أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - جلبير الأشقر - المطامع الإمبريالية الأميركية سفينة قيد الغرق















المزيد.....


المطامع الإمبريالية الأميركية سفينة قيد الغرق


جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)


الحوار المتمدن-العدد: 1645 - 2006 / 8 / 17 - 11:15
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


«هزيمة حزب الله، لو حصلت، لشكلت خسارة ضخمة لإيران، سواء من الناحية النفسية أو الاستراتيجية. فقد تخسر إيران موطئ قدمها في لبنان، وتخسر أهم الوسائل المتاحة أمامها من أجل زعزعة استقرار المنطقة والنفاذ إلى أعماق الشرق الأوسط. وقد يتضح أن إيران تجاوزت قدراتها لما سعت جاهدة لتثبيت نفسها على أنها القوة الإقليمية العظمى. أما الولايات المتحدة، فقد ذهبت الى حد بعيد في سعيها وراء تخويل إسرائيل بالفوز وفسح المجال أمام كل ما يجري حالياً. فقد عوّلت على قدرة إسرائيل على القيام بهذه المهمة لكن آمالها خابت. فقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت لم تكن ثابتة ومستقرة... ورغبته في إحراز النصر بأقل ثمن ممكن لم تعرّض العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان للخطر وحسب، وإنما زعزعت أيضاً ثقة أميركا بإسرائيل». شارلز كراوتهامر، واشنطن بوست، 4 آب 2006.


«لكن يتوجب على الإدارة (الأميركية) أن تعترف بما يتوجب على أي شخص اقتنع بأهمية النجاح في العراق أن يعترف به ــ وأنا واحد منهم: سواء أكان السبب بوش أم العرب، فلم نحقق النجاح، ولم يعد بإمكان أميركا أن تخسر المزيد من الأرواح الطيبة... الخيار الأفضل الآن هو مغادرة العراق. فالخيار الأسوأ ــ الذي تعشقه إيران ــ هو أن نبقى في العراق، فيستمر نزيفنا ونكون في الوقت عينه هدفا سهلا لضربة من إيران إذا قررنا استهداف قدراتها النووية... نحن بحاجة الى معالجة موضوعي إيران وسوريا، ولكن من موقع قوة، وهذا يتطلب تحالفاً موسعاً. فبقدر ما تطول الاستراتيجية الأميركية الأحادية الفاشلة في العراق، بقدر ما يصبح من الاصعب بناء التحالف المطلوب، وبقدر ما تتعاظم قوة أعداء الحرية». طوماس فريدمان، نيويورك تايمز، 4 آب 2006.


في كل يوم يمر نرى المزيد ممن كانوا أكثر المتحمسين لمشروع إدارة بوش الإمبريالي في الشرق الأوسط يغادرون سفينته التي هي قيد الغرق. ولم يعد هناك أدنى شك في أن ما توقعه كثيرون قبل وقت طويل يتحوّل إلى حقيقة فادحة: سيذكر التاريخ إدارة بوش على أنها أسوأ طاقم أمسك على دفة سفينة الإمبراطورية الأميركية منذ أن أبحرت.


فقد ضمن بوش وأعوانه موقعهم في الذاكرة الجماعية على أنهم حفارو قبر الأطماع الإمبريالية الأميركية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة: فقد حققوا إنجازا لا يضاهى بتبديدهم للظروف الصالحة الاستثنائية التي توفرت للإمبراطورية الأميركية منذ أن بدأ العملاق العالمي الآخر بالتداعي في عام 1989. وأضاعوا الفرصة الفريدة التي سبق لكراوتهامر نفسه أن أسماها في عام 1990 أنها «لحظة أحادية القطب». إلاّ أنهم أضاعوا هذه الفرصة لأنهم استمدوا إلهامهم من الغطرسة الإمبريالية ذاتها التي ميّزت أمثال كراوتهامر وفريدمان.


وقد جاء عنوان المقال الرئيسي في عدد من مجلة «تايم» نشر قبل بدء الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان ليبشر بما أسماه «نهاية دبلوماسية الكاوبوي» (راعي البقر). وقد ركزت المقالة على حقيقة واضحة مفادها أن «عقيدة بوش انهارت في المكان الرئيسي الذي حاولت الولايات المتحدة تطبيقها فيه»: «على الرغم من أن أحداً في البيت الأبيض لم يشكك علناً في قرار بوش شنّ حرب على العراق، إلاّ أن بعض معاونيه يعترفون الآن بأن كلفة هذه الحرب كانت عظيمة على المستوى العسكري وعلى صعيد الدعم الشعبي، كما على مستوى المصداقية الأميركية في الخارج. فالإدارة ما زالت تدفع فاتورة تلك الحرب يومياً فيما هي تحاول التغلّب على أزماتها الأخرى. وبينما تحاول الولايات المتحدة إيجاد السبل المناسبة للخروج من المأزق العراقي، يُعتبر الاستمرار في تطبيق السياسة الخارجية الهجومية كما تتصورها عقيدة بوش أمراً شبه مستحيل. والحال أن أصدقاء أميركا وأعداءها في العالم على حد سواء يلاحظون المصاعب التي تواجهها القوة العظمى، ويستفيدون منها في أحيان كثيرة. فإذا شكلت الإطاحة بصدام حسين ذروة الهيمنة الأميركية، فإن السنوات الثلاث الماضية قد شهدت تصدعاً مستمراً في قدرة واشنطن على إخضاع العالم لمشيئتها» (1).


وقد عبّر كاتبا مقالة «تايم» عن حزنهما الشديد آسفين على ما يلي:


«يتضح الآن أن العراق قد يثبت أنه ليس أول مختبر للحرب الإستباقية وحسب وإنما آخر مختبر أيضا. فبدلاً من ردع حكّام طهران وبيونغ يانغ، قد تكون المشاكل التي واجهها الاحتلال الأميركي تشجيعاً لهذين النظامين في سعيهما للحصول على أسلحة نووية، بينما تحد تلك المشاكل من القدرة العسكرية الأميركية على ردعهما».


وقد رافقت هذه القراءة المؤلمة للتطورات، في مقالة «تايم»، بارقة أمل تقاسمتها الجوقة الواسعة لحلفاء أميركا وأتباعها وزبائنها: فبالنسبة إليهم جميعاً، بإستثناء بارز وحيد هو الحكومة الإسرائيلية، جاء إقصاء كبار المحافظين الجدد في حكومة بوش ليعزز الآمال في أن نهجا جديدا تصحيحيا في السياسة الخارجية الأميركية بات قيد التمخض. فإن إعادة توزيع المناصب الذي رافق بداية الولاية الثانية للرئيس جورج بوش، على الرغم من خروج كبير «الواقعيين» كولن باول الذي لم يكن يتمتع بنفوذ هام في أي حال، ظهر وكأنّه تأكيد على «أفول نجم المحافظين الجدد» الذي كان بعض أتباع كلينتون قد أعلنوه قبل سنتين (2).


بيد أن ما اعتبره كاتبا مقالة «تايم» دليلاً على نهاية «دبلوماسية الكاوبوي» ــ ألا وهو «تحول استراتيجي واضح بصعود نجم وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس» ــ سريعا ما تبين أنه لا يعدو كونه أمنية لم تتحقق، وهذا ما أثبتته التطورات اللاحقة مع بدء أعنف هجوم شنته إسرائيل حتى اليوم. فقد تبين أن دبلوماسية الكاوبوي (راعي البقر) استُبدلت بدبلوماسية الكاوغيرل (راعية البقر) ليس إلا ــ ما يعني أنها لم تغيير من حيث الجوهر.


صحيح أن كوندوليزا رايس قد بذلت جهداً حثيثاً من أجل تحسين صورة السياسة الخارجية لإدارة بوش، لكن ما من تغيير ملموس حصل في المنحى. فرايس أحد الأعمدة الأساسية في إدارة بوش منذ قيامها، تتملكها أوهام العظمة وجنون المشاريع غير الواقعية عينها التي تطبع سائر أعضاء فريق بوش. وبعد تسلمها وزارة الخارجية خلال ولاية بوش الثانية، تركزت مهمة رايس بشكل خاص على رأب التصدعات الكثيرة في سفينة السياسة الخارجية الأميركية: وقد كانت مهمة مستحيلة بالفعل. فالسفينة تغرق لا محال في مياه العراق المغطاة بالنفط.


فها هي الولايات المتحدة «المفرطة بالقوة» والقادرة على هزيمة أي جيش نظامي على وجه الأرض ــ هذه القوة التي تفوق إنفاقاتها العسكرية ما تنفقه البلدان الأخرى جميعا، أي أكثر من 200 دولة مجتمعة، وهذه القوة التي تتخطى موازنتها العسكرية الناتج المحلي الإجمالي في كل دول العالم ما عدا 14 دولة ــ قد أثبتت مرة جديدة في تاريخنا المعاصر أنها لا تستطيع السيطرة على شعوب ثائرة. لأجل ذلك، فإن كل ما يمتلكه البنتاغون من أدوات قتل متطورة هو ذات تأثير محدود، لأن السيطرة على الشعوب تعني إشراك الجنود في العمليات: إنها نوع من الصناعة حيث يستحيل استبدال اليد العاملة بالآلات. لهذا السبب، فإن الدكتاتوريات أكثر نجاحاً في هذا المجال لأنها قادرة على تعبئة جنود من شعوبها كيفما أرادت، وهي لا تخشى أبداً دفع ثمن باهظ من أرواح جنودها.


وقد تبيّن أن أميركا لم تتمكن من السيطرة على فييتنام على الرغم من أنها استخدمت فيها عدداً أكبر بكثير من قوات الاحتلال مما في العراق، حتى بالأرقام النسبية. والحال أن القدرة العسكرية الأميركية اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه في فييتنام من كل النواحي ما عدا ناحية واحدة هي الأهم فيما يخص الاحتلال: الجنود. فقد قُلِّص عديد القوات الأميركية تقليصا جذريا منذ حرب فييتنام ونهاية الحرب الباردة. ومن وحي الروح الخاصة برأسمالية عصر المعلوماتية، إعتقد البنتاغون أنه قادر على تعويض الموارد البشرية التي لم يعد يثق بفعاليتها بالاعتماد على الأسلحة المتطورة ــ أي على ما سمي «الثورة في الشؤون العسكرية». ودخل البنتاغون في مرحلة الحروب «ما بعد البطولية» كما توفق بتسميتها أحد محللي الشؤون العسكرية (3). وبالفعل لم تبذل الولايات المتحدة جهداً كبيراً من أجل هزيمة الجيش العراقي التابع لصدام حسين بطريقة «ما بعد البطولية». لكن السيطرة على الشعب العراقي بالطريقة ذاتها شكلت تحدياً مختلفا تماماً. أخذت أميركا تفقد سيطرتها على العراق منذ إستقرار الاحتلال في عام 2003. فهي تلقت، من جهة، مواجهة متعاظمة من متمردين مسلحين في مناطق العراق العربية السنيّة، في تمرد تبيّن أن قوات الاحتلال المحدودة العدد غير قادرة على قمعه. فإذا كان الجيش المحتل غير قادر على فرض سيطرته على كل شبر من الأراضي المأهولة التي قام بغزوها على غرار سيطرة القوى المسلحة المحلية التي أطاح بها، فثمة وسيلة آمنة وحيدة للتخلص من حركة تمرد مسلحة تلقى تأييداً شعبياً يجعلها في مناطقها أشبه بـ«السمك في الماء»، على حد تعبير ماوتسي تونغ، وهذه الوسيلة هي: تجفيف الحوض الذي تسبح فيه هذه الأسماك. وهذا يعني إما تنفيذ إبادة جماعية، وهو ما بدأ الجيش الروسي بتنفيذه في الشيشان، وإما نقل الشعب إلى معسكرات اعتقال، وإما المزج بين هذين الأمرين وهذا ما اعتمدته الولايات المتحدة في فييتنام، لكنها لم تستطع السير به حتى النهاية لأن الشعب الأميركي لم يتحمّل هذه الفظاعة.


وفي العراق، واجهت واشنطن، من جهة أخرى، مشكلة أكثر خطورة بكثير أخذت تظهر بوضوح مع بداية عام 2004: فإن إدارة بوش، بوحي من غبائها وبإيحاء من أكاذيب وأوهام بعض أصدقاء البنتاغون من العراقيين، إندفعت إلى الاعتقاد بأنه يمكنها أن تحظى بتعاطف القسم الأعظم من الأغلبية الطائفية العراقية، أي العرب الشيعة. لكن ما حصل هو كارثة مطلقة إذ أن نفوذ المجموعات الأصولية الشيعية القريبة من إيران قزّم أي رصيد يمكن لأتباع واشنطن أن يشتروه وسط العراقيين الشيعة. ولم يعد أمام إدارة بوش من أجل فرض مشروعها الإمبريالي سوى اللجوء إلى الوصفة الكلاسيكية «فرّق تسد»، فحاولت أن تزرع بذور الشقاق بين المكوّنات الثلاثة الرئيسية للشعب العراقي، محرضة العرب السنّة والأكراد على العرب الشيعة. وانتهى بها الأمر إلى الدفع بالعراق نحو أتون حرب أهلية، الأمر الذي أثبت الفشل الأميركي المتفاقم في السيطرة على ذلك البلد (4).


لا شك في أن الطريقة التي شُدّ بها الوثاق من حول «غاليفر» الأميركي على أيدي «الليليبيوتيين» العراقيين (نسبة إلى جزيرة ليليبيوت الخيالية التي يسكنها أقزام تقول الرواية إنهم قاموا بتوثيق غاليفر الذي ضل طريقه إلى الجزيرة)، هذه الطريقة شجّعت إيران كثيرا، وهي العضو الشرق أوسطي الآخر في المحورالثلاثي الذي صنّفه جورج بوش على أنه «محور الشر» في بداية حملته بعد 11 أيلول. وهذا التحدي، بل الاستفزاز، الإيراني إزاء «العملاق» الأميركي لم يكن ممكناً لو لم يتبين أن قدمي هذا العملاق مصنوعتان من الطين. وقد واجهت طهران بنجاح محاولات حلفاء واشنطن العرب توسيع رقعة الفتنة المذهبية من العراق إلى باقي دول العالم العربي من أجل عزل النظام الإيراني بوصفه شيعيا، علماً بأن هذه المكيدة سبق واستُخدمت بنجاح نسبي بعد الثورة الإيرانية في عام 1979. ولكن إيران واجهتها هذه المرة عبر تخطي جميع الأنظمة العربية بالعداء لإسرائيل، مما سمح لها بترسيخ صورتها كحاملة لواء قضية الإسلام برمته.


وقد كمن أحد مفاتيح نجاح إيران في تحالفها مع حماس التي هي المنظمة الأصولية الإسلامية السنيّة الأكثر شعبية. هذا التحالف تعزز عندما أعلن الجناح المصري لحركة الإخوان المسلمين (التي تشكل حماس جناحها الفلسطيني) دعمه لتصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد التحريضية على إسرائيل. وقد شكل وصول حماس إلى السلطة بفضل انتصارها في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، ضربة إضافية لاستراتيجية واشنطن الإقليمية. ففرحت طهران وتخطت مرة أخرى جميع خصومها العرب في دعم الحكومة الفلسطينية الجديدة. وعند هذا الحد بالذات تدخلت إسرائيل التي نظرت واشنطن إليها كالمنقذ المنتظر لما غدا يشبه أكثر فأكثر سفينة «تيتانيك» إمبريالية.


ومرة جديدة خلال أربعة عقود من التحالف الاستراتيجي بين أميركا و إسرائيل، منحت واشنطن الضوء الأخضر لوكيلها المفضل ضد من إعتبرتهم وكلاء إيران، أي حماس وحزب الله. وكانت واشنطن ما تزال تؤمن بقدرة إسرائيل الفائقة على التعامل مع أعدائها العرب، مغفلة أن سمعة إسرائيل في هذا الإطار قد تآكلت كثيراً نتيجة فشلها الذريع في السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، فضلاً عن انسحابها من جنوب لبنان في عام 2000 بعد 18 سنة من الاحتلال على غرار الانسحاب الأميركي من فييتنام الجنوبية. فإن إسرائيل قد عرفت هي أيضا «فييتنام» خاصة بها في جنوب لبنان.


وتماماً كما كان حال البنتاغون بعد حرب فييتنام، انتقل مخططو الحروب في إسرائيل بعد الانسحاب من لبنان إلى تبنّي «سياسة عسكرية ما بعد البطولية» تعتمد على أسلحتها العظيمة التفوق أكثر بكثير من إعتمادها على القدرة القتالية لقواتها البرية. فعندما اجتاحت لبنان في عام 1982، كانت إسرائيل تحارب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية بشكل خاص: في لبنان كان هؤلاء مثل «السمك خارج الماء» حيث تمكنوا من تأليب الشعب اللبناني عبر سلوك متعجرف وأخرق. أما المقاومة اللبنانية التي بدأ زخمها يشتد منذ عام 1982 والتي تمكن حزب الله من أن يلعب فيها الدور الأساسي، فكانت قصة مختلفة تماماً: لقد كانت هذه أول مرة يواجه فيها الجيش الإسرائيلي مقاومة مسلحة شعبية حقيقية تملك خطوط إمداد على أرض مناسبة لحرب العصابات. وتماماً مثل الولايات المتحدة في فييتنام، واجهت إسرائيل المعضلة ذاتها المشروحة أعلاه وأُجبرت على تجرع الكأس المر للانسحاب الذي كان لها بمثابة الهزيمة.

إن إيمان إسرائيل بأن آلتها العسكرية لا تقهر ــ ترافقه غطرسة زاد منها غياب الخبرة في الشؤون العسكرية لدى أولمرت وبيريتز، الربَانين الحاليين للطاقم الإسرائيلي ــ دفع الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأنهم قادرون على إجبار حزب الله على الاستسلام أو دفع اللبنانيين إلى حافة حرب أهلية جديدة، عبرأخذ لبنان بالكامل رهينة وتدمير بنيته التحتية المدنية وإغراق المناطق الشيعية اللبنانية بفيض من القنابل. وقد سحقت إسرائيل عن عمد أحياء وقرى بكاملها تماماً كما كان يحصل خلال الحرب العالمية الثانية، أو كما حصل في الفلوجة لكن على نطاق أوسع بكثير. وقد أظهرت هذه الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان غضبا إجراميا عبّر عن رغبة في الإنتقام من الشعب الوحيد الذي نجح في إجبار إسرائيل على الانسحاب من أرض محتلة من دون قيد أو شرط.


إن السلوك الإجرامي للقوات الإسرائيلية في لبنان، بمنظور جميع الاتفاقيات الدولية التي تعرّف جرائم الحرب، تخطى ما مارسته الولايات المتحدة على نطاق واسع في مرحلة ما بعد فييتنام، إن في العراق وإن في يوغوسلافيا سابقاً. من هذه الناحية، كان الهجوم الإسرائيلي على لبنان شبيها بما يسمى سياسة «العهدة الاستثنائية». فالكل يعلم كيف سلمت واشنطن الأفراد الذين أرادت أن يجري «التحقيق» معهم خارج حدود القيود التي تفرضها القوانين الأميركية، إلى بعض حلفائها الذين ليس من شيء يحد من ممارستهم لفنون التعذيب البشعة في سجونهم. أما اليوم فقد عهدت واشنطن إلى إسرائيل بمهمة إلحاق الهزيمة بحزب الله، هذه المهمة التي تعتبرها جزءاً رئيسياً من الحملة الإقليمية على إيران، أملاً بأن تقوم إسرائيل بالعمل القذر وتنفذ المهمة من دون إثارة مشاكل كبرى.


وقد إعتقد الزعماء الإسرائيليون أنهم بإستغلالهم مرة أخرى للذكرى المأساوية للإبادة النازية لليهود ــ وهو استغلال بلغ مستويات جديدة من الوقاحة خلال الحرب الجارية ــ سيكونون قادرين على ردع أية انتقادات من القوى الغربية، أي مما يسمى «المجتمع الدولي». وعلى الرغم من أن موارد ذلك الاستغلال تتلاشى مع كل حد جديد تبلغه الوحشية الإسرائيلية، إلاّ أنه ما زال فعّالا: فلو هاجمت أي دولة أخرى في العالم دولة مجاورة وإرتكبت جرائم حرب عن سابق إصرار وتصميم وبالوتيرة المتسارعة نفسها التي تشهدها الحرب الإسرائيلية في لبنان، لكانت ستُواجه بموجة احتجاج لا تقارن على الإطلاق بالتوبيخ الباهت والخجول الذي واجهته إسرائيل الآن.


غير أن الوحشية الإسرائيلية لم تنجح مع كل ذلك، بل على العكس فقد أثبتت حربها أنها «أكثر الحروب الإسرائيلية فشلاً» على حد تعبير زئيف ستيرنهل (5) الذي خلص إلى القول:


«من المخيف أن نفكر بأن الذين قرروا إطلاق هذه الحرب لم تكن لديهم أدنى فكرة عن نتائجها وتداعياتها المدمّرة ولا الضرر السياسي والنفسي والصفعة القوية لمصداقية الحكومة الإسرائيلية، وأيضا سفك دماء الأطفال سدى. إن الوقاحة التي أظهرها الناطقون باسم الحكومة الإسرائيلية الرسميون وغير الرسميين، بمن فيهم عدد من المراسلين العسكريين، أمام الكارثة التي يعانيها اللبنانيون، أدهشت حتى رجل مثلي فقد منذ زمن طويل أوهام شبابه.»


أخفقت إسرائيل في إثارة حرب أهلية في لبنان، حتى ان عدوانها لم ينجح سوى في توحيد اللبنانيين حول الاستياء المشترك من وحشيته الإجرامية. وأخفقت في إجبار حزب الله على الاستسلام، بل نجحت إسرائيل في تحويل المنظمة الشيعية إلى أكثر أعداء إسرائيل مجدا منذ هزيمة مصر في عام 1967، محوّلة حسن نصر الله إلى البطل العربي ذي الشعبية الأكبر منذ عبد الناصر. وأخفقت إسرائيل في تسهيل جهود واشنطن وحلفائها العرب لتوسيع الشرخ بين السنة والشيعة، بل دفعت عدداً كبيراً من رجال الدين السنّة إلى إعلان دعمهم لحزب الله بمن فيهم رجال دين في المملكة السعودية، وهو ما شكّل إحراجاً كبيراً للعائلة السعودية الحاكمة. أما العراقيون فقد نددوا أجمعين بالعدوان الإسرائيلي بينما قام مقتدى الصدر، ألدّ أعداء واشنطن في العراق وحليف طهران، بتنظيم تظاهرة ضخمة تشبه تلك التي نظمها ضد الاحتلال الأميركي في 9 نيسان 2005.


إلى حين كتابة هذه المقالة، كانت واشنطن لا تزال تجهد لمنح إسرائيل المزيد من الوقت عبر فرض شروط غير مقبولة على مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف النار. أما الجنرالات الإسرائيليون الذين فشلوا في حملة قصفهم « ما بعد البطولي»، فهم يخوضون سباقاً مع الوقت من أجل السيطرة، عبر عملية برية «ما بعد البطولية»، على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي في الجنوب اللبناني بأقل ثمن ممكن من حيث الخسائر البشرية في صفوف جنودهم.


ولكن أقصى ما يمكن أن يتوقعه الإسرائيليون هو تسليم هذه الأراضي إلى قوة دولية تكون مقبولة من جانب حزب الله. فحتى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وعلى الرغم من تواطئه منذ عام 2004 مع واشنطن حول المسألة اللبنانية، قد شدد على أن موافقة حزب الله شرط ضروري يجب تحقيقه. فما من دولة على وجه الأرض تنوي أن تحاول في لبنان إنجاز المهمة التي تعجز إسرائيل نفسها عن تحقيقها. هذا وقد أعلنت المنظمة الشيعية أنها لن تقبل بأية قوة تتخطى صلاحياتها بشكل هام تلك التي تتمتع بها اليونيفيل التي إعتبرتها إسرائيل حتى الآن مصدر إزعاج.


ومهما تكن نتيجة الحرب الراهنة على لبنان في نهاية المخاض، فثمة شيئ واضح: بدلاً من الإسهام في إنقاذ سفينة الإمبراطورية الأميركية التي هي قيد الغرق، سرّع قارب النجاة الإسرائيلي غرقها، وها هي تشدّه معها نحو الأعماق.

6 آب 2006


--------------------------------------------------------------------------------

ملاحظات

(1) ــ مايك ألان وروميش راتنيسار، «نهاية دبلوماسية الكاوبوي»، تايم، 17 تموز 2006.

(2) ــ ستيفان هابلر وجوناثان كلارك، «أفول نجم المحافظين الجدد»، واشنطن مونثلي، آذار 2004.

(3) ــ إدوارد لوتواك، «السياسة العسكرية في مرحلة ما بعد البطولات»، فورين أفيرز، تموز / آب 1996.

(4) ــ سبق أن وصفت هذا المسار في كتاب «سلطة محفوفة بالمخاطر»، مقتطفات عن العراق 2006 ستتوافر على الإنترنت بعد فترة.

(5) ــ زئيف ستيرنهال، «أكثر الحروب فشلاً»، هآرتس، 2 آب 2006. * باحث لبناني في العلاقات الدولية



#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)       Gilbert_Achcar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب في لبنان
- إسرائيل تتخذ شعبا بكامله رهينة
- العدوان المزدوج على فلسطين ولبنان
- إخفاق المشروع التنويري في المنطقة العربية وشروط استنهاضه
- همجية - الرسالة المتمدنة
- الانطباعات الأولى حول فوز -حركة حماس- الانتخابي
- إحتلال العراق في سياسة واشنطن الإمبراطورية الراهنة


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - جلبير الأشقر - المطامع الإمبريالية الأميركية سفينة قيد الغرق