال اليوم.
ولقد كان التطور الأبرز في مسار السعي التدويل هو المطالبة بعقد المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط، ولقد أخفق هذا المسعى منذ طرحه مطلع الثمانييات، حتى مع الثقل السوفيتي خلفه وهو صاحب المقترح أصلا وقد تلقفته منظمة التحرير حينها بكل تلاوينها. ولكن الفارق بيّن بين أمس واليوم: في مطلع الثمانينيات كانت المطالبة بالمؤتمر الدولي تسير بذات الوقت مع خيار المقاومة المسلحة ووجود الثورة الفلسطينية كقوة اقليمية فاعلة، فيما اليوم يختلف الحال تماماً.
يمكن دون تردد اعتبار توقيع اتفاقية أوسلو، في أحد تداعياتها ومدلولاتها، إدارة الظهر للشرعية الدولية باتجاه ( شرعية الراعي الأمريكي)! فالمتمسك بالشرعية الدولية يطالب بتطبيق العديد من القرارات الدولية لصالح الشعب الفلسطيني، ولكن دون أية أوهام: فدون فرض القضية الوطنية على الارض عبر المقاومة، بحيث يشعر الكيان الصهيوني بانه يخسر تاريخيا، لن ينتزع هذا التوجه سوى الفيتو الامريكين فالمسألة بالنهاية ليست مسألة ما تريد بل ما تستطيع فرضه!
ولكن لماذا يجري اليوم إعاد التركيز على خيار التدويل والشرعية بحيث يبدو دون مواربة انه الخيار الوحيد لقيادة السلطة والمنظمة؟ الجواب بسيط: لم ينتزعوا من مسار أوسلو وخيار التفاوض سوى ما نحن عليه اليوم: مضاعفة الاستطيان والتهويد كامر واقع، تهميش القضية الوطنية إلى أقصى حد ممكن، تحويل القضية الوطنية من قضية تحرر وطني لخلاف بين كيانين: واحد محتل والآخر تحت الاحتلال يستجدي ولا ينفعه الاستجداء، والأهم: تحويل لطة الفلسطينية واقعيا وليس رسمياً، لمؤسسة سلطوية بوظيفة محددة هي إدارة شؤون السكان كاي بلدية، او محافظة على أكثر تقدير، والأهم العمل كوكيل أمني لقمع اية مقومات للمقاومة على الأرض.
إنني لا ارى في الدعوة للتدويل والعودة للشرعية اليوم سوى ردة فعل يائسة لصدى يهجس داخل القيادة الفلسطينية بفشل كل مسار التفاوض منذ العام 93، فبكل الاحوال ليست القيادة عمياء بل ان جردية بسيطة لمسار التفاوض، استعرضنا بعضها أعلاه، كفيلة بان تضع امامهم حقيقة الكارثة التي حاقت بشعبنا بفعل هذه القيادة وخياراتها.
وما يزيد الطين بلة ان خيار التدويل والشرعية يطرح بمعزل عن خيار المقاومة لانتزاع قرار دولي منصف بالحد الأدني! ولا يهم هنا الحديث عن ( المقاومة الشعبية) فتلك باتت تحمل مضمونا خبيثا صريحاً: مناهضة المقاومة المسلحة لا بل وضربها![2]
إذن يمكننا من ناحية قراءة هذا التوجه على انه خطوة يائسة من مسار كارثي باتت القيادة تتلمسه على جلدها، ومن ناحية ثانية يمكننا قراءته كخطوة ( تهديدية) للعودة لذات المسار الكارثي، اي التفاوض. إن إعلان التوجه لمحكمة الجنايات، وهو مطلب شعبي ووطني قديم وبامتياز، تلازم في أكثر من مرة مع (إعلانين اثنين) الأول ان توجه جاء نتاج انسداد الأفق التفاوضي ما يعني انه ردة فعل على فشل التفاوض لا كخيار ثابت، وهذا ما يقود للإعلان الثاني بوقف التوجه للمحكمة الدولية غذا أبدت إسرائيل نيتها بالعودة للمفاوضات شريطة توقف الاستيطان! أما ان تشترط القيادة وقف الاستيطان للعودة للتفاوض فتلك نتيجة متأخرة اكثر من عشرين عاماً على تفاوض تم في ظل ابتلاع الأرض وضخ المستوطنين فيها وتهويد القدس، أما تلربط بين محكة الجنايات ( وهي إحدى مفردات التدويل والشرعية) والعودة للتفاوض فهي توحي مجددا ان النية بالتوجه للمحكمة ليس أكثر من (وسيلة ضغط) من قبل مَنْ لا يملك أصلاً ممكنات الضغط في ظل تخليه عن كل ما من شأنه تعديل الموازين على الأرض!
 


[1] - استخدام مصطلحي قيادة المنظمة وقيادة السلطة هو من باب (الصياغة الرسمية) لا أكثر، فحقيقة الحال كما تجمع الدراسات ان السلطة عمليا حلت محل المنظمة، وفريق ضيق حل محل السلطة، بحيث غدا القرار حتى ليس فئويا بل نخبويا على نطاق ضيق. أما قيادة المنظمة فشاهد زور للتوقيع الرسمي لا أكثر.
[2] - لتفصيل هذه القضية يمكن مراجعة مقالة للكاتب في العدد السابق من حق العودة