أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - ذاكرة الماء .. ذاكرة الصحراء















المزيد.....

ذاكرة الماء .. ذاكرة الصحراء


صبري هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 1669 - 2006 / 9 / 10 - 04:55
المحور: الادب والفن
    


* رحيل الأول

بعد عصيان السحابة ، التي أمطرتنا جحيماً ، في السماء .. وبعد اشتداد عواصف الليل الذي تأبد .. وبعد أن صار البلد حوتاً يبتلع الأبناء .. وبعد انهيار السدّ أمام الطوفان .. وبعد أن صار الوجود مهدداً .. وبعد أن تضاءل الأمل في البقاء ، قررتُ ، أنا الشيوعي الحالم حدّ الجنون بمجتمع المساوات والعدالة والحرية الذي ستؤول حياته بعد ربع قرن إلى حطام ، أنْ أتحول ، في نهاية العام 1978 ، إلى قطرة ندى وأسكن كأس الوردة . أنْ أرحل عن العراق .. أن أتجاوز الحدود بدون وثيقة سفر أو بطاقة طائرة وأخلف بعدي كل هذا المجتمعات المنافقة التي يضمها العراق غير آسف على شيء . بحثت عن أحد يساعدني في هذا الأمر .. يخرجني عبر الصحراء أو عبر الماء حيث الجارة اللدودة إيران . تذكرت رفيقاً " صنديدا ً" له معرفة بهذه الأمور . ولمَن لا يعرف " الصنديد " أقول هو الشيوعي الذي يتخلى عن الحزب وقت محنته وأزمته .. يبتعد عنه قليلاً أو كثيراً .. يذهب مذاهب شتى ويصبح من منتقدي الحزب الذي جفّ ضرعه وقلّ لحمه ودق عظمه ثم يعود إليه في أوقات الانفراج السياسي وأزمان الخير الأخرى التي يكثر فيها الندى فيتسيد المشهد الحزبي بعد " لطشه " مسؤولية ما ، عندئذ يظهر متبختراً ، أمام ربعه ، مثل طاووس . وما أكثر هؤلاء البشر "الصناديد" . هؤلاء ، من ذوي المهمات السهلة ، أشر الناس على الحزب وعلى الوطن أيضاً . قال الصنديد بلهجة بَصْرِيّة مضخمة : بقّة ما تطير .. الحدود ملغومة . طبعاً هذا كذب صريح حيث لا توجد حدود بريّة في كل الدنيا محصنة بالكامل ولا يمكن اختراقها . أغلق بوجهي منافذ السماء . علمتُ أن الأمر بيدي ومصيري أنا مَن يخطه . بعد أيام قليلة التقيت من كان شهماً ومن الرجال الكرماء الذين على قلتهم يجوبون الأرجاء من أجل نشر الخير الذي لولاه لضاعت البشرية . هذا الكريم لم يكتف بمساعدتي إنما ، من أجلي ، عبر الحدود وعاد فيما بعد .
أخذتُ حفنةَ رملٍ ورشقتُ بها وجه القمر
تلوّن بالخوف زهر الليل ونزل على رأسي
أنا الساهر في أعلى سطوح الصحراء
لا أعدكم بالموت
سأمنحكم وردة الروح
ارموا بها غربتكم
خذوها وبها لوّحوا للمراكب القادمة برقّة الماء
لا أعدكم شيئاً وقد كثر الموت
إنما بالدعاء أعدكم :
ربِّ اجعل مع عبدك المخلوق صندوقاً أسود كصناديق الطائرات السود لكي نعرف أسباب الموت .
ربِّ احمنا من أخوة أعداء
ربِّ احمنا من هذه الصحراء


* أربعة شهور في الكويت

1 ـ لقيط
في الشتاء وكنّا نهرب من جنة الله وندخل في الصحراء
رأينا الكويتين يتطهرون من إيلاف الصيف بقبضة رمل
أو بدلقة ماء .
فالكويتيون في أحضانهم جلبوا لندن وعطر الويلزيات .
بعثروا فوق الرمل رماد الخيال وقالوا :
هذا وطن الأزل .
في الشتاء ، وكنا بالحصباء نستجير ، سدّ الكويتيون بوجوهنا أبواب البحر وسرّحوا الفيافي ثم فتحوا علينا نوافذ الجحيم .
بهم نصيح :
نحن أبناء الماء يا أبناء عمومتنا فأغيثونا .
إنما علينا ارتدّ الصياح وفي صدورنا تحجر .
"في شتاء العام 1978 لا يرى الكويتيون غير ضوء العراق ضوءاً .. كانوا على قتلتنا متهالكين وبجرائمهم يتغنون حتى ظننا ، حين دخلنا الكويت ، أنّ البلد محتلّ من حكومة بغداد دون الحاجة إلى إعلان هذا الاحتلال على الملأ ".
في الشتاء كان الكويتيون بأجنحة طيور الشمس مغرمين
وإلى لهاث الصحراء مشدودين
لم ينصفنا الكويتيون .. لم أرَ شعباً شقيقاً شحيحاً ، بعيداً عن كرم الإنسانية كهؤلاء . حين أصحرنا باتجاههم كانت الخشية ترافقنا وألف سؤال يلفّ رؤوسنا : إن قبضت علينا شرطة حدودهم ماذا ستفعل بنا ؟ التجارب السابقة تقول إنهم سوف يسلموننا إلى سلطات العراق ثم نذبح بصمت كالنعاج .
لِمَ يحقد الكويتي على كلِّ شيء عراقي ؟
سأعيد السؤال بصورة أخرى : لِمَ يكره المُتَكَوِّت ، وهو في الأغلب يعرف كلّ شيء عن العراق و يتغابى ، العراقي ؟
مَنْ هم الكويتيون ؟ مِن أين جاءوا وكيف استوطنوا المكان ؟
هؤلاء العتوب " نسبة إلى قبيلة العتوب " النجديون لو تمكنوا ، لأغرقوا العراق في أنهار دم ( تمكنوا فيما بعد ولم يقصروا أثناء غزو العراق واحتلاله في 2003 لقد ساعدوا على تدمير كل ما يمكن تدميره )*
الكويتيون منّا حذرون .. منذ نشأتهم حذرون .
لماذا ؟ هل تساءل أحدٌ ، لماذا ؟
لأنهم يعرفون أنّ لا حقّ لهم في المكان وعليه هم طارئون .
هؤلاء سكنتهم البغضاء .
على العراقي ، " العربي تحديداً " ، الذي لا يدور في ركاب أحد أن لا ينسى دور الكويت في تدمير بلده . على العراقي أن يحيا بذاكرة قوية .

2 ـ الحرامي

مرّة في حافلة نقل الركاب كنتُ ، في الكويت ، بلا هوية .. بلا وثيقة سفر .. في الحافلة بشرٌ من جنسيات شتّى : هنود ، تايلانديون ، إيرانيون ، مصريون ، باكستانيون ، أفغان ، سريلانكيون ، صوماليون ، من كل فقراء الأرض كنّا . صاح الصعيدي في مقدمة الحافلة ملدوغاً : سُرقتُ يا عالم . كنتُ في مؤخرة الحافلة . أغلق السائق الأبواب وقاد الحافلة بسرعة إلى مركز الشرطة . سيسألونني عن وثيقة السفر عندئذ سيعيدونني مكبلاً إلى أرض السواد . عند أول إشارة توقف حمراء فتحتُ زجاج النافذة وألقيت بجسمي الناحل خارج الحافلة . صار كل مَن في الحافلة يجري ورائي بمن فيهم السارق الحقيقي : حرامي .. هرامي .. أرامي .. ألامي . حرامي بكل لغات المعمورة ساقتني إلى "اليواخير" . هناك ضعت . لن أستسلم بيسر . لن أموت كضفدع هرم .

3 ـ مساء الإيراني

تحت البناية التي نسكنها في منطقة خيطان بالكويت بدا الإيراني صاحب الدكان تعيساً هذا الصباح. لم أسأله حينما ابتعتُ سجائري . بعد الظهيرة كنا نجتمع في غرفتي .. بضعة رجال عراقيين شيوعيين هاربين من قبضة النظام العراقي ، على وجبة غداء متأخرة . سمعتُ صيحة قادمة من بداية الممر الطويل .. عندما خرجتُ وجدتُ النار تلتهم الإيراني ويخرج اللهب من أعلى ذراعيه المرفوعتين للسماء . رأيتُ الإيراني يسبح في الجحيم .. بدون وعيّ مني صرختُ : رفاق بطانية . تقدم الإيراني بجحيمه نحوي صائحاً : بتانية .. بتانية . أطفأنا بالبطانية نار الإيراني .. لكن الإيراني مات في نهاية المطاف وضيّعَنا معه نحن الذين بلا هوية أو وثائق سفر .

4 ـ القفص .. المطار / المطار .. القفص

في الموقف " التسفيرات " أهملونا . صورة بشعة تلك التي صرنا إليها . سياج دائري هي التسفيرات .. منكشفة للسماء ومفتوحة للدهم.. داخل السياج العملاق عشرات الأرواح .. من كل الجنسيات وغرفة مليئة بالأحجار صيروها لقضاء الحاجة وللقضاء والقدر.
بعد ثلاثة أيام اقتادنا الحرس الكويتي بالحافلة / القفص إلى المطار. كان الصباح مازال يدمدم على أبواب المدينة / الدولة النائمة . كنا ثلاثة عراقيين تحزُّ أيدينا القيود ويلهب التحدي عيوننا . أدعينا أمام المحقق الطيب أننا من اليمن السعيد .. أنا كنتُ حضرمياً أباً عن جد . كان اسمي في الوثيقة التي مُنحت لي : سالم مرشد سالم . كنتُ مصرّاً على كذبة بيضاء تخلصني من الموت ولولاها لأعدمتُ على أبواب البصرة .
سألني المحقق : ماذا تشرب ؟ .
أجبتُ : " استكان شاي" .
مفردة لا يستخدمها غير العراقي . ضحك المحقق .. لم يصدقني لكنه صدّقني.!
في المطار لم تأتِ الطائرة التابعة لطيران جمهورية اليمن الديمقراطية " اليمدا" . تأخرت الطائرة . وضعونا في غرفة قفص . غرفة خلفية على هيئة قفص حديدي مثل سيارة الشرطة / القفص التي جلبونا بها . معنا وضعوا رقيباً عراقياً . من أين أتى ؟ لا ندري! . القفص لا يتسع لأربع دجاجات لكننا قرود الفكر ومبررو الهزائم تشبثنا بصبرنا الجميل حتى وصول الطائرة في الحادية عشرة ليلاً . في العادة لا تتأخر الطائرات أكثر من عشر ساعات . أمام سلم الطائرة فكوا قيودنا . صعدنا منهكين . في الممر استقبلنا المسؤول الحزبي للطائرة . سألنا : هل أنتم من الرفاق العراقيين ؟ . أجبنا بالإيجاب . أمر المضيفات رغم فقر البلد : أغدقوا عليهم . كونوا معهم كرماء . انفتحت علينا أبواب النعيم وجرت في صدورنا الخمور.
في الطائرة المحلقة نحو عدن وفي 22 ـ 4 ـ 1979 كتبت قصة "الساعة" .
خذْ معك ثوباً للموجة
و سفينةَ أحلام ترقص على جسد الماء
حين تصل عدنَ
طهّرْ بنظرة من عينيك زهرَ التفاح
واغسلْ بإشراقة من روحك البحرَ
فأنا رأيتُ عروس البصرة بالبَرَد في آخر الليل تستحمّ
وبشفتيها تُطهِّر كأس نبيذ
أنا رأيتُ العاشق من صدر اللوعة يرضع
خُذ معك وردةً لوسادة الحبيبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أضيفت العبارة بين قوسين إلى النص بعد غزو العراق واحتلاله .



#صبري_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برق في حانة .. من عناوين حانة القصب
- وطن القسوة .. الوجوه البيضاء عن أدب الداخل والخارج
- مرثية عوني .. حين تكون الريح صبا


المزيد.....




- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...
- فيلم السرب 2024 بطولة احمد السقا كامل HD علي ايجي بست | EgyB ...
- أستراليا تستضيف المسابقة الدولية للمؤلفين الناطقين بالروسية ...
- بعد إطلاق صندوق -Big Time-.. مروان حامد يقيم الشراكة الفنية ...
- انطلاق مهرجان أفلام السعودية في مدينة الظهران
- “شاهد الحقيقة كامله hd”موعد عرض مسلسل المتوحش الحلقة 32 مترج ...
- -سترة العترة-.. مصادر إعلامية تكشف أسباب إنهاء دور الفنانة ا ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - ذاكرة الماء .. ذاكرة الصحراء