أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يوسف هريمة - علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية















المزيد.....


علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية


يوسف هريمة

الحوار المتمدن-العدد: 1857 - 2007 / 3 / 17 - 12:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يندرج هذا الموضوع قيد الدراسة في سياق المقالات النقدية للفكر الديني عموما، والإسلامي منه على وجه الخصوص. وهذه الدراسة تنبني على قاعدة نقدية ليس هدفها الانتصار إلى الذات أو مواقف معلنة مسبقا. وإنما ترتكز على ما تعتبره أخطاء منهجية وعلمية في بنية العلوم المؤسسة للفكر الإسلامي. وإن كانت مسألة التحيز في العلم أمرا كبيرا لا يستطيع الباحث مهما تحرى الموضوعية و العلمية أن يستوفيها حقها، أو يتجاوز بعض عراقيلها. ولكن أملنا كبير في أن نسلك طريقا نتوخى من خلاله وضع الأصابع على الداء، وإن كان هذا الطريق وعر وصعب نظرا للسياجات المعرفية، والقداسة المسبقة التي تحيط بعلوم الدين عموما.
إن طريق الإصلاح طريق لا يمكن أن يحقق غاياته وأهدافه من خلال شعارات براقة، أو دفاع غير مبرر عن هذا الاتجاه أو ذاك. ولكن الإصلاح منهج متكامل يراعي خصوصيات الزمان والمكان، وينفتح على الدرس الإنساني بعلومه ومعارفه المتطورة، ويكسر كل قداسة قد يلبسها هذا الاتجاه أو ذاك بغية الحفاظ على قداسته، أو مآربه الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وهو إصلاح يستهدف أيضا دراسة هذه العلوم من خلال بنيتها وبمنطقها نفسه. فإذا كانت هذه العلوم قد أسّْسَت على ما هو علمي فستكون بنيتها الداخلية ثابتة ثبوت الراسيات، لا يحركها نقد، ولا يؤثر فيها ريح أي مقاربة تستهدف المساس من قداستها. وإذا كانت هذه العلوم قد أسستها المؤسسة الدينية بقواعد وأصول وضوابط مبنية أساسا على القمع الفكري، واحتقار العقل الإنساني والنيل منه عن طريق شرعية مزورة، فستذهب هذه المقاربة الدينية جفاء بمجرد رمي حجر في مائها الراكد حينا من الدهر.
أعتقد أن هذه المقدمة الموجزة والمركزة حول أزمة الفكر الديني، مهمة من الناحية المنهجية ونحن نتناول قضية لها خطورتها وتجلياتها على الواقع الديني بكل إفرازاته. فعلم الحديث شَكَّلَ ولا زال يشَكَل مركزية مهمة في كل القراءات، التي تتناول الدين من قريب أو من بعيد. وأصوله وضوابطه لا زالت تخيم على الفكر المؤسس لبنية الفكر الديني المعاصر رغم تطور العلوم، ورغم تقدم المقاربات الإنسانية المختلفة.
يأتي حديثنا عن هذا العلم الضارب في عمق الذاكرة الإسلامية في هذا السياق المتشعب الأطراف، وتتميما أيضا لما قد كنا كتبناه في وقت سابق حول:" خدمات السنة للقرآن ". إضافة إلى البعد القدسي الذي يحتله هذا العلم، باعتباره على مدى عصور طويلة خصيصة من خصائص هذه الأمة بها قامت وبها ستقوم، كما يردد مفكرونا وعباقرتنا في كل مناسباتهم ومؤتمراتهم وقنواتهم الإعلامية الرسمية وغير الرسمية.
إن خطورة مثل هذه المقاربة الدينية للنص الديني كما سيأتي بيانه، تتجلى في كونها مقاربة احتكارية لا تخضع لضوابط علمية، بقدر ما تخضع لمنطق الشرعية المكتسبة أساسا من المؤسسة السياسية المتجلية في التواطؤ المكشوف بين ما هو ديني وسياسي. والثقافة الروائية التي أنتجتها هذه العلوم هي أحد أهم الأدلة على صدق أو بطلان ما سنقوله. فالإنسانية رشدت واكتمل بلوغ عقلها، ولن تحتاج مجدَّدا إلى من سيملأ عقلها بثقافة الرواية بكل تجلياتها، لأن ظروف العصر قد تغيرت، والمناخ الذي احتضن هذه العلوم قد أصبح آيلا للسقوط إن لم نقل قد سقط بالفعل، نتيجة الهوة الحضارية التي أسقطت فيها هذه العلوم الركب الإسلامي وحضارته.
ومحاولة منا الخروج من أسر ثقافة أثرية نقوم بهذه الدراسة النقدية لأهم القواعد المؤسسة لعلم مصطلح الحديث، لنرى مدى علميتها من عدمها، وصدقها من بطلانها، عبر محاكمتها لمنطقها نفسه، ومحاكمتها للقرآن باعتباره أحد الأصول التي تزعم هذه العلوم القيام عليه. وستكون مقاربتنا لهذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
1- القرآن ومفهوم السنة:
قالوا زمان:" كل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك ".
و قد صدق من قالها وإن كان الأمر قد ورد في سياق مغاير لما نحن بصدد دراسته. إلا أن هذا القول يوحي حقيقة بأزمة الفكر الديني والعلوم الدينية. فما من علم أسَّسَه القدماء تحت وقع ظروفهم وسقفهم المعرفي، إلا زعموا أن القرآن أحد الأصول المركزية في هذا البناء. وبالتعمق في مثل هذا الادعاء نجد القرآن قد وُظِّف توظيفا خطيرا لخدمة كل المشاريع التي كانت تهدف بالأساس إلى إثبات شرعيتها، عن طريق المرور من هذا الطريق الذي يمكنه أن يضمن لها البقاء والشرعية المزعومة.
ولفهم هذا المعطى الخطير في بنية العلوم الإسلامية، وعلى رأسها علم الحديث وما يتفرع عنه من علوم. نقوم الآن بمحاولة فهم مفهوم السنة التي يندرج تحتها هذا العلم، ومقارنتها بالمفهوم الذي أعطاه القرآن لهذه الكلمة. وذلك ليتأتى لنا الخروج من هذا التعميم الذي قد يلقي بظلاله الكلام النظري والمجرد.
عرفت المعاجم اللغوية السنة بأنها هي:" الطريقة والسيرة حسنة كانت أو قبيحة "1. وجميع معاني اللغة تنحو هذا المنحى في فهم هذه الكلمة. إلا أن هذا المفهوم اللغوي سيتحول إلى معنى ضيق في اصطلاح المحدثين ومن سار على دربهم، حيث أصبحت السنة تطلق على سيرة رسول الله من قول أو فعل أو صفة خلقية راجعة إلى طبائعه النفسية في حالة الرضا والغضب، سواء كان قبل البعثة أو بعدها.
وبهذا المفهوم الاصطلاحي صارت السنة واجبا متبعا تحكمه مجموعة من الروايات الأثرية المنسوبة إلى الرسول، والتي تتحدث عن كل ما يندرج تحت مسمى السنة باصطلاح المحدثين.
أما الفقهاء فقد كانوا أيضا متأثرين كما قلنا في مقالة سابقة بعنوان:" العقل الفقهي اللغوي وأزمة الفقه الإسلامي "، بالمفهوم الضيق للفقه المرتبط بالأحكام الفقهية من واجب وحرام وغيرها من آليات الاشتغال الفقهي. فجاء تعريفهم للسنة يتناسب واختصاصهم العلمي فقد أطلقت على:" ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي أي ما ليس بواجب "2.
وهكذا نرى أن هناك تباينا في المفاهيم بين اللغة والاصطلاح، قد أملته ظروف اشتغال كل فريق والأدوات العلمية التي يشتغل بها. والكل كان في الحقيقة يوظف القرآن من أجل الانتصار إلى اتجاهه ومنطلقاته الفكرية. فهل فعلا تم التأسيس لمفهوم السنة في الثقافة الإسلامية انطلاقا من القرآن؟ أم انطلاقا من تأثيرات كل مدرسة والاتجاه الذي تتبناه؟.
استعمل القرآن لفظة السنة في العديد من مواضعه وسياقاته. وقد كان المعنى الملازم لهذه الكلمة يبين من خلاله أن الكون والتاريخ والنفس البشرية، وكل الأمور المرتبطة بالنسق الكوني تسري وفق سنن الله، ووفق نظامه القانوني المحكم غير المتأثر بالتغير والتبديل:" سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ". هذه السنن المبثوثة في الكون بما يضمن للإنسان أن يسير على بصيرة من أمره في كل مجالات الحياة، هي المحرك الأساسي لحركة التاريخ والحضارة، في نسق واضح يجنب الإنسان مغبة الخروج عن نسقها. لأن أي خروج لقوانينها حسب الطرح القرآني، هو خروج عن السير والنظام العامين في تركيبة هذا الكون:" وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ".
والسنن في القرآن ليس نسقا واحدا. وإنما هي أشكال متعددة منها ما هو متعلق بالسير العام للكون، ومنها ما هو مرتبط بحركة التاريخ وتركيبة النفس البشرية، وغير ذلك من الأمور. وتتميز هذه السنن بخصائص تميزها عن غيرها، لعل أهمها التتابع والاطراد في نسق واحد:" ولا تجد لسنتنا تحويلا ". والمعطى الثاني أن هذه السنن مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإنسان، فهي ملتصقة به غير بعيدة منه. فسنن التاريخ والمجتمعات تحكمها علاقة تأثير وتأثر بالنسق الإنساني بكل تجلياته:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".
وهكذا فالقرآن يطرح مفهوما نسقيا لكلمة السنة من خلال استعمالاته المختلفة لها. وهو مفهوم بعيد كل البعد عن كل المفاهيم الثقافية، المرتبطة بواقع الرواية وتأثيراتها المختلفة. وعليه لم يبق أي مبرر للقول بأن هذا المفهوم على الأقل قد أسس قرآنيا.
بقيت نقطة أخرى أود الإشارة إليها في هذا المقام، وقد كان المشتغلون بحقل الرواية يستمسكون بها في دفاعهم عن مشروعية علمهم، وهي كلمة الذكر التي ألصقوها إلى رواياتهم وادعوا أن الله حفظها بآية:" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ".
فإقحام مفهوم السنة حسب الاصطلاحات الثقافية في هذه الآية، هو تجاوز لمنطقية العلم الذي يفترض أن يدرس على الأقل كلمة الذكر كما وردت في سياقاتها القرآنية، وكما وردت داخل هذه الآية التي أرادوا من خلالها اكتساب الشرعية لعلمهم المحفوظ من الله حسب فهمهم. فالآية تأتي في سياق محاججة القرآن للمشركين لمن أنكروا بشرية الرسل فتقول:" وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ". فالقرآن من خلال هذه الآية يقرر بشرية رسل الله ويطلب سؤال أهل الذكر لمن لا يعلم هذا الأمر. وأهل الذكر حسب نصوص القرآن هم من تحملوا تذكير الناس ببشرية الرسل التي نقلتها عنهم الكتب الدينية بمختلف مستوياتها. فحسب القرآن ما أنزل على موسى هو ذكر:" ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين "، والإنجيل بهذا المعنى أيضا ذكر كالتوراة والقرآن لأنه مصدق لما بين يديه من التوراة:" وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ".
وأيا كان فهمنا لكلمة الذكر وسواء كانت قراءتنا لها موفقة أو غير موفقة، فالذكر حسب نصوص القرآن لن يتحول بفعل ثقافة روائية تبحث لها عن الشرعية، إلى مفهوم السنة الثقافي الذي لم يؤسس قرآنيا على الأقل. وهذا خلط منهجي خطير، وتوظيف مغرض لمفاهيم الثقافة المتحولة وإسقاطها على القرآن من أجل اكتساب القدرة على الدفاع والبقاء.
2- الصحابة ومفهوم العدالة:
بعد أن رأينا التأسيس الخطير في بنية العلوم الإسلامية وعلم المصطلح على وجه الخصوص، نخلص بأن العلوم الإنسانية لم تؤسس على قاعدة قرآنية تسمح لنا على الأقل بالنظر إلى الأمور من زاوية علمية بحتة. نزيد الأمر تأكيدا ونحن نتناول قضية أخرى لها ارتباطات وثيقة بما مضى من الحديث. هذه القضية أسس لها أيضا صناع علم المصطلح، وزعموا أن القرآن كان ملهما لهم بدرجة من الدرجات في تأصيلهم لهذه القضية. فهل توفق هذه المرة مبدعونا في تمرير اللعبة أم لم يتوفقوا؟. هذا ما سنراه من خلال حديثنا عن عدالة الصحابة وخطورتها بالنسبة لمنهج يعتمد العلمية في بنيته كما زعم.
و قد أكدنا في مقالة سابقة ستنشرها مجلة الأسوة الحسنة الليبية في هذا الموضوع. أن هذه النقطة هي أمر مفصلي في علم الحديث. ولْنتوخى الموضوعية في تعاملنا مع هذا الموضوع الحساس، وإن كنا سَنُتَّهَمُ من هذا الاتجاه أو ذاك. فعدالة الصحابة أمر خطير ساهم في إنشائه فكر كان يتجاوز كل المعطيات الإنسانية والبشرية، ويتناسى العوامل المختلفة في بنية الإنسان من اجتماع واقتصاد وسياسة. وبهذا لن تكون عدالة الصحابة إلا واحدة من الأمور التي أنشأت الجمود الفكري، واحتضنت التقليد حين اعتبرت أن ما يصدر عن الصحابة وعصر الصحابة هو أمر قد جاوز القنطرة. وبذلك سمحت لكل الآراء المحملة باللامعقول، والبعيدة عن خدمة ومصلحة الإنسان أن ترسخ جذورها في الفكر الإسلامي، دون أي نقد أو تفكيك لبنيتها تحت مسمى العدالة المطلقة.
وأنا هنا لا أنطلق من حقد على أحد من الصحابة كما تزعم الشيعة، أو أٌكابٍرُ لأجعل كل الصحابة في ميزان العدالة المطلقة كما يزعم أهل السنة. وإنما أريد من خلال إسقاط هذه النظرية المتلاشية أن أضع قضية لها خطورتها مثل هذه في سياقها التاريخي والبشري. فالصحابة بشر مهما أرادوا أن يجملوهم لنا أو يشوهوهم، تجري عليهم سنن الإنسان كما تجري على غيرهم. وإذا كانوا كذلك فلن نحتاج بَعْدُ أن نصنع منهم أناسا فوق التاريخ، فالكل يأخذ حجمه الطبيعي في زمان النسبية دون أن تكون لنا أي خلفيات أو مسبقات فكرية على هذا الطرف أو ذاك.
ولكي لا أخوض في اللغط الذي قد تسببه الروايات المختلفة المؤصلة لهذا الموضوع، أذهب إلى القرآن لنستمع إليه في موضوع الصحبة والصحابة، وكيف تعامل مع قضية قد تنسف بكل إبداع فكري يتجاوز عصر الصحابة أو حتى يستوعبه.
فقد أطلق القرآن الصحبة بمفهوم مباين لما تم تداوله في الدراسات الحديثية من:" أن الصحابة هم الذين آمنوا بالله دون غيرهم، وماتوا على الإسلام"3. فقال في شأن الابن ووالدين مختلفين في الاعتقاد:" وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ". وقال في شأن أصحاب الجنة:" قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " وقال عن دعوة محمد وقومه:" ما ضل صاحبكم وما غوى " " أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ".
وبناء على ما سبق، فالصحبة غير عاصمة من الزلل والخطأ والنسيان، وغير عاصمة من كل العوامل المتدخلة في التركيبة الإنسانية. فالإنسان يصدر منه الخير والشر، والصحابة جزء من هذه المنظومة. فمجتمعهم هو من كانت فيه السخرية من الناس والتنابز بالألقاب، والظلم بأشكاله المتعددة:" يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ". والكذب أيضا كان ملازما للإنسان حسب الظروف والعوامل، وهذا هو الإنسان بطبيعته وسجيته:" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ".وقد يكونوا جاحدين لنعم الله نسيانا أو عمدا، حتى في أصعب الظروف: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" .
وهكذا فمفهوما الصحابة والعدالة لم يؤسسا تأسيسا قرآنيا، وإنما أسسا من خلال الثقافة الروائية التي أسس لها علم المصطلح. فتم تغييب مجموعة من الحقائق التاريخية من هذا الاتجاه أو ذاك، وتم تمرير الأفكار والإيديولوجيات المختلفة باسم الصحبة وباسم العدالة.
ولو تجاوزنا أمر العدالة لسقطنا في قضية أخرى، مررها لنا هذا العلم بمنهجيته غير العلمية، وهي قضية الحفظ والضبط. حيث أصبحت العدالة توازي الحفظ والضبط، مع أنهما متباينان. فلرب عدل في أخلاقه حسب تصور العدالة الثقافي للمشتغلين بالرواية ضعيف الحفظ، غير ضابط لما يسمع أو يقول. ناهيك عن مصدرية سماعه هذا، فالكثير من الصحابة كانت مصادرهم غير إسلامية بفعل التلاقح والتثاقف الحاصل بين الأديان، وبين مختلف مكونات الثقافة الإنسانية.
3- الاحتجاج بمراسيل الصحابة:
وهذا أحد التبعات الخطيرة لعدالة الصحابة، فقد أصبحت مراسيلهم عند العديد ممن أَصَّلوا لهذا العلم مقبولة دون ميزان أو فحص نقدي. ولكي نفهم الأمور أكثر لا بد لنا من تعريف عن هذا الاصطلاح الحديثي، فقد عرفه المشتغلون بهذا الاتجاه بأنه:" الحديث الذي انقطع إسناده من آخره أي انقطع فيما بين التابعي والرسول. وصورته أن يقول التابعي سواء كان كبيرا أو صغيرا قال رسول الله كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، أو نحو ذلك ".4
أما مراسيل الصحابة فتندرج ضمن هذا المفهوم العام للحديث المرسل. فهي رواية الصحابي لواقعة أو قول دون سماعها من المصدر نفسه، وإنما سمعها من جهة أخرى قد تم إسقاطها.
والحقيقة أن مثل هذا الإسقاط من الصحابي لمحل سماعه، شَكَّل ولا زال يُشَكِّل مثار جدل في موضوعية هذا العلم. إذ أن منطقية علم الحديث نفسه تنبني على الإسناد باعتباره ركيزة أساسية في نقل الأخبار. ولكن تَبَنِّي مفهوم العدالة والصحبة المؤسَّسَين أساسا على ثقافة الرواية قد خرق النظام العلمي الذي يزعم صناع العلم شرعيته.
فالعديد من الصحابة الذين اندرجوا تحت المفهوم الموسع للصحبة، كما أصَّل لها الروائيون لم يشهدوا العديد من الوقائع والأحداث والأقوال، لصغر سنهم كعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري ومحمود بن الربيع وغيرهم كثير. وهذا كيل بمكيالين وخلط منهجي كبير في بنية تزعم أنها تقوم على أسس السند والدقة في التحري. وهي تؤسس لمنهجية بعيدة عن كل هذا إذا اقتضى الأمر غير ذلك، وتحاول قدر الإمكان أن تحافظ على شرعيتها عن طريق التوظيف الإيديولوجي للقرآن والقراءات الاعتباطية له.
4- التدليس و تكريس الأزمة:
وهذه قاعدة أسس لها علم المصطلح، لكن ظل تطبيقها على أرض الواقع رهين النظرية بسبب المفهوم الخاطئ لما أشرنا له سابقا للصحبة والعدالة. فكان المفهوم الموسع للصحبة والعدالة، أزمة حقيقية مُرِّرَ منها العديد من الأمور غير العلمية وغير المعقولة، بالرغم من القواعد التي كانت تحاول أن تؤطر هذه المسألة. وقاعدة التدليس واحدة منها.
ويعني التدليس في عرف المحدثين:" التدليس قسمان: أحدهما أن يروي عمن عاصره ما لم يسمع منه موهما سماعه قائلا: قال فلان أو عن فلان أو نحوه. وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره لكونه ضعيفا أو صغيرا تحسينا لصورة الحديث ".5 وذكر هذه القاعدة هنا، كان من أجل النظر في إمكانية تطبيقها على المستوى الواقعي والفعلي على نصوص روائية. فقد ظل التنظير بهذه القاعدة كما قلنا سابقا، لا يجرؤ في الكثير من الأحيان تطبيقها على مسمى الصحابة، للأسباب المذكورة في محلها من هذا المقال. وسنأخذ مثالا على ذلك لنرى كيف كانت القواعد تقفز على حدود العلم، وتؤسس لمنطق الرواية ليأخذ مكانة الريادة والسبق في الثقافة الإسلامية.
وسنتحدث الآن عن تدليس الصحابة من خلال نموذج أبي هريرة، وقد روته الكتب المعتمدة في الرواية كصحيح مسلم:" فعن أبي بكر عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقص. يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنبا فلا يصم. فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث فأنكر ذلك. فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه. حتى إذا دخلنا على عائشة وأم سلمة فسألها عبد الرحمن عن ذلك. قال فكلتاهما قالت: كان النبي يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فذكر ذلك له عبد الرحمن فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول. قال: فجئنا أبا هريرة وأبو بكر حاضر ذلك كله. قال فذكر له عبد الرحمن فقال أبو هريرة: أهما قالتا ذلك قال: نعم. قال هما أعلم. ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل ابن عباس. فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. ثم قال الراوي أبو بكر قلت لعبد الملك: قالتا في رمضان؟ قال كذلك. كان يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم.".6
إن الرواية تكشف عن تدليس خطير قام به صحابي بنسبة الحديث إلى غير قائله الحقيقي، مع عدم إمكانية التأكد من صحة القول أساسا، على اعتبار أن الشخص الثاني الذي هو الفضل بن عباس شخص متوفى. فإذا كانت القواعد تمشي على كل واحد، ولا أحد يكبر أو يتجاوز تلك القواعد تحت أيَِّ مسمى، لانسحب الأمر على هذا الصحابي الذي أسس من خلال مروياته لمجموعة من السلط، التي قد يوفقنا الله مستقبلا إلى أن نشير إلى بعضها بنوع من التفصيل. ولعل أهمها التأسيس للنظام الحاكم والسلطة السياسية القائمة آنذاك من خلال مرويات وأحاديث تمشي في هذا الاتجاه. ثم تقعيده لمسألة القضاء والقدر بمفهومها الثقافي الخطير. ناهيك عن حرصه الأكيد من خلال مروياته على ربط أواصر الود والقرابة، بنقل المفاهيم اليهودية والمسيحية إلى الإسلام. تارة بالرواية المباشرة عن الرسول، وتارة بالتوظيف الخطير لنصوص القرآن، التي ستصبح في مفهوم هذا الصحابي شواهد على العقائد اليهودية المسيحية دون ميزان أو معالجة موضوعية للأمور.
وإليك مثال على صحة ما نقول: ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم:" وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ". 7
ولن أخوض في الارتباك الخطير في مجموع الروايات التي أسست لهذا المفهوم. فهي تارة تجمع بين عيسى وأمه، وتارة تنفرد بأحدهما مما يدل على التخبط والارتباك في رواية هذا الحدث. ولكن هذه الرواية تحمل مضامين على الأقل بعيدة عن المفهوم القرآني اتجاه عيسى وأمه. فهي قريبة من البعد المسيحي في التعاطي مع هذا الأمر الذي يعتبر مريم ذات طبيعة إلهية بولادتها المعجزة، وما عذراويتها الدائمة في العرف المسيحي عند بعض الطوائف، إلا دليلا على الطبيعة الخارقة لهاتين الشخصيتين. وهي عقائد تأثرت بالفكر الغنوصي أو الدوسيتي الذي كان يعتبر جسد المسيح جسدا خياليا كالذي للشبح، وليس جسدا حقيقيا. وهذا ما لم يؤثر في عذرية مريم وعدم افتضاض بكارتها حسب النصوص الأبوكريفية.
أما القرآن فقد كان موظَّفا لتمرير الرواية إذ الآية تقول:" إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.". فالرواية تريد أن تمرر بأن حفظهما من نخس الشيطان كان بسبب الدعاء. غير أن الدعاء في الآية كان بعد الوضع وليس قبله. إضافة إلى أن استهلال المولود بالصراخ، لا علاقة له بالدعاء أو غيره. وإنما هو دخول الهواء إلى رئتيه خارج عالم الحمل الذي مكث فيه تسعة أشهر.
عود على بدء:
إن البنية التأسيسية للعلوم الإسلامية في الكثير من الأحيان، كانت تؤسس على قواعد ثقافة العصر بكل تجاذباتها وتقاطعاتها. ولم تؤسس يوما على قاعدة القرآن. وهذا الأمر كان سيكون مستساغا من الناحية المنهجية، لو لم تزعم هذه العلوم أن أصولها بنيت على القرآن. ولكن الأمر كان ينحو باتجاه آخر، كان القرآن مجرد موظَّف في اللعبة الإيديولوجية من أجل اكتساب الشرعية والقداسة لهذه العلوم. ويبقى السؤال مطروحا في وضع منهجية جديدة مبنية أساسا على السقف المعرفي الذي وصلت إليه الإنسانية بمعارفها ومداركها.
على أن ظروف العصر تقتضي مناهج وعلوما أخرى في مدارسة الخبر والرواية بعيدة عن لعبة المصطلح، الذي ظل رهين التنظير والكلام المجمل بصفة العلمية وهو منها براء كما رأينا. وهدفنا من هذه الدراسة هو أن نلقي بحجر في ماء راكد، لتتحرك العقول في إطار ما هو نسبي فتبحث لها عن أطر جديدة، وقواعد تخدم في أبعادها الجوانب الإنسانية في عالم معاصر لا يعترف إلا بالجودة، ولا شيء غير الجودة:" أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء".
*- باحث بوحدة التكوين والبحث:" مستقبل الأديان والمذاهب الدينية في حوض البحر الأبيض المتوسط ".
1-انظر لسان العرب لابن منظور مادة سنن 3/2124
2- انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص 33
3- نزهة النظر لابن حجر ص: 88
4- نزهة النظر ص: 60
5- مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي 1/58
6- صحيح مسلم ح 75 كتاب الصيام/ باب من طلع عليه الفجر وهو جنب
البخاري ح 3431 كتاب الأنبياء/ باب قول الله تعالى:" واذكر في الكتاب مريم "7-



#يوسف_هريمة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأديان ومستقبل الإنسانية
- نزول عيسى مسيانية يهودية مسيحية في قالب إسلامي
- القرآن الكريم والتسلط باسم الدين
- ثقافة الشيخ والمريد وأزمة الفكر الديني
- العواصم الثقافية ورهانات المستقبل
- النص الديني بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف منشآت عسكرية إسرائيلية بال ...
- فتوى جديدة حول أخذ بصمة الميت لفتح هاتفه
- -بوليتيكو-: منظمات وشخصيات يهودية نافذة تدعم الاحتجاجات المؤ ...
- الأردن.. فتوى جديدة حول أخذ بصمة الميت لفتح هاتفه
- الاحتفال بشم النسيم 2024 وما حكم الاحتفال به دار الإفتاء توض ...
- قائد الثورة الاسلامية يستقبل جمعا من مسؤولي شؤون الحج
- فتوى في الأردن بإعادة صيام يوم الخميس لأن الأذان رفع قبل 4 د ...
- “أغاني البيبي المفضلة للأطفال” ثبتها الآن تردد قناة طيور الج ...
- القمة الإسلامية بغامبيا تختتم أعمالها بـ-إعلان بانجول- وبيان ...
- قادة الدول الإسلامية يدعون العالم إلى وقف الإبادة ضد الفلسطي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يوسف هريمة - علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية