العنصرية في العراق - حول معاناة سود البشرة


ينار محمد
الحوار المتمدن - العدد: 3150 - 2010 / 10 / 10 - 01:14
المحور: حقوق الانسان     

يمارس الافراد في مجتمعنا انواعا من التمييز الاجتماعي يومياً بالضد من سود البشرة دون ادنى اكتراث لحقهم في الاحترام والمساواة؛ وعادةً ما يزداد هذا التمييز في المجتمعات الاقل وعياً او في التيارات الاجتماعية اليمينية التي تقيّم الانسان وتعطيه اعتباره في المجتمع على اساس تكوينه العرقي او البايولوجي الظاهر للعيان وكل ما وَصَلَه وراثيا مما لا يملك احدنا تغييره او التصرف به (او ما يطلق عليه بالعامية بـ "أصل وفصل الانسان"). وكأن الانسان منتجاً فيزيائياً ذو صفات مادية مقررة مسبقاً عوضا عنه مخلوقا يحمل فكرا ومشاعرا وعقلا يقرر به موقعه وانتماءه ويملك ان يختار اين وما يكون، ولا يكون مجرد تابع لآبائه واجداده اجتماعيا وفكريا وسياسياً.
خلفية العنصرية
وتحصل ممارسة العنصرية – اي كراهية عنصر او عرق مغاير لعرق الاكثرية - في العراق دون وعي بماهيتها، بسبب ضعف ثقافة حقوق الانسان بالمساواة العرقية في العقود السابقة. ولعل انتهاء فترة الدكتاتورية البعثية التي مارست كل انواع التمييز ضد البشر افسحت المجال وخلقت الدافع لدى اليسار وناشطي حقوق الانسان بان يعملوا على كنس الممارسات المشينة من الحياة اليومية للمجتمع.
بالرغم من وجود المشاعر والممارسات العنصرية في العراق بالضد من العديد من الاعراق المختلفة، مثل سود البشرة والأسيويين الصينيين والهنود والبنغاليين وغيرهم، الا ان نوع التمييز يختلف في حالة كونهم من الاجانب العاملين في العراق عن كونهم عراقيين من اعراق مختلفة. اذ ان العمالة الوافدة من الاسيويين يتم استغلالها بتحميلها بكثير من العمل واعطائها اجرا قليلا، حالنا من حال البلدان الخليجية التي تنعدم فيها قوانين العمل، وهي تقع ضمن خانة بحث مختلف، بالرغم من كونها ترتبط بشكل او آخر بالعنصرية ايضا.
الا ان العنصرية التي يتم التركيز عليها في هذا المقال هي تلك التي تمارس بالذات ضد سود البشرة من العراقيين الذين عاشوا في هذا المجتمع طوال حياتهم، دون ان يفتح لهم المجتمع ابوابه وفرصه على قدم المساواة مع الاغلبية والذين لا يسأل احد عن عرقهم او اصلهم، بسبب عدم وجود التنوع العرقي الواضح في العراق. ولسنا هنا بصدد تقسيم الانتماءات العرقية في هذا المجتمع والتي تجعلنا نقع بنفس فخ العنصرية، قدرما محاربة ردود الفعل ضدها مما يخلو من اية انسانية او احترام لكل من اختلف شكله عن الاشكال المعتادة في المجتمع. ولعل الخوف من الغريب (زينوفوبيا Xenophobia ) هو احد اسباب العنصريةـ ولكنه ليس السبب الوحيد اذ يترافق مع خلفية تاريخية تمهد له.
ولعل فترة الاستعمار الاوروبي والتي تزامنت مع فترة نشأة الحضارة المدنية في مناطق الشرق الاوسط كان لها تأثير في خلق نموذج للسيادة والتفوق العنصري الا وهو الرجل الابيض- الذكر طويل القامة، والذي قهر شعوب العالم عسكريا واقتصاديا وحوّل وبالقوة قسما منها الى عبيد تعمل في خدمته. وبذا فُرضت معايير من التفوق البدني والشكلي تقترن بالمظهر الاوروبي الابيض البشرة وطويل القامة وذو نعومة في تقاطيع الوجه. مما حكم العالم بثقافة عنصرية غير معلنة، الا انها تطبق وبقسوة ضد البشر وحسب معايير عرقية متشددة تعبد الابيض الاوروبي المظهر المهيمن القوي. وتتغلغل هذه الثقافة الوعي الجمعي العراقي والمحلي من خلال افلام هوليوود والاعلام الغربي الذي كان ولا زال مسيطرا على الاعلام في معظم العالم.
العنصرية وكراهية المرأة والقومية
عادةً ما تترافق المواقف التمييزية العرقية الطابع مع المواقف التمييزية للتفوق البدني على اساس الجنس؛ ولذا فغالبا ما تكون المجتمعات المبتلاة بمرض العنصرية هي نفسها تلك المبتلاة بمرض كراهية المرأة.
تحاول حلقات اليسار والدفاع عن حقوق الانسان محاربة ظاهرة العنصرية، الا ان المهمة تغدو اصعب في البلدان المغرقة بالتوجهات القومية والتي هي باساسها عرقية الطابع وتعتمد في تقييم البشر على تكوينهم العرقي او على اقل تقدير لتمجيدهم لمنجزات مجموعة عرقية معينة دون غيرها. يضيف الفكر القومي العامل التأريخي على وجود تجمع سكاني عرقي محدد، ذو لغة واحدة، وقد ويبدأ بتمجيد حقبة تأريخية معينة هيمن فيها هذا التجمع وساد على غيره، ليخلق منه مثالاً مقدساً له أرضه او أمته واللواتي تحل نفس القدسية المزعومة. ويبدأ من هنا تسخير الانسان وتقديمه قربانا لهذا المثال، كمَثل الشهادة من اجل "الأمة" او التضحية من اجل "الأرض"، وكأن التربة تختلف عن غيرها لمجرد ارتباطها بتاريخ معين. ومن نفس المنطلق يكون النظر للمرأة على انها منجبة لابطال الأمة – والذين عادة ما يفترض انهم من الرجال.
قد يكون للعرق الواحد مواصفات سكانية مختلفة كأن تكون لغة او دين او مواقع جغرافية مختلفة. وتنتج منها ما تسمى قوميات مختلفة، كما توجد في العراق تجمعات عربية وكردية وتركمانية وآثورية ويزيدية. وتفرض هذه على الافراد بعض الاختلافات الثقافية المعينة من قبيل اللغة – اللهجة – الملبس – عادات وتقاليد اجتماعية – طرق طهو الطعام؛ الا ان هذه التجمعات السكانية لا يحمل افرادها فكرا واحدا او توجها واحدا في الازمنة الحديثة، او حتى منذ عصر النهضة حيث بدأ الانسان يختار موقفه وفكره وله حرية الاختيار ولم يعد مسيرا في اختياراته بل يمارس ارادته في التغيير. ولذا وبالرغم من ادعاءات امراء الحرب في العراق ممن تسميهم امريكا بقادة القوميات والطوائف، فان العربي والكردي والتركماني والآثوري وبجميع انواع دياناتهم وبطوائفهم، تتنوع اتجاهاتهم الفكرية والسياسية بين يمين ويسار ووسط، وسيأتي الوقت الذي سيتجهون به للاحزاب التي تمثلهم عوضا عن شملهم جزافا بتجمع واحد تحت مسميات شيعة وسنة وعرب وكرد ... الخ.
الا ان الذي ينظر لهم ككتلة واحدة موحّدة متراصة ويكون تمثيلهم واحدا في المجتمع والسياسة، عادةً ما يحمل فكرا في اصله عرقي عنصري وتضاف له معادلة قومية تصنف البشر على اساس تكوين عرقي سكاني بايولوجي وتاريخي؛ وتنكر على الانسان الانتماء الفكري او الاختيارات الفكرية او السياسية الى غير مواقعه المرسومة له بايولوجيا او تاريخياً. وهي هذه العقلية السياسية السائدة في الطغمة التي تحكم العراق حالياً والتي وجدها المحتل الامريكي مناسبة جدا لتمثيل الجماهير كونها تلغي اي احتمال توجههم لاحزاب اليسار الثوري التي تخاطب دور ارادة الانسان بقرار مصيره السياسي والاقتصادي المساواتي. ولذا فان المحتل الامريكي وجدها خطوة اولى لتمثيل الجماهير بانماط بدائية تمهيدا لتكريس نظام طبقي تكون الرؤوس القومية فيه الطبقة الحاكمة وسواد الجماهير الطبقة المستغُّلة مما يفسح المجال لنظام اقتصادي رأسمالي.
ومن هنا كان التمثيل السياسي في العراق وفي حكومة ما بعد الاحتلال وفقا للهوية القومية والدينية والطائفية- وهي في مجملها هويات بدائية الطابع تلغي ارادة الانسان وقراره بتغيير اوضاع العالم الى عالم افضل.
فكيف بتوجه بدائي من هذا النوع ان ينظر الى من هم من عرق آخر كأن يكون افريقي الاصل او آسيوي السحنة او غجري المنشأ والعادات؟
خلفية تاريخية
ان العنصرية اكثر ما تمارس بحق سود البشرة في العراق. ولذلك خلفية تاريخية قديمة ترجع للقرن الهجري الاول ، وعلى انها ازدادت خلال فترة ازدهار الدولة العباسية عندما كانوا يُجلبون من شرق افريقيا لغرض العمل في مزارع العراق كعبيد. وبالرغم ان العبيد لم يقتصروا آنذاك على سود البشرة،بل كان هنالك منهم بيض البشرة من القفقاس كالمماليك، الا ان اولئك نجحوا في كسر قيد العبودية والتراتبية الاجتماعية الدنيا لاحقا والوصول الى مواقع الطبقة الحاكمة.
تتضمن سجلات التاريخ ثورة لسود العراق في القرن الثالث الهجري-التاسع الميلادي في البصرة بما عرف بـ (ثورة الزنج) بالضد من الملاكين وسلطة الدولة وذلك في مدينة المختارة في جنوب البصرة، وكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها، إذ دامت أكثر من عقدين . الا ان التاريخ لا يسجل لهم مكاسب لاحقة، او كسرا لطوق العبودية والاقصاء الاجتماعي المرافق لتلك الحقبة التاريخية. وبالرغم من دعاوى الاسلام بان لون البشرة لم يكن اساساً للتفرقة والتمييز، ويأتون دائما بمثال بلال الحبشي، الا انه من الناحية الفعلية ظلت النظرة الى سود البشرة على انهم من العبيد. ولا يختلفون بذلك كثيرا عن نظرية الاصل والفصل وليس لارادة الانسان في تغيير واقعه وجود لديهم. ولا تزال بقايا هذه النظرة مستمرة لغاية اليوم في العراق.
التسمية
اما في موضوع تسمية هذه الشريحة، فلا تزال ادبيات حقوق الانسان ليست بواضحة في العراق. اذ يستعمل الاغلبية تسمية الزنج او الزنوج وتكثر المصادر حول ارتباط هذه التسمية بـ زنجبار وهي جزء من دولة تانزانيا الاتحادية حاليا في الساحل الشرقي لافريقيا، ويقال ان التسمية بالاصل هي بر الزنج – زنج البر .
هنالك بعض المحاذير من اتباع هذه التسمية، اذ ان مرادفتها الانكليزية negro قد حذفت من الاستعمال الرسمي المقبول سياسيا politically correct وبجهود حثيثة من جماعات حقوق الانسان لما تحمله من معانٍ تحقيرية ترافقت مع فترة سيادة المستعمر الاوروبي الابيض على رقعة كبيرة من العالم، ومن ثم استغلاله لسود البشرة في اعمال الخدمة المنزلية والاعمال الزراعية. ولذا فان امكانية استعمال كلمة الزنج او الزنجي مستبعدة ايضا في هذا البحث وفي ادبيات حقوق الانسان المحلية.
اما تسمية العبيد كما هي مستعملة وبشكل يخلو من الانسانية في الواقع العراقي، فهي مرفوضة البتة، لكونها الوجه السافر لتوجه عنصري معادٍ لقيم الحرية والمساواة. وعادةً ما يكون هنالك تقبلٌ لهذه التسمية في المحيط الذي يصّر على استعمال وابقاء تسميات ومفاهيم مثل السيد – السادة ، ويكون المعنى المبطن لهذا الاصرار ان البشر مقسمون الى طبقات ومستويات تكون بعضها "سائدة ومقتدرة" لكونها مرتبطة بنسل معين (نفس النظرة البايولوحية لتكوين الانسان للفكر العنصري) مسلطة بالضد من "العادية" او من "العديمي القدرة- كأن يكونوا عبيدا". اذ ان استحداث موقعية "السيد" تؤدي اوتوماتيكياً لكون البقية عبيدا وادوات لخدمة وراحة ومتعة السيد.
يستعمل بعض العراقيين التقدميين كلمة "الاسمر" او "ابو سمراء" وذلك تحببا او مراعاة لمشاعر المتحدث اليه من سود البشرة، الا ان التسمية لا تكون دقيقة لكون معظم العراقيين من سمر البشرة في مقارتنهم مع شعوب العالم الاخرى. قد تكون تسمية "سود العراق" الاكثر ترجيحا حالياً والى ان تتوصل ادبيات حقوق الانسان المحلية الى تسمية افضل تخلو من اية دلالات عنصرية.
خلفية جغرافية وتمثيلهم
بالرغم من عدم وجود احصائيات دقيقة في العراق حول اعدادهم، الا انه يتم تقديرهم بما يتراوح ما بين الربع ونصف المليون، وتزداد اعدادهم في الجنوب وخاصة في البصرة في مناطق الزبير وابي الخصيب والفاو، وكذلك منهم في مناطق متنوعة في بغداد وخاصة في مدينة الثورة. كما وتزداد اعدادهم في الاوساط المستغّلة اجتماعيا كما في البتاوين في مركز بغداد.
وقد أسسوا لنفسهم في السنوات التالية للاحتلال تجمعاً باسم (حركة العراقيين الحرة) ومن مؤسسيها عبد الحسين عبد الرزاق الذي اعلن بان مهمة هذه الحركة هي التصدي للتمييز العنصري والاضطهاد العرقي الذي يلحق بذوي البشرة السمراء وذلك في كلمة في مؤتمر صحفي يوم الحادي عشر من ايلول 2007 في المركز الثقافي النفطي بالبصرة.
وقد طالب رئيس المنظمة عوض العبدان ضمن لائحته المطلبية بان "...أعتبار الصاق صفة العبيد بالسود جريمة قذف ويحاسب عليها القانون وفق أحكام المادتين ( 433 ,434 ) من قانون العقوبات النافذ". وذلك الى جانب مطالب اخرى تشريعية وحقوقية اجتماعية، ومنها تمثيلهم في الدولة واعطاءهم كوتا حالهم من حال الاقليات الاخرى.
ان الموقف التقدمي يكون مع الحفاظ على حقهم بالاحترام وفرصهم في الحياة الاجتماعية، الا ان مبدأ الكوتا فهو يرجع مرة ثانية ويمارس تمثيلا عرقيا داخل المجتمع، كما هو في حالة الكرد والتركمان والعرب، مما يسحب المجتمع الى صيغ بدائية في التمثيل.
من التجارب التاريخية في هذا المضمار، تجارب الحزب الشيوعي الامريكي والذي وجد نفسه في حرب مع العنصرية، في الثلاثينات من القرن الماضي، التي بدأت تفصل صفوف اعضائه الى بيض وسود . وكانت سياسة الحزب آنذاك عدم تعريف ايٍ من التجمعات عرقياً املا بان يختلط الجميع في بودقة واحدة، وفي نفس الوقت محاربة اية ممارسات او تصريحات غير انسانية بحق السود. جلبت التجربة الثانية نتائج ناجحة آنذاك، الا ان محاولة الغاء التجمعات السوداء آنذاك املا في اختلاطها مع البيضاء لم ينجح، بل اتضح بان انهاء المشاعر العنصرية يحتاج الى تصدٍ متشعب ومطول.
نجح اليسار التحرري وحركة الحقوق المدنية في امريكا بالنضال من اجل جر المجتمع الى مواقع اقل عنصرية من ذي قبل، الا ان مرض العنصرية لا يزال متفشيا في الغرب الامريكي ولا يزال حاجز زجاجي يقف مانعا امام تقدم وتمتع سود امريكا بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولعل هذا السبب اودى باحتفال بعض تحرريّي العالم بفوز اوباما بموقع الرئاسة في امريكا حيث عانت اجيال كثيرة وعلى مر العقود باكثر الممارسات العنصرية وحشية. وبالرغم من ان هذا الاحتفال لم يرافقه اي توهم بان النظام الراسمالي سيتغير قيد انملة عن مواقعه الحالية المعادية لشعوب العالم المتطلعة للحريات، الا ان الحدث رافقه نقلة نوعية رمزية لتطلعات سود العالم بانهاء العنصرية ضدهم.
وقفة ونداء
ترى منظمة حرية المرأة في العراق ان الامراض الاجتماعية من قبيل العنصرية وكراهية المرأة وجهان لعملة واحدة. وعادةً ما تكون نفس التيارات الاجتماعية اليمينية المحتوى هي التي تزاول الممارستين في آن واحد. ومن هنا تقف (حرية المرأة) مع سود العراق في مطلبهم بالمساواة الاجتماعية والسياسية، وتدعو كذلك جميع التجمعات والاحزاب والمنظمات لتقف وقفة قوية بالضد من مرض العنصرية بتوعية افرادها والمجتمع على اهمية انهاء حالات التمييز العرقي في المجتمع. يجب على الاعلام الرسمي والمعارض ان يخاطب هذا الموضوع وان لا يقف موقف المتفرج السلبي على ظاهرة مشينة لبشرية الالفية الثالثة.

ينار محمد
رئيسة منظمة حرية المرأة في العراق
‏07‏/10‏/2010