أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - هوار محمد سعيد بلو - إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام .. الجزء الثاني















المزيد.....


إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام .. الجزء الثاني


هوار محمد سعيد بلو

الحوار المتمدن-العدد: 1923 - 2007 / 5 / 22 - 11:16
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


أبرمَ النبي (عليه السلام) معاهدة سلام مع اليهود الذين كانوا يمثّلون احدى شرائح سكان المدينة ، و نظّم خلال المعاهدة علاقاته مع اليهود و أمّنَ جوارهم لأنّه كان يعلم أنّ قريشاً ستنفخ فيهم نعرة الحقد و تحاول إثارتِهم ضدّ المسلمين .
لقد ضمّت وثيقة المعاهدة أنّ على أطرافها مناصرة بعضهم البعض وأنّ قريشاً لا تُجار ولا مَن يناصرها و أنّ بينهم النّصر على من داهم يثرب غازياً .
كما قام النبي (عليه السلام) بوضع ميثاق تحالف بين سكان يثرب مِن قريش و أهل يثرب و مَن لحق بِهم مِن العرب ، ليستبعد بذلك قيام مؤامرات داخلية و يتجنّب من خلاله إقدام سكان يثرب الأصليين على الخيانة و الطّعن في الظّهر ، و نصّ الميثاق على أنّهم امّة واحدة ، و يدٌ واحدة على مَن سواهم و مَن يحاول النّيل منهم .. و من ارتكن منهم الى قريش وتعاطف معها ، فإنّه ملعون و وجبَ قتاله .
ففي الوقت الذي حاولت فيه قريش أنْ تُوسّع جبهة الحرب على الإسلام عربيّاً و إقليمياً ، حاول النبي (عليه السلام) أيضاً حصر الجبهة في زاوية العشيرة الضيّقة و إعتبار الأمر شأناً داخليّاً لا يمتّ الولاء للقوم اليه بصلة تُذكر .
إنّ شواهداً كثيرة كانت تدل على ميل الإسلام المكشوف الى السلام و مساعيه المتفانية لخلق المناخ الآمن الذي يمكن له في ظله أنْ يستأنف مشروع الدعوة و الحوار..

كان الإسلام يضع دائماً كل ثقته الدعوية في أجواء الهدوء و السلام ، و لم يكن يرى السيف بديلاً عن الحكمة و الموعظة الحسنة في كسب تبعية الناس و ضمان ولائهم .
لقد اضطرّ الإسلام خلال مسيرة دعوته الى تشريع القتال ومجابَهة العنف بالعنف ، و بدأت سنين الكفاح و الجهاد و ارتكن منطق العقل و الإقناع الى سُباتٍ طويل .
لم يكن منطق القوّة بديلاً عن منطق العقل عند النبي (عليه السلام) وإن كان الأخير قد أخفق في أداء المهمّة مع العرب بالوجه المطلوب ، كما لم يكن الإسلام ينظر الى العنف يوماً كوسيلة لنشر الدين بين الناس و إنْ تمخّض عنه دخولٌ عربيّ عام في الإسلام ، لكنّ المسلمين لجأوا الى العنف دفاعاً عن الوجود وحـقاً في الحياة ، و مِن ثمّ تصفية لحساباتٍ دنيوية متراكمة مع مشركي قريش ...
لوكان مُقدّراً للإسلام يومها أنْ ينزل على امّة اخرى متزامنة للعرب ممّن كانوا يقدّسون لغة الحوار و يحترمون كلمة العقل والمنطق ، لما التجأ الإسلام الى حمل السّلاح خلال مسيرته أبداً لكنّ طريقة الصحراء في الردّ هي التي غيّرت المسار و أدّت الى تخليق هذه المرحلة وإن كان تحديد زمان الوحي و مكانه أمراً إلهياً محضاً لاحق لنا في التكهن بأسبابه و أسراره .
إنّ فكرة العنف المسلح إصطبغت بإنطباعٍ دفاعي في أذهان المسلمين أيام النبوة ، و ذلك أنّ تشريع فكرة العنف المسلح لم يراه المسلمون الأوائل سوى وسيلة دفاعية يبقون بها على وجودهم و كيانهم في ظل المؤامرة العربية المشؤومة ، لاسيما بعد أنْ أخفق الحِلم و الأناة في مواجهة الحديد و النار .
أخذت فكرة العنف المسلح تصطبغ بإنطباع مغاير في العصر الراشدي ، فقد تحولت الى يد حديدية تضرب بإرادة مشحوذة تلك القبائل التي أعلنت ردّتها و تمرّدها على دولة الخلافة عقب رحيل النبوة .. و الجدير بالذكر أنّ هذه القبائل هي نفسها التي كانت قد بايعت النبي (عليه السلام) في عام الوفود و عاهدته على النصرة و الإخلاص .
إجتاحت جزيرة العرب موجة واسعة من حركات الردة عقب رحيل النبوة ، و عزمت الجموع المرتدة على العودة بحياتها الى ما كانت عليه في الجاهلية .
بدأت القبائل العربية بعصيان مدني في صورة إمتناع عن دفع ضريبة الزكاة المفروضة عليها ، ثم تمادت في إثمها و أصطنعت أنبياءاً كذبة و دجّالين لقيادة التمرد القائم .. وما هي إلاّ أيام وجيزة حتى تحولت هذه القبائل الى جيوش جرارة تنادي بعضها البعض للزحف على المدينة واستأصال شأفة الإسلام .
لقد تحركت القبائل العربية بسرعة فائقة لتحاصر الخليفة وكبار الصحابة في ركن العاصمة الضيق و تقضي عليهم بعد ذلك ، مستغلة بذلك لحظة الضعف العسكري التي تعاني منها دولة الخلافة ، حيث كان الخليفة قد أنفذَ جيشاً كبيراً لقتال الروم بالشام بناءاً على توصية النبي (عليه السلام) قُبيل وفاته .
وهنا تحولت آراء المسلمين الى قسمين ، رأي يرى بأنْ تُكافَح هذه الحركات المتمردة بالعنف المسلح و بأسرع وقت ممكن فهي تهدد وحدة الدين و الدولة و لاسبيل للتهاون معها ، و كان هذا رأي الخليفة (أبو بكر) .. و رأي آخر يرى المهادنة هو الحل الأمثل إن هم رضوا بها ، فالسيوف في أغمادها و لا إكراه في الدين و الزكاة ، و كان هذا هو رأي الكثير من كبار الصحابة و على رأسهم (عمر بن الخطاب) ، و قد ناقش وجهة النظر هذه مع الخليفة بحماس كبير .
رأى (عمر) و أصدقاؤه أنْ إستراتيجية العنف المسلّح لايمكن أن تُستخدَم في إكراه الناس على الإسلام أو حتى في إعادتهم الى حظيرة الإسلام ، و ذلك لأنّ إستراتيجية العنف المسلح و الجهاد لم تكن قد أخذت في أذهان المسلمين غير إنطباعها الدفاعي الذي يهدف الى صيانة الذات من الفناء ، و هو الإنطباع الذي خلقه النبي (عليه السلام) في أذهانهم أيام حياته .
قال (عمر بن الخطاب) للخليفة : (والله أرى يا خليفة رسول الله أن تقبل مِن العرب الصلاة وتدع لهم الزكاة فإنّهم حديثوا عهد بجاهلية ، لم يُعدَّهم الإسلام .. فإمّا أن يردّهم الله عنه الى خير ، وإمّا أن يعزّ الله الإسلام فنقوى على قتالهم .. فـما لبقيّة المهاجرين والأنصار يدان بالعرب قاطبة).
لم يكن الخليفة ينظر الى فكرة العنف المسلح إلاّ كما ينظر إليها (عمر) و أصدقاؤه ، و لكن مِن زاوية غير تلك التي ينظرون مِن خلالها .. فهذه الحركات المتمردة قد تزحف على المدينة في أية لحظة ، و هي بذلك تنوي القضاء على الإسلام و المسلمين .. و إنّ مكافحتهم إنّما تهدف الى صيانة هذا الدين مِن الفناء و إقرار حقه في الإستمرار .
أبى الخليفة أن يتغير شرع الله في عهده ، فكل فريضة كانت قائمة في عهد النبي (عليه السلام) ستظل قائمة بعده و لو بالعنف ، و أنّ هذه الحركات المتمردة و إن جنحت الى المهادنة مع المسلمين ، فهي في رؤية الخليفة أشد خطورة على الإسلام مِن كل شيء آخر .
لقد أصدر الخليفة ( أبو بكر ) قراره بمكافحة المتمرّدين ونشاطاتهم في كل أنحاء الجزيرة ، و أنْ لا سبيل للمهادنة معهم بعد أنْ استُعلن أمرهم بين الناس بشكل رسميّ ، و إنطلقت جيوش المسلمين من معقلها و شرعت في ضرب الثوار بقبضة من حديد جماعة تلو الاخرى ، و جابت احيآء العرب تطهّرها من رؤوس التمرد الشعبي واُعيد الهدوء الى أرض الجزيرة على أسِنّة الرماح و دانت جزيرة العرب للإسلام مرة اخرى في شهور معدودة .
إنّ هذا التغيير الذي شهدته إستراتيجية العنف المسلح في مفهومها و دخولها في تجربة تطبيقية جديدة لعدة شهور متتالية ، مهّد الطريق أمام تغييرات اخرى و تجارب تطبيقية جديدة في الأيام القادمة .
فبعد أنْ اُخمدت ثورة العروبة في أوائل السنة الثانية عشرة للهجرة إرتأى (أبو بكر) أن لا يوقف مشروع الحرب بل يستكمله بفتح البلاد المجاورة لدولته تأميناً للجوار وتصديراً للدعوة و وسيلة لإلهاء العرب المقهورين بالسيف حتى لايُفكّروا في العودة الى الثورة والتمرّد ، فأرسل الى (خالد بن الوليد) وهو بمحطّته الأخيرة (اليمامة) يأمره بالتوجّه الى أرض العراق .
إنّ إستراتيجية العنف المسلّح كما جسّدها الخليفة (أبو بكر) و مِن ثمّ بقية الخلفاء الراشدين ، هي وسيلة شرّعها الله لإنقاذ الناس مِن الظلم و الإنقياد ، فشعوب الأرض تعاني الظلم والمرارة على أيدي حُكّامها و الرحمة التي جآء بِها هذا الدين تقضي عليه أنْ لا يرى نفسه قوياً متمكّناً و شعوب الأرض تعاني الظلم على مرأى منه و مسمع ، و هو بطبيعته لا يظلم الناس ولا يجبر أحداً على إعتناق عقيدته ، وحينما يدخل بلداً غريباً فإنّه يدخل إنّما ليزيل الفئات الطّاغية ويحرّر المستضعفين من قيود الجبابرة ، و ليس بالضرورة أن يدخل بلدانهم ليحكمهم و يبسط عليهم نفوذه .
قال (النعمان بن مقرن) لملك فارس (يزدجر) و كان ضمن وفد بعثه (سعد بن أبي الوقاص) إليهم قبيل معركة القادسية أيام الخليفة (عمر) ، يدعوهم الى الإسلام قبل أنْ تنشب الحرب و تُسفك الدماء :
(.. إنّ الله رحمَنا فأرْسلَ إليْنا رسولاً يأمرُنا بالخير وينهانا عن الشرور .. فلمْ يدَعْ قبيلة إلاّ و قارَبه منها فرقة و تباعد عنه بها فرقة ... ثم اُمِرَ أنْ ينبذ الى مَن خالفَهُ مِن العرب فبدَأناهم ، فدخلوا معه الى وجهين : مكرهٌ عليه فاغتبط وطائعٌ أتاهُ فإزداد .. ثمّ اُمرْنا أنْ نبدأ بمَن يلينا مِن الامم فندعوهم الى الإنصاف ، فنحن ندعوكم الى ديننا و هو دين حَسّنَ الحسَن و قبّحَ القبيح كله .. فإنْ أجبْتم الى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله و أقَمْنا عليه ، على أنْ تحكموا بأحكامه و نرجع عنكم و شأنكم و بلادكم ، و إنْ إتّقَيْتمونا بالجزية قَبِلْنا و منَعْناكم ، و إلاّ قاتَلْناكم)(5)
و إنّ الإسلام حينما يعطي حرّية الإعتقاد للشعوب المحرّرة ، فإنّه يكلّف كلّ من لا يدين بعقيدته بدفع ضريبة الى الدولة مقابل ضمان حرّيته وسلامته في الوطن و إعفائه من خدمة الدّفاع وحمل السلاح .
و هذه الضريبة لا تؤخذ إلاّ من الإنسان القادر على حمل السلاح ممّن جاوزت أعمارهم سنّ البلوغ ، و لايدفعها الطفل و لا الشيخ و لا المرأة و لا ذو عاهة بادية و لا أهل الصّوامع و البِيَع (1) ، و هي ما تقابل ضريبة الزكاة التي يدفعها المسلمون الى الدولة كل سنة في صورة أداء لفريضة زكاة .
خاض المسلمون في أرض العراق وأرض الشام حروباً طاحنة لا هوادة فيها ، و كما كان إستنفارُ المسلمين عامّاً و شعبياً فإنّ إستنفار الناس ضدّ المسلمين أيضاً كان عامّاً و شعبياً .. و بذلك اُعيد صياغة المفهوم القديم للجهاد في أذهان المسلمين و بدأت بذلك مرحلة تحوّل جديدة في تطبيقه ، حيث تحوّلت فكرة العنف المسلّح الى فكرة توسّعية و لكن ليس بصورتها الطامعة التي شهدها العصر الاموي و العباسي بعد ذلك .
كانت أخطاء العرب المسلمين في حروب الردة و معارك الفتح كثيرة لا تُحصى أثناء الخلافة الراشدة ، فقد أسرفوا في قتل الناس و استحلال ممتلكاتِهم و فروجهم ، و كانت الخلافة على علمٍ بإنتهاكات الجيش المستمرة و تماديه المفرط في الأخطاء ، كما كانت تقف للخطأ بالمرصاد و تحاول منع تكراره ، و لكن كثرة الأخطاء و إستمرارها أخرجت المسألة مِن أيدي الخلافة ، فلم تعد لها قدرة كافية تمنعهم من تلك الأخطاء .
إنّ فهم الخلفاء الراشدين لم يكن هو السبب الذي جعل من العصر الراشدي منعطفاً سيئاً في التجربة التطبيقية لإستراتيجية العنف المسلّح في الإسلام ، ولكنّ غياب الجناح المسلّح بالصورة التي عاصرت زمن النبوة ساهم و إلى حدّ كبير في خلق هذا المنعطف السيّء.
إنّ السواد الأعظم من الجناح المسلّح و المُنفّذ لهذه الإستراتيجية كان مِن اولئك العرب المقهورين بالسيف و العصا ، و العائدين الى حظيرة الإسلام بعد الردّة و التمرّد ، و لم تكن هذا الجناح يقتنص في صفوفه سوى أعداداً قليلة مِن الصحابة .. كانَ جُلّ المقاتلين من تلك القبائل التي ارتدّت عن الإسلام بالأمس القريب وثارت عليه في أبشع ثورة عرفها تأريخهُ !!
كانوا من بني تميم و بني أسد و قضاعة و طئ ، بل حتى كان في صفوف المقاتلين في عهد (عمر بن الخطاب) مَن كان قد ادّعى النبوّة أيام الرّدة مثل (طليحة الأسديّ) .. بل يقال أنّ (أبو زيد الطائي) كان مِن بين صفوف المسلمين في موقعة الجسر أيام الخليفة (عمر بن الخطاب) و كان يقاتل حِميةً للعروبة ، حيث كان نصرانياً قدم الحيرة لبعض أمره !!
و الجدير بالذكر أنّ المسلمين قد انهزموا في هذه الموقعة وكان عدد جيش المسلمين (9000) مقاتل ، مات منهم (4000) بين قتيل و جريح و غريق و هرب منهم (2000)(1).
لم يعد معظم المنتسبين الى الجناح المسلّح لدولة الخلافة الراشدة يفهم حقيقة الإسلام أو يعرف سبب إنتمائه الحقيقي إليه ، فضلاً عن أن يدرك الحكمة التي أرادها الله أنْ تكون عنواناً للعنف و الجهاد في سبيل الله .
كان الخليفة (أبو بكر) يوصي كل جيشٍ يرسله الى ساحة المعركة بجملة من الوصايا القيّمة ، و يحذر أفراده مِن مغبة الإقدام على أيّ تصرف غير إنساني ، فقد أوصى جيش (اُسامة) حينما بعثه الى قتال الروم بما يلي :
(أيّها الناس قفوا أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عنّي .. لاتخونوا ولا تغُلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا إمرأة ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لِمأكلة وسوف تمرّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلْتم منها شيئاً بعد شئ فاذكروا اسم الله عليها وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم و تركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً ، إندفعوا باسم الله)
و قال لـ (خالد) عندما سيّر جيوشه الى أرض فارس :
(.. وتألّفْ أهلَ فارس ومَن كان في مُلكهم من الامم )(1)
كما إنتهج الخليفة (عمر بن الخطاب) نفس النهج مِن بعده ، فقد جاء في إحدى رسائله الى (أبي عبيدة) و هو في جبهة القتال :
(... و بُثّ الخيل في السهل و الوعر ، و الضيق و السّعة ، و أكناف الجبال و الأودية ، و شُنَّ الغارات في حدود الغارات ، ومَن صالحكم منهم فأقْبل منهم الصلح ، ومَن سالمَكَ فسالِمْهُ ، والله خليفتي عليك وعلى المسلمين ..)(2)

لقد كان الجناح المسلّح لدولة الخلافة الراشدة في أسوأ درجة مِن الفهم الصحيح لمعاني الجهاد و إستراتيجية العنف المسلح ، الى الحد الذي لم تكن تستيقظ فيهم واحدة مِن معانِ الجهاد الكثيرة و هم يقتحمون أرض المعركة !!
كان القائد أو الخليفة إذا أراد أنْ يسيّر الجيش الى أرض المعركة ، أيقظ فيهم حمية الطمع الزائل و شهوة السلب و النهب ، و تعمّد الى ترغـيبهم في خـيرات البلاد المجـاورة وثرواتِها ، و تحقير صحرائهم القاحلة في أعينهم .
فهذا (خالد بن الوليد) يخاطب جيشه و هو يُرغّبهم و يُطمعهم في غزو بلدان الأعاجم أيام (أبي بكر) :
(ألا ترون الطعام كم هو كثير ؟ و الله لو لم يكُنْ يَلزمُنا جهادٌ ولَمْ يكُنْ إلاّ للمعاش ، لكان الرأي أنْ نُقارعَ على هذا الرّيف حتى نكون أوْلى به ، و نُولّى الجوع و الإقلال ممّن تولاّه ، ممّن تثاقل عمّا أنتم عليه)(2)
وكان (عمر بن الخطاب) يقول للعرب المسلمين قبَيْل سَوْقهم الى الحرب :
(.. إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلاّ لطلب الكلأ ، و لايقوى عليه أهله إلاّ بذلك .. أين الطرّآء المهاجرون عن موعدالله؟
سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أنْ يورثكموها فإنّ الله مُظهر دينه ومُعزّ ناصره ومُولّ أهله مواريث الاُمم)(1)
و بطبيعة الحال لم يكن الخليفة أو القائد ليوقظ في العرب حسّ المسؤولية بنشر الإسلام و إنقاذ الشعوب المنكوبة و تصدير رسالته الى الشعوب المجاورة و هو يسيّرهم الى معارك الفتح ، و لا ليشحن ضمائرهم بقوة العقيدة و الإيمان ، لأنّه يدرك سلفاً أنّ هؤلاء اُناس قد ماتت فيهم روح الثقة و الإخلاص ، بل لم يلد فيهم أصلاً نور الإيمان واليقين بعد ، يقول الله تعالى :
( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(1)
و يقول تعالى :
(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(2)
وكيف لخليفة مثل (عمر) أنْ يخاطب حسّ الإيمان و حميتهُ في قلوب الفرسان قُبَيل معركة كالقادسية - مثلاً- و لم يكن فيهم سوى (1400) رجلاً من الصحابة ، مِن أصل (35000) فارساً ؟(2) بل قيل مِن أصل (36000) فارساً ؟(3)
وكيف لواحدٍ مثل (أبي مِحْجَن الثقفي) أن تستفيق فيه روح الجهاد الخالصة بعيداً عن حمية الجاهلية ، و هو السّكير الذي لايُفارقه كأس الخمر حتى و هو واقف تحت راية الله ؟
كان يوصي وصيّته و هو يقتحم أرض القادسية :
إذا متُّ فادْفنّي الى أصل كرمة
تُروي عظامي بعد موت عروقها
ولا تـــدفـــننــّي بالفــلاة فإنــّـني
أخاف إذا ما مــتُّ أنْ لا أذوقـــها
وتـُروى بخمر الحصّ لحدي فإنّني
أســـيرُ لها مِن بعد ما قد أسـوقها

كان (أبو بكر) يدرك أنّ عملية إشراك العرب المقهورين بالسيف سيخلق منعطفاً سلبياً في تطبيق إستراتيجية العنف المسلح ، ممّا يؤدي بمرور الزمن الى سوء فهم الإستراتيجية و بالتالي سوء إستخدامها ، و لذلك حثّ قواد الجيش الإسلامي أثناء مكافحتهم لحركات الردّة أنْ لا يُجنّدوا في جيوشهم أحداً مِن العرب المرتدّين حتى يرى رأيه في ذلك .. لكنّ الظاهر أنّ الأيام التالية قد ألحّت عليهم إشراك هؤلاء العرب إلهاءاً لهم حتى لا يعودوا لإثارة أعمال العنف و الشغب في أصقاع البلاد المتفرّقة ونزولاً الى حاجة الفتوحات التي تطلّبت المزيد من الجنود .. و أضطرّ (عمر) أيضاً أنْ ينتهج نفس النهج من بعده ، فحينما كتب إليه (المثنى) من أرض العراق يطلب منه المدد قبل معركة القادسية ، إهتمّ بالأمر كثيراً وكتب الى عمال العرب على الكور و القبائل يأمرهم أن يجندوا اليه كل رجل قادر على حمل السلاح ، و قد جاء في كتابه إليهم : (لا تدعو أحداً له سلاحٌ أو فَرَسٌ أو نجدةٌ أو رأى إلاّ انتخبتموه ، ثم وجّهتموه إليّ العجَلَ العجلَ)(4)
الظاهر أنّ حاجة الفتوحات قد حتمت على الخليفتين إشراك هذه الأطياف المختلفة من الناس .. و لكن الخلافة في أيام (أبي بكر) و (عمر) قد أخذت إنتهاكات الأفراد محمل الجد ، و كانت تقف على أخطائهم الواحدة بالواحدة ... و لعل قصة الخليفتين مع خالد بن الوليد مشهورة بهذا الصدد.
و هكذا بدأ العنف المسلح في الإسلام يأخذ سيرَهُ التدريجي ليتفق مع الصورة التي نشأ عليها العرب قبل الإسلام ، و اعتبر عصر الخلافة الراشدة نقطة التحول في مفهوم هذه الإستراتيجية مِن فكرتها الدفاعية المتواضعة في عهد النبوة الى فكرتها التوسعية الطامعة في العهد الاموي و العباسي .

إنّ أهل البادية قبل الإسلام كانوا بطبيعتهم أهلاً للسلب و النهب ، و كان من السّــهل جداً تحريك العامّة منهم الى السّــير في طريق الحروب بقــليل من الكلمات .. و كان من عادتهم أن يستحلّ الغالب في الحرب و المُبارزة شرف المغلوب بأبشع ما تكون الصورة وكانوا يُفاخرون بذلك .
فكان الغالب يسبي نساء المغلوب و يستحلّ فروجهنّ و أولاد هؤلاء السبايا يلحق بِهم العار طيلة أعمارهم .
يقول (حاتم الطائي) :
و ما أنكحونا طائعين بناتِهم .
و لكن خطبناها بأسيافنا قسراً
و كائن ترى فينا ابن سـبية .
إذا لقي الأبطال يطعــنهم شزراً

لقد أدت عملية إشراك المقهورين بالسيف في الجناح المسلّح للدولة الى ارتكابهم للعديد مِن الأخطاء القاتلة بحق الشعوب المجاورة أثناء الفتوحات ، كما ساهموا و الى حدّ كبير في تشويه الصورة الجميلة للإسلام في أذهان هذه الشعوب .
إنّ عملية إشراك الخلافة الراشدة للعرب المقهورين بالسيف في حروب الردة و الفتح كانت خطأً فادحاً و قد ساهم الى حدّ كبير في بلورة الإنطباع المشوّه و التفكير السيّء حول إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام ، و مِن هنا نقول أنّ العصر الراشدي يعد نقطة التحوّل السلبية و المنعطف السيّء في التجربة التطبيقية لإستراتيجية العنف المسلّح في الإسلام ، و مهّدت الطريق لتغيّرات جوهرية في هذه التجربة خاصة في العصر الأموي و العباسي .
أمّا في عصر الخليفة الراشدي (عثمان بن عفان) ، فقد اُسيء إستخدام العنف و لأول مرّة في التأريخ الإسلامي بصورة واضحة وعلى أيدي المسلمين أنفسهم ، حيث لم يعد للعنف المسلح مفهوماً معيناً أو إستراتيجية واضحة في أذهان العامة من المسلمين .
ففي الوقت الذي كانت فيه أطياف واسعة من الناس تشارك في توسيع رقعة الدولة عن طريق الفتوحات ، كانت هناك أطياف اخرى واسعة أيضاً تخطط لإفشال الدولة و التآمر على شخص الخليفة نفسه ، و الطامة الكبرى أنّ كلّ نموذج يعدّ نفسه مسلماً يقدم على طاعة الله بمخططه !!
و الجدير بالذكر ، أنه في عصر هذا الخليفة الراشدي قد تردّى القائمون على الجهاد الى أبعد الحدود كما تردّت الطبقة التنفيذية لها من قبل .. فمعظم الذين كانوا يسيرون حروب الفتح في أطراف الدولة المترامية كانوا من المقهورين بالسيف هم أيضاً ، و لذلك غرقت الدولة في مستنقع الأخطاء و احتُسب كل ذلك على الإسلام كدين و شريعة .. و تكفل الخليفة نفسه بدفع ثمن باهض للأخطاء التي إقترفتها جيوش الفتح في حق الشعوب .. حيث راح هو ضحية مؤامرة مشؤومة دُبّرت على أيدي المقهورين بالسيف من داخل الدولة و في شبه الجزيرة العربية نفسها .
يعد عصر الخليفة الراشدي (علي بن أبي طالب) أسوأ خاتمة للإنطباع الإيجابي حول فكرة العنف المسلح في الإسلام ، حيث اسدلّ الستار على كل المفاهيم الجميلة التي يمكن أن تُعلّق على فكرة العنف المسلح في الإسلام ، و إنطبعت الفكرة بإنطباعها الرجعي المعهود الذي كانت عليه قبل الإسلام .. و لئن كانت فكرة العنف المسلح في الإسلام قد أخذت مساراً تدريجياً في بداية العصر الراشدي نحو الصورة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام ، فإنّ عصر الخليفة الراشدي (علي بن أبي طالب) هو النقطة الزمنية التي إنتهى فيها هذا المسار الى مطافه .. فقد قامت الحروب الأهلية بين المسلمين على قدم و ساق ، و تحولت جزيرة العرب الى ساحة تصفية لحسابات دنيوية ليس لمقاييس الإنتماء الى العقيدة فيها ناقة ولا جمل .. و بدأ الإنطباع المشوّه يلتصق بفكرة العنف المسلح في الإسلام و يجد طريقه في عقول العامة من المسلمين .
إنّ الفرق كبير جداً بين عصر الخليفة (عثمان) و (علي) ، صحيح أنّ كلا العصرين قد شهّدا سوءاً واضحاً في إستخدام العنف المسلح و على أيدي المسلمين أنفسهم ، و لكنّ عصر (عثمان) شهد على خلاف عصر (علي) قمة التضحية في سبيل حقن دماء المسلمين و المقاومة إزاء جاذبية كرسي الحكم ، حيث منع الخليفة حراسه من أن تسفك بسببه قطرة دم مسلم بعد أن اجتاح المتآمرون المسلمون صحن داره و دخلوا منزله و هو يقرأ القرآن .. أما في عصر (علي) فلم يُقدّم أيّ جانب تنازلات للآخر حقناً لدماء المسلمين و لا نزل أيّ جانب الى معاناة الواقع الذي عاشته الامة برمّتها .. صحيح أنّه كانت هناك قضية عادلة و كان هناك ظالم و مظلوم ، و لكنّ الواقع المرير كان يطحن عامة المسلمين كلّ يوم ألف مرة و الحل كان بحقن الدماء مهما كان الثمن .
دكتور هوار محمد سعيد بلو



#هوار_محمد_سعيد_بلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام .... الجزء الثاني
- إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام ... الجزء الأول


المزيد.....




- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...
- حادث مروع يودي بحياة 3 ممرضات في سلطنة عمان (فيديوهات)
- تركيا.. تأجيل انطلاق -أسطول الحرية 2- إلى قطاع غزة بسبب تأخر ...
- مصر.. النيابة العامة تكشف تفاصيل جديدة ومفاجآت مدوية عن جريم ...
- البنتاغون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ ...
- مصادر: مصر تستأنف جهود الوساطة للتوصل إلى هدنة في غزة
- عالم الآثار الشهير زاهي حواس: لا توجد أي برديات تتحدث عن بني ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - هوار محمد سعيد بلو - إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام .. الجزء الثاني