العنف والقومية المتخيلة: التلاقح البنيوي بين النص الديني اليهودي والأيديولوجيا الصهيونية


وسام رفيدي
الحوار المتمدن - العدد: 4755 - 2015 / 3 / 22 - 09:07
المحور: القضية الفلسطينية     


مقدمة
كًتب الكثير حول الأيديولوجية الصهيونية وموقع الدين اليهودي منها، ويمكن القول انها كتابات إجتهادية عديدة لا تتفق حول توصيف معين لتلك العلاقة. إن ورقتي هذه ستسعى لتقديم إجتهاد يتجاوز ثلاثة إجتهادات أساسية سادت في الكتابات الفكرية والسياسية حول الموضوع، إجتهادات انتجت ثلاثة إشكاليات.
فمن ناحية، ولاعبتارات سياسية صرف، يجري التمييز بين اليهود والصهاينة، حتى في اوساط المستوطنة الكبرى، الكيان الصهيوني. هذا التمييز يبدو منطقيا، من الناحية النظرية الصرف، فاليهودية بالنهاية دين، فيما الصهيونية أيديولوجية وحركة سياسية استعمارية، ولكنه تمييز لا يجيب عن سؤال جوهري: كيف يمكن ليهودي مستوطن في فلسطين أن يخرج نفسه خارج دائرة المشروع الصهيوني، وأيديولوجيته، والذي بفضل حراب هذا المشروع فقط يتمتع ( بمواطنة دولة اليهود)؟؟ وعلى حساب الساكن الأصلي، الفلسطيني.
ولكن عندما يتحول النقاش من النطاق السياسي إلى النطاق الفكري دونما اي اعتبارات للفارق بين الحقلين تصبح القضية أكثر إشكالية: في هذه الحالة نكون امام تسطيح فكري لا أكثر، تسطيح لا يغوص للعمق في دراسة ذلك التلاقح بين الصهيونية كأيديولوجية سياسية وبين اليهودية كدين لمجموعات بشرية معينة.
لا شك بالنسبة للورقة بأن الصهيونية كحركة وأيديولوجية هي نتاج مرحلة الإمبريالية وجزء من المشروع الاستيطاني العنصري الأبيض، ولذلك فمن باب الخرافة السياسية التي تستخدم في ماكينة الدعاية، اعتبار الصهيونية نفسها نتاج يعود ل 2000 عام!!!. وما يؤكد حقيقة العلاقة بين الصهيونية والامبريالية ليس فقط التزامن التاريخي بين الظاهرتين/ الحركتين، بل ووشائج أيديولوجية عميقة، سنأتي على ذكرها لاحقاً، ومصالح استراتيجية لم يخفها ممثلو الظاهرتين/ الحركتين يوماً.
ومع ذلك، فدحض الخرافة السياسية، التي ترى جذور في التاريخ للصهيونية تعود لألفي سنة، وهو ممكن، شيء، وفحص التلاقح البنيوي بين الصهيونية والنص الديني اليهودي شيء آخر تماما. فالمقولة الأولى تنتمي لحقل الدعاية السياسية الصهيونية لا لحقل البحث العلمي، ويمكن للتحليل الإقتصادي، المادي التاريخي الماركسي، ان يدحضها دونما عناء، فيما الثانية تنتمي لحقل العلوم الاجتماعية والتاريخية التي لا تقف عند حدود السطح، بل تغوص عميقا في فحص العلاقة، عبر تحليل النص الديني وعلاقته بالنص الإيديولوجي، وفق منهجية تحليل النص، وهذا تحديدا ما ستتصدى له الورقة.
من ناحية ثانية، وكتداعي لما سبق، يتم تصوير العلاقة تلك عبر كلاشيه مفاده ان لليهودية محض (وظيفة استخدامية) بالنسبة للصهيونية والصهاينة، تماما مثلما قد يستخدم اليساري مصطلح ( الجهاد) أحيانا للحض على القتال، تناغما مع الثقافة الدينية، او كما نلحظ تلك الإستخدامية للنص الديني الإسلامي لدى مختلف التيارات الإسلامية لتسويغ ممارسات متناقضة أحيانا. إن هذا الكلاشية الموصوف أعلاه لا يتعمق بالعلاقة، بل يستعيد، براحة بال، لا تقول جديداً، ما هو معروف تاريخيا: دائما كان النص الديني يقوم بدور وظيفي. إن العلاقة بين النصين، الديني التوراتي والأيديولوجي الصهيوني، علاقة اكثر من مجرد الدور الوظيفي للأول، وهذا ما ستسعى الورقة لتبيانه.
وفي ذات السياق، وبما يخدم هذه الورقة، فإن العلاقة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، تُصور بأنها إما محض علاقة مصالح، او كنتاج لثقل اللوبي اليهودي في الإدارة الأمريكية. إن خطورة هكذا تصور أنها تعفي الرأسمال الأمريكي الإمبريالي من جرائمه بحق البشرية، وكأنه رأس مال ساذج، وحتى مسكين، يتعرض لضغوط اللوبي اليهودي!. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يبدو اللوبي اليهودي وكأنه يتصرف كمحض يهودي، لا كجزء من الرأسمال الأمريكي نفسه. وفي الحالتين فالخطأ بيّن بتقديرنا.
إننا لا نغفل بطبيعة الحال ما هو بيِّن في العلاقة: ترابط المصالح الإستراتيجية وثقل اللوبي الصهيوني، لكننا نذهب ابعد من ذلك، وهي فكرة جرى تداولها كثيرا، وخاصة في كتابات عزمي بشارة: إن هناك تلاقح بنيوي بين مشروعين من الزاوية الأيديولوجية، مشروع الرجل الأبيض الأنجلو- سكسوني الذي تجسد بقيام دولته العرقية البيضاء في أمريكا، ومشروع الأبيض اليهودي/ الصهيوني الذي تجسد بقيام دولته العرقية في فلسطين. هذا التلاقح يعني من الزاوية الأيديولوجية، من حيث الجوهر، إنتماء المشروعين لذات الخلفية الأيديولوجية: تلاقح الديني والسياسي، ففي المشروع الأول تلاقحت مصالح الاستعمار الأبيض مع النص المسيحي/ البروتستنتي، من العهد القديم، حول أرض الميعاد ( وهي أمريكا)، فيما في المشرع الثاني تلاقحت مصالح الصهاينة مع النص التوراتي، وايضا من العهد القديم، (وهي فلسطين). وكلٌ له أرض ميعاده التي يجب تنظيفها: أمريكا نظفتها من 60 مليون ساكن اصلي حسب الإحصاء الرسمي ( غير الرسمي يصل بالرقم ل 80 مليون)، والصهاينة يسعون لتنظيفها نهائيا، بعدما طهروها من ثلثي السكان تقريباً، لذلك لا يستغربن أحد نشوء التيار المسيحي/ البروتوستانتي/ الصهيوني المحافظ في أمريكا فالقاعدة الأيديولوجية متوفرة في النص كما متوفرة في رأس المال!
هذه الإشكالية الثالثة، ليست مدار هذه الورقة، بل محض مدخل نستخدمه لتوضيح عملية التلاقح البنيوي في الأيديولوجية الصهيونية بين ما هو سياسي/ ايديولوجي وبين النص الديني التوراتي.
محاور اساسية
مداخل منهجية لا بد منها
تتقوم منهجية البحث في إستخدام تحليل النص للوقوف على علاقاته مع موضوعات اساسية (الهوية والثقافة والعنف)، وبالتالي فالمنهجية تستند لفوكو في رؤيته للخطاب، مع السعي لربط هذا الخطاب بالسلوك الصهيوني الحديث باعتباره سلوكا استعماريا استيطانيا عنصريا، وفي هذا المفصل من التحليل لا مندوحة من النهج الماركسي: رؤية الظاهرة/ الحركة الصهيونية وإيديولوجيتها في علاقتها مع المشروع الرأسمالي العنصري تجاه الشرق باعتبار الصهيونية نتاج للراسمال الغربي ومشروعه. أما تفصيلا فإن نقاط منهجية أولية لا بد من تأكيدها:
اولاً: النص الديني الذي نحن بصدده، اي التوراة، لا يشكل تاريخا لليهود بالمعنى العلمي للتاريخ، بل يشكل رؤية اليهود لتاريخهم ومكانتهم فيه. وتلك فكرة تدعمها اليوم عديد من الأبحاث في تاريخ الأديان، والأهم يدعمها إنتفاء وجود الآثار والمخطوطات التاريخية الموثوقة التي تزكي (التاريخ) كما تكتبه التوراة. بين التاريخ ورؤية مجموعة بشرية لتاريخها مسافة كبيرة، ففي الثانية تدخل الأسطرة التي تطال هنا تمايز الجد الأول وحظوته عند الرب، وصراعات قبلية، وأحداث، إما متخيلة او حقيقية، تتأسطر بطريقة ما. وفي هذه الرؤية، شأن اية رؤية متخيلة لشعب، لا تظهر فقط رؤية المجموعة البشرية للتاريخ حسبما تتخيله، بل وتظهر رؤيتها لدورها في هذا التاريخ، مكانتها من الشعوب الآخرى وموقفها منها، صلتها بالجد الأول الأسطوري، حظوتها لدى الرب، او اية قوة خارجية مقررة.
إن هذه الرؤية، كما سنلحظ لاحقاً، ستلعب دورا تأسيسيا في السعي لتشكيلها، عبر تحولها، رؤية قومية متخيلة، مزعومة، تكون مدعوة مع المجموعات البشرية، والأرض الموعودة بوعد إلهي، لتتجسد بدولة!
ثانيا: الثقافة الدينية، اية ثقافة دينية، هي نتاج لتلاقح النص مع الممارسة الاجتماعية لحامليه، وتتشكل، والحال هذا، كمكون اساسي من مكونات الايديولوجيا. والتأويل هو المعول الذي يحفر ارض النص لنقله للمارسة وبالتالي، تحويله لأيديولوجيا وثقافة. فالتأويل هنا، كما مع كل النصوص، هو نقطة التوسط بين المطلق ( النص المقدس) والنسبي ( اي التاريخي)، وهذا الوسط يفترض بالضرورة مسافة ما، هي المسافة التي يتحرك فيها الفعل البشري لنقل النص للواقع تأويلاً.
في الحالة الملموسة هنا، فيما يتعلق بالنص والثقافة اليهودية، ليس من مساحة بينهما يعمل فيها التأويل للنص تأويلاً، فالنص صريح بعنفيته ضد الأغيار ونظرته العرقية لدور اليهود وعنصريته تجاه الآخر، ودعوته لليهود، بمساندة إلهية، للتشكل كشعب متميز، برؤية خاصة، ضد الشعوب الأخرى، بل وعلى نقيضها! وهو ما يتمثل، دونما حاجة للتأويل، في الممارسة الصهيونية. وذلك هو بالأساس ما جعل التأويل لا مسوغ او ضرورة له. فبالعادة، كما أشرنا أعلاه، مع تحول النص لثقافة، عبر التأويل، تتشكل مسافة ما هي مسافة الممارسة الاجتماعية التي تنقل النص للوجود الملموس كفعاليات، أما في الحالة اليهودية فتضيق تلك المسافة لأبعد الحدود، فتحويل النص لثقافة عبر الممارسة السياسية الصهيونية مباشر وسريع، لا يجد حاجته للتأويل، بحيث تبدو الثقافة الدينية هي النص الديني ذاته، تلك حالة فريدة لا نجدها في الثقافة الإسلامية او المسيحية. اما ما السبب التاريخي لتلك الظاهرة فذلك خارج ورقتنا.

التلاقح على مستويي العنف والقومية المتخيلة
سنفحص هذه الحالة وفق مثالين: الأول مكانة العنف في النص التوراتي، والثانية تشكيل القومية المتخيلة وفق النص ذاته، وتلك العلاقة البنيوية بين الإثنين والأيديولوجية الصهيونية.
اولاً: عنفية النص الديني
العنف في النص التوراتي بليغ لدرجة يسهل التقاطه في كل صفحة منه، إن لم نقل في كل آية. عشرات النصوص الحاضة على القتل والتدمير وسفك الدماء تظهر جلية في النص التوراتي. يكفي هنا، على سبيل المثال لا الحصر استعراض ابرزها:
1- يبدأ السلوك العنفي في علاقة الله بالآخر ( هنا الإنسان الأسطوري) من لحظة العنف الخماسي الموجه ضد آدم وحواء ؛ (امتحان، فشل، عقاب، طرد وحرمان).
2- عنف التمييز غير المفهوم ضد هابيل لصالح قايين، لمجرد أن الأول راعي والآخر مزارع، وفي هذا نرى صدىً للمحتوى البدوي للديانة.
3- إقرار عبودية ابن حام ( ونحن الفلسطينيين منه حسب النص) لابناء سام ويافث، رغم أن حام غطى عورة أبيه فلم يكافأ لا بل عُوقب بنسله!!!
4- عنف التمييز بين سارة وهاجر، بأن تكون هاجر عبدة لسارة.
5- تمييز اسحق عن أخوه إسماعيل كاستمرار للتمييز بين الجدين: حام وسام.
6- يبدأ العنف العرقي/ العنصري بوصية إبراهيم لخادمه: لا تأخذ زوجة لأبني من بنات الكنعانيين الذين مقيم أنا في وسطهم.
7- العنف النظري، حسب عبد الوهاب المسيري، بمنح أرض كنعان لنسل إبراهيم (منحه أرض كنعان، يكثر نسله، يتسلط على مَنْ فيها ليكونوا عبيدا له).
8- حتى داخل رحم رفقة زوجة إسحق يتصارع الجنينان ( عيسو ويعقوب). يخاطب الرب رفقة: ( في جوفك امتان ومن أحشائك يتفرع شعبان، شعب يقوى على شعب، والكبير يخدم الصغير). ورغم أن الكبير عيسو إلا أن العنف الإلهي جعله خادما للصغير يعقوب.
9- تناغم مع عنفية يعقوب وتآمر رفقة على عيسو، ابتز يعقوب جوع أخيه عيسو واشترى بكوريته ليصبح الكبير عبدا للصغير!
10- عنف يعقوب تجاه خاله أبان حيث سرق كل مواشيه وفضته وذهبه.
11- تصارع الرب المتجسد بصورة رجل ويعقوب وكسر رجل الأخير: يسميه الرب إسرائيل لأنه صرع الناس وغلبهم.
12- شمعون ولاوي، من الأسباط، يقتلان كل ذكر في نابلس ( شكيم) لأن شكيم ابن حمور اغتصب أختهم دينا.
13- وأخيرا تمييز يعقوب ليوسف عن إخوته دونما اي مبرر، ربما لوسامته فقط! ومعروف لاحقا تآمر الأخوة لقتل يوسف.
نستنتج من النصوص السريعة السابقة ما يلي:
1- لا يُعرف الرب إلا بممارسة عنفية، فالعنف، والحال هذا، سمة جوهرية للرب، تكسبه ماهيته كرب.
أن الرب حسب التوراة يكتسب ملامح دموية/ عنفية صريحة، تنتقل منه لإنبيائه في سلسلة لا تنتهي طوال صفحات رؤية اليهود لتاريخهم من العنف الدموي تجاه الآخرين.
منذ لحظة التشكل الأولى لليهود، كشعب مختار، كان الرفض العنصري للآخر محور اساس في رؤيتهم لدورهم ومكانتهم. إن هذا الرفض المدعوم بمشيئة إلهية يغدو مكون اساس من الدين اليهودي، وهذا ما اسماه المسيري بالعنف النظري. وهنا بالاساس نلحظ التلاقح الأول بين الدين، كنص، والصهيونية، علما أن لا مسافة تُذكر كما ذهبنا بين النص والثقافة يعمل بها التأويل تأويلاً.
إن هذا العنف المتأصل في النظر للآخر، يحوّل الرب، كما تصوره اليهود إلى محض ( وكيل العقارات الأكبر في السماء) حسب التعبير الفريد لغور فيدال في تقديمه لكتاب إسرائيل شاحاك حول الديانة اليهودية وتاريخ اليهود.
عنفية السلوك الإلهي تجاه الآخر توفر الركيزة النصية/ المشروعية الدينية لتوجهات عنفية تطبع سلوك الأنبياء. يفيد هنا التذكير ان الرب لا يُظهر نفسه لشعبه المختار بمعجزات، إلا وتستدعي تلك المعجزات العنف تجاه الآخر، فالعنف هنا علامة على الوجود، وكأنه، كعلامة، سمة جوهرية من صورة الرب نفسه! لا يُعرف إلا بها!! يفيد هنا رؤية كيف أظهر الرب نفسه لشعبه عبر علامات عنفية طالت الشعب المصري. عشرة علامات عنفية لا يُعرف الرب إلا من خلالها لشعبه: تحويل النيل لدم/ الضفادع تغزو مصر/ البعوض ينهش المصريين/ الذباب يملأ هوائهم/ موت كل المواشي بالطاعون/ القروح تصيب أحسادهم/ البرد ينزل كالحجارة على رؤوسهم/ الجراد لا يبقي لهم شيئا/ الظلام يلف ايامهم بنهارها وليلها/ وأخيرا قتل جميع الأبكار من الإنسان والحيوان!!!
وكطقسية إحتفالية يطالب الرب بمنحه بكر الثمار والحيوان كل عام تقديرا لجهوده في قتل أبكار المصريين! فيما يعتبر هذا الخروج من مصر المدعوم بتدخل العنف الإلهي الدموي عيدا هو عيد الفصح!!!
إن صورة الرب العنفية هذه ومعه انبياؤه تبدو لصيقة بنيويا مع بنية الأيديولوجية الصهيونية: فالمشروع بذاته كمشروع استيطاني ترحيلي يقتضي العنف تجاه الآخر بعد إنكار وجودة اصلا ما يستدعي ممارسة مشيئة ربانية في نفيه في الواقع بعدما تم نفيه عبر الرؤية المبثوثة في النص.
2- التمييز بين الأخوة المتحدرين من جد واحد يكاد يكون معلم اساسي في النص التوراتي. وهذا يسوغ، كركيزة نصية، التمييز الملازم للعنصرية اليهودية التي تلاقحت مع العنصرية الصهيونية: فالأخ يتحول لأغيار امام شعب مختار. هابيل وقايين/ إسحق وإسماعيل/ يعقوب وعيسو، فمن هذه الثنائية التمييزية أُخرجت اقوام الكنعانيين ومنهم الفلسطينيين، وأُخرجت أقوام الشرق أردنيين من الحاضنة الإلهية، وصُنفت كمجموعات دونية حق عليها القتل، وبالحد الأدنى العبودية للأخ المحظي عند ربه!.
يمكن قراءة هذا التمييز كصدى رؤيوي للصراع القبلي بين أقوام العهد القديم، خاصة بين المجموعات العبرية( وممثلها الأسطور إسحق) والمجموعات العربية (وممثلها الأسطوري إسماعيل)، صراع يطال مستويين: أيهما يحظى بمكانة مرموقة عند الرب، وأيهما يحتل منزلة السيد عند الجد الأول (إبراهيم) وأيهما منزلة العبد. إن التوراة هنا توفر البعد الأيديولوجي الديني لتمييز عنصري ظل ملازما لرؤية اليهود لتاريخهم حتى توفرت ظروف القرن التاسع عشر لتتلاقح تلك الروية مع الهدف السياسي المتمثل ببناء دولة على أنقاض الأغيار الفلسطسنيين، وبالإندغام مع المشروع العنصري الإمبريالي الأبيض.
3- من ممارسات الرب وقراراته ومشيئته وأوامره وعلاماته التي يظهر بها، يمكننا تصور صورة الرب كإنسان أكثر منه كإله. ويمكن هنا على مستوى بحث تطور صورة الرب التمييز بين النص اليهوي ( نسبة ليهوة) والنص اللاحق الإيلوهيمي(نسبة لإيلوهيم)، ولكن التمييز، وإن غالى في صورة الرب كإنسان في النص اليهوي، فيما جعله متعاليا أكثر من النص الإيلوهيمي، إلا أنه لن يخفي حقيقة أن صورة الرب في الدين والمتأصلة بالنص اليهوي هي الصورة التي شكلت المكون الاساس لتصور الرب عند اليهود. ليست فقط دمويته إشارة على إنسانيته، بل ومجمل الصفات التي يغدقها عليه النص: منتقم، يتراجع عن قراراته، ياسف على ما فعله، يكتب بإصبعه، يغضب ويرى، يتمشى، يتجادل وأنبيائه، يتدخل بسير المعارك، إلى آخره، وعلى حد تعبير أحد الأصدقاء الأكاديميين ( كأن الرب موظفfree lancer) عند اليهود، يستجيب لمطالبهم صاغراً!
إن إسباغ صورة (إنسانية) تماما على الرب وفّرت الفرصة المواتية للتلاقح الذي أشرنا إليه، فتشكل الأيديولوجية الصهيونية لم يكن بحاجة لعملية تأويل قيسرية تنزل الرب من عرش التعالي إلى مستوى الممارسة السياسية الدموية، وهذا ما سهل التلاقح على هذا الصعيد بين النصين: الأيديولوجي الصهيوني والديني اليهودي.
ثانياً: القومية المتخيلة، المزعومة
كما ذهبنا سابقا فليس بين النص، على صعيد رؤية اليهود لأنفسهم كشعب، والثقافة الدينية اية مسافة تأويلية. إن هذا وفر إمكانية واسعة للايديولوجية الصهيونية لتتلاقح مع النص، فيما يتعلق (بتحويل) اليهود من مجموعات بشرية إلى قومية وأمة، شعب ذو رسالة إلهية، دون عناء التأويلات والتفسيرات، والأهم لوي عنق النص! فالنص صريح هنا في أكثر من محور:
1- الرب جعل من اليهود، ولا يوضح النص لماذا هم بالذات، شعبه المختار. هكذا اراد ولا صاد لإرادته! واعتباره لهم شعبه، دون الآخرين، مدخل للتمييز العرقي، والأهم مدخلاً لرفض الآخر. فان تختار شعبا وتعده موعوداً ومحظياً يعني أن تنفي الآخر، ذلكم هو التسلسل المنطقي. سنعود لذلك. ولكن الأهم هنا هو: إختيار مجموعة بشرية، بل مجموعات، لاعتبارها شعباً مختاراً، يعد تشريعا دينياً لتشكيل رؤية جنينية لقومية متخيلة، ترى نفسها وارثة للأرض بوعد إلهي دون الأقوام التي عليها. هنا كانت اليهودية ضالة الصهيونية، ولكن ليس بمعنى إستخدامي، بل بمعنى تشكيل أيديولوجية عصرية رأسمالية، عنصرية، تستند لرؤية قومية دينية متخيلة، اسطورية، مزعومة وقديمة، مسنودة بوعد إلهي.
2- النص يتميز بتمييز اليهود عن غيرهم. كل قومية تنهض على قاعدة الإختلاف عن غيرها كجزء من تشكلها كقومية، فأية رؤية متخيلة لا بد لها من تمايز عن الآخرين وإلا فقدت هذه الرؤية، وتاليا القومية المدعوة للتجسد في دولة، مجرد مبرر وجودهما. ولكن فارق كبير بين رؤية قومية متخيلة تنهض على قاعدة عنصرية/ عرقية قوامها ذبح الآخر كمدخل للتشكل، وبين رؤية ترى لنفسها، جزء من رؤى عديدة متعايشة، تختلف معها وتتعايش معها، ولكن دون أن يكون الدم والذبح والإبادة هو الفيصل!
الرؤية اليهودية، وبتشريع رباني، رات نفسها قائمة على أنقاض الرؤى الأخرى. في هذا تلتقي الرؤية اليهودية، ولاحقا رديفها الأيديولوجي، الصهيونية، مع المشاريع العنصرية الكبرى: المشروع الأبيض في أمريكا واستراليا وجنوب أفريقيا وغيرها بديلا للسكان الأصليين، والمشروع النازي بديلا لشعوب بأكملها، ومنها اليهودي!! وتلك خاصية ملازمة للرؤى العنصرية في تشكيل قوميات متخيلة: فكما كانت الرؤية النازية تنهض على رؤية متخيلة للرايخ العظيم والشعب الألماني الفريد في نوعه، كانت الأيديولوجية الصهيونية، وبضمنها رديفها الرؤية اليهودية، تنهض على قرار إلهي بتميزها عن الآخرين وإستعلائها عنهم واستعبادها لهم. كل الرؤى القومية، إلى هذا الحد أو ذاك، تتضمن تضخيم للذات والتاريخ الخاص والمكانة، لتصل أحيانا لدرجة الأسطرة، ولكن قليلة هي الرؤى التي تنهض على نفي الآخر وإبادته كشرط وجودي لها، كرؤية وكممارسة عملية لتجسد رؤيتها في دولة. هنا التلاقح يبلغ مداه بين الأيديولوجية الصهيونية والدين اليهودي.
3- ولا يكتفي الوعد الإلهي بتشكيل تلك الرؤية القومية المتخيلة بل يتعداها لدعوة شعبه إلى النفي الفعلي للأقوام الأخرى في دعوة صريحة للإبادة مورست فعليا من الرب اولا، ومن أكثر من نبي ثانيا، ومن الصهاينة ثالثاً: علامات الرب في مصر، شمعون ولاوي في شكيم، ويوشع في أرض الميعاد، حتى أن صيحة الرب، ومن خلفه انبيائه، حول عدم ترك اي بكر او كل مَنْ يتنفس دون قتله، تكاد تكون روتينية للغاية!!!
هذا الحل العسكري العنصري بغض النظر عن تسميته (تطهير عرقي مبكر او تنظيف، او أرض محروقة خالية من البشر...) يغدو سمة ملازمة، نصاً، للرؤية الدينية لليهود لمكانتهم ودورهم، ويجد صداه في ممارسات فعلية، لها سند ديني، في تجليات المشروع الصهيوني لاحقاً.