أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عبد الكريم - دراسة نقدية تحليلية















المزيد.....


دراسة نقدية تحليلية


سعدي عبد الكريم

الحوار المتمدن-العدد: 4805 - 2015 / 5 / 13 - 20:38
المحور: الادب والفن
    


الهبوط الى العالم السفلي .. وتجليات الأسئلة الكونية
في مجموعة ( مدية حادة ) القاص العراقي حمودي الكناني

- دراسة نقدية -

سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد

* المقدمة *

تتمظهر أجواء القصة القصيرة جداً داخل المعطيات الطقسية التدوينية للومضة التعبيرية الخاطفة، والثيمة المختصرة المنتقاة، والسرد القصير، واستثمار لغة النثر في صياغتها، واستخدام الطاقة المخيالية التي تُحال الى إبحار داخل عوالم ذات مناخات فنطاسية تارة، وأخرى واقعية مجتمعية حاضرة .

وفي رأينا النقديّ .. ان لجوء شعراء النثر، أو الضالعين في استثمارات مهاراتهم اللّغوية، الى كتابة القصة القصيرة جداً، ليست لأنها أقل طولاً من الرواية أو القصة التي تعتبر الحاضنة الأصيلة لها، ومرجعيتها الأم، بل لقيمتها الومضية العالية، ومعاييرها الفنية المهمة، والتزام كاتبها بعدم الإطالة في سرد الأحداث ومط التداخلات في الحبكة، ذلك لأن القاص لا بد له أن يتعامل، بمهارة عالية، وتقنية لافتة، وفاعلية مرهفة مع بنائيتها الإبداعية، وبطريقة التناول، واختزال الحدث، والاشتغال على مساحة صراعية أقل تشابكاً من القصة والرواية، لأنها لا تحتمل المناورة بين الشخصيات، وتعتمد طريقة تداول المفردات، التي تؤدي إلى المعاني الكبيرة التي تختصر السرد، وذلك يفضي الى حجم القدرة الفاعلة والمستحكمة في صياغة، وخلق القصة القصيرة جدا بمهارة عالية، وامتياز راقٍ .

لقد أطلق الكثير من النقاد على القصة القصيرة جداً عديد من الموسومات، للإحاطة بمشروعية هذا الجنس الأدبي الحديث، والإفادة من مظاهرتيه الفاعلة في ذاكرة الاستقراء، واستخدام مهارته الفنية، ولوازمه التقنية، ودلالاته التشفيرية، وسعة مخيالاته الصورية الناهضة، وقصدية خصوصيته المتفاعلة مع جسد النص، وتفعيل استثمارات لغته العالية، فاختلف النقاد على ضوء ما تقدم من توافر الشرائط في متنها الشكلي، والمضموني، فبعض النقاد ذهب الى تسميتها، القصة القصيرة جداً، وآخرون أسموها لوحات قصية، أو ومضات قصصية، أو مقطوعات فنية قصيرة، أو قصة مختزلة، ونحن شخصياً أطلقنا عليها في إحدى دراستنا النقدية موسومة ( بورتريهات صورية، مرسومة بلغة حصيفة راقية ) وعلى جلّ الأحوال فقد استقر هذا الجنس الأدبي الفاخر على تسميته الحديثة ( القصة القصير جداً ) لأنه الموسوم الأقرب الى تفعيل تجنسيه كمصنف أدبي مستقل بذاته، ويفصح عن ملامحه عبر منظومة مكنونات التدوينية، على الرغم من اختلاف التسميات، والموسومات، والعناوين .
لقد عُدتْ القصة القصيرة جداً جنس من الأجناس الأدبية المستقلة بذاتها لما تتميز به من ضوابط ومعايير ومعطيات تدوينية لازمة لإحكام ملاحق إنتاجها لعدد كبير من المحصنات التي يمتاز به هذا الجنس الأدبي الحداثوي، ومن هذه المعطيات حجهما التدويني القصير، واستثمار لغتها المكثفة، ووحدة مفاصل مقاطعها، والاقتضاب في وحدة موضوعاتها الموجزة، واستخدام التشفير ( الرمز) داخل بثها ألمضموني، والابتعاد الملزم عن المباشرة في القص، وتمرير عديد المدلولات القصدية عبر التلميح والإيماءة، والدلالة، والإيقونة، والعلامة، وهي من الاستثمارات السيميائية الفاعلة في جسد المنتج القصي، وهي بالتالي تحتاج الى الاختزال في السرد، والتركيز على إظهار الصورة المدهشة للموقف التعبيري، ويُعدُ الانزياح من المظاهر المستثمرة في مضمرات القصة القصيرة جداً، وتُعدُ كل تلك المعطيات والمعايير من السمات الحاضنة لإنتاج نص قصي يلقى ترحيب مزدهر من لدن دائرة الاستقبال النخبوي، وذاكرة التلقي الجمعي .
ووفق هذه المقدمة السريعة .. ومن اجل الولوج الى العوالم التدوينية الخصبة للقاص العراقي (حمودي الكناني) في مجموعته القصصية الموسومة (مدية حادة) علينا لزاما الوقوف أمام تجربته القصية بإجلال مهيب، واحترام بالغ، لأنه قلم قصي عراقي باهر، يستدعي الذاكرة النقدية للوقوف في حضرة تلك التجربة بفراسة استثنائية، وإمعان عميق، وبنظرة تفسيرية أكاديمية ثاقبة، لإحالة ذلك المنتج الى مخاصب التحليل وفق منظومة المقومات والخصائص الفنية العالية، والتي يمكن معها استجلاء تلك التجربة عبر ملاحق التضمين التراتبي الذي يستلزم وفرة المعايير في النسيج القصي لدى القاص المجدد ( حمودي الكناني ) بثراء ملفت، من خلال لغته المبهرة، وخياله الخصب، واختياره لـ( ثيمات ) نصوصه التي يستطيع إسقاطها على واقعه المجتمعي المعاش، واستثماره الراقي لذلك التموسق داخل أيقونة الإيقاع الداخلي لمناخه القصي، وذلك الإبهار المحمل بطاقة صورية ومخيالية عالية، فاعلة ومتفاعلة في جسد (النص) عبر ومضته القصية التعبيرية المبهرة، التي تسحب إليها دائرة الإنصات الاستقرائي، وذاكرة التلقي بروية خلابة، وأنسابية راقية، ولامعات فاخرة .

وحينما تحتم علينا أدواتنا النقدية التحليلية والتفسيرية، وملاحقنا التأويلية لاكتشاف المضمر داخل ثنايا النص القصي، نجد بان من الضروري حينما نقوم بدراسة وتحليل جمالية النص عند القاص ( حمودي الكناني ) يستلزم منا ذاكرة نقدية حاضرة في زمن الومضة القصية، وخارجها، والتي يحاول عبرها القاص تحصين منتجه القصي الثر، بذلك الهيكل المانع عبر معايره الفنية والتقنية المتوافرة في معطياته القصية، لأنه يبذل جهداً مميزاً في خلق تلك الومضة التعبيرية، من خلال تجاربه السابقة، أو الحالية، او الأستشرافية، او من خلال شخوصه المستوحاة من الواقع، أو من الخيال، لإظهار أبطاله وهم يحومون داخل بوتقة معالجاته الفنية الراقية لتلك الومضة، لإخراجها بتوءدة من رحم المعاناة والحزن، أو الغبطة، أو ربما تخرج من خلال دخان الحروب، ومحن الوطن، وتجليات شخصياته المتخمة بالتساؤلات الكونية، القادمة من تخوم عوالمه الهائمة داخل صومعة اتقاده التدويني الموجع، والمتوائم مع تلك اللّوعة الداخلية التي تؤرقه، والمحلقة بذات اللحظة صوب مفاتن الإبهار، والدهشة .

وعندما ندلف الى عوالم قصص مجموعة (مدية حادة) ( للقاص (حمودي الكناني)
نكتشف منذ الوهلة الأولى بأنه اختار منهجية فاخرة في تناول ثيمات قصصه المتنوعة الفحوى والشكل، فقد اعتمد بالكلية على أناقة جمله النثرية التي استثمارها أيما استثمار في تدويناته القصية، مضافا إليها مهارته الفنية في صياغتها المعجمية، من خلال لغته العالية التي استطاع استخدمها بطرائزية راقية، لأنه بالأصل شاعر، ويعرف كيف يؤثث مشهده الشعري، ليضيف لمشهده القصي براعة في اتقاد ولمعان جمله القصية الوصفية، وحينما نلج الى قصة (مدية حادة) التي هي موسومة المجموعة نجد بان القاص (الكناني) قد هيأ لسياق قصصه التالية من خلال هذا العنوان لتكون دلالة لائقة للاستقراء الابتدائي للمجموعة، ففي القصة يصف بامتياز مشهده الاستهلالي :-

** استلقى على سريرِهِ بعد تساؤلاتِه المعقدةِ فغشيتْهُ سكرةٌ. استقبلَهُ سكانَ العالمِ السفلي بسيلٍ من الأسئلة الكهنوتيةِ، لكن مغدورأ اعترضَ طريقَه صائحاً: هل تحدثتَ إلى رأسي قبلَ أن تنزلَ إلينا ؟!

وعلى ضوء موسومة الدراسة النقدية، فهنا يلج القاص (حمودي الكناني) حيث العالم السفلي، ليثير حولنا تجليات تساؤلاته الكونية، فبطله الذي يبدو بأنه قد اُتخم بجملة من الأسئلة المُعقدة، التي أحاطت بذاكرته، حتى غشيته سكرةٌ، وهذه السُكرة التي ارتقى بها البطل حيث مصاف الموتى، أو الاحتضار اليقيني، لينتقل الى الآلهة (تيمات) ربة العالم السفلي، ونزلاء ذلك العالم (الموتى) ليحيطوه بذلك الكم الهائل من التساؤلات الكهنوتية، ربما هو على موعدٍ ليوم حسابه على خطاياه الدنيوية الفائتة، ليعترض (مغدوراً) طريقه أثناء الاستقبال الغير محتفل به، وهنا علينا أن نقف إزاء مفردة (مغدور) لنجد لها مبرراً في سياق القصة، كان يمكن ان يكون واحدا من الكهنة، أو ربما ملاك من الملائكة، أو رجل دين، لكن (الكناني) أراده ان يكون (مغدوراً) لان مخيال القاص الذي يحيلنا الى تأويلات ذات منافع تحليلية متفاعلة مع بطله، ليبدو لنا بأنه احد ضحايا الحروب، أو احد الذين غدرت بهم نزاعات الطوائف ونزف دمه على قارعة الطريق، أو تلاشى جسده بعبوة ناسفة وتمازج مع إسفلت الشارع، أو ربما هو ذات (القاص) الذي أزمع على التخلي عن عالمه المُزري، ليحلق الى عالم أكثر رحمه، إذن (البطل) هو ضحية من ضحايا الصراع الذي طغى عليه لون الدم، مما جعل (المغدور) يصرخ بوجه البطل الذي تنطبق عليه ذات مواصفات المغدور، ليصيح بوجهه قائلاً :-

(هل تحدثتَ إلى رأسي قبلَ أن تنزلَ إلينا ؟! ) ...

وهذا التساؤل الكوني، راجع الى قيمة الوعي الذي يتسيد رمة الحث القصي، فهو يطالبه بان يأخذ إذناً من رأسه، قبل ان ينزل الى النار، أو يرتقي الى الجنة، في عوالمه الافتراضية المخيالية، وهذه الجدلية التي أثارها (الكناني) تشير الى مدى اتكاءه على ذلك المهماز الناجز (العقل) الذي يشد الحدث الأصيل للقصة، ولينعش ذاكرة المشهد البنائية، ليحيلها الى صورة مرئية جمالية راقية .

وعند استقراء قصص المجموعة، نجد بان ثمة تجدد ملحوظ على قيمتها الفكرية والتناولية، مما يحيطها بتراتبية جمالية حصينة، ليبعدها عن مساحة التكرار، والابتعاد من فسحات الارتباط النمطي بالسائد والمألوف، ففي قصة (زمكنة) يتحول البطل من مراقب او مشارك في لأحداث، الى فاعل وصانع للحدث الأصيل في ثيمة القصة حيث يبادرنا (الكناني) بقصته مُدوناً :-

* ( يرفعُ يديهِ الى الأعلى ويضربُ الأرضَ بشدةٍ ليختبرَ قواه ، الحصى المُستَفّرُّ يدمى عينيهِ فيتوقف عقلُه الباطنُ عن التقاطِ الصورة ! ) *

ان هذا الوعي العالِ الذي يغلف ملامح القصة، ويظلل على تفكير بطلها الذي يحاول ان يثبت لنفسه حجية امتلاكه قوى إنسانية خارقة، تستطيع ان تتغلب على الأرض، أو على قوى الطبيعة، وهو يحاول هنا ان يخلق لنفسه هالة من التقديس، لتشفع له في إثبات ما لا يمكن إثباته، فعملية رفع يده الى الأعلى ليضرب بها الأرض بشدة، ليختبر قواه الذاتية الملهمة لذات الفعل الخارق، أنها عملية ذات تراكمات معنوية ونفسية تاريخية سابقة، وقد أراد (الكناني) بهذا التحدي، أن يقود بطله الى القول في سؤال كوني آخر مفاده في رأينا :-

* (( ليس ثمة من يصارع الأرض على بقاءها، ومحاولة تغيير شكل صيرورتها الأزلية، وليس ثمة من يتحدى الخالق، في تغيير صور ما خلقه، فالأرض ثابتة، لا يمكن لأحد ان يحول شكل استدارتها، ودورانها في فلكها، ربما هناك من يستطيع تغيير الواقع، عبر مكنونات عقلية، وحسية ذات مخاصب فكرية )) *

وهذا التساؤل الكوني يقودنا الى القول، بان (الكناني) أراد لبطله ان يتحدى الطبيعة، حتى يصطدم بواقع يعرفه بكليته مسبقاً، لكنه أراد من ثقل أوزار الحياة عليه، وضغطها اليومي المُفزع، ان يغير شيئا من الثوابت المحيطة بعالمه المجنون، لكنه بالخطأ ذهب الى ثوابت لا يمكن تغييرها، لان الأرض ليست كالسياسية، ولا كالفقر، ولا كالجوع، ولا كالظلم، لا يمكن تغييرها بالدهشة لوحدها، ولا باستعراض لحظيّ لمنجز أنساني بطولي عابر، لكن البطل جانبه الصواب، حتى استنفر حصى الأرض ليدمي عينيه، ليتوقف عقله عن استيعاب الصورة الذهنية اللّحظية التي أحاطت به، وهنا يطرح (الكناني) سؤاله الكوني الآخر الذي يمكن معه الإحاطة بركائز ومعايير التغيير، ومفاد هذا التساؤل برأينا :-

* (( لا يمكن تحدي الثابت الأزلي، ولكن يمكن تغيير ما هو محيط بنا من فواجع يومية كارثية، عن طريق استثمار ذلك المنحوت السحريّ (العقل) لنتمكن من خلاله النزوح نحو التغيير عبر محفزات مداركنا المعرفية، وتحدي الأنظمة المتسلطة على رقاب شعوبها، أو يمكن لنا عبر استثمار وعينا، لتغيير السائد، والمألوف المقيت من حولنا، عبر طرح تلك التساؤلات الكونية، لإيجاد أجوبة شافيه لها، وبالتالي لحث ملاحق تغييرها )) *

ويجول بنا القاص العراقي ( حمودي الكناني ) عبر قصص مجموعته (مدية حادة) أثراً بعد اثر، ليوقظ في خلجاتنا ملهماتنا الفكرية، ويحرك في أذهاننا إيقاعات أسئلته الكونية، لخلق حالة من الترقب، والدهشة، والإنصات، والتفكير بما يجول في ذاكرته القصية الباذخة الجمال، والمرتكزة على ذلك الكم الهائل من معالم الانزياح، والتكثيف، والإضمار، والتراكيب اللّغوية المحكمة والشافعة لإيصال الفكرة المتوخاة من ثيمات قصصه، ساعياً لفض الاشتباك بين الانتباه، وتدوير اللحظة الإبهارية المتوالدة من رحم تلك الصورة الألتقاطية الفطنة في انتخاب أبطاله، من بطونات المعاناة الإنسانية، وانتقاء دلالاتهم الرمزية، وإخضاعهم لذلك التنوع الأدائي البطولي، الذي نعتبره برأينا النقدي، نتاجاً لبلورة أفكاره الموضوعية المستندة على أحداث تاريخية، او استرجاعية، أو آنية، أو أستشرافية فاعلة ومتناغمة مع نصوصه، لتثوير معالم الوعي الفردي، والجمعي في خطابه القصي، وبالتالي فهو يحمل مشعلاً تنويراً، لتسليط مساقط الضوء على أسئلته الكونية المنتقاة بعناية فائقة، ودراية عالية، وعقل أدبي راجع وواعٍ، ومنفتح على الآخر، وعلى ما يدور من حوله، ففي قصته الثالثة المنتقاة كعينة فاخرة للدراسة والموسومة ( وزر) يفاجئنا (الكناني) مرة أخرى، حيث يقول فيها :-

*( وقفَ على حافةٍ حادة ينظرُ إلى البحر ... أغرتْه زرقتُه فقفز من مكانِه علَّه يطلي جسَدَه بلون الماء .....ولما لم تسعِفه فنونُ السباحةِ بدأ يغرق , ورقاء مرت فوقه حاملة قشا لبناء عشها أسقطت له قشة ً .
أمسك بها وبدأ يرثي نفسه : ما لي نجاة بقشةٍ .
أليست هي التي قصمت ظهرَ البعير ....؟ *( !

وهُنا يأخذنا القاص ( الكناني) حيث منافع اشتغالاته القصية في قصته (وزر) التي ترمز لبطله المُحبط، الذي يحمل ذلك المخيال العالي في مواطن انحيازاته العدمية تلك، ليقذفنا في شراكه التي تنوعت مخاصبها الدلالية، حيث يقف البطل على حافة حادة، ينظر الى البحر، وهنا علينا الوقوف إزاء مفردة (حادة) لتأكيد العبرة التي اتكئ عليها (الكناني) في مجموعته، والتي حاول إيصالها للمتلقي بإيجاز لتوسعة أنساقه التشفيرية، وإحلال ذلك الانسجام البياني، والتركيبي، والتشكيل اللّفظي، واللّغوي، فمفردة (حادة) جاءت في قصة مدية (حادة) ووردت أيضا في تراتبية قصصه اللاحقة، علناً، أو تضمينا، ليقودنا القاص الى فكرته المتوخاة التي تشير الى أن الظواهر، او المناطق الحادة دائما تأتي بنتائج غير مرضية، ربما لأنه اعتبرها نوع من أنواع التطرف، أو المغالاة بالفكر، او ضعف في الحجة، او عقم في طريقة التفكير، ولا بد من الإشارة بأنه نجح تماماً في تضمين فكرته الناجعة تلك داخل طيات قصصه (الحادة) وبعد أن ينظر البطل الى حافة البحر الحادة تغريه زرقته، وهنا يتماثل الضدين على مساحة خارطة ذهنية واحدة، بينما يقف البطل على (حافة حادة) ربما لينتحر، وتهيم مخيلته في رومانسيتها، لتمزج الحافة الحادة، وزرقة البحر، في بوتقة نفعية واحدة، أن هذه الاستعارة الانزياحية الجملية التي يقدمها لنا (الكناني) هي مثال (حاد) على قناعاته المسبقة، وبذات الوقت الذي ينسجم بطل قصة (وزر) انسجاما تفاعليا مع زرقة ماء البحر، وحيث أغرتْه زرقتُه، يقفز من مكانِه علَّه يطلي جسَدَه بلون الماء، وفي هذا المشهد بالتحديد، وفي رأينا .. ان القاص ابرع في إبراز حنكته التصويرية، ليرسم لنا لوحة ذات خصائص متنوعة الجمال، توحي بذلك التماسك القصي المذهل، وليخطط لما سيأتي من أحداث داخل مخاصب (ثيمة) قصته، ليدلف بطلها حيث المأزق الحقيقي للفعل الأصيل المتوخى في مرجعية الصراع، حينما بدأ يغرق من جراء تحقيق انسجاماته اللونية المخيالية بين (زرقة الماء) وبين (لون الماء) الذي قفز من مكانِه علَّه يطلي جسَدَه به، حتى مرت من فوقه ورقاء حاملة قشا لبناء عشها أسقطت له قشة ً حيث يقول في القصة .

... (( أمسك بها وبدأ يرثي نفسه : ما لي نجاة بقشةٍ .
أليست هي التي قصمت ظهرَ البعير ....؟ ))

ولتحقيق هذه المعادلة الصعبة بين (الحياة+الموت) وبين انسجامات البطل اللونية التي أراد بها القاص (حمودي الكناني) ان يجري بحثه المأزوم عن ملحمة الخلاص لبطله، وانتشاله من واقعه المتردي، وآلامه الفردية والجمعية، وأحباطاته اليومية من جراء خراب كل جميل من حوله، لجأ القاص الى أن يوغل بطله في إجرائية منتقاة للقضاء على أحلامه المؤجلة، أو اللّحظية، أو المستقبلية، لأنه أراد إنقاذه بقشة وسط حتمية الغرق، وهذه المفارقة (الحادة) التي يختم بها (الكناني) قصته على لسان بطله بقوله :-

... (( ما لي نجاة بقشة .. اليست هي التي قصمت ظهر بعير )) .

ولعل الملفت للنظر في الأحداث المكثفة لقصة (وزر) والتي تجعلنا نراقب أبطال جلّ قصص المجموعة بدراية تحليلية يقظة، وبعين نقدية مبصرة، ومعيارية تأويلية ذات نفس متأني، ليأخذ (القاص) على مسؤوليته الانعتاق من شباك الإحباط اليومي، من خلال احباطات أبطاله، ووقوعهم أسرى بطولاتهم الإجرائية، للخلاص من واقعهم المتأزم، والذي أضفى على شحناتهم الداخلية، والخارجية، ذلك الكم الهائل من عدم الاكتراث لمصائرهم، لذا فهم غير مبالون بما ستؤول إليه مصائرهم تلك، التي رسمها لهم (الكناني) على ضوء تأزمه هو أصلا من واقعه السياسي المترهل، وواقعة الاجتماعي الخرب، وانطباعاته الحذرة من آلية ملاحق التغيير المستقبلية التي يمكن له التحريض على انتزعها من براثن هذا الخراب التراكمي المهول، جراء الحروب، وجراء الإحباط المحيط بنا جميعاً .

لقد اعتني القاص ( حمودي الكناني ) بتشييد معمارية بناءه القصي الباهر، بدراية فطنة محاطة بتأثيثات تركيبية ذات منافع مخيالية عالية، وتكثيف لغويّ جميل، واختزال لفظي محكم، ليحرك بفاعلية نوعية ملامح الدهشة، وتحريكه لذلك التوالد المتوغل في جذور التغيير في دواخلنا، ولإيقاظ ذلك السبات المعتم في مشاعرنا، وتفعيل ذلك الكم الهائل من التثويرات المنتخبة في لواعجنا، ليصب بها داخل بوتقة التحريض ضد السكون، والقفز على كل ما هو رتيب، وسائد، ومألوف، ليقودنا الى استثارة أذهاننا واستنارتها، للوصول بها صوب منصات البوح المسموع، ليحقق مبتغياته الأصيلة في تكوين ملاحقنا الأستشرافية، ومن اجل ان نكون أكثر جرأة من أبطاله المحبطون، وأكثر امتلاكا لناصية التغير في دواخلنا ومجتمعاتنا .

لقد أثار القاص العراقي (حمودي الكناني ) في مجموعته ( مدية حادة ) العديد من التساؤلات الكونية التي شكلت حيزاً كبيراً من ثيمات قصصه، وأثرت في تشكيل ملامحها التنويرية، وجاءت أصوات أبطاله من العالم السفلي تارة، أو من العالم الافتراضي تارة أخرى، ومن مخياله الخصب الثّر تارة ثالثة، وهذه المؤثرات الموضوعية، والفنية، تقودنا للقول بان (الكناني) وعلى ضوء نظرتنا النقدية، استطاع وبمهارة عالية أن يكشف الغطاء عن المستترات الإنسانية، بواسطة ذلك الشغف في ارتياد منصات التغيير لكي لا يسيطر الإحباط، والنتائج السوداوية على الفرد والمجتمع، بل ليأخذنا صوب ناصية الخلاص عبر قصصه المختارة الراقية، ولغته المكثفة الباهرة، وصوره القصية الباذخة الجمال، والتي صاغتها مخيلته القصية المبحرة في عوالمها الخاصة المترعة، ومن الجدير بالقول بان (الكناني) له جذور تدوينية شعرية، لذا استطاع وبإحكام ان يغرف من تخزينه الشعري، ليلتقط لنا وبأسلوبه الشيق تلك المهاميز التصويرية الفائقة التكوين، ليخلق حول أبطاله حيزاً إنسانياً عقلياً، وحسياً ملموساً، ليكون باستطاعتهم التقاط صورهم الحياتية اليومية بغير وجوم، ليحليهم الى مناطق الانتخاب الجوهري لوظائفيتهم اليومية، واتخاذ قراراتهم المصيرية .

لقد استطاع القاص ( حمودي الكناني ) من خلال مجموعته ( مدية حادة ) أن يصهر أفكاره المتقدة داخل بوتقة تصوراته الواقعية، والمخيالية، ليبث الحياة داخل مصائر أبطاله، فقد عالج وبمهارة عالية ضبط نزاعاتهم المصيرية المتوالدة من رحم معاناتهم وآلامهم التي ربما كان يعاني منها هو في حياته اليومية، ليبثها بدلالية مبهرة داخل ثيمات قصصه الرائعة، لتتواءم معادلته الرصينة المتماثلة في واقعنا الراهن ما بين ( السائد) وبين مناجع (التحريض) وصولا الى مناطق (التغيير) التي نصبوّ إليها جميعاً .

وأخيرا .. نحن نعتقد وعلى ضوء رؤيتنا النقدية .. بان القاص ( حمودي الكناني ) استطاع ان يزيح النقاب عن جملة من المتضادات في دواخلنا، عبر معطيات أبطاله الصراعية، الذين هم بالأصل نتاج فاعل ومتفاعل مع حيثيات حياتنا المجتمعية المعاشة اليومية، رغم انه اصبغ عليهم تلك الصبغة الخيالية أحيانا، والواقعية أحيانا أخرى، لكنه بذات الوقت حاول جاهداً على إنارة مناطق العتمة في دواخلنا، لإحالتنا الى أيقونات مشعة، تستطيع ان تلج جحور الظلمة، وأيضاً لإضاءة المناطق المعتمة من حولنا، ولان (الكناني) يمتلك ذلك الحس التدويني المتموسق مع مخياله المحلق داخل مجساته اللامعة في ملاحق ثيمات قصصه، ولأنه شاعر نثر، استطاع ان يوظف هذه الخاصية واستثمارها في تشييد معماريته القصية بعناية فائقة، وبلغة رصينة، وباقتضاب، وتكثيف رائع، وتصوير مشهده القصي بباذخة جمالية مبهرة، واستطاع بمهارة تحقيق أهدافه في مقياس التعبير عن خلجاته الداخلية، وصولا لتحرير الذات والمجتمع من تسلط الأفكار البالية، ليقود بمهارة ناجعة اتقاد أذهاننا التنويرية لتُصار الى مجاهر حقيقية نرى من خلالها كل ما هو معتم في حياتنا، لإحالته الى مساقط ضوء تنويرية، وأيقونات نور، تضيء لنا ملامح استشرافاتنا اللاحقة .


سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد / العراق





#سعدي_عبد_الكريم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة طيرٌ .. وحصاة
- قصيدة / الدخان
- دراسة نقدية / جمالية الاشتغال عبر توظيف الأسطورة في قصيدة (ش ...
- قصيدة / عليّ ٌ يا قرة عيني .. ويا وجعي / مهداة الى أميرة جوا ...
- المسلسل التلفزيوني البنفسج الأحمر أيقونة فنية وجمالية مضيئة ...
- الاشتغالات الانزياحية والدلالية في قصيدة النثر الحداثوية
- حكومه فياض الانتعاش الموهوم


المزيد.....




- دق الباب.. اغنية أنثى السنجاب للأطفال الجديدة شغليها لعيالك ...
- بعد أنباء -إصابته بالسرطان-.. مدير أعمال الفنان محمد عبده يك ...
- شارك بـ-تيتانيك- و-سيد الخواتم-.. رحيل الممثل البريطاني برنا ...
- برنامج -عن السينما- يعود إلى منصة الجزيرة 360
- مسلسل المتوحش الحلقه 32 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- -الكتابة البصرية في الفن المعاصر-كتاب جديد للمغربي شرف الدين ...
- معرض الرباط للنشر والكتاب ينطلق الخميس و-يونيسكو-ضيف شرف 
- 865 ألف جنيه في 24 ساعة.. فيلم شقو يحقق أعلى إيرادات بطولة ع ...
- -شفرة الموحدين- سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عبد الكريم - دراسة نقدية تحليلية