أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أثير محمد علي - المودوبار بين سينما الجسد و -العودة- إلى روح المانشا















المزيد.....

المودوبار بين سينما الجسد و -العودة- إلى روح المانشا


أثير محمد علي

الحوار المتمدن-العدد: 1685 - 2006 / 9 / 26 - 07:23
المحور: الادب والفن
    


الجسد

إن التمرد على شواخص اللغة الفنية للشاشة الكبيرة، و الانفلات من الإسار الجنسي و الديني والاجتماعي هو ما يطبع جميع المراحل الابداعية للمخرج الاسباني بدرو المودوبار ككاتب سيناريو و كمخرج سينمائي.
لا يمكن حصر المودوبار بمدرسة أو بتيار فني واضح المعالم، ذلك أن السينما لديه هو ما قام بخلقه من أفلام.
لم يتردد المودوبار بمزج الأجناس الفنية، والتقنيات و الأساليب الجمالية المتنوعة، ففي مشاهده السينمائية تتناوب الميلودراما مع الكوميديا و التراجيديا، و تختلط مشابهة الواقع مع ما فوق الواقع، و يتجاور المنطق العقلاني للحدث مع اللامعقول، توحي الصورة بأنها نسخة طبيعية من الحياة اليومية إلا أنها لا تلبس أن تتجذر في فن البوب آرت، و تتماوج اللغة المنطوقة و البصرية بين الجد و الفكاهة و السخرية و الغروتسك، في حين أن القابل للتصديق ينبثق من المستحيل.
ولد بدرو المودوبار عام 1949 لأسرة ريفية متواضعة في إحدى قرى سهل المنشا، و عن عمر مبكر هاجر مع العائلة إلى مدينة كاثيريس Cáceres و هناك تابع دراسته و تلقى تعليمه الاعدادي و الثانوي في مدرسة دينية مما أفقده إيمانه بالله على حد تعبيره.
لم يكن قد تجاوز السابعة عشر عاماً عندما وصل الفتى القادم من فضاء مدن الأقاليم البعيدة إلى مدريد العاصمة، حيث تقلب هناك بين مهنٍ مختلفة قبل أن يستقر و لعدة سنوات للعمل كمساعد إداري في شركة الاتصالات الهاتفية، مما مكّنه من شراء أول آلة تصوير له، و كانت سوبر/8.
عاش المودوبار الشاب في الحاضرة الاسبانية بين فئات الحضيض، والتي سينقل، فيما بعد، بعض من ملامح شخوصها و شخصياتها إلى الشاشة الكبيرة.
تحت أسطح بيوت العاصمة وفي باراتها الليلية الواهنة كان القلق الإجتماعي و السياسي يجدّف بين الجدران، فقد كان جلياً مع نهاية عقد الستينات توق و استعداد الاسبان للتحول الديموقراطي، حتى قبل إعلان موت الجنرال فرانكو عام 1975، لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ اسبانيا التي شرعت تنزع عن كاهلها فلكلور الحداد و بطانة الكآبة المضادة للحياة.
مع نهاية السبعينات، ما بعد حكم الديكتاتور فرانكو، بدأ المودوبار بممارسة كتابة السيناريو و التي لايزال يعتبرها موهبته الأولى، كما كتب قصص بورنو مصورة و مقالات فنية لمجلات ما يعرف ب "الثقافة البديلة "، أو "الثقافة المضادة".
على امتداد عقد الثمانينات، و في ساعات متقدمة من ليل مدريد، خرج الشبان و الشابات فرادًا و مثنى و زرافات إلى الشوارع و الأزقة؛ تماوجوا في حانات الحداثة التي كانت تبدل ديكورها و تزيينات جدرانها و نور مصابيحها، بينما كانت تصدح في أرجائها الموسيقا الشبابية المستقلة، المهمشة رسمياً، و المضادة في إيقاعها و محتواها لتلك التي كانت تموّل عملية انتاجها و توزيعها الشركات العالمية.
خلال تلك المرحلة ظهر المودوبار كممثل بارز لما اصطلح على تسميته ب "الحركة المدريدية" La Movida Madrileña.
حراك شباب متمرد على "اسبانيا البالية"، على تحزّبات اليمين و اليسار، على "ثقافة النخبة"، على الإستلاب و على الجنس المقنّن ...، و لاقت هذه الحركة تعبيرها في الأساليب الفنية الجديدة التي بدأت تكتسح فنون الموسيقا و الرسم و التصوير الضوئي و الغرافيك و السينما.
رافقت اهتمامات المودوبار السينمائية في تلك السنوات ممارسة الغناء ك punk rocker.
الأشرطة التصويرية المحفوظة حتى الآن تظهر المودوبار المغني بشعر مصبوغ ينتعل حذاءً نسائياً و قد طلا وجهه بمكياج أنثوي، بينما جسده، و كما يبدو وجد متنفساً له، في فستان امرأة و جوارب نسائية و أقراطٍ معدنية متدلية.
إلى جانب المودوبار و جماعته تدافع أصدقاء كثر من البانكي Punky بأزيائهم المميزة، و التي لم تكن محض أزياء بقدر ما كانت انعكاس لفلسفة و لأسلوب حياة أيضاً. و أخذت معالم حارة شويكا Chueca المثلية تتضح على اختلاف تنويعات ألوان الطيف الشمسي.
و قد وجدت هذه الحركة معبّرين عنها من بين صفوف مقدمي البرامج التلفزيونية و الممثلين و الموسيقيين و الشعراء و الرسامين و الصحفيين، إلخ.
هنا لا بد من التنويه إلى أن اسبانيا كانت قد عرفت في النصف الأول من القرن العشرين أهم حركة اجتماعية فوضوية(Anarquismo) في التاريخ العالمي. فوضوية هدست بانعتاق الفرد من عقد المجتمع.
بشكلٍ من الأشكال، تبدو "الحركة المدريدية" كفوضوية جديدة، إلا أنها فوضوية هجست بتحرر جسد الفرد، و ثوّرت غضون هذا الجسد و العلاقة معه.
ليس بخافٍ على أحد أن الظهورات الفنية "الفضائحية" و "المستفزة" لأعضاء "الحركة المدريدية" في الطرقات و الحفلات المتنوعة و على شاشات التلفزيون و السينما كانت كصفعات متلاحقة لمعايير "الحشمة" البرجوازية و فنها "المهذب" و "المصنوع جيداً".
في حقيقة الأمر لا يمكن فهم سينما المودوبار إلا انطلاقاً من بوتقة "الحركة المدريدية". و جميع "نساء المودوبار" اللواتي تزدحم بهن مشاهده السينمائية لسن إلا مرايا لتحولات مجتمع يخلف وراءه سكونية الأخلاق و تخشّب المفاهيم، و ينخرط في تجربة المعاصرة و قلق أخلاقها المتحولة.
بعد أن قام بإخراج عدة أفلام قصيرة قدم فيلمه الطويل الأول "بيبي و لوسي و بوم و فتيات أخريات من الكومة" عام 1980 و بعد ذلك تتابعت أفلامه و التي منها " ماذا فعلت لأستحق هذا" عام 1984، و "قانون الرغبة" عام 1986.
خلال بداياته السينمائية كمخرج تناول المودوبار في أفلامه شخصيات نسائية، هامشية و مهمشة، قادمة من قاع المجتمع. كثيراً ما استخدم ما هو "سوقي" و "مبتزل" في الحياة و سكبه في قالب السينما ليسمو به إلى رفعة الفن.
أما في فيلمه "نساء على حافة انهيار عصبي" عام 1987 فقد إلتفت المودوبار لتقديم شخصيات نسوية تنتمي لمجتمع الازدهار الاقتصادي و الاجتماعي الذي كان ينتعش في اسبانيا الأوربية "محدثة النعمة".
و على نفس المنوال توالت أفلامه مثل "قيّدني" عام 1989، و "كعوب عالية" عام 1990، و "كيكا" عام 1993 "زهرة سري" عام 1995، إلخ؛ جميعها تتناول سيدات قويات الشخصية غارقات في ورطة ما في دولة التحوّل الليبرالي الديمقراطي. يضاف لذلك مع سنوات التسعينات أزمة أخلاقية تسببت بها قيم مجتمع الاستهلاك المتقلبة.
من الطريف الإشارة هنا إلى أن العمل في عمارة "باب أوروبا" غير المسقوف و المنفتح نحو الشمال كان قد تمّ انجازه في عقد التسعينات في مدريد العاصمة، بينما أدرج تمثال دون كيخوته و سانشو بانثا المتطلّعين إلى الجنوب في ساحة اسبانية ضمن الاهتمامات السياحية.
و تطال سينما المودوبار أوجاً طليعياً على صعيد الاخراج و كتابة السيناريو مع أفلامه "كل شئ حول أمي" عام 1999 و "تحدث معها" عام 2002 و "التربية السيئة" عام 2004.
في جميع أفلامه السابقة على فيلم "العودة" الذي أخرجه عام 2006 يفسح المودوبار للجسد و للشبق حضوراً أساسياً أثناء تشكيل محتوى لقطات أفلامه. الجسد يحتلّ الشاشة يصوغ دخيلة الشخصيات و يبني أفعالها الدرامية. يتصارع الجسد مع "الأنا الأعلى" للسيطرة على سلوك الشخصية و هذياناتها و هلوساتها الحداثية.
الجسد لديه انفراج و إلحاح رغبةٍ محتدمة، سوطٌ يلسع ألماً تحت وقع حبات المطر. الجسد ينزلق لزجاً فوق الجسد تحت أيقونة سماوية، حيث أبراج الأعالي تمجد اللاجسد.
نتعرف في أفلام المودوبار على أجساد عاهرات طرقات ليلية، رجال مثلييي الجنس، نساء قاتلات، نساء ساديات، نساء تواقات للإغتصابهن، نساء عاملات، أزواج عاطلين عن العمل، نساء يغرقن في غيبوبة ذهنية و جسدية، متحولي الجنس، نساء و رجال يتأرجح جنسهم بين المغايرة و المثلية، رجال حوصروا في أجساد نساء، نساء بأثداء و أعضاء جنسية ذكرية صناعية، مصارعات ثيران، راقصات باليه، راهبات و نساء عصابيات، رهبان و تلاميذ مدارس دينية داخلية، مدمني و مدمنات مخدرات، إلخ.
الجسد التواق للوصال يبرر التمسك بالحياة، و الشهوة وسيط روحي لفيض مفعم بالجدوى.
كان مواطن المودوبار المخرج لويس بونويل (1900-1983) يهجس بالجنس بين الرجل و المرأة فعجت مشاهده السينمائية بلقطات متسلطة لسيقان نسوية، عذراوات، أحلام، حشرات، إعاقات جسدية، أيقونات دينية، أثداء و ظهور نساء، أسلحة، أجراس كنائس، عيون تبصبص، أعمدة، حيوانات، رجال دين، مجانين، توابيت، موتى، إلخ.
عرّى بونويل في أفلامه جسد المجتمع و علاقة الرجل بالمرأة في فضاءٍ تخيم عليه الأخلاق الدينية البرجوازية، و لم يكن رحيماً، بحال من الأحوال بعلاقات النفاق، فعمل فيها تهكماً و سخرية في المشهد السينمائي.
المودوبار يذهب بعيداً في التعرية، يتخذ من الفرد (غالباً ما يؤسلبه إلى كيان امرأة) موضوعاً له. و في عمله هذا تطفو على السطح متاهة الحياة المعاصرة، حيث الرغبة هي هدف في ذاتها و الإنحلال من انقباض المحرم هو فعل أخلاقي نبيل رغم ضريبة القلق و اللاسكينة.

عودة الروح

في فيلمه الأخير "العودة"، يترك بدرو المودوبار للروح كامل الشريط السينمائي كي تعبّر عن غنائية تلامس الحس الشعري للحياة اليومية و لسهل المانشا الدون كيخوتي.
"العودة" هو عنوان الفيلم، و عنوان لتانغو قديم للأرجنتيني كارلوس غارديل من أيام العشرينيات من القرن الماضي. تُؤدى الأغنية في إحدى مشاهد الفيلم بعد أن نزعت من حنين التانغو و صبت في حنين إيقاعات الفلامنكو.
"العودة" في مسار المودوبار هو إلتفات لسهل المانشا الذي ولد فيه، رجوع إلى موضوعة الأمومة و الموت، تقهقر إلى قصصه المحببة حول الخيانات الجسدية، إلى ملهاة الإبتسامات المقتضبة و القهقهات الفجائية و الدموع المترقرقة دائما في حدقات العيون، كما أنه عودة للعمل مع حورية أفلامه الأولى الممثلة كارمن ماورا و التي كان قد هجر التعامل معها بعد فيلم "نساء على حافة انهيار عصبي".
تدور أحداث الفيلم في القاع الاسباني بين حارات الأحزمة الهامشية التي تطوّق العاصمة، و بين الضيعة القشتالية التي تتعثر بها رحابة المانشا اللانهاية، ضيعة يتم بلوغها بطريق مستقيم و كأنه درب ذهاب إلى الأفق و إياب منه.
يفتتح المشهد الأول في إحدى المقابر، حيث عشرات من السيدات المحليات الأرامل منهمكات في تنظيف قبور أفراد عائلاتهن و تزويقها بالزهور، بينما ريح المانشا الحارة تعصف بالمكان، و تواكب خلفية موسيقية لمقاطع مرحة من ثارثويلا "زهرة الزعفران" (نوع من أوبرا غنائية شعبية اسبانية).
كان المدوير قد تناول في أفلامه تنويعات جمة عن المرأة، سواء بجنسيتها الطاغية أم بجبروت ضعفها أم بقوتها الملتبسة، أما فيلم "العودة" فهو ليس فيلم عن النساء بقدر ما هو فيلم نساء.
تقوم جوقة من النسوة المنتميات لثلاثة أجيال بحياكة أحداث الفيلم، و الذي نتعرف فيه على:
رايموندا (بينيلوبه كروث). أم شابة، مكافحة من الطراز الأول في سبيل لقمة العيش. معها يحضر إغواء القسوة و وهن العواطف. متزوجة من باكو العاطل عن العمل، و لها ابنة.
على الطرف المقابل من رايموندا هناك أختها سوليه (لولا دوينياس) شابة تبدو أكبر من عمرها، بلا أية شرارة من إغراء، مهجورة الزوج و مدانة بالوحدة. تجني حياتها بالعمل دون تصريح كمزينة نسائية.
باولا (جوانا كوبو) ابنة رايموندا. متمردة، ترزح تحت نمطية اختلال التوازن الهرموني لمن هو في عمر المراهقة.
ايرينه (كارمن ماورا) أم رايموندا و سوليه و جدة باولا. في الظاهر كانت قد توفيت إلى جانب زوجها في حادث حريق سببته ظروف غامضة، إلا أن شبحها أو روحها المفترضة تعود للحياة لتلعب دوراً أساسيا في الفيلم لفهم مصيرها الحقيقي و مصائر الشخصيات الأخرى.
الخالة باولا (تشوس لامبريابه)، أخت ايرينه. عجوز لم تهجر الريف و لم تزحزحها رياح التغيير عما اعتادت عليه رغم حضور التلفزيون في بيتها.
أغوستينا (بلانكا بورتييو). تحمل على كاهلها مثقالاً لا يستهان به من الهموم. كونها شخصية ريفية متطيرة لا يمنعها من تشطيبات حداثية في مظهرها، على نحو خاص شعرها الشديد القصر و تدخينها للماريغوانا التي تلفّها بعناية فائقة. و هي أيضاً ابنة المرأة الهيبية الوحيدة في القرية و التي اختفت فجأة و لم تترك خلفها من أثر. تواظب أغوستينا بهمة في الحياة على الاعتناء و تنظيف لما سيكون قبرها في الممات.
إلى جانب هؤلاء هناك شخصيات ثانوية مثل جارات رايموندا في مدريد و تبرز منهن الجارة البدينة رينا (الملكة)، مهاجرة بلا أوراق ثبوتية و عاهرة طرقات ليلية.
أما الشخصيات الذكرية في "العودة" فلا تشذّ عن مثيلاتها في أفلام المودوبار الأخرى، بمعنى أنها ظلال عابرة غير واضحة الملامح، إلا أن بصماتها تعلّم على الشخصيات الأنثوية وشماً لا يمحى بما تمارسه عليها من تهديد أو خطر أو عنف أو لامبالاة.
تنسج شخصيات الفيلم القصة وفق مستويين: ما هو معلن و متوافق عليه، و ما هو مستتر و مسكوت عنه. كل واحدة منهن تخفي سراً مريعاً، و الفيلم هو تكشف متتالي لهذه الأسرار.
فالمراهقة باولا هي ابنة رايموندا و لكنها أيضاً إلى جانب ذلك أختها في حقيقة الأمر.
تعلن رايموندا أن زوجها باكو هجرها دون عودة، لتتستر على ابنتها باولا التي كانت قد قتلته أثناء محاولته اغتصابها في المطبخ و هي تظن أنها تقتل والدها.
كان قد أعلن عن موت الأم/الجدة ايرينه في حادث حريق و هي تعانق زوجها، و لكن روحها المفترضة تظهر لابنتها سوليه و تتقاسم معها المسكن في مدريد، و تبوح لها بخيانات الزوج و خداعه المستمر لها، و بأن من كانت تضاجع الزوج بينما النيران تلتهم المكان لم تكن إلا هبّية الضيعة. أم أغوستينا.
خلف الأبواب المغلقة تقوم نساء الفيلم بإظهار حفنة من خفاياهن. يبسطن أمام الكاميرا حقائق رجالهن و يبحن بما في صدورهن، و من ثم يتواطأن من جديد على استراتيجية إخفائها و كأنها شأن نسائي لا دخل فيه لأحد.
يتعايش الأحياء و الأموات في الفيلم دون حدود فاصلة. حكايا الموتى و آثارهم العينية و المعنوية تلعب دورها في بناء انفعالات و ردود أفعال الشخصيات الحية على مدار الفيلم.
من جهة أخرى، لا بد من القول أن سلاسة و متانة السيناريو و إيقاع المشاهد المتلاحقة و تراكم مؤثر الفعل الدرامي ساهم في مساعدة ممثلات المودوبار القديرات على صياغة حالة الملهاة السوداء في الفيلم بلا أية هنّة أو تكلّف أو أي تقطّع.
لعل الجديد الذي يكشفه فيلم "العودة" هو موهبة المودوبار في توظيف عنصر الإثارة و الترقب دون الوقوع في التخويف و الترهيب، خاصة في المشاهد المكرسة للظهورات الأولى لشبح ايرينه المفترض.
و كما هو مألوف في أفلام أخرى يترك المخرج إشارات للسينما التي أثرت في تكوينه الفني، ففي "العودة" يدرج مشاهد من فيلم "جميلة" لفيسكونتي كتحية لسينما الواقعية الجديدة، حتى أن بينيلوبه كروث تستحضر بضعة حركات من أدوار آنا مانياني.
استخدم مدير التصوير خوسيه لويس الكاينه للصورة السينمائية تلويناً يضجّ بحيويةِ و صخبِ ألوان البوب مما أعطى الفيلم جاذبيته المثيرة و كأنه طقس بصري.
تبدل كاميرا المودوبار زواياها و مسارها و منظورها، و في كل التغيرات التي تطرأ عليها تتواطأ مع ذاتية الشخصية وتلاحق تفاصيل حضورها داخل الكادر، دون أن تنسى الاندماج مع عين المخرج و عين المتفرج بين الحين و الآخر.
تقف الكاميرا على مسافة مناسبة لتأخذ لقطات مقربة جداً لمحارم المطبخ وهي تمتص الدماء القانية لباكو المقتول. أو تُسلّط عدستها فوق حبات البندورة المحمرّة الظازجة في مشهد آخر. العلاقات اللونية في بنية الصور السينمائية تثير انفعالات متناقضة تنوس ما بين النفور و القبول إن لم نقل الإشتهاء.
نفس الكاميرا تلتقط عملية تنظيف السكين كأداة من أدوات المطبخ قبل القتل، و من ثم في مشاهد لاحقة تتابع عملية غسلها كأداة قتل و جريمة. نفس الفعل يقلب مشاعر التلقي لدى المشاهد.
تستسلم الكاميرا لرغبة المتفرج فتتموضع فوق رايموندا، و بلقطة عين الصقر، العمودية المسقط، تبصبص على تدويرة و بروز ثدييها، و في حين آخر تستوي الكاميرا لتأخذ لقطة متوسطة لمؤخرتها بينما يغيب ما تبقى من جذعها و أطرافها خارج كادر الصورة السينمائية.
في مشهد العزاء يترك المودوبار الكاميرا فوق جموع النساء اللوات يتحركن كقفير النحل في حيز المكان الضيق، و لا تهبط الكاميرا و تغير زواياها إلا لتشارك النسوة في ثرثرتهن حول موت الخالة باولا و عودة روح ايرينه من العالم الآخر لرعايتها في أواخر العمر.
تثبّت الكاميرا في مواجهة المشهد، و تترك ثابتة بينما تدخل مقدمة الموكب الجنائزي من يمين الصورة و من ثم تنتقل الكاميرا إلى خلف الجنازة و تتابع عدستها المسير من الوراء و كأنها جزء من الجموع التي ترافق الجثمان إلى مثواه الأخير.
و تتعدد الأمثلة عن الكيفية التي يبني بها المودوبار مشهده السينمائي، و جميعها يشير لتقنية و رهافة جمالية رفيعة تحمل توقيعه المميز.
تعامل المخرج مع شخصية المرأة القادمة من أسفل الدرك الاجتماعي بعذوبة، دون الوقوع في "تنميط" كثير من أنصار و نصيرات النساء. لفّ أنثاه بحالة من الشعر، و جاور بين ما هو "وضيع" حقيقي و ما هو "جميل" مرغوب.
المرأة في الفيلم تتحسس هشاشة الزمن، و تحدّس بأن الحياة هي عصفة ريح دافئة، و أن الوقت هو طاحونة هوائية تدور ما دام هناك شيء من نفَس أو لهاث.
المرأة تلملم ما تبقى من عذوبة ماض يأفل و تحفظ السر الدفين. تطبق على الألم بالصمت أو بالكذب، و تنظف القبور و هي تعلن الرواية الرسمية لحيوات من رحلوا.
عدد لا يستهان به من جمهور المودوبار رأى في أفلامه، قبل "العودة"، لمسات بغضٍ تجاه النساء، إلا أن فيلمه الأخير يتضوع بروح التضامن و الإنتماء للأنوثة و الإلتصاق بسهل المانشا، سهل البدايات و النهايات.
فيه ما يكفي من العمق الرأي القائل بأن الأدب و الفن الاسباني مَدينٌ لمُبدعَين استطاعا بحساسية و فرادة الولوج إلى دخيلة الأنثى، و هما فدريكو غارثيّا لوركا و بدرو المودوبار.



#أثير_محمد_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في يوم ما
- المرأة و المسرح العربي، بدايات و تقاطعات حداثية


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أثير محمد علي - المودوبار بين سينما الجسد و -العودة- إلى روح المانشا