أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسقيل قوجمان - كتاب- خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - الجزء الثاني















المزيد.....



كتاب- خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - الجزء الثاني


حسقيل قوجمان

الحوار المتمدن-العدد: 3808 - 2012 / 8 / 3 - 21:24
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


خارطة طريق الولايات المتحدة في العراق
بدأت خارطة طريق الولايات المتحدة في العراق عمليا منذ ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ حين جاءت حكومة برجوازية اظهرت بعض المقاومة والتصدي للمصالح الامبريالية في العراق. فلم تترك الولايات المتحدة فرصة للقضاء على هذه الثورة والمجيء بحكومة خاضعة كليا لسلطة الولايات المتحدة. فكان انقلاب شباط ١٩٦٣ البعثي وما رافقه من قتل قادة الثورة والالاف من الناس بحجة الشيوعية. وتواصلت الانقلابات حتى انقلاب ١٩٦٨ الذي جاء بصدام حسين كنائب لرئيس الجمهورية اولا وكرئيس لها لاحقا. فمن المعروف ان صدام كان عضوا في السي اي اي ينصاع لاوامر الولايات المتحدة كل الانصياع.
لم تكن لصدام حسين انذاك مكانة شعبية واسعة لذا كان بحاجة الى مساندة الاحزاب السياسية القائمة وخصوصا الى مساندة الحزب الشيوعي. وتألفت الجبهة الوطنية القومية التقدمية بين حزب البعث الحائز على السلطة والجيش والشرطة والمحاكم والسجون والمشانق واموال الدولة وبين الحزب الشيوعي واحزاب اخرى لا تملك سوى اسمها والمقر الذي سمح لها بحيازته حزب البعث الحليف وصحيفة علنية لا مهمة لها سوى تمجيد الرفيق صدام حسين. وقد اشترك وزيران او ثلاثة وزراء اذا اضيف عزيز شريف الى قائمة الحزب الشيوعي في الحكومة لا دور لهم سوى المصادقة على قرارات صدام حسين. وقد لعبت حكومة الاتحاد السوفييتي التي كانت قد تحولت من حكومة اشتراكية الى حكومة معادية للاشتراكية والشيوعية دورا هاما في دفع الحزب الشيوعي لعقد الجبهة مع حزب البعث وصدام. وكان لهذه الاحزاب المؤتلفة في الجبهة الوطنية القومية التقدمية الدور الاول في رفع مكانة صدام حسين السياسية والشعبية. وكانت هذه الجبهة عمليا جبهة اذلال لأن صدام حسين كان يعامل الاحزاب الحليفة بمنتهى الاستهانة. ومن ظواهر ذلك اعدام الضباط الشيوعيين بحجة نشاطهم الشيوعي وفقا لقانون اعدام كل جندي او ضابط له علاقة بالحزب الشيوعي الحليف بدون ان يبدي الحزب اية معارضة بل وباضطرار الحزب الى انكار علاقته بهؤلاء الضباط¸ وحتى اضطرار الوزير الشيوعي على توقيع حكم الاعدام على صديقه ورفيقه الشيوعي المحكوم بالاعدام. وليس هنا مجال تعداد مثل هذه الاحداث التي كانت تصور الاذلال والاحتقار للحلفاء في الجبهة والشركاء في الحكومة. وقد دام هذا التحالف من ١٩٧٣ حتى ١٩٧٩ حين ركل صدام حسين حلفاءه في الجبهة برجليه والغى الجبهة واضطر قادة الحزب الشيوعي وغيره من احزاب الجبهة الى الهرب والتشتت في ارجاء العالم وقتل وسجن من تبقى في العراق ولم يستطع الهروب فلم تبق في العراق تنظيمات حقيقية لهذه الاحزاب واضطرت كما قال قادتها الى التحول من خندق صدام حسين والجبهة الى خندق المعارضة.
منذ ذلك الحين ظهرت شعارات الجبهة العريضة او الشاملة او غير ذلك. واخذت كل حفنة من الاشخاص تجد لها ممولا وراعيا وتعلن نفسها حزب معارضة. فتعددت احزاب المعارضة وتعدد راعوها وممولوها فتارة عقدت المؤتمرات تحت رعاية حافظ الاسد واخرى تحت رعاية القذافي وتارة اخرى تحت رعاية خادم الحرمين الخ,,, الى ان تبلورت المعارضة تحت رعاية وتمويل الولايات المتحدة وفق قانون تحرير العراق. وتحت هذه الرعاية بذلت الولايات المتحدة الاموال بملايين الدولارات لكسب عملائها او  من يسمون انفسهم حلفاءها من شخصيات واحزاب المعارضة.
بدأ نزوح شتات الاحزاب وخصوصا احزاب الجبهة الوطنية القومية التقدمية كالحزب الشيوعي في ١٩٧٩ حين ركل صدام حسين الجبهة ونبذها. وفي ١٩٨٠ دفعت الولايات المتحدة صدام حسين الى غزو ايران بحجة الغاء اتفاقية اقتسام شط العرب التي اجبرته الولايات المتحدة على ابرامها في ١٩٧٥مقنعة اياه بان الحصول على مناطق النفط الايراني ليس سوى نزهة قصيرة فدامت الحرب ثمانية اعوام وراح ضحيتها مليون من الايرانيين والعراقيين. ورغم ان الولايات المتحدة اعلنت مع الاتحاد السوفييتي انهما تقفان على الحياد في الحرب العراقية الايرانية فانها جهزت العراق بالاسلحة والمساعدات المالية بصورة التفافية عن طريق الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والكويت. ولكن حكيم الولايات المتحدة ، هنري كيسينجر، صرح في حينه ان الولايات المتحدة لا تريد ان يحقق اي من الطرفين انتصارا في هذه الحرب بل تريد انهاك الطرفين دونما انتصار حاسم لاي منهما وتأسف لان من غير الممكن ان ينهزم الطرفان معا في الحرب. وقد قام الحزب الشيوعي وما سمي في حينه جبهة جود بحرب انصار في جبال كردستان لم يكن بامكان صدام ان يحطمها لانشغاله في الحرب الايرانية ولم تكن من القوة بحيث تحقق انتصارات او تحرر مناطق واسعة وتحقق فيها بعض الاصلاحات لتحكمها او لان تكون حربا ثورية تستهدف الاطاحة بحكومة صدام. فكانت في الواقع مناوشات ازعجت صدام ولم تؤثر عليه بصورة جدية ولكنه اطلق يد الاتراك لمهاجمة الاكراد لكي يستطيع تحرير جيشه لمحاربة الايرانيين.
وفي اثناء ذلك قامت قوات جلال الطالباني بالهجوم على قوات الحزب الشيوعي الحليفة في الجبهة وقتلت المئات من البيشمركة الشيوعية. فتشتتت الجبهة واصبح اعضاؤها يقاتلون بعضهم البعض الى ان نجح الحزب الشيوعي بقيادة عزيز محمد في اقناع الطالباني بالتوبة والعودة الى خندق الثورة والانضمام الى الجبهة مرة اخرى وعادت الجبهة الى مناوشاتها لجيوش صدام. كان الحزب الشيوعي في تثقيفه يعتبر جود نموذجا للجبهة العريضة التي يدعو الى تشكيلها.
وقبل ان انتهت الحرب العراقية الايرانية شن صدام هجومه المفاجئ على الاكراد فكانت مجزرة حلبجة حيث قتل الاف الاكراد بالاسلحة الكيماوية التي زودت صدام بها الولايات المتحدة الاميركية وباستخدام الطائرات السوفييتية. وتشتتت قوات البيشمركة وانتهت حرب الانصار بالهزيمة امام جيوش صدام.
وفي آب ١٩٩٠ غزا صدام حسين الكويت واحتلها وطرد حكامها واعلن ضم الكويت كمحافظة من محافظات العراق. وكل الدلائل تشير الى ان الولايات المتحدة كانت على علم بنية الغزو وان سفيرة الولايات المتحدة في بغداد اعطت صدام الضوء الاخضر حين قالت له ان النزاع بينه وبين الكويت قضية عربية وان الولايات المتحدة لا تتدخل فيها. وبعد الغزو ثارت ثائرة الولايات المتحدة واعلنت استعدادها لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. واستعدادا لتحرير الكويت احتلت الولايات المتحدة كافة دول الخليج احتلالا عسكريا بصفتها صديق يريد انقاذها وحمايتها من صدام حسين.
في مقال كتبته في ١ كانون الثاني ١٩٩١ ونشر قبل الهجوم على العراق حول ازمة الخليج جاء فيه حول ارباح الولايات المتحدة من احتلال الكويت "ومن الناحية السياسية حققت الولايات المتحدة هدفا طالما كانت تحلم به وهو احتلال منطقة الخليج الاستراتيجية احتلالا عسكريا كاملا. وربما ثمة من يقول ان انتهاء الازمة سيؤدي الى انسحاب الجيوش الاميركية من المنطقة. ولكن هذا ليس بالامر اليسير. فقد سمعنا المسؤولين الاميركيين منذ الان يقولون ان الجيوش الاميركية يجب ان تبقى في المملككة العربية السعودية لسنوات عديدة. ان خروج الجيوش الاجنبية من البلاد العربية ليس كدخولها. فالخروج سيتطلب نضالا شعبيا قاسيا لمدة طويلة يروح خلالها الالوف من الضحايا لان المستعمر لا يخرج من تلقاء ذاته واولئك الذين دعوه للاحتلال غير قادرين على اجباره على الانسحاب. والولايات المتحدة تعد منذ الان سلاحها لقمع النضالات الشعبية المقبلة ضدها في هذه المنطقة. فهي تعد نظامها الامني العالمي بحجة مكافحة الارهاب والحفاظ على سلامة الدول الضعيفة في المنطقة. ونحن نعلم ان اي نضال ضد اي نظام استعماري او نظام رجعي يمكن تسميته ارهابا وقمعه بهذه الحجة. ولذلك يجب ان نتوقع في المستقبل تدخل اميركا المباشر في اية حركة ثورية ضد اي نظام من الانظمة التي تريد بقاءها. فهل في العالم غير صدام حسين من يستطيع ان يقدم للامبريالية الاميركية مثل هذه الخدمة؟ أولم يكن اجدر بالولايات المتحدة ورئيسها بوش ان يقلدا صدام حسين اعلى الاوسمة؟" وها قد مرت ١٢ سنة منذ تحرير الكويت ومازالت جيوش الولايات المتحدة قابعة بقواعدها العسكرية وجيوشها الجرارة في جميع اقطار الخليج العربي وليس في الافق اية اشارة الى مغادرتها قريبا او بعيدا.
وجاء الهجوم على العراق فيما يسمى حرب الخليج الثانية من اجل تحرير الكويت بتخويل مجلس الامن وباسم الامم المتحدة حيث قتلت جيوش الولايات المتحدة مئات الاف المدنيين العراقيين واستخدمت افظع اسلحة الدمار الشامل ومارست ابشع الجرائم بحق المدنيين العزل. وقد تحالفت اغلب الدول العربية مع الولايات المتحدة وبريطانيا في هذه الحرب وارسلت جيوشها للاشتراك في حرب تحرير الكويت. وجربت الولايات المتحدة افظع واحدث انواع اسلحة الدمار الشامل التي توفرت لديها لاول مرة، قنابل اليورانيوم المنضب التي يبقى تاثيرها عشرات السنين والتي تسبب السرطان وغيره من الامراض والتشويهات للاطفال في العراق وفي المنطقة. ولم يسلم من اثار هذه القنابل حتى الجنود الذين القوها بدون ان تنبهم القيادة الاميركية الى اخطارها او تتخذ التدابير اللازمة لوقايتهم من تأثيرها فاصيب الالوف منهم بامراض ناجمة عنها. ولكن الولايات المتحدة لم تكلف نفسها عناء اسقاط صدام او المساس بحرسه القومي لانها كانت تريد ان تستمر في الاستفادة من خدماته. فاعلنت ايقاف القتال وخضع العراق اثني عشر عاما من الحصار الاقتصادي مما ادى الى وفاة نصف مليون طفل نتيجة الامراض وسوء التغذية وانعدام المعالجة الطبية ارتات مارلين اولبرايت ان هذا الثمن مناسب من اجل تحقيق  مصالح الولايات المتحدة. اما جون بيلغر فقد اقتبس من كتاب للباحثين الاميركيين جون مولر وكارل مولر العبارة التالية: "ربما كان الحصار الاقتصادي قد ازهق حياة عدد من البشر في العراق يفوق عدد الذين قتلوا بجميع اسلحة الدمار الشامل في التاريخ". (جون بيلغر، حكام العالم الجدد ص٦٣)
ودعا بوش الاول الشعب العراقي الى الثورة على صدام فاندلعت انتفاضة في جنوب العراق ولكن الولايات المتحدة ساندت صدام وساعدته على اخمادها وقتل الالاف من الثائرين فيها.
ورغم انتهاء الحرب في ١٩٩١ رسميا فانها استمرت في الواقع طيلة سنوات الحصار الاقتصادي الخانق للشعب العراقي. فكانت طائرات الولايات المتحدة وبريطانيا تشن هجومات يومية صغيرة او كبيرة على الاهداف العسكرية والمدنية في العراق بحجج شتى طيلة هذه السنوات. وحتى اتفاقية النفط مقابل الغذاء كانت عبئا كبيرا على العراق لان اغلب الدخل من بيع النفط ذهب للتعويضات عن الحرب ولتمويل لجان التفتيش عن الاسلحة التي مارست نشاطها طيلة هذه السنوات وكانت الولايات المتحدة تهدد بالحرب وتمارسه حين كان العراق يقاوم اعمال هذه اللجان التي كان اعضاؤها عملاء تجسس للولايات المتحدة.
وجاء يوم ١١ ايلول (سبتمبر) ٢٠٠١حين نكبت الولايات المتحدة بافظع نكبة في تاريخها. يقوم البعض بتشبيه هذه النكبة بهجوم الجيش الياباني على برل هاربر في الحرب العالمية الثانية الذي ادى الى دخول الولايات المتحدة الحرب ضد اليابان. ولكني اعتقد ان ضربة ١١ سبتمبر افظع من برل هاربر لان برل هاربر نفذته قوة عسكرية داخلة في حرب عالمية ومن جيوش نظامية ضد اهداف عسكرية اما ضربة سبتمبر فجرت من قبل منظمة القاعدة التي يقودها ربيب الولايات المتحدة بن لادن الذي ربته ومولته ودربته لكي يحارب الاتحاد السوفييتي الذي ارسل جيوشه لاحتلال افغانستان فانقلب على الولايات المتحدة واخذ يحاربها بحجة احتلالها للاراضي السعودية المقدسة. وهي افظع من برل هاربر لانها اول واكبر نكبة تصاب بها الولايات المتحدة في عقر دارها. فلم يكن امام الولايات المتحدة الاميركية وادارتها وامام رئيسها بوش الابن الا اعلان الحرب العالمية الثالثة فور وقوع هجوم ١١ سبتمبر. وكان من اول انتصارات الحرب العالمية الثالثة احتلال افغانستان تحت شعار القضاء على بن لادن وحكم طالبان. ولكن بوش اعلن ان الحرب سجال وانه سيمضي بها حتى تحقيق "عالم بلا ارهاب".
حدد بوش الثاني محور الشر بثلاث دول هي العراق وايران وكوريا الشمالية. ولكن هذا لا يستنفد كل محاور الشر في العالم. ففي عرف الولايات المتحدة ورئيسها بوش ثمة محاور شر اخرى كثيره سيأتي دورها بعد او قبل التخلص من هذا المحور المعلن.
وبدأت حملة الهجوم على العراق بحجة امتلاكها اسلحة دمار شامل تهدد امن الولايات المتحدة وبريطانيا وامن اسرائيل وامن سائر دول الشرق الاوسط والعالم اجمع. لذلك اصبح من واجب الولايات المتحدة ان تحتل العراق لتحرير الشعب العراقي واعادة الثروات العراقية التي نهبها صدام حسين الى الشعب العراقي وانشاء عراق ديمقراطي يكون مثالا يحتذى لاعادة تنظيم الشرق الاوسط.
واصدر مجلس الامن قراره باعادة فرق التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل الى العراق. فوافق العراق على اعادة فرق التفتيش بلا شروط ووفر لها كافة الامكانات للتفتيش حتى في غرفة نوم صدام حسين. ففتشت القصور الجمهورية والمدارس والمستشفيات والمكتبات والمعامل واية اماكن ارادت تفتيشها بلا انذار. ووافقت الحكومة العراقية على كل ذلك. ولكن لجان التفتيش لم تفلح في ايجاد اي اثر لاسلحة دمار شامل في العراق لان هذه الاسلحة التي جهزتها الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق كانت قد دمرت نهائيا في حرب الخليج وبعدها. ولم تكن ظروف الحصار والمراقبة اليومية المستمرة توفر للعراق فرصة للحصول حتى على الاسلحة التقليدية. وكانت الحرب المستمرة طوال فترة الحصار والهجومات المتكررة طوال هذه الفترة على كل مؤسسة عسكرية او مدنية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا تدمر كل ما يبدو للولايات المتحدة انه يمكن ان يكون وسيلة لانتاج الاسلحة. وكانت الرقابة المفروضة على الاراضي العراقية من الاقمار الاصطناعية ومن طائرات التجسس الاميركية ترصد كل مكان يمكن ان يكون مقرا لانتاج اسلحة دمار شامل جديدة لكي تقوم طائراتها بتدميرها. وقد قررت لجان التفتيش ان تدمر حتى الصواريخ المتاح بها التي لا يتجاوز مداها ١٥٠ كيلومترا. والولايات المتحدة تعلم ذلك حق العلم ولكنها اصرت على ان العراق يمتلك من اسلحة الدمار الشامل ما يستطيع به ان يدمر العالم كله واصرت على ان احتلال العراق هو الحل الوحيد لانقاذ العالم من شر هذه الاسلحة.
طيلة فترة وجود لجان التفتيش في العراق كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض حليفاتها ترسل الاساطيل وتهيئ الظروف المناسبة للهجوم على العراق واحتلاله. وحين اكملت استعداداتها واصبحت جاهزة للهجوم حاولت الحصول من مجلس الامن على تخويل لها بالهجوم العسكري والاحتلال كما هي العادة في الحروب الحروب السابقة بما فيها احتلال افغانستان. ولكن ظاهرة جديدة غير مسبوقة ظهرت هذه المرة. فقد اعلنت ثلاث دول حليفة للولايات المتحدة معارضتها للحرب وهددت فرنسا وروسيا باستعمال حق الفيتو في حالة طلب الولايات المتحدة قرارا كهذا. وثارت ثائرة الولايات المتحدة من موقف حلفائها الغريب عليها وقام رامسفلد بوصف فرنسا والمانيا بانها اوروبا القديمة وهدد بوش وباول وتشيني وغيرهم بفرض عقوبات على هاتين الدولتين الحليفتين وعلى روسيا وحرمانها من العقود المبرمة مع العراق في مجال النفط وغيره. واضطرت الولايات المتحدة الى سحب طلب قرار من مجلس الامن والقيام باحتلال العراق بدون تخويل من مجلس الامن.
فاحدى صفات الحرب العالمية الثالثة التي اعلنتها وتخوضها الولايات المتحدة هي انها حرب ضد الصديق قبل العدو. فالولايات المتحدة تريد في هذه الحرب السيطرة على العالم كله وعولمة راسمالها على حساب صديقاتها وحليفاتها الدول الاستعمارية الاخرى التي ما زالت تسيطر على جزء من دول العالم وتنهب ثرواتها وتستثمر فيها راسمالها. ولذلك فان هذه الدول لا بد ان تقاوم الولايات المتحدة رغبة منها في المحافظة على مستعمراتها واسواقها. والحرب سجال بين هذه الدول الحليفة والصديقة فيما يدعى بالحروب الاقتصادية باستمرار. فنسمع عن حرب الكحول وحرب الزبدة وحرب الخمور وحرب صيد السمك وحرب اللحوم وحروب اخرى كثيرة. ونسمع عن فرض عقوبات وقرارات تقييد الاستيرادات وفرض ضرائب على الواردات المتبادلة بين هذه الدول الصديقة حتى اثناء عقد مؤتمراتها المتكررة التي تهدف قبل كل شيء الى زيادة استغلال العالم من قبل الدول الصناعية الثماني الكبرى. ولكن هذه التناقضات اما انها كانت تبقى سرية لا تكشف للعالم واما تقتصر على خلافات اقتصادية تبدو كانها خلافات طفيفة يجري النقاش عليها وتسويتها وديا. ولكنها تظهر لاول مرة بشكل واضح وصريح في قضية بحث الحرب على العراق في مجلس الامن. غير ان هذه الخلافات ليست خلافات بسيطة او مؤقتة بل انها خلافات جوهرية لا بد ان تتفاقم وتزداد حدة كلما واصلت الولايات المتحدة الاعتداء على مصالح حلفائها في ارجاء العالم.
ففي مقال بعنوان "الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة" كتبته في تموز ٢٠٠٢ جاء ما يلي:
ِ"يبدو في الحرب العالمية الحالية كأن الدول العظمى متفقة ومتحالفة في حرب الارهاب التي تشنها الولايات المتحدة. فقد اعلنت هذه الدول كلها بما فيها الاتحاد الاوروبي وروسيا عن تأييدها لهذه الحرب وعن استعدادها للمشاركة فيها الى جانب الولايات المتحدة فأصبح شعار محاربة الارهاب شعار اغلب دول العالم اذ لم تحجم عن رفع هذا الشعار سوى ما يدعوه بوش بمحاور الشر التي يجب تحطيمها او تحطيم الارهاب فيها. وهذا التحالف حول محاربة الارهاب قابل للتحقيق في اتجاه واحد هو ان تشارك كل الدول الامبريالية الاخرى الولايات المتحدة في اقتسام غنائم وارباح هذه الحرب بحصص تتناسب مع مستوى تطور كل من هذه الدول. الا ان الولايات المتحدة تريد ان تحوز على حصة الاسد من هذه الغنائم وأن تحرم الدول الاخرى الحليفة لها لا من مكتسبات الحرب فقط بل حتى مما تستطيع الولايات المتحدة ان تسلبه من اقتصاديات هذه الدول ذاتها ايضا. فهذه الدول تتفق فيما بينها على عملية النهب والاستغلال ولكنها لا ولا يمكن ان تتفق على عملية الاقتسام. فالاتفاق والتحالف الظاهر على السطح يخفي صراعا هائلا يجري تحت ستار هذا الاتفاق. وما المؤتمرات ومؤتمرات القمة التي تجري من حين لآخر تحت ستار شعارات رنانة كمساعدة الدول النامية على تقوية اقتصادها وبحث قضية القروض المتراكمة على هذه الدول ومعالجة مشكلة الفقر وما شاكل ذلك سوى محاولات لتسوية هذه الخلافات بطرق سلمية في الظاهر وتنطوي على اشد انواع الصراع في الباطن. فهذه الدول كلها تعاني من نفس الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة. وكل هذه الدول تريد استعباد جزء من هذا العالم لاستغلاله تخفيفا لازماتها وزيادة في ارباحها. فدول مثل المانيا واليابان مثلا وهما الدولتان الصناعيتان الكبريان تريدان حصتهما في اقتسام الكعكة العالمية. ولكن حصتهما يجب أن تأتي عن طريق اقتطاعها واغتصابها من الولايات المتحدة التي تريد السيطرة على ارباح العالم كلها. وحتى بريطانيا التي اشتركت في الحرب الى جانب الولايات المتحدة في تدمير افغانستان ويقوم جيشها بالدور الرئيسي في المحافظة على سيطرة الولايات المتحدة على هذا البلد المنكوب ومستعدة لمرافقة الولايات المتحدة في حربها العالمية الى النهاية تريد حصتها من مكاسب هذه الحرب. والصراع بين هذه الدول وبين الولايات المتحدة ما زال ‘سلميا‘ لحد الان. ولكن الى متى تستطيع هذه الدول تحمل سطوة الولايات المتحدة التي تسلب هذه الدول الصديقة الحليفة حتى مما لديها ولا تترك لها سوى الفتات؟ ان منطق التاريخ يعلمنا ان هذه الدول لا يمكن ان تخضع لسطوة الولايات المتحدة الى الأبد ولابد ان تتحول الحرب في النهاية من حرب غير معلنة الى حرب معلنة بين هذه الدول الامبريالية نفسها. ان انفتاح اسواق الاتحاد السوفييتي والصين فسح المجال للدول الاستعمارية ان تحتل كل منها جزءا من هذه الأسواق الواسعة مما اجل تحول الصراع السلمي الى صراع حربي"
حين كتبت هذا المقال لم اكن اتوقع ان يظهر هذا النزاع السافر الصريح  بهذه السرعة ولكن حرب العراق على ما يبدو كانت تشكل خسارة للدول الحليفة لم تستطع تحملها فانفجر هذا الصراع المكشوف بين الولايات المتحدة وحليفاتها الامبريالية.
حين اكتملت استعدادات الولايات المتحدة وبريطانيا لاكتساح العراق ودقت ساعة الصفر حاولت الولايات المتحدة فرض قرار من مجلس الامن بتخويلها بالهجوم على العراق كما هي العادة في حروبها السابقة. الا ان موقف الدولتين الدائمتين في مجلس الامن، فرنسا وروسيا، وتهديدهما باستعمال حق الفيتو وعدم نجاح الولايات المتحدة باقناع جميع الاعضاء غير الدائميين في المجلس في الموافقة على القرار لكي تحصل على اغلبية الاصوات رغم موقف فرنسا وروسيا جعل الولايات المتحدة تسحب طلبها وتقرر الحرب بدون موافقة مجلس الامن وبذلك تجاهلت الامم المتحدة ومجلس الامن وجعلتهما صفرا على اليسار لا قيمة لهما.
في كتاب تشومسكي "دول الشر" جاءت العبارة التالية:
"ان جعل الامم المتحدة ‘غير ذات تأثير بصورة قطعية كان من الاجرءات الروتينية منذ خرجت المنظمة عن الطوق بازالة الاستعمار. أحد الشواهد هو استخدام حق الفيتو في مجلس الامن الذي شمل نطاقا واسعا من القضايا. فمنذ الستينات كانت الولايات المتحدة في الطليعة وكانت بريطانيا في المقام الثاني وفرنسا بعيدا عنهما في المقام الثالث. واتخذت عمليات التصويت في الجمعية العامة صورة مشابهة. فالمبدأ الاهم هو ان اية منظمة دولية لا تخدم المصالح التي تسود الولايات المتحدة لا يوجد سبب  للسماح لها بالبقاء. " (تشومسكي، ص ٣)
وقبل اندلاع الحرب وجه بوش انذارا الى صدام حسين بوجوب مغادرة العراق خلال اربع وعشرين ساعة. وكان من الواضح ان هذا غير وارد. وحتى لو غادر صدام حسين العراق لما تخلت الولايات المتحدة عن حربها واحتلالها للعراق. وقد جاء ذلك صريحا في اقوال وزير الخارجية باول وغيره. ولكن هل كان من مصلحة الولايات المتحدة ان يترك صدام حسين العراق قبل احتلاله؟ اعتقد ان ذلك ليس في مصلحة الولايات المتحدة. فأحد الهدفين اللذين حددهما بوش للحرب هو انعاش الاقتصاد الاميركي واخراجه من ازمته. وفي حالة خروج صدام حسين من العراق وترك السلطة كان من المتوقع احتلال العراق بدون مقاومة وبدون استخدام الاسلحة المدمرة في الحرب. وهذا ليس في صالح الولايات المتحدة. فاستهلاك الاسلحة ذاته احد العوامل الاساسية في انعاش الاقتصاد الاميركي. واستخدام الاسلحة يؤدي الى تدمير الكثير من المؤسسات العسكرية والمدنية. وهذا بحد ذاته هدف مقصود اساسي. فان اعادة اعمار ما دمرته الحرب هو الاخر مصدر ارباح طائلة يسيل لعاب الشركات الاميركية الى تحقيقه. وهذا عامل مهم اخر في انعاش الاقتصاد الاميركي. فهل في مصلحة الولايات المتحدة التخلي عن هذين العاملين المهمين واحتلال العراق بدون تدميره؟ بالطبع لا. ونحن نرى بعد انتهاء الحرب ان الشركات تتكالب على الحصول على امتيازات اعادة الاعمار وكيف تتجاهل الولايات المتحدة الشركات غير الاميركية في الحصول على هذه الامتيازات وكيف تقوم الادارة الاميركية بمنح امتيازات للشركات التي يمتلكها اقطابها حتى بدون مناقصة وكيف تقوم الامم المتحدة والدول الكبرى على اقناع الولايات المتحدة بالتودد والمداهنة على السماح لها ببعض ارباح اعادة الاعمار. ونحن نسمع اليوم عن ان الشركات العراقية سيسمح لها بالقيام ببعض اعمال الاعمار وكذلك نسمع عن دعوة الشركات الاسرائيلية بالمساهمة باعمال الاعمار. وهذا امر علينا ان نتناوله بعبارة قصيرة. فشركة بكتيل لتشيني مثلا حصلت على امتياز ب ٦٨٠ مليون دولار للقيام بمجرد مسح اعمال اعادة الاعمار. وهذه الشركة بامكانها ان تبرم عقودا ثانوية مع شركات صغرى عراقية او غير عراقية للقيام باجزاء متعددة من الاعمال التي التزمتها لقاء بضعة ملايين من الدولارات وبذلك تستطيع شركة تشيني نائب الرئيس انجاز ما التزمته بدون ان تقوم هي بهذه الاعمال وتكتفي باجتناء الجزء الاكبر من الارباح بدون ان تساهم هي نفسها باعادة البناء.
انتهى احتلال العراق بالصورة المزرية التي حدث فيها ودخلت الجيوش الاميركية والبريطانية العراق كجيش محتل. ورافق الجيوش الاميركية اصدقاؤها الذين اطلقوا على انفسهم اسم المعارضة العراقية في الخارج ظنا منهم ان الشعب العراقي سيستقبلهم بالورد والرياحين وان شخصيات المعارضة تستطيع ان تخدع الشعب العراقي بان الولايات المتحدة جاءت محررة لا فاتحة. لذا علينا ان نتساءل من هم هؤلاء الذين اسموا انفسهم بالمعارضة العراقية.
راينا ان نزوح شتات الاحزاب من العراق بعد تخلي صدام حسين عن الجبهة نجم عن اختفاء المعارضة الداخلية اختفاء تاما تقريبا. ولكن هؤلاء النازحين كان لابد لهم من موارد يستطيعون بواسطتها العيش برفاه واصدار الصحف والتنقل في بلدان العالم كله وبث الدعاية لانفسهم على انهم يشكلون معارضة يمكن ان تؤدي الى ازاحة صدام وتحقيق حكم ديمقراطي في العراق بعد ازاحته. فتشكلت احزاب قد لا يزيد عدد اعضائها على اصابع اليد ولجأت الى مصادر مختلفة لاستجداء الاموال التي تحقق لهم رغباتهم. فكان حافظ الاسد والقذافي وخادم الحرمين وغيرهم. ولكن ذلك لم يكن كافيا فلجا المعارضون الى الولايات المتحدة وبريطانيا. ومعروف ان الولايات المتحدة رصدت ٩٧ مليون دولار لما اسمته بقانون تحرير العراق ثم رصدت مبلغ ٩٢ مليونا اخرى في كانون الاول ٢٠٠٢. فسال لعاب المعارضة الى هذه الملايين الطائلة وتنافسوا على الحصول عليها. وقد جرت تحالفات باسماء مختلفة وبمقاييس مختلفة في هذا السباق.
ما الذي كان يجمع بين مختلف هذه الاحزاب والكتل المعارضة؟ راينا ان الاحزاب والكتل كانت ذات اراء واهداف وطبائع شتى. فمنهم الملكيون ومنهم الاسلاميون ومنهم الاكراد ومنهم الشيعة ومنهم السنة ومنهم من يسمون انفسهم الشيوعيين واليساريين. فما الذي يجمع بين كل هذه الاتجاهات ليوحدها عدا الحصول على هذه الاموال الطائلة؟ في اعتقادي ليس ما يجمع هذه الاتجاهات غير امر واحد هو صدام حسين. فكلهم يريد ازاحة صدام. فما الذي يحدث بعد ازاحة صدام؟ لا يجمعهم شيء اخر. فكل فئة منهم تريد الابقاء على مركزها وعلى موارد رزقها من الولايات المتحدة. وكل كتلة منهم تريد الحصول على حصة الاسد من هذه الاموال. كانت كل كتلة منهم تزعم انها تقود الشعب العراقي ولها نفوذ وقوى في داخل العراق. ولكننا نعلم ان قيادة شعب لا تجري بالمراسلة بل على الحزب او المنظمة التي تريد قيادة شعب ان تكون في وسطه وتوجه نضاله اليومي وهذا ما لا يمكن تحقيقه من الخارج.
وعاد زعماء هذه الاحزاب والمنظمات على الاقل على الدبابات الاميركية الى العراق وتجولوا في العراق تحت حراسة الجيوش الاميركية. وظهر ان ما زعموه من نفوذهم على الشعب العراقي كان هباء وزيفا وان الشعب العراقي لم ير فيهم سوى عملاء للجيوش الاميركية. وهذا ما نراه من تفكك هذه الجماعات بمن فيهم الاكراد الذين مارسوا بعض الاستقلال في الحكم تحت الحراسة الاميركية لسنوات عديدة مع الحروب المتواصلة بين انصار الحزبين الكرديين الرئيسيين. ونرى ان السلطات الاميركية اخذت تتجاهلهم جميعا ولا تقيم لهم وزنا بعد ان حققت اهدافها في احتلال العراق واستعباده. (لدى تنقيح الكراس عينت الولايات المتحدة مجلسا استشاريا قوامه ٢٥ شخصا لم يستطع حتى بعد مرور اسبوعين الاتفاق على تعيين رئيس له)
اعلن جورج بوش ورهطه من باول وتشيني ورامسفلد وغيرهم انهم جاؤوا الى العراق لكي يحرروا الشعب العراقي من صدام ويعيدوا ثروات العراق من نفط وغيره الى الشعب العراقي. انهم جاؤوا لكي يقيموا نظام حكم ديمقراطي في العراق يكون نموذجا يحتذى في الشرق الاوسط. وأعلنوا انهم باقون في العراق الى حين تحقيق ذلك وليس يوما واحدا اكثر من ذلك.
قد ينجح الاميركيون في تنصيب حكومة كرزاي عراقي تمنح العراقيين بعض الحريات الديمقراطية مثل حرية الصحافة وحرية التنظيم الحزبي وما يرافقها من الحريات التي تسمى زيفا بالديمقراطية. وفعلا قرأنا في الصحف عن نشوء احزاب عراقية كما ينشأ الكمأ في الصحراء. فقد بلغ عدد الاحزاب العراقية ٧٢ حزبا والعدد في ازدياد. وسمعنا عن صدور جريدة في كركوك لاول مرة منذ ٤٠ عاما, ونسمع عن انعقاد مؤتمرات تعقد تحت قيادة اميركية للتسريع في تشكيل حكومة مؤقتة تعمل تحت ادارة اميركية. ولكن قرار مجلس الامن الاخير بدد جميع هذه الاقاويل ومنح الولايات المتحدة حق استعمار العراق استعمارا مباشرا. وهو قرار يحدث لاول مرة في تاريخ الامم المتحدة. فقد جرت كل او اغلب حروب الولايات المتحدة تحت لواء الامم المتحدة الا ان هذه المنظمة العالمية ومجلس امنها لم يمنح اية دولة حق الاستعمار المباشر قبل هذا. في الواقع اشعر ان الولايات المتحدة قد انتقمت من مجلس الامن على رفضه تخويلها بالحرب على العراق فأجبرته على اصدار قرار انحط بمجلس الامن والامم المتحدة الى مستوى عصبة الامم او دونه باجباره على اتخاذ اول قرار منح حق الاستعمار المباشر منذ نشوء هيئة الامم الى يومنا هذا. وهذه سابقة خطرة تهدد باعادة الاستعمار المباشر الى مستوى ما بعد الحرب العالمية الاولى.
كذلك نسمع بعض الصرخات التي تندد بالاحتلال الاميركي البريطاني وعن المطالبة بحكومة ينتخبها الشعب العراقي بدون تدخل اجنبي . وسنسمع المزيد من هذه الاحاديث في المستقبل ايضا. ونرى على شاشة التلفزة مظاهرات جماهيرية ترفع شعارات ضد الولايات المتحدة وتطالبها بتحقيق بعض المطاليب الشعبية كتوفير الغذاء وفرص العمل ودفع الرواتب أو توفير الماء والكهرباء والامن وغير ذلك تارة وتطالبها بالخروج من العراق ومنح العراق استقلاله تارة اخرى. ولكن بريمر الحاكم الاميركي المطلق للعراق قرر حل الجيش العراقي ووزارة الاعلام وبذلك جعل العراق بلا دولة بلا جيش ولا سلاح ولا وسيلة للدفاع عن نفسه، وبدلا من نزع اسلحة الدمار الشامل غير الموجودة في العراق تقوم الولايات المتحدة حاليا بنزع كافة انواع الاسلحة بما فيها المسدس والبندقية وتقتحم البيوت بحثا عن الاسلحة وتعرض العوائل بمن فيهم النساء لاسوأ انواع الاهانة والاذلال بحجة البحث عن هذه الاسلحة.
جاءت الحرب على العراق بعد ان روج الاميركيون والبريطانيون مسألة اسلحة الدمار الشامل الموجودة في العراق وهم يعلمون حق العلم بعدم وجودها لانهم هم انفسهم الذين دمروها سواء في حرب الخليج او بعدها بواسطة لجان التفتيش او بواسطة الغارات التي كانت طائراتهم تشنها يوما بعد يوم طوال فترة الحصار. والحديث عن نزع اسلحة الدمار الشامل واسقاط الحكومات لمجرد انها تطمح في الحصول على مثل هذه الاسلحة والولايات المتحدة على راس الدول المسوقة لها يذكرني بالطبيب الذي ينصح مريضه بالتخلي عن التدخين وفي فمه سيجار. فاذا كان هم الولايات المتحدة نزع اسلحة الدمار الشامل فلماذا لا تبدأ بنزعها هي وهذا لا يتطلب منها اعلان الحرب على اية دولة؟ من المعروف ان الولايات المتحدة هي اكبر الدول المالكة والمنتجة لشتى انواع اسلحة الدمار الشامل. ومن المعروف ان الولايات المتحدة هي اكثر الدول استخداما لاسلحة الدمار الشامل في جميع حروبها. فهي الدولة الوحيدة لحد الان التي استخدمت القنابل الذرية في هيروشيما وناكازاكي فابادت مدينتين امنتين. وهي التي استخدمت اسلحة الدمار الشامل في كوريا والفيتنام وكوسوفو والعراق ويوغوسلافيا وافغانستان وغيرها من البلدان التي استعمرتها. وهي التي اعلنت بالامس عن تجربتها لخمسين نوع من الاسلحة الكيماوية والبيولوجية فهل اختار الله الولايات المتحدة لنزع اسلحة الدمار الشامل في العالم كله باسلحة دمار شامل افظع فتكا واشد تدميرا من كل الاسلحة المتوفرة في العالم؟
في مسار البحث عن اسلحة الدمار الشامل التي يعرفون حق العلم انها غير موجودة اخذت الجيوش الاميركية والبريطانية وعملاؤها في اكتشاف مقابر جماعية. فكل يوم او يومين يكتشفون مقبرة جماعية جديدة. وفجأة اصبحت المقابر الجماعية قميص عثمان يتخذها كل مدافع عن غزو الولايات المتحدة للعراق للرد على من تخوله نفسه اعتبار الغزو احتلالا لا تحريرا. فما هو واقع المقابر الجماعية؟
من المعروف ان المقابر الجماعية ظاهرة ملازمة للقتل الجماعي. فالقتلة الجماعيون لا يشغلون انفسهم بتشييع ودفن قتلاهم وفقا للاصول المتبعة في دفن الموتى ووضع نصب على قبر كل واحد منهم وكتابة تاريخ قتله واسم قاتله. لقد شاهد التاريخ مقابر النازيين الجماعية وغيرها من المقابر الجماعية في حروب الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية كثيرة يجري السكوت عنها في اوساط الاعلام العالمية. ومن المعروف ايضا ان صدام حسين كان من افظع القتلة الجماعيين فما هو الغريب في اكتشاف المقابر الجماعية؟ هل ظن احد ان صدام حسين قتل الناس ولم يدفنهم في مقابر جماعية؟ ان موضوع المقابر الجماعية هو موضوع اعلامي يراد به التغطية على استعمار العراق والجرائم المرتكبة في حق الشعب العراقي المستعمر. والواقع يجب علينا ان نحترم صدام حسين بسبب دفن القتلى في مقابر جماعية اذ انه لم يترك قتلاه لكي تأكل لحمهم الكلاب. ومن المعرووف ان جيوش الولايات المتحدة وبريطانيا قتلت عشرات الالوف من الجيش العراقي الذي القى سلاحه وحاول العودة من الكويت الى العراق. ولكن الجيوش الاميركية لم تتكرم على قتلاها حتى بدفنهم في مقابر جماعية. فمن هو الاقسى؟ اهو صدام الذي دفن قتلاه في مقابر جماعية ام الاميركيون الذين لم يدفنوا قتلاهم في مقابر جماعية؟ وهل حرصت الولايات المتحدة على دفن نصف المليون او المليون من ضحاياها في الانقلاب الذي دبرته في اندونيسيا سنة ١٩٦٥ دفنا فرديا ام اكتفت بتقديم قوائم الاشخاص الذين ينبغي قتلهم الى حكومة سوهارتو لتنفيذ دلك؟
ثم ان اكثر المقابر الجماعية كانت لقتلى انتفاضة الشعب العراقي في جنوب العراق تلبية لنداء بوش الاول الذي دعا الشعب العراقي الى الانتفاض على صدام واسقاطه. وحين ثار الشعب على صدام وقفت الولايات المتحدة الى جانب صدام في ابادة الثوار العراقيين. جاء في كتاب جون بيلغر "حكام العالم الجدد" ما يلي: "اخبرني سعيد ابو ريش ان المعارضة وجدت نفسها تجابه الولايات المتحدة تساعد صدام حسين ضدها. ان الاميركيين منعوا الثوار في الواقع من الوصول الى مخازن الاسلحة. وحرموهم من الحماية ومنحوا حرس صدام حسين الجمهوري ممرا امنا عبر الخطوط الاميركية لكي يفسحوا لهم مجال مهاجمة الثوار. انهم قاموا بكل شيء عدا الانضمام الى صفوفه في القتال؟ (بيلغر, حكام العالم الجدد, ص ٨٢)
وفي كتاب "صدام حسين استحواذ اميركي" لاندرو وباتريك كوكبرن حاءت العبارة التالية في وصف كرب احد قادة الثورة، برتبة عميد، الذي كان يراقب الطائرات العمودية الاميركية تحوم فوق الرؤوس حين كان طيارو المروحيات الحكومية العراقية يصبون النفط على صفوف اللاجئين الهاربين ويشعلون النار فيهم قائلا :"لقد رأيت بام عيني الطائرات الاميركية تحوم فوق المروحيات. كنا نتوقع منهم مساعدتنا؛ والان استطعنا ان نراهم يشاهدون محنتنا ... كانوا يلتقطون الصور وكانوا على اتم علم بما يجري" (جون بيلغر، حكام العالم الجددـ ص ٨٢)
فالجيوش الاميركية شريك ومساهم في خلق المقابر الجماعية التي تثير الدنيا ولا تقعدها حولها.
هل جاءت الولايات المتحدة الى العراق لتحريره وانشاء نظام حكم ديمقراطي عراقي والخروج منه كما ادعى بوش؟ بالطبع لا. فالولايات المتحدة لم تترك بلدا احتلته عسكريا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الان، فجيوشها ما زالت معسكرة في المانيا واليابان وحتى البلدان الحليفة لها في الحرب. وها هي جيوشها تحتل افغانستان الى امد غير معروف وكذلك تحتل الدول الصديقة مثل باكستان واوزبكستان وقرغيزستان. والجيوش الاميركية ما زالت تحتل جميع دول الخليج منذ حرب الخليج الثانية وحتى الان. فلماذا نعتقد ان الولايات المتحدة تريد ان تترك العراق بعد ان احتلته بالحرب؟ ان الولايات المتحدة جاءت الى العراق لتحتله الى الابد اذا لم ينجح الشعب العراقي في طردها منه. ولكن الولايات المتحدة جعلت من احتلال العراق نموذجا جديدا لم يسبق له مثيل بعد الحرب العالمية الثانية اذ جعلته مستعمرة مباشرة كاملة ودمرت كل شكل من اشكال الاستقلال العراقي. ان احتلال العراق هو جزء من خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية الذي يهدف الى عولمة الراسمال الاميركي واكمال استعمار واستعباد العالم كله.
تتحدث الولايات عن هدفها البعيد في تشكيل حكومة منتخبة تمثل الشعب العراقي. والحديث عن حكومة تمثل الشعب العراقي هو كالحديث عن حكومة تمثل الشعب الاميركي والشعب البريطاني والشعب الاسرائيلي والشعب الفلسطيني والشعب الياباني والكوري والصيني والروسي وجميع شعوب العالم. في جميع هذه البلدان يجري الحديث عن حكومات تمثل شعوبها. فهل توجد فعلا حكومات تمثل شعوبها؟ لكي نبحث هذا الموضوع علينا ان نجد قبل كل شيء تعريفا لكلمة شعب في كل هذه البلدان لكي نرى ان كانت حكوماتها تمثل هذه الشعوب ام لا. فكلمة شعب ليست كلمة مطلقة تنطبق على كافة العصور ومختلف الظروف. كلمة الشعب تتطور بتطور المجتمع وبتغير انظمته الحاكمة. وعليه يجب تعريف الشعب في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي. لناخذ تعريف الشعب العراقي كمثال لان موضوعنا الاساسي هو بحث اوضاع العراق بعد القضاء على نظام صدام حسين واحتلال الجيوش الاميركية والبريطانية له.
من هو الشعب العراقي؟
قد يبدو لاول وهلة ان كل مواطن عراقي، ولد في العراق وعاش فيه، هو من الشعب العراقي. ولكن هذه النظرة خاطئة. فثمة مواطنون عراقيون يحملون الجنسية العراقية لا تشملهم عبارة الشعب العراقي. ففي فترة الحكم شبه الاقطاعي شبه الاستعماري، منذ تأسيس الدولة العراقية بعد ثورة العشرين، كان الحكام العراقيون والشيوخ الاقطاعيون والراسماليون المرتبطون مع الاستعمار اعداء للشعب العراقي. لذلك لم يكونوا من الشعب العراقي رغم كونهم عراقيي الجنسية. كانت هذه الفئة الحاكمة تستغل الشعب العراقي لمصلحة هذه الطبقة الحاكمة والاستعمار. في هذه الفترة كان تعريف الشعب العراقي يشمل العمال والفلاحين بكافة مراتبهم الفقيرة والمتوسطة وبرجوازية الريف ويشمل الحرفيين والمراتب المتوسطة والمثقفين وفئات من البرجوازية العراقية الناشئة، البرجوازية الوطنية، اذ هي تعاني من مضايقات الراسمال الاجنبي والقيود الاقطاعية في تطوير راسمالها. فالبرجوازية الوطنية، رغم انها تستغل العمال، شأنها شأن اية برجوازية اخرى، كانت جزءا من الشعب العراقي لان من مصلحتها تحرير الشعب العراقي من الاقطاع والاستعمار ما من شأنه ان يفسح المجال امامها للتطور السريع غير المقيد بالقيود التي يفرضها الاستعمار والاقطاع على تطورها.
انتهى هذا الوضع في ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ حين قاد الضباط الاحرار انقلابا عسكريا جاء بالبرجوازية الوطنية الى الحكم. هذه الحقيقة وحدها، حقيقة ان الطبقة الحاكمة العراقية القديمة سقطت واحتلت الطبقة البرجوازية العراقية نظام الحكم في العراق، هي الظاهرة الوحيدة التي ميزت هذا الانقلاب العسكري عن سائر الانقلابات العسكرية السابقة والانقلابات العسكرية اللاحقة، وجعلت من الانقلاب العسكري ثورة.  في ١٤ تموز تغير التركيب الطبقي للشعب العراقي. فالبرجوازية الوطنية اصبحت منذ ذلك اليوم طبقة حاكمة تمارس دكتاتوريتها لضمان الديمقراطية للبرجوازية المحلية. وأصبح من واجب هذه الطبقة الحاكمة ليس صيانة مصالحها في استغلال الشعب العراقي وحسب بل والمحافظة على بقايا المصالح القديمة، بقايا الاقتصاد الاقطاعي وبقايا المصالح الاستعمارية. وقد كان ذلك واضحا في قانون الاصلاح الزراعي الذي حافظ في الواقع على الكثير من المصالح الاقطاعية. وبينما كانت الحركة العمالية التي تريد التخلص من الاستغلال بجميع اشكاله حليفا ممكنا للبرجوازية في فترة الثورة البرجوازية اصبحت هذه الحركة القوة الاساسية التي تناضل ضد استغلال الطبقة الحاكمة الجديدة. لذا فان تعريف الشعب العراقي بعد ثورة ١٤ تموز لا يشمل هذه الطبقة الحاكمة الجديدة. ان تعريف الشعب العراقي في هذه الفترة يشمل العمال وفقراء الفلاحين بالدرجة الرئيسية. ويكون وضع المراتب المتوسطة في الريف وفي المدينة وضعا قلقا. فالمراتب المتوسطة من الفلاحين تتذبذب بين برجوازية الريف وبين فقراء الريف. ولا ينتمي الى الشعب العراقي في هذا الحال الا متوسطو الفلاحين الذين يربطون مصيرهم بمصير الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين. ويحل الوضع ذاته لدى المراتب المتوسطة في المدينة. فالكثير من كبار الموظفين والصحفيين والقضاة والاساتذة يربطون مصيرهم بمصير البرجوازية الحاكمة وهم لا ينتمون الى الشعب العراقي في هذه المرحلة من مراحل التطور في العراق. والكثير من المراتب المتوسطة من حرفيين ومدرسين ومثقفين واغلبية طلاب الجامعات والمدارس الثانوية يشعرون بالظلم والاستغلال ويربطون مصائرهم بمصير الطبقة العاملة. هؤلاء ينتمون ويشكلون جزءا من الشعب العراقي. وقد رأينا كيف كان مصير الاصلاح الزراعي والجمعيات الفلاحية بعد ثورة تموز وكيف كان مصير اتحاد نقابات العمال في هذه الفترة التي هي افضل فترة سياسية في تاريخ العراق من وجهة نظر الديمقراطية البرجوازية. وقد رأينا كيف ان السجناء السياسيين في فترة ١٩٥٨/١٩٦٣ كانوا اضعاف ما كانوا عليه في فترة الحكم السابق. وتفسير ذلك هو ان البرجوازية الحاكمة بعد ١٤ تموز اصبحت تخاف الطبقة العاملة التي تناضل من اجل تحررها من الاستغلال البرجوازي اضعاف ما كانت الطبقة الحاكمة القديمة تخاف منها في فترة الحكم الملكي.
لماذا يجب التاكيد على تعريف الشعب العراقي مما قد يراه البعض بحثا اكاديميا ليس له اهمية في التطبيق العملي وفي تنظيم حياة الشعب اليومية والمصيرية؟ ان تعريف الشعب العراقي في غاية الاهمية لانه يحدد نوعية التحالفات الممكنة وغير الممكنة في الحياة السياسية وفي مسيرة نضال الشعب العراقي من اجل تحرره وسعادته. فبينما كان بالامكان تحقيق جبهة وطنية في الاعداد للثورة البرجوازية قبل ثورة تموز اصبح من غير الممكن تحقيق مثل هذه الجبهة مع البرجوازية الحاكمة بعد ثورة تموز. فان الجبهة الوطنية قد انهت مهمتها يوم ثورة تموز كما عبر عن ذلك عميد البرجوازية العراقية محمد حديد. ولان توحيد الشعب العراقي في النضال لا يتحقق مع البرجوازية بل ضدها. بهذه الطريقة فقط يمكن توحيد الشعب العراقي. فالعراقي العربي يعتز بعروبته وبلغته وبتقاليده وتاريخه ولكنه فرد من الشعب العراقي. والكردي انسان يعتز بكرديته وبلغته وبتقاليده وتاريخه ولكنه فرد من الشعب العراقي وكذلك المسلم السني والمسلم الشيعي والمسيحي والتركماني واليزيدي والاثوري وغيرهم. هؤلاء هم الجمهور العراقي الذي يمكن توحيده في النضال من اجل تحرير الشعب العراقي. وكل وحدة للشعب العراقي تضم كل عراقي بصرف النظر عن كونه من الطبقة الحاكمة او الطبقة المحكومة هو خطل وهباء. ولا يشكل ذلك سوى وحدة المستغلين والواقعين تحت الاستغلال لمصلحة الطبقة الحاكمة وحدها. ويكفي ان نذكر ما سمي بالجبهة الوطنية القومية التقدمية بين احزاب ادعت بانها تمثل الشعب العراقي وبين حكومة صدام حسين الفاشية كاروع مثال على مثل هذه الجبهات التي تعقد مع مستغلي الشعب. وكان مصير تلك الجبهة المصير المحتم لمثل هذه الجبهات.
وقد رأينا كيف ان ما يدعى بالوحدة العربية والجامعة العربية تخبطت طوال العقود من تاريخها بدون ان تتوصل الى راي موحد او موقف موحد حتى في القضية الكبرى، القضية الفلسطينية. فالجامعة العربية تمثل الطبقات الحاكمة العربية على اختلاف تراكيبها وتنوع مصالحها. وهي لا تمثل ولا يمكن ان تمثل شعوب البلدان العربية لانها ليست جزءا من هذه الشعوب. واذا امكن يوما ان تتحقق وحدة عربية فهي لا تتحقق الا بعد ان تأخذ الشعوب العربية مصيرها بايديها.
اتخذت الشعب العراقي مثالا لتعريف الشعوب عموما لان بحثي هذا جاء نتاجا لغزو العراق واحتلاله من قبل الجيوش الاميركية والبريطانية. ولكن هذا التعريف ينطبق عموما على جميع شعوب العالم التي اجتازت مرحلة الثورة البرجوازية مع بعض الفوارق التي قد يتصف بها شعب عن شعب اخر. فالشعب الاميركي لا يمكن ان يشمل الراسمالية الاميركية التي تستغل العمال والكادحين الاميركيين قبل ان تستغل شعوب العالم اجمع. ولا يمكن اعتبار الراسماليين الاميركيين والزنوج الاميركيين شعبا واحدا. بمثل هذا التعريف فقط يمكن التحدث عن شعب اميركي يضم العامل الابيض والاسود، العامل المسيحي واليهودي والمسلم وغير ذلك.
ولا يختلف هذا التعريف لدى بحث الشعب الهندي والالماني والارجنتيني والجنوب افريقي والكوري والصيني والروسي والفرنسي والاسرائيلي والمصري والكونغولي.
وبما ان اساس هذا البحث هو مصير العراق بعد صدام حسين علينا ان نرى ان كان احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا قد احدث تغييرا في تكوين الشعب العراقي. ان الرجوازية العراقية تبقى رغم هذا الاحتلال عدوة الشعب العراقي والطبقة التي تستغله. ولكن احتلال العراق ومحاولة استعباده يؤدي حتما الى اتساع النطاق البشري الذي تشمله عبارة الشعب العراقي. فان الكثير من المراتب المتوسطة تشعر بفداحة السيطرة الاجنبية على البلاد ولذلك يدفعها شعورها الوطني الى الانحياز الى قوى الشعب العراقي رغم ان مصالحها الاقتصادية الانية قد تكون اكثر ميلا الى الارتباط بالمصالح البرجوازية. وحتى افراد من الطبقة البرجوازية قد ينحازون الى جانب الشعب ويعادون الاستعمار رغم كونهم ينتمون الى طبقة مستغلة اقتصاديا للشعب العراقي. ان التعريف السابق ما زال صحيحا ولكن نطاقه اصبح اكثر اتساعا عما كان لو لم تسيطر القوى الاجنبية على العراق سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
عراق تسيطر عليه الولايات المتحدة وبريطانيا
قبل غزو العراق بسنوات كانت الاستعدادات تجري لاحتلال العراق. وقد تضمن ذلك استعدادات اعلامية كانت احدى صورها خلق جماعات عراقية تدعو وتثقف بضرورة هذا الاحتلال وتدريب جماعات اخرى للاشتراك في عملية الغزو. وقد نجحت الولايات المتحدة في خلق مثل هذه الجماعات بطريقتها المألوفة، طريقة بذل الاموال الطائلة لتحقيق هدفها. وقد انتمت الى هذه الجماعات اغلب احزاب ومنظمات المعارضة العراقية الموجودة خارج العراق. ودأبت هذه الجماعات على بث الدعاية للوعود الاميركية في تحرير العراق من صدام وتحقيق الديمرقراطية في العراق ثم مغادرة العراق وتسليم ثرواته النفطية وغيرها الى الشعب العراقي. وقامت هذه الاحزاب والمنظمات المتآلفة بعقد المؤتمرات بقيادة او تحت اشراف الولايات المتحدة لوضع البرامج للعراق المحرر من حكم صدام وانتخبوا اللجان المختلفة التي تشكل اساسا للحكومة العراقية المؤقتة التي تجري انتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستورا يعرض على الشعب العراقي للاستفتاء واجراء انتخابات حرة لحكومة ديمقراطية دستورية فدرالية الخ. كان واضحا لكل انسان ذي نظر بعيد ان كل هذه الوعود والمؤتمرات والوثائق ليست سوى وسائل اعلامية لخدع الشعب العراقي وشعوب العالم حول حقيقة ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه في العراق. فلم يكن ما يجمع احزاب المعارضة سوى معارضتها لصدام وولائها للولايات المتحدة التي تغدق عليها بنعمها.
لم يكن قرار احتلال العراق نتيجة لاحداث سبتمبر كما لم يكن احتلال افغانستان نتيجة لذلك. ولم تكن الحرب العالمية الثالثة هي الاخرى نتيجة لاحداث سبتمبر. فالحرب العالمية الثالثة هي نتيجة حتمية لخارطة طريق الولايات المتحدة التي تهدف الى استعمار العالم كله وعولمة الراسمال الاميركي. وما احداث سبتمبر سوى الحجة التي منحت الولايات المتحدة فرصة اعلان الحرب العالمية الثالثة دونما معارضة . واحتلال افغانستان والعراق وما سيتبع ذلك حلقات في خارطة طريق الولايات المتحدة مقررة سلفا ووفق خطط دقيقة على كل ادارات الولايات المتحدة الاميركية ان تنفذها مهما كانت طبيعتها وايا كان رئيسها.
وتحققت هذه الحلقة من حلقات خارطة طريق الولايات المتحدة باحتلال العراق بعد تدميره تدميرا كاملا. وتم تدمير ما لم تدمره القنابل الاميركية بواسطة اعمال النهب والسلب التي تلت الاحتلال تحت سمع وبصر الجيوش المحتلة. فالتدمير غاية في حد ذاته واعادة الاعمار هدف يتوخى تحقيق الازدهار للاقتصاد الاميركي الذي يعاني من ازمته الخانقة شأنه في ذلك شأن القنابل التدميرية المستخمة في عملية التدمير. واصبحت وعود الولايات المتحدة للمعارضة واللجان التي وضعتها احزاب المعارضة تحت رعاية الولايات المتحدة خبرا بعد عين. وما حققته جيوش الاحتلال بعيد كل البعد عن الوعود البراقة التي ازجلتها الولايات المتحدة قبل الغزو.
اهم ما حققته الولايات المتحدة بعد الاحتلال هو اجبار مجلس الامن على منحه العراق هدية للولايات المتحدة كأول مستعمرة مباشرة في تأريخ الامم المتحدة منذ نشوئها بعد الحرب العالمية الثانية. فأصبحت الولايات المتحدة بموجب الشرعية الدولية واجماع المجتمع الدولي مستعمرة اميركية. وهذا يعني ان الولايات المتحدة هي الحاكم المطلق في العراق. وهذا الحكم المطلق يتطلب عدم وجود دولة عراقية او جيش عراقي او شرطة عراقية او جهاز قضائي عراقي او حكومة عراقية. فكل ذلك هو من اختصاص الولايات المتحدة وحدها. ولذلك قام بريمر بحل الجيش العراقي والشرطة العراقية ووزارة الاعلام العراقية. وبذلك اصبح الميدان واسعا امام الولايات المتحدة لتاسيس مؤسساتها الخاصة التي تعوض عن كل ذلك. وقد اعترف بريمر بخطأ حله للجيش العراقي ولكن لا لكي يحقق تصحيح الخطأ واعادة الجيش العراقي انما لكي يقوم بالخطوات التالية التي تحتمها سياسة فرض  الاستعمار المباشر على العراق بصورة تامة. ويجري الحديث عن تأسيس جيش عراقي قوامه كذا الف جندي وشرطة عراقية جديدة ومجلس استشاري ولجنة تقوم بوضع الدستور العراقي وغير ذلك. فاي جيش عراقي تستطيع الولايات المتحدة انشاءه؟ ان الولايات المتحدة هي التي تختار ضباط هذا الجيش وهي التي تختار الجنود المنتمين اليه وهي التي تدفع رواتب هذا الجيش ورواتب الادارة الاميركية في العراق ولو من اموال عراقية وهي التي تقود هذا الجيش وهذه الادارة. فماذا يمكن ان يكون هذا الجيش غير جيش مرتزقة اميركي ينفذ طوعا السياسة الامبريالية المقررة في العراق؟ وليس بعيدا عنا مثلا الجيش الهندي في فترة استعمار الهند المباشر من قبل الامبراطورية البريطانية الذي كان يحارب تحت القيادة البريطانية لا في الهند وحدها بل في ارجاء الامبراطورية البريطانية. ان اي جيش تؤسسه الولايات المتحدة لا يمكن ان يكون الا جيشا شبيها بالجيش الهندي تحت الحكم البريطاني. والامر شبيه ذلك في الشرطة وحتى في لجنة وضع الدستور التي تعينها الادارة الاميركية لوضع دستور عراقي.
 وما نسمعه ونقراه عن مؤسسات عراقية ومؤتمرات ومطالبة الولايات المتحدة بالسماح للعراقيين بتاسيس حكومة مؤقتة تضع دستورا عراقيا جديدا وتجري انتخابات حرة تنشأ عنها حكومة عراقية ديمقراطية تمهد الطريق لمغادرة الجيوش الاجنبية من العراق يشمل نوعين من وسائل الاعلام. نوع صادر عن عملاء يتقاضون رواتبهم من الولايات المتحدة ونوع اخر هو احلام طوباوية يحلم بها بعض ذوي النوايا الطيبة ويتصورون بانهم يستطيعون ان يحققوا شيئا من هذه الاحلام في ظل الاستعمار الاميركي بالاستقلال عنه. ان الولايات المتحدة جاءت الى العراق لتبقى الى الابد ما لم ترغم على الخروج. وكل ما يجري في العراق اليوم يسير في اتجاه تثبيت هذا الاستعمار. لذا نرى ان بريمر يريد حكومة عراقية ديمقراطية على ان لا تكون شيوعية ولا اسلامية ولا شيعية الخ... وكل انسان يعرف معنى كلمة شيوعية في قاموس الولايات المتحدة الاميركية منذ الاربعينيات من القرن الماضي حين كانوا يتهمون كل انسان بالشيوعية في عهد ما يدعى بالمكارثية حتى لو ان احد اقربائه ابدى ميلا للشيوعية قبل عشرين عاما. وكانت الولايات المتحدة في فترة ما يدعى بالحرب الباردة تعتبر الاتحاد السوفييتي شيوعيا رغم علمها بان قادة الاتحاد السوفييتي تخلوا عن الشيوعية منذ يوم وفاة ستالين وتحولوا الى عملاء لها في قيادة الاتحاد السوفييتي نحو العودة الى الراسمالية. فكل من يقاوم الاحتلال وكل من يدعو الى الاستقلال هو شيوعي او ارهابي. وليس ما يبدو من مظاهر ديمقراطية شكلية في العراق اليوم من حرية نشر الصحف واقامة الاحزاب سوى مظاهر كاذبة يمكن القضاء عليها في اول لحظة يبدو انها تشكل خطرا على سلطة الاحتلال الاميركية.
في مقال نشرته جريدة الانديبندنت البريطانية بتاريخ ١١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٣ تحت عنوان "الرقابة على الصحافة : قصة مألوفة للعراقيين" اشارت الصحيفة الى ان السلطة الاميركية في العراق قررت فرض الرقابة على الصحافة العراقية جاء فيه كمثال من الامثلة العديدة  التي اوردها المقال على ضرورة فرض الرقابة على الصحف بالنسبة للسلطة الاميركية في العراق:
"أين هو طارق عزيز نائب رئيس الوزراء السابق؟ يقول الاميركيون انه لديهم. لكننا لا نعلم اين هو. ما الذي يجري سؤاله عنه؟ هل عن اسلحة صدام حسين للدمار الشامل؟ ام وهذا ما اتوقعه- (كاتب المقال) كم هو يعلم عن علاقات اميركا الوثيقة مع صدام بعد ١٩٧٨؟ في الواقع ان طارق عزيز يعلم الكثير جدا عن ذلك التحالف المشين، وعلى اية حال كان قد قابل دونالد رامسفيلد عدة مرات. شيء واحد هو مؤكد. لن تكون ثمة محاكمة لطارق عزيز. فان ابقاءه صامتا هو الافضلية الاولى. الا ان هذا الامر ليس شيئا ينبغي للعراقيين ان يعلموه. والرقابة هي القصة." 
هذا هو رأي جريدة الاينديبندنت وهو يشير الى ان ما يدعى حرية الصحافة هو امر شكلي لا وجود له الا اذا كان في مصلحة المحتلين او اذا لم يكن لهذه الصحافة اي تاثير سلبي على الخطط الاستمعمارية.
فما هو مصير العراق بعد صدام والاستعمار المباشر؟
ان الوضع الذي يسود العراق الان قد يمكن تشبيهه بظروف ما قبل ثورة العشرين تحت حكم المستعمرين البريطانيين. ولكنه في الواقع يختلف عنه اختلافا جوهريا. ففي ١٩١٨ تحول العراق من مستعمرة للدولة العثمانية الى مستعمرة بريطانية. وكان العراق انذاك قطرا متأخرا من حيث التطور الاقتصادي. لم تكن للعراق انذاك دولة او جيش او حكومة عراقية او شرطة او نظام قضائي عراقي. ولم تكن للعراق انذاك مؤسسات ثقافية او اجتماعية واسعة النطاق كل هذا جعل في الامكان  استعمار العراق استعمارا مباشرا لبريطانيا. ولكن ثورة العشرين احبطت هذا الاستعمار المباشر ونتجت عن قيام حكم شبه اقطاعي شبه استعماري كان حكامه يمثلون الاستعمار البريطاني والاقطاعيين ويتحكم فيه الاستعمار البريطاني عن طريق المعاهدة والقواعد العسكرية والعملاء الذين كانوا يحكمون العراق تحت اشراف المستشارين والخبراء البريطانيين وطبقا لاوامرهم. اي ان الاستعمار المباشر تحول الى استعمار غير مباشر.
ولكن وضع العراق يختلف الان عما كان عليه قبل ثورة العشرين. فالعراق اليوم قد مر في مراحل تطور اقتصادي واجتماعي واسعة النطاق واصبح دولة من الدول المؤسسة لهيئة الامم المتحدة. وفي ١٩٥٨ اجتاز العراق مرحلة الحكم شبه الاقطاعي الى حكم برجوازي اصبحت فيه الطبقة البرجوازية العراقية هي الطبقة الحاكمة. اصبح للعراق الان دولة وحكومة وجيش وشرطة وهيئة قضائية لذلك فان ما كان يصح في ثورة العشرين لا يصح على الوضع العراقي اليوم. ولكن الاستعمار يستلزم تخلف البلد الى مستوى ١٩١٨ لكي تستطيع الدولة المستعمرة ان تنشئ مؤسساتها بدلا من المؤسسات القائمة. وهذا ما يحتم على بريمر حل المؤسسات كلها وجعل العراق بلدا بلا دولة ولا جيش ولا حكومة ولا سلاح ولا تمثيل دبلوماسي دولي في العالم ولا جهاز قضائي لكي يقيم في البلد مؤسسات تكون الولايات المتحدة هي المؤسسة لها والمسيطرة عليها وهي التي تسيطر على العراق سيطرة امبريالية كاملة. وطبيعة مقاومة الاستعمار وطرده هي الاخرى تختلف جوهريا عما كانت عليه في ثورة العشرين. ولكن المقاومة الشعبية هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق استقلال العراق والتحرر من الاستعمار الاميركي المباشر.
رغم انتهاء الحرب واكتمال السيطرة الاستعمارية الكاملة عسكريا على العراق نرى وجود مقاومة مسلحة ومناوشات ضد جيوش الاحتلال الاميركية البريطانية ازعجت جيوش الاحتلال وارغمتها على دعوة كافة دول العالم بما فيها الدول العربية الى ارسال جيوشها لمساعدتها على تثبيت الاحتلال. واستخدام جيوش الدول الاخرى كمرتزقة للولايات المتحدة ليس جديدا سواء أكان تحت لواء الامم المتحدة ام لا. فالجيش الاميركي يشن حاليا حربا عالمية ثالثة تهدف الى اتمام الاستيلاء على العالم كله ولهذا الغرض يحتاج الى جيوش اخرى تمكنه من تحرير بعض قواته للتفرغ لتحقيق المهام الاخرى واحتلال دول محور الشر التي تقررها الولايات المتحدة حسب اولوياتها العسكرية والسياسية.
والاحزاب التي نشأت بالعشرات في العراق في عهد الاحتلال احزاب صغيرة ناشئة تحتاج الى كسب التأييد الشعبي لبرامجها ودعاياتها واكثرها يحتاج الى بعض التمويل من مصادر قد تكون مشبوهة. ولكن هذه الاحزاب كلها موجودة في ظل الاحتلال. والسلطات المحتلة تستطيع التخلص منها فور الشعور بوجود خطر على الاحتلال منها. وهي كلها احزاب فئوية تحاول ان تمثل جماعة بعينها. والكثير من هذه الاحزاب تقودها جماعات كانت لها علاقة ومازالت مع المحتل الاميركي بشكل من الاشكال. لذا فمن الصعب ان نتصور ايا من هذه الاحزاب كقوة قادرة على طرد المستعمرين خصوصا وان الذين جاؤوا على دبابات اميركية الى العراق لا يستطيعون ان يقاوموا الاحتلال ويحققوا الاستقلال. فانهم مجرد عملاء يأتمرون بأوامر من يغدق عليهم المال. وهذا ما نشاهده في القنوات التلفزيونية المختلفة من اناس يحاولون اقناع الشعب بضرورة بقاء الجيوش الاميركية واعطائها فرصة تحقيق ما جاءت لتحققه من ديمقراطية ونظام حكم عراقي غير دكتاتوري لكي تخرج من العراق ولا تبقى فيه يوما واحدا اكثر مما يلزم حسب ادعاء بوش. ان الاحزاب التي يقودها اشخاص من هؤلاء الذين ساعدوا ورحبوا بالولايات المتحدة وبغزوها للعراق ليسوا القوى التي تستطيع اخراج الجيوش الاجنبية من العراق واستعادة استقلاله. واذا وجدت في الاحزاب المعلنة الان في العراق احزاب تقودها عناصر نزيهة حقا تريد الخلاص من الاستعمار فان وجودها ليس الا وجودا مؤقتا اذ سرعان ما تقضي عليها السلطات الاميركية او تغوي قادتها باللحاق بركب العملاء والاذناب الموالين لها.
ونسمع عن هجمات مسلحة هنا وهناك ضد الجيوش الاميركية والبريطانية وقتل عدد من جنودها. وطبيعي ان الجيوش المحتلة على لسان بريمر وغيره تعزو هذه الهجمات اما الى اعوان صدام حسين او الى احدى دول الشر المجاورة التي تعد الولايات المتحدة العدة للهجوم عليها او اخضاعها واحتلالها "سلميا".  فالولايات المتحدة وسياسيوها لا يمكن ان يفكروا ولا يريدون ان يفكروا بان الشعب العراقي لا يريدهم بعد ان "حرروه" من حكم صدام. فالشعب العراقي في عرفهم شعب حر الان يتمتع بحق الكلام والتظاهر وحق اصدار الصحف وتأسيس الاحزاب وليس شعبا يقع تحت الاستعمار يفتقر الى كل وسائل العيش الانسانية كالماء والكهرباء والعمل واكتساب الرزق. ولا يفكرون بان معاملة جيوش الاحتلال المذلة يمكن ان تسبب رد فعل لدى افراد الشعب العراقي رغم خلاصهم من حكم صدام. ولذلك فان مقاومي جيوش الاحتلال في عرفهم لا يمكن ان يكونوا من الشعب العراقي. وكثيرا ما نسمع في القنوات العربية اشخاصا يزعمون بان المهاجمين كلهم ليس فيهم عراقي واحد وانما كلهم مواطنون من دول مجاورة.
ليس من المستبعد ان يكون بعض من يقومون بمقاومة الاحتلال حاليا من مؤيدي صدام. ولكن المعاملة المذلة لجيوش الاحتلال للناس البسطاء وقتحام  منازلهم وتفتيش نسائهم بصورة لا اخلاقية لا بد ان يثير غضب الانسان البسيط ويدفعه الى النقمة بهؤلاء المحتلين الاجلاف فيثور عليهم ويفعل ما يستطيع ان يفعله ضدهم. يبدو لي ان العديد من عمليات المقاومة التي يلاقيها المحتلون حاليا هي عمليات تلقائية فورية ناشئة كرد فعل لمعاملة جيش الاحتلال للعوائل العراقية. ومن المعروف تاريخيا ان الاعمال التلقائية العفوية ضد جيوش منظمة ومدربة تؤدي دائما الى المزيد من الضحايا ولكنها لا تؤدي الى نتائج ايجابية واسعة. قد تؤدي هذه الاعمال الى ازعاج الجيوش المحتلة والى قتل بعض افرادها ولكنها ليست المقاومة التي من شأنها ان تؤدي الى التحرر من هذه الجيوش وتحقيق الاستقلال.
ما العمل اذن؟
اعتقد ان المقاومة يجب ان تكون مقاومة شعبية منظمة تنظيما دقيقا.
والمقاومة لا تعني دائما مقاومة مسلحة. فالمقاومة كالحرب لها اسلحة مختلفة يساند بعضها بعضا. فوسائل المقاومة كثيرة مثل الاضرابات والاعتصامات والدعاية ونشر الصحف وانشاء المنظمات المختلفة والاضراب العام والمقاطعة وغير ذلك. وتجري المقاومة بالاساليب المتوفرة والممكنة والمؤدية بالتالي الى المقاومة المسلحة والعمل على طرد الغزاة بالقوة.
وكلمة شعبية تعود بنا الى ما جاء اعلاه حول تعريف الشعب العراقي. ان المقاومة يجب ان تكون شعبية اي ان يكون افرادها افرادا من الشعب العراقي وان يبعد عنها كل عراقي ليس من افراد الشعب العراقي او حتى قريب من اعداء الشعب العراقي. ان عناصر المقاومة يجب ان تنشا من الشعب وان تضم اكثر عناصر الشعب اخلاصا وتفانيا في سبيل تحقيق اماني الشعب بالتحرر والاستقلال من المحتل الاجنبي ومن عملائه واعوانه. ان الشعب هو الذي يجب ان يختار قادته بعد اختبارهم في ساحات النضال المستميت الخطر ضد الاحتلال واعوانه.
والمقاومة الشعبية يجب ان تكون منظمة. وتنظيم المقاومة في ظل الاحتلال الاجنبي يجب ان تنجزه منظمة في منتهى السرية  في تنظيمها. فالتنظيم العلني خاضع دائما للمراقبة والاعتقالات والقمع من قبل السلطات. وهذا ما يحتم ان تكون المظمة الجدية, المنظمة الشعبية، سرية. ان القول بان المنظمة يجب ان تكون سرية لا يعني انها سرية في نشاطها. ان منتهى السرية يجب ان يكون بصدد اعضائها وتنظيماتها الداخلية. ولكن نشاطها يكون علنيا ومعروفا لدى الشعب حق المعرفة. ان اعمالها يجب ان تكون جماهيرية واسعة النطاق وغير محدودة على افراد يمكن مهاجمتهم والقضاء عليهم او زجهم بالسجون. وفي سبيل مثل هذه الاعمال يمكن للمنظمة السرية ان توسع نشاطها في بعض المنظمات الشعبية العلنية كالنقابات ومنظمات الشبيبة والطلبة والنساء وحتى في بعض النقابات الحرفية كنقابات المهندسين والمحامين والاطباء وفي الجمعيات الفلاحية اذا وجدت. يجب ان تكون المنظمة غاية في السرية في تنظيماتها وغاية في العلنية في نشاطها.
قد يقول البعض ان التطور التكنولوجي وتطور وسائل القمع جعلت ممارسة اشكال النضال القديمة مستحيلة. وفي هذا شيء كبير من الصحة. ففي استطاعة الحكومات اليوم ان تتتبع مثل هذه الاعمال النضالية بوسائل اكثر تطورا. ولكن الثورة التكنولوجية ذاتها خلقت ظروفا جديدة يمكن استخدامها في النضالات الشعبية ايضا. في الظروف السرية في الثلاثينات والاربعينات مثلا كان الحزب السري يجد صعوبة كبرى في الحصول على مطبعة بسيطة يطبع بها وثائقه واليوم اصبح في كل بيت مطبعة. وفي السابق كان توزيع المناشير والجرائد الحزبية عملية خطرة كثيرا ما كان يجري القبض على منفذيها اثناء عملهم. واليوم اصبح بالامكان توزيع منشورات الحزب ووثائقه في ارجاء البلاد خلال دقائق. فعلى الحزب المناضل ان يجد طرقا حديثة للنضال تتفق والوسائل المتوفرة حاليا وتتحاشى الوسائل الحديثة للقمع المستخدمة من قبل السلطات الحاكمة. ولكن شيئا واحدا ثابت لا يمكن القضاء عليه هو الشعوب. فاذا صمم شعب على تحرير نفسه من الاستعمار او من الحكام الذين يستغلونه فانه يحقق ذلك ولا توجد قوة تستطيع ايقافه عن تحقيق ذلك رغم الصعوبات والتضحيات الجمة التي ترافق ذلك.
اية منظمة يمكن ان تكون منظمة كهذه؟ يجب ان تكون منظمة لا تجتذب اعضاءها وفقا لمعتقداتهم الدينية او اصلهم القومي او غير ذلك مما يؤدي الى فئوية المنظمة. بل يجب ان تكون منظمة تجتذب اعضاءها كأفراد من الشعب العراقي ولا يميزهم عن بعضهم سوى نشاطهم في خدمة الشعب العراقي واخلاصهم لمبدئهم في العمل على تحرير العراق من الجيوش المحتلة ومن عملائها وتحقيق عراق مستقل. منظمة كهذه يمكنها ان تضم العربي والكردي والتركماني والاثوري واليزيدي وان تضم المسلم الشيعي والسني لا بصفاتهم هذه وانما بصفتهم مناضلين مخلصين لقضية العراق وتحريره من الاستعمار.
فاية منظمة يمكن ان تكون مثل هذه المنظمة؟ هنا نعود الى التأريخ قليلا. ان التأريخ يثبت لنا ان منظمة كهذه لم تتألف في القرن العشرين الا اذا كانت منظمة تؤمن بالماركسية كمبدأ لها وكنظرية هادية لها في اختيار وسائل النضال المناسبة في الوقت المناسب حتى النهاية اللازمة والضرورية في الانتفاض على المستعمر وطرده وتحقيق الاستقلال.
قد يقول البعض ان الاحزاب المؤمنة بالماركسية والتي كان من المألوف تسميتها بالاحزاب الشيوعية قد فشلت في الاتحاد السوفييتي وفي العالم كله وهذا ما يثبت ان هذه النظرية غير قادرة على توجيه هذه الاحزاب الى الهدف المنشود. وهذا غير صحيح. فالتأريخ برهن على ان هذه الاحزاب افلحت حين كانت تهتدي بالنظرية الماركسية سواء بتحقيق الثورة في الاتحاد السوفييتي او في بناء الاشتراكية فيها او في الدفاع عنها ضد الغزاة النازيين. واثبتت ان الاحزاب التي تسير بهدى هذه النظرية تتطور وتتقدم تقدما هائلا وتنال ثقة ومحبة الشعوب وتنجب لها خيرة ابنائها ليلتحقوا فيها. والحزب الشيوعي العراقي مثال على ذلك. ففي فترة قصيرة من ١٩٣٨ وحتى ١٩٤٧ اصبح الحزب الشيوعي اقوى منظمة سياسية عرفها العراق حتى يومنا هذا. ولم يتسبب في تدهور هذا الحزب وانحطاطه الى درجة التعاون مع صدام فيما سمي بالجبهة الوطنية القومية التقدمية سوى تخليه عن النظرية الماركسية واللحاق بركب حكومة خروشوف ومن تلاه من معادي الشيوعية والماركسية والاشتراكية.
منظمة ماركسية حقيقية تمارس النظرية الماركسية بعد دراستها واتقانها والتمرن على ممارستها ممارسة صحيحة في حومة النضال هي المنظمة الوحيدة التي تستطيع في المستقبل القريب او البعيد ان تحقق استقلال العراق وتحرره من الاستعمار الاميركي ومن اعوانه وعملائه.
ولكن العراق من ناحية اخرى ليس وحيدا منفردا ومنعزلا في نضاله ضد الاستعمار الاميركي. فاستيلاء الولايات المتحدة الاميركية قبل حربها العالمية الثالثة وفي اثنائها على المزيد والمزيد من دول العالم يؤدي الى نضالات مشابهة لنضالات الشعب العراقي في جميع هذه البلدان. فالنضال ضد الاستعمار صفة ملازمة للشعوب ولا يمكن القضاء عليها. ووجود هذه المستعمرات العديدة التي سبق للولايات المتحدة ان استولت عليها والتي تقوم بالاستيلاء عليها في حربها الحالية عامل مساعد للعراق بالضبط كما يشكل نضال العراق ضد الاحتلال عونا للمستعمرات الاخرى المناضلة ضد الاحتلال الاميركي.
وثمة عامل عالمي اخر يساعد على تطور واتساع هذا النضال القاسي ضد الاستعمار ولو بصورة غير مباشرة. لقد اوضحت سابقا ان محاولة الولايات المتحدة للاستيلاء على العالم كله تؤدي حتما الى سلب مصالح الدول الامبريالية الاخرى التي كما الولايات المتحدة تشارك في الاستيلاء على العالم وتتقاسمه فيما بينها. ولكن سلب مصالح هذه الدول الاستعمارية يؤدي حتما الى مقاومتها. وهذه المقاومة قائمة منذ امد بعيد يرجع بنا الى نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه المقاومة كانت اما خفية تظهر في المؤتمرات التي تعقدها هذه الدول الكبرى تحت ستار شعارات براقة كمكافحة الفقر وتطوير الدول النامية والمساعدات الانسانية وتنتهي عمليا بفرض عقوبات ومحاولة حل المشاكل القائمة والى حروب اقتصادية مثل حرب الخمر وحرب صيد الاسماك وحرب اللحوم وحرب فرض الضرائب على الواردات وغير ذلك. ولكنها لاول مرة ظهرت بصورة مكشوفة وجدية قبل الحرب على العراق برفض دول حليفة كبرى مثل المانيا وفرنسا وروسيا اعطاء الضوء الاخضر او المشاركة في غزو العراق لا لان هذه الدول تحب العراق او تؤيد صدام حسين بل لان الحرب على العراق تشكل سلبا لمصالحها فيه. ومن المحتم في المستقبل ايضا ان تشتد هذه المقاومة الى حد القتال المسلح وتحويل الحرب العالمية الثالثة القائمة التي تشنها الولايات المتحدة على دول صديقة وعدوة بحجة الحرب ضد الارهاب الى حرب بين فئتين من الدول الامبريالية كما كان الوضع في الحربين العالميتين السابقتين.
 
للمؤلف
١ الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق
 نشر في المملكة المتحدة ١٩٧٨
٢ Marx and his Dialectical Materialism
 نشر في المملكة المتحدة ١٩٨١
٣ ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ في العراق وسياسة الحزب الشيوعي
 نشر في المملكة المتحدة ١٩٨٥
٤ قاموس عبري عربي كامل (في ثلاثة مجلدات)
 نشر في اسرائيل ٢٠٠٠
٥ Stalin As I Understood Him
 نشر في المملكة المتحدة ٢٠٠١
٦ The Maqam Music Tradition of Iraq
 نشر في المملكة المتحدة ٢٠٠١
٧ ذكرياتي في سجون العراق السياسية
 نشر في المملكة المتحدة ٢٠٠١
٨ الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة
نشر في المملكة المتحدة ٢٢٠٠
٩ خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي
 عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي
 نشر في المملكة المتحدة في ايلول ٢٠٠٢  



#حسقيل_قوجمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسقيل قوجمان - كتاب- خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - الجزء الثاني