أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - رياض الصيداوي - صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، الدولة 23 والأخيرة















المزيد.....


صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، الدولة 23 والأخيرة


رياض الصيداوي

الحوار المتمدن-العدد: 1880 - 2007 / 4 / 9 - 10:57
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


د- الاستيلاء على أجهزة الدولة ونجاح الثورة

يعد العامل الأخير، أي نجاح الثورة واستيلاء المعارضة على أجهزة الدولة، آخر مرحلة في عملية الانتقال الثوري. وهو عامل غائب إلى حد اليوم. حيث يعتبر حصوله مسألة شبه مستحيلة نظرا لأن الجيش الجزائري أو أي فريق هام منه لم يخن دولته ولم يبق محايدا تجاه الصراع القائم.
إذن، ليست هناك "نتيجة ثورية" في الجزائر رغم وجود "وضعية ثورية" حسب نموذج شارلز تيليز فما الذي يمكن أن يحدث في المستقبل؟


الفصل السادس

سيناريوهات المستقبل

يعد الاستشراف المستقبلي عملية تكهن لما يمكن أن يحدث في المستقبل انطلاقا من تحليل تطور الصراع في الماضي والمؤشرات التى تتوفر كإشارات مبكرة لما يمكن أن يفرزه المستقبل. هي مغامرة ذهنية تعتمد على كثير من المعطيات الموضوعية وعلى الأرقام وعلى بعض نظريات علم الاجتماع التي أثبتت تكرارها عبر التاريخ.
تزداد هذه المغامرة صعوبة حينما يتعلق الاستشراف بالجزائر. ولقد أخطأت الولايات المتحدة الأمريكية وخبراءها السياسيين مثلا خطأ فادحا حينما اعتقدت أن وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ أمر حتمي.
يمكننا مناقشة أربعة سيناريوهات ممكنة. وهي كالتالي:
1- وصول الإسلاميين إلى السلطة؛
2- عودة النظام إلى النهج التسلطي؛
3- دقرطة الحياة السياسية؛
4- تواصل الحرب الداخلية لمدة طويلة.


1- وصول الإسلاميين إلى السلطة

تبنت هذا السيناريو دراسة إستراتيجية أمريكية وجدت رواجا كبيرا في مختلف وسائل الإعلام العالمية بما فيها الإعلام العربي. كتب هذه الدراسة غراهام فولر Graham Fuller بطلب من جهاز استخبارات "القوات الجوية الأمريكية". غراهام فولر، خبير إستراتيجي مختص في الوطن العربي، وعضو سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA ، نشر تقريره في شكل كتاب تحت عنوان "الدولة الأصولية القادمة" . تطرق فيه إلى الأزمة الجزائرية محللا ومستنتجا ليصل إلى تأكيد بأن وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الحكم هي مسألة وقت ليس أكثر. وتنبأ بأن سياسة الردع التي ينتهجها النظام الحالي ستؤدي لا محالة إلى سقوطه إن آجلا أو عاجلا. ويعتقد أن النظام سيعجز على المدى الطويل في إدارة الأزمة. وحتى تتجنب الجزائر هذه النتيجة يطرح حلين للخروج من بوتقة الصراع.
أولا: يطلب من الجيش أن يتصالح مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة ويتقاسم معها السلطة في إطار اتفاق سياسي أمني لا يمر من خلال آلية انتخابات ديموقراطية.
ثانيا: يدعو إلى انتخابات شاملة تشارك فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
ويعتقد غراهام فولر أن انتصار ديموقراطي للجبهة في الانتخابات سيجعلها ملزمة تحت الضغوط النفسية والأخلاقية باحترام التداول على السلطة والتخلي عن الحكم في صورة ما خسرت الانتخابات. ومن هنا، يتوقع أن تخسر الانتخابات الموالية. وفي كل من الحالتين ستفقد الجبهة صفتها الأسطورية لتعود حزبا عاديا كبقية الأحزاب.
إن أهمية هذا الطرح لا تكمن في كونه استشراف مستقبلي دقيق بقدر ما تكمن في أصول المؤلف الذي تشكلت خبراته اثناء عمله في وكالة المخابرات الأمريكية. إنه يعكس بصورة ما العقل المفكر في هذا الجهاز على مستوى توجهاته وتطلعاته.
أما مدى صحة هذا السيناريو وإمكانية حدوثه، فإن تطور الأحداث من سنة 1995 إلى اليوم بين أن الإسلام المسلح قد فشل وأن "الوضعية الثورية" التى اكتسبت في السابق في طريقها للتلاشي نهائيا. يشهد على هذا الرأي بروز تطورين هامين.

أولا: انشقت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى فصائل عسكرية غير ممركزة القيادة فتصارعت فيما بينها. كما انشقت القيادة السياسية في الخارج بين أنصار رابح كبير في ألمانيا وأنصار أنور هدام في الولايات المتحدة الأمريكية. تكاد الجبهة تكون قد انتهت كحزب منظم ومهيكل ومتماسك في الخارج. والأهم من ذلك تفككها الكامل في الداخل سواء بفعل الضربات الأمنية الشديدة أو بفعل انشقاقات تنظيماتها العسكرية. فالجماعة الإسلامية المسلحة "كفرت" الجبهة واعتبرتها خارجة عن الشرع والإسلام، بما في ذلك الشيخين عباسي مدني وعلي بن حاج. نضيف إلى كل هذه العوامل تشجيع النظام للإسلام الإخواني المعتدل الذي تمثل في خلق حماس بقيادة محفوظ نحناح كبديل عن الجبهة أو حتى حركة النهضة بقيادة آدمي التى انحازت مؤخرا للتحالف الحاكم ورشحت عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجزائر. لقد استطاع الجيش الجزائري أن يخلق بديلا للجبهة الإسلامية للإنقاذ.

ثانيا: نجح الجيش الجزائري في حماية نفسه من مخاطر التفكك الداخلي وفرض قواعد جديدة للعمل السياسي في البلاد. تمكن من عزل الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومن إدخال أغلب المعارضين السياسيين في لعبة الديموقراطية التى احتواها بنجاعة. والأكثر من ذلك تمكن من تحييد الجيش الإسلامي للإنقاذ وإبرام معاهدة سرية معه وصلت بهما إلى التنسيق العسكري الميداني لمحاصرة الجماعة الإسلامية المسلحة.

يبدو واضحا فشل خبراء الإستراتيجية الأمريكيين في التنبؤ بتطور الأحداث في الجزائر. هذا الفشل تكرر مرتين. فشلوا في المرة الأولى في التنبؤ بالثورة الإسلامية الإيرانية مما أحدث صدمة لدى علماء السياسية والاجتماع الأمريكيين فانكبوا على دراسة الحركات الإسلامية، آليات عملها وآفاق نجاحها. تحت هذا التأثير بالشعور بالفشل، سارعوا وتنبؤا بنجاح ثورة إسلامية في الجزائر حتى يتداركوا أخطاؤهم الأولى. أصبح الفشل مزدوجا. حيث تفطنوا مؤخرا إلى تسارعهم في الحكم على الوضع في الجزائر وبدأوا في التراجع والبحث عن أسباب جديدة لهذا الفشل .

2- عودة النظام إلى النهج التسلطي

يبدو صعبا جدا، إن لم يكن مستحيلا، إمكانية عودة النظام الجزائري إلى نمط الحكم الذي كان سائدا قبل أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988. فالشعب الجزائري قطع أشواطا طويلة في العمل الديموقراطي وحرية الصحافة (خاصة الصحافة المكتوبة). لقد اكتسب ثقافة المشاركة السياسية وأصبح لا يخشى تسلط الحكم وبطشه. فرغم الحالة الأمنية الصعبة التي تعيشها البلاد، فإن كثيرا من فئاته تنزل إلى الشارع لتنظيم الاحتجاجات الشعبية وتقديم مطالبها للحكومة. كما ساهمت النقابات والجمعيات في ترسيخ هذا السلوك الجديد.
يتميز النظام الجزائري، كذلك، بميزة أساسية تميزه عن كافة الأنظمة العربية الحاكمة. إذ لا يوجد فيه زعيم أوحد، أو قائد عسكري أبرز. فالسلطة موزعة على أفراد وتكتلات عسكرية أو مدنية تعيش حالة صراع مزدوج داخلي فيما بينها وخارجي ضد خصومها. إن عدم وجود حاكم قوي مطلق النفوذ يمنع بشكل عملي عودة النهج التسلطي في تسيير شؤون البلاد.

3- دقرطة الحياة السياسية

يشبه حال الجزائر اليوم حال فرنسا إبان ثورة 1789. فهي تدفع ضريبة باهضة من دم أبنائها ولكنها تتجاوز أيضا كل الأنظمة العربية على مستوى واقع الديموقراطية فيها وإمكانية انطلاقه نحو الأفضل فيصبح التداول على السلطة مسألة طبيعية تتم عن طريق صناديق الاقتراع وليس من خلال القوة أو الوفاة الطبيعية للقائد.
إن الإشكال المطروح الآن يتمثل في عدم وجود ثقافة التداول الديموقراطي على السلطة لدى الأحزاب في الجزائر أو حتى في كل أرجاء الوطن العربي. نلاحظ باستمرار الحضور القوي للفكر الكلياني (La pensée totalitaire) من قومي عربي أو وطني أو ماركسي أو إسلامي. يسجل غياب شبه كلي لفكرة التعايش السلمي بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة ولإمكانية التداول على السلطة بشكل سلمي. إن غياب ديموقراطيين حقيقيين في السلطة أو المعارضة يهدد مباشرة التطلعات الشعبية نحو حياة ديموقراطية فعالة.
بالنسبة إلى الحالة الجزائرية، نرصد بعض المؤشرات الإيجابية التي تبشر بإمكانية الدقرطة الكاملة على مدى طويل. لعل أبرزها:
1- ضعف مؤسسة الرئاسة. وبالتالي استحالة شخصنة السلطة وما يتبع ذلك من إعاقة للعملية الديموقراطية.
2- توزع السلطة والنفوذ على كثير من ضباط الجيش دون أن يكون لواحد منهم تفوق كبير على زملائه.
3- اكتساب تجربة المشاركة السياسية لدى بعض الأحزاب التي "تمارس السلطة". وهم: التجمع الوطني الديموقراطي، جبهة التحرير الوطني، حمس، حركة النهضة، إلى جانب جمعيات ونقابات عديدة. فرغم دورانهم في فلك المؤسسة العسكرية، لكنهم يمثلون واجهة مدنية تعددية جنبت الجزائر حكم الحزب الواحد. سينسحب الجيش على مدى بعيد من الحياة السياسية وستتوزع السلطة على أحزاب كثيرة. وهو ما سيساعد العملية الديموقراطية على النضج.
4- بروز صحافة مكتوبة ومتصارعة فيما بينها (تعكس توازنات وصراعات أجنحة السلطة المدنية أو العسكرية) توفر إطارا هاما للنقاش والحوار السياسى الذي يمكنه أن يساعد على ترسيخ التجربة الديموقراطية.

4- تواصل الحرب الداخلية لمدة طويلة

هذا السيناريو متوقع. يمكن أن تستمر الحرب الداخلية سنوات أخرى عديدة. حتى ولو تمت عملية مصالحة كبرى مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. بل حتى ولو حكم عباسي مدني الجزائر. فالحرب تغذيها عناصر أخرى جديدة مستقلة تماما عن الجبهة المنحلة. إن شباب الجماعة الإسلامية الذي يبلغ سنه اليوم 18 سنة يعني أن عمره سنة 1989 (سنة تأسيس الجبهة) لم يكن يتجاوز 8 سنوات. هذا الجيل المقاتل ليست له أية علاقة بعباسي مدني أو علي بن حاج. هو جيل متمرد أصلا على الدولة بقطع النظر عن إيديولوجيته أو إيديولوجيتها. لم يجد له مكانا في المجتمع. تحركه أوهام البطولات. فكل محارب للدولة إلا واعتبره التراث بطلا. تغذيه الأزمة الاقتصادية المستفحلة وعمليات التفقير الواسعة التي يتعرض إليها الشباب. فعندما يلجأ إلى التمرد المسلح يحقق ذاته عن طريق قوة السلاح بعدما عجز عن ذلك عبر التنافس الاجتماعي الاقتصادي السلمي.
لقد عاشت أمريكا اللاتينية نفس التجربة، لكن بوجه ماركسي، واستمرت الحرب فيها بين الجيش والعصابات الماركسية المسلحة لمدة عقود من الزمن دون غالب أو مغلوب. الجيش يسطر على المدن والثوار يهيمنون على الريف والفلاحين. حدث ذلك في البيرو والهندوراس وغواتيمالا وكولومبيا...ساعدت الطبيعة الجبلية الوعرة الثوار على الاستمرار.
من المؤكد أن الصراع في الجزائر سيكون على مدى طويل لصالح الجيش. لأنه يمتلك مصادر الريع النفطي الضخمة. ثم لأنه تكيف مع حرب العصابات الجديدة فتطورت عقيدته القتالية وتدريبه الميداني من جيش ثقيل يقاتل جبهويا إلى مفارز متمرسة على حرب العصابات. أدرك هذه الحقيقة كثير من القياديين الإسلاميين الذين دعوا إلى التحاور ووقف القتال وعبروا عن استعدادهم لقبول حل سلمي ينهي الاستنزاف الذي تعيشه الجزائر. تبنى هذه النتيجة أغلب قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بمن فيهم عباسي مدني...أما المقاتلون، فقد استوعب مدني مزراق هذه المعادلة: وهي أن لا انتصار عسكري في مواجهة جيش منظم لم يتفكك عقده وإنما اصلب عوده مع مرور الزمن. بادر مزراق، ومن جانب واحد، فأعلن وقفا كاملا لإطلاق النار حتى يوفر فرصة للمصالحة. لقد أدرك المقاتلون في الميدان أن حلم انتصار "ثورة إسلامية" انتهى وبالتالي يجب حقن دماء المسلمين. فلا تتكرر تجارب أمريكا اللاتينية على أرض الجزائر...وتنصرف إلى البناء والتشييد.


الخـــــــاتمـــــــــة

لقد توصلنا في بحثنا هذا إلى نتيجة أساسية وهي أن عامل الصراع السياسي ـ العسكري كان حاسما في وصول جبهة التحرير الوطني إلى مرحلة الضعف والتقهقهر والانكماش الذي تعيشه اليوم. كما ساهم بطريقة غير مباشرة في انقسام النخبة الحاكمة الشديد الذى أدى الى إقالة بن جديد وتفكك التحالف التاريخي بين المؤسسة العسكرية/مؤسسة الرئاسة/الحزب.
إن الأزمة الحقيقية بدأت عندما انهار التوازن لصالح الجناح العسكري فانهارت معه الجبهة كنموذج "ثوري" يمكن أن يقدم إلى العالم أدبيات جديدة في القدرة على اندماج القوات المسلحة في التنظيم السياسي، وإنهاء التمييز المتعارف عليه بين العسكري والسياسي، ومن ثمة إثبات فرضية إمكانية تأسيس جيش شعبي نابع من الشعب، ملتحم به، دون وجود حدود فاصلة. لقد فشلت تجربة الاندماج بين العسكري والسياسي في الجزائر، وانتهت إلى انقلاب الأول على الثاني، ثم إلى إزحاته صراحة عن كل أجهزة الحكم الفعلية، فلم يترك له إلا كل ما هو صوري.
لذلك، يمكن اعتباره ـ الصراع ـ المسؤول الأول عن تمزيق جبهة التحرير، وإضعافها وجعلها "جسدا بدون روح" ثم التخلص منها حينما لم تعد تقدم الغطاء اللازم للجيش. فكان محددا في مسيرتها وفي النهاية التي وصلت إليها.
وشاركت الصراعات الأخرى، في تفتيت الجبهة واضمحلالها. فكان غياب مذهب إيديولوجي موحدا للمناضلين سببا في انشطارها حينما انتهت مهمتها التحريرية باستقلال الجزائر وحلت محلها مهمة ممارسة السلطة وتنفيذ البرامج والأفكار.
وساهم انعدام الوحدة الثقافية اللغوية، في تغذية الصراع. كما شهدت الجبهة صراعا إثنيا، وصراعا آخر جهـويا، شـاركا بدورهما في ظهور هيمنة إثنية جهوية أفقدت الجبهة مصداقيتها في ادعائها التعبير عن كل فئات الشعب الجزائري بدون استثناء.
يمكن تلخيص نتائج الصراعات المتعلقة بجبهة التحرير الوطني وحقيقة الهيمنة في الجدول التالي:

جدول رقم (19) نتائج الصراعات (1954/1989)
المهيمن
المهيمن عليه
الجيش السياسيين
الاشتراكيون الليبيراليين (إلى منتصف الثمانينات)
الإسلاميون اللائيكين
دعاة التعريب دعاة الفرنسية
العرب ـ الشاوية القبايل
الشرق الغرب

إن قراءة باحثة، مدققة في هذا الجدول تدفعنا إلى محاولة إيجاد علاقة بين أطراف الصراع، تكون بمثابة استنتاج عام لكتابنا.
هذه العلاقة تكمن في الرابط بين الجيش وبقية المهيمنين (اشتراكيين، إسلاميين، دعاة التعريب، العرب، الشاوية، الشرق). فإذا كان الجيش أقوى مؤسسة احتكرت كل السلطات ومواقع القرار وهيمنت على الجميع، فذلك يعني بالنتيجة أن هذه المؤسسة كانت بدورها خاضعة لبقية المهيمنين، أي أن الجيش كان في يد الاشتراكيين الاسلاميين، دعاة التعريب، العرب والشاوية، القادمين من الشرق، مع وجود بعض الاستثناءات التي لا تجعل القانون مطلقا، بل تتركه نسبيا ككل العلاقات المكتشفة في العلوم الاجتماعية.

لقد عبرت الفترة التي حكم فيها بومدين (1965-1978)، أحسن تعبير عن هذا المشهد السياسي، وحينما توفي، وبدأت بعض المعطيات القديمة تتغير ببطء داخل الجيش، مثل تزايد نفوذ ضباط الجيش الفرنسي، وظهور نزعة ليبيرالية اقتصادية لدى ضباطه، وعودة بعض القبايل إلى الصفوف الأولى... نتج عن كل ذلك ابتعاد تدريجي عن المشهد السياسي القديم وصل إلى حد القطيعة مع جبهة التحرير الوطني، وبحثه عن أحزاب وشخصيات ومنظمات أخرى توفر له الغطاء السياسي. فكان التغيير مرة أخرى من داخل الجيش الماسك الحقيقي للسلطة.
وأصبحت الجبهة اليوم مجرد حزب مشارك مع أحزاب أخرى تحالفت مع المؤسسة العسكرية. فتارة يبحث لنفسه عن موقع من خلال تنسيقه وتقربه من الجبهة الاسلامية للإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية، وتارة أخرى، كما هو الحال اليوم، يعمل على التقارب من السلطة بعد أن أزيح الشق المتشدد بقيادة عبد الحميد مهري واستبدلت قيادته بمجموعة مقربة من الجيش على رأسها بوعلام بن حمودة . وهو حزب لا يضم إلا بعض القادة التاريخيين الذين فقدوا السلطة الإدارية والانتشار الجماهيري، ولكنهم تشبثوا بالعمل السياسي.
فقد انسحب منه كثير من الإداريين والبيروقراطيين المنتفعين من وجوده في السلطة وانضموا للتجمع الوطني الديموقراطي ، الحزب الجديد الذي شكله الرئيس اليمين زروال لمساندته في الحكم، فلم يعد يمثل إغراءا للتسلق الوظيفي وخدمة المصالح الشخصية.
كما قاطعته الأجيال الشابة التي تمثل 65% من الشعب الجزائري، وهي تعتقد في شهائدها العلمية وكفاءاتها المهنية أكثر من اعتقادها في أسطورة الثورة التي صنعتها جبهة التحرير.
لقد انتهت الجبهة في الواقع منذ سنة 1962 سنة حصول الجزائر على استقلالها، فهي نشأت من أجل تحرير الجزائر، وجمعت في صلبها تيارات سياسية مختلفة، وفئات اجتماعية متناقضة، وأجيال متباعدة... اتفقوا على حد أدنى جمعهم لطرد المستعمر من وطنهم، وبمجرد تحقيقهم للهدف الذي عملوا واجتمعوا من أجله، يكون مفهوم الجبهة قد انتهى ليترك مكانه إلى مفهوم التعدد والتنوع والاختلاف ليس في إطار الأفكار فحسب، وإنما في مجال التنظيمات والأحزاب والجمعيات المستقلة بعضها عن بعض. كان يمكن لآلية ديموقراطية أن تجعل الصراعات بناءة، وتنقذ الجزائر من الأزمات السياسية العنيفة التي شهدتها في الماضي وتشهدها اليوم.

لكن الإنصاف العلمي يدفعنا إلى الاعتراف بأن بعض عوامل الصراع التي مزقت الجبهة لم تكن من ابتكارها الخاص، فهي موروثة ومورثة.
ورثتها عن حركة انتصار الحريات الديموقراطية، التي عاشت صراعا واضحا بين جناحها العسكري "المنظمة الخاصة"، وجناحها السياسي في قيادة الحزب، وصراعا بين تياراتها الايديولوجية المتعددة، وصراعا إثنيا بين القبايل من جهة والعرب من جهة ثانية. لقد ورثت منها "الشعبوية" التي يعرفها محمد حربي على أنها "نمط في ممارسة السلطة يعتمد على نفي الصراع الاجتماعي وعلى مغالطة العامة" .
ثم ورثتها إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي تحاول أن تقدم نفسها كمشروع سياسي ـ اجتماعي كلياني، يكون بديلا عن جبهة التحرير الوطني، ويؤسس "لنموذج جديد راق"، يخلص الجزائر من أزمتها السياسية والاقتصادية، في حين أنها ورثت نفس بذور النزاع الداخلي.
فهي شعبوية، ومنقسمة إلى جناح سياسي، أغلب قادته في السجن (عباسي مدني، علي بن حاج) أو في المنفى (أنور هدام، رابح كبير) من ناحية، وجناح عسكري يمثله "الجيش الإسلامي للإنقاذ" من ناحية ثانية. وكثيرا ما يطرح الباحثون في الأزمة الجزائرية السؤال حول مدى سيطرة الجناح السياسي على الجناح العسكري، الذي شرع في الاستقلال التدريجي عن قيادته السياسية0

وتتنازعها صراعات فكرية بين تيار الجزأرة (المؤمن بإسلام سياسي خاص بالوطن الجزائري)، والتيار الإصلاحي (المطالب بإصلاحات مرحلية)، والتيار السلفي (الرافض لكل أنواع التوفيق بين الإسلام والحداثة) . وتواجه رفضا كبيرا في منطقة القبايل، وانتشارا أكثر في الشرق. ومن ثمة فإن عوامل الصراع في الجزائر، تكاد تكون في بعض جوانبها موضوعية، أي مستقلة نسبيا عن المؤسسة السياسية التي تخترقها فجذورها ممتدة في المجتمع الجزائري نفسه.
وهو ما أكده تطور الأحداث، في الجزء الثالث، حينما عصفت الأزمة الحالية بالجزائر. لقد استنتجنا من خلال هذا الجزء أن الانقسام الذي شهدته النخبة الحاكمة مكن المعارضة الإسلامية من استغلال هذه الفرصة السياسية النادرة. كما توصلنا إلى حقيقة مفادها أن الجيش الجزائري تمكن، رغم كل الاعتراضات الأخلاقية التي قد تواجهه، من الحفاظ على وحدة النخبة الحاكمة من جهة ومن توجيه ضربات شديدة للمعارضة الإسلامية من جهة أخرى. لقد تمكن من زرع الفتنة داخل صفوفها وتمزيق وحدتها. فأكد بذلك ومرة أخرى هيمنته التاريخية على المجتمع والدولة في الجزائر.
يبقى أن دراستنا استنتجت استحالة وصول الجبهة الأسلامية للسلطة لأنها شبه منتهية تنظيميا. كما أن العودة الى الحكم التسلطي مسألة صعبة جدا لأن الشعب الجزائري أبدى نضجا عميقا في وعيه بالحرية وبإمكانية التشارك والتداول على السلطة. أما السيناريو الثالث المتمثل في الدقرطة السياسية فهو ممكن الحدوث ولكن ذلك يتطلب وقتا، لأنه يستفيد من عدم وجود زعيم أوحد في البلاد يمكنه شخصنة السلطة ومنع الديموقراطية من الحدوث. أخيرا يبدو أن الحرب الدائرة اليوم ستستمر لوقت طويل نظرا لعوامل جغرافية وبشرية وسياسية مساعدة. فالجبال والأدغال في الجزائر تتيح مثل هذه الحرب وتوفر إمكانية استمرارها كما أن الإسلام المسلح أثبت قدرته على الاستقطاب والتعبئة. كل ذلك ساهم في تواصل المأساة.

ريـاض الصيـداوي
صيف 1999 جنيف
الكتاب: صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر، الحزب، الجيش، الدولة، المؤسسة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 1999



#رياض_الصيداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر:الحزب، الجيش، الد ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية: الحزب، الجيش، الدولة 13
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، ا ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، ال ...
- صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب ، الجيش، ا ...


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - رياض الصيداوي - صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر: الحزب، الجيش، الدولة 23 والأخيرة