أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبيدو - السينما في تونس- 2















المزيد.....


السينما في تونس- 2


محمد عبيدو

الحوار المتمدن-العدد: 1594 - 2006 / 6 / 27 - 09:45
المحور: الادب والفن
    


صانع أفلام متميز ، لكن دون خلفية مدرسية سينمائية ، وهو النحات والكاتب ناصر خمير وفيلمه الأول هو "الهائمون" الذي ظهر عام 1984 . "الهائمون" الذي يحكي عن قرية معزولة في الصحراء غادرها رجالها فلم يعودوا، بل تحولوا إلى أشباح هائمة في الصحراء تمر مرة في العام في القرية لتأخذ معها من بقي في القرية. وفيلم "الهائمون" مبني كله على الخيال ومصنوع كأسطورة يراد من ورائها طرح تأملات فلسفية حول الإنسان والحياة والقدر.

غير أن الأفلام التي ظهرت في ذلك العِقد الثاني (1976-1985) كانت كلها الأفلام الأولى لمخرجين جدد الذين إما فشلوا في الحصول على معونة مالية ، أو كان عليهم الانتظار أعوام للحصول على فرصة أخرى ، على الرغم أن اغلبهم كان قد درس في إحدى مدارس السينما الأوربية.
لقد كانت هناك خلفيات وتوجهات متباينة ، فالبعض لم يبد اكثر من توجه تجاري:
علي منصور الذي درس في فرنسا وحصل على مقررات دراسية في الـ CICF في باريس قدم فيلماً كوميدياً بميزانية ضعيفة هو "فردة ولقت أختها" عام 1990
عبد الحميد بوسيد الذي قضى 7 أعوام في مدرسة الأفلام FAMU في براغ قدم دراما طويلة "أغنية المملوك" عام 1981 .
لطفي السيد استكمل فيلمه "السبت فات " عام 1983 .ويدور في اوساط المهاجرين المغاربة في باريس .
محمد همامي خريج مدرسة السينما VGIK في موسكو قدم فيلم "قريتي" عام 1979 .
وقدم محمد دمق (من مواليد 1952) فيلما كوميديا آخر –عن الكرة هذه المرة- وهو فيلم "الكاس" عام 1985 .
وشهد العِقد الثاني أيضا (1976-1985) إنتاج أول فيلمين روائيين لمخرجتين ، الا أن السلطات أعاقت إصدار أفلام كل منهما:
سلمى بكار التي أكملت دراستها في الـ في باريس عام 1970 ، وجدت أن فيلمها التسجيلي الطويل "فاطمة 75" عام 1978 يواجه رقابة السلطات .
بينما كان على ناجية بن مبروك -خريجة ال INSAS في بلجيكا- كان عليها الانتظار 6 سنوات لإخراج فيلمها الروائي "السامة" الذي أكملته عام 1982 ولكنه تأجل بسبب نزاع مع SATPEC .الى عام 1985
وظهر خلال الثمانينات مخرجان جديدان موهوبان جدا ووجدا مشاهدة دولية مشجعة لأفلامهما ، وقد حظي كل من فيلم "عبور" عام 1981 من إخراج محمود بن محمود (من مواليد1947) خريج الـ INSAS ، وفيلم "ظل الأرض" 1982 للمخرج الطيب الوحيشي(من مواليد1948) خريج معهد السينما في باريس ويدور حول آخــر مجموعة تعيش منعزلة في معسكر " بدوي " يقع فوق أراضي بالغة الجـدب , رئيس القبيلة يسكن في واحدة من الخيام الأربع التي تمثل القبيلة , وهو يعيش مع أبناءه وأبناء أخيه , وأسراهم " صالح " الابن الأكبر الذين يقطنون في المخيمات الأخرى ... _ من خلال واقع الحياة البالغ القسوة , تمر الأحداث , عليهم الخروج من المنطقة , وعلى الأبناء الاغتراب , " صالح " الأبن الأكبر يسافر ويودعونه , يعود الأبن الثاني " حميد " ومعه الهدايا ... لكن " حميد " يسافر مرة أخرى لاداء الخدمة العسكرية , ويشــتد الجــدب،يقرراحدهم السفر, وتصل اخبارعن موت صالح , يصل جثمانه , ويبقى العجوز مع زوجة ابنه وحيدين ..
وقد وجد منذ منتصف الثمانينات تأكيد واضح و جديد على الإنتاج الدولي المشترك ودور المنتجين المستقلين في السينما التونسية جزئيا ، ويرجع ذلك لقانون عام 1981 الذي قدم نظاما للمساعدة لمنتجي الأفلام يعتمد على نسبة 6% ضريبة.
وكان التطور الأساسي هو تقديم تسهيلات للألوان في مجمع جامارث عام 1983 ، وفي النهاية خصخصة كل مؤسسات الإنتاج و افتتاح استوديوهات أفلام قرطاج الجديدة بواسطة طارق بن عمار في سوسة عام 1985 ، وكان ظهور احمد عطية كمنتج رئيسي للأفلام في تونس –بشركته "Cinetele Films" في نهاية الثمانينات- و إغلاق ال SATPEC عام 1994
وإذا كان العقد الثاني للسينما التونسية هو عقد التجديد ، فإن العقد الثالث (1986-1995) كان بصورة عامة العقد الذي حاولت.فيه السينما التونسية أن تخرج من عباءة سيطرة السينما المصرية السائدة في السوق، بأن يكون لها شخصيتها وهويتها الخاصة.
إلا أن النتائج كانت متباينة ، فمن بين مخرجي الستينات الرواد عاد عمر خليفي لقصص العنف والحركة التي صنع بها شهرته ، لكن فيلم "التحدي" عام 1986 اظهر المدى الذي تطورت به السينما التونسية خلال الأربعة عشر عاما التي غابها .
وظهرت أعمال مثل "خريف 86" عام 1990 ، و"كش مات " عام 1995 لرشيد فيرشيو ، وفيلم "ليلة السنوات العشر" عام 1991 لابراهيم بابي ، على الرغم من انهم لم يضيفوا إضافة ملموسة لسمعتهم .
أما بالنسبة لفريد بوغدير فقد كانت هذه السنوات هي السنوات التي ظهرت فيها أخيرا مقدرته الكاملة كصانع للفيلم ، في الفيلم التسجيلي "الكاميرا العربية" عام 1987 ثم "عصفور السطح" عام 1990 ، و "صيف في حلق الوادي" عام 1995
بالنسبة لهؤلاء الذين ظهروا في أواخر السبعينات و أوائل الثمانينات فقد كانت إنتاجهم متنوع أيضا ، فقد استمر سعي رضاالباهي للنجاح العالمي الذي قاده إلى استخدام ممثلين فرنسيين و إنجليز في أدوار عربية في فيلم "الذاكرة الموشومة " عام1986 ، و أن يختار بطلاً فرنسياً في فيلم "السنونو لا يموت في القدس" عام 1994
ويقدم نوري بوزيد أول أفلامه (ريح السد) عام 1968 والذي لايزال قادرا على إحداث الصدمة وإثارة الجدل، بجرأة موضوعه وحدة نظرته إلى الواقع العربي ويعتبره البعض أهم عمل فني عربي ينتقد قهر وسلطة المجتمع الذكوري الأبوي الذي يقدم على محو ذاكرة الأبناء.
لكن بالنسبة للعديد من الأسماء الأساسية في العقد الثاني ، فإن الثمانينات وأوائل التسعينات كانت وقتا لتعزيز سمعتهم ، فقد استكمل كل من فاضل الجعايبي وفاضل الجزيري اقتباس المسرحية الثانية "عرب" عام 1988 .وتدور حول مضيفة تعمل على أحـد خطوط الطيران " العربية " تأتي من بيروت بحثاً عن صديق قديم افتقدت اثره , وتجـد نفسها في عالم اشبه بالحصـار ... وكأنها في مجتمع قديم يعود عشرات القرون إلى الوراء , حيث تسيطر عليهم أخلاق الفروسـيّة الجـوفـاء و الغــيرة و شــرف الثأر من القتله, وتحس بالطبع ان هذا العالم ليس عالمها .
و اتبع الطيب الوحيشي دراسته "Goree, Grand Father’s Island" الذي صوره في السنغال عام 1987 بفيلم "مجنون ليلى" عام 1989 .
وسيمضي الناصر خمير خطوات أبعد باتجاه الفانتازيا في فيلمه الثاني "طوق الحمامة المفقود" عام 1990الذي يتضمن شخصيات خيالية تجسد تراث وأساطير الماضي.
وقام ناصر خمير باستكشاف جديد لثراء تقاليد الرواية الشفهية في "طوق الحمامة المفقود" . ، هو ملحمة بصرية وسمعية مدهشة تتكامل فيها عناصر التكوين في الصورة مع براعة النص المحكم إضافة إلى حالة من السرد الناعم للمشهد الأندلسي بكل ثرائه و روعته . ويلجأ المخرج في هذا الفيلم إلى تصوير مشاهد حديثة أسطورية، تستند إلى التصميم الفني والجماليات البصرية والتشكيلات الغرائبية المبهرة.. ولكن بدون اللجوء إلى الخدع والمؤثرات البصرية التي تحتاج إلى تقنيات معقدة.
الفيلم يطرح نموذجاً للمعادلة الصعبة التي يقول الكثيرون من المبدعين بأنها مستحيلة ، فهو يطرح قضية في غاية الجرأة ، وهي (( ماهية الحب )) منطلقاً من سطور في كتاب (( طوق الحمامة )) الفقيه الأندلسي الشهير " ابن حزم " ، وهو - أي الفيلم - يضعك وسط أزقة الأندلس ، ويدخل بك مساجدها دون أن ينفق جهداً كبيراً في تحديد العصر أو المدينة التي تجري بها الأحداث .
في الحقيقة أن المخرج تألق في استخدام أدواته الفنية ، ومعارفه المتنوعة من العمارة و الفلسفة و الفن التشكيلي ليرسم لك الصور مشهداً مشهداً ، ويضع المعاني متوالية تنفذ إلى العقل والقلب ، وهو يناقش مسألة الحب من منظور هذا العصر المجيد حين كانت المساجد هي مجالس العلم الذي يشمل كل معارف الدين و الدنيا ...
فتجد نفسك داخل درس للشيخ الذي يشرح الأسماء المختلفة للحب ، ومعانيها ولا يكتفي الفيلم بذلك ، بل يتضمن نقداً سياسياً لاذعاً للاستبداد و الفوضى في الصراع بين الطغاة و المستضعفين الذي يتكرر عبر مراحل التاريخ المختلفة .
ورغم أن الخيال يتداخل مع الواقع طوال حكايات الأحداث ، والشعر ينساب جنباً لجنب مع رواية الأحاديث الشريفة ، وتشكيلات الخط العربي تخطف بصرك و الموسيقى المصاحبة تشد أذنيك ، ورغم الاحتشاد المتلاحق للكلمات والمعاني ، والمفردات والأدوات الفنية فإنك لا يمكن أن تشعر بالتشويش أو التناقض أو التداخل ، بل ستشعر بتضافر كل هذه المفردات لتعيش الحالة الساحرة التي يصنعها هذا العمل المدهش .
فيلم (( خريف 86 )) للمخرج رشيد فرشيو 1990 يتحدث عن قصة حب بين صحفي وكاتب معروف وسكرتيرة يعينها لديه لتطبع له كاتباً على الآلة الكاتبة .. تجري بينهما قصة حب رقيقة لكن أحدهما لا يجرؤ بالبوح بها للآخر ، يمنعها حياؤها وكبرياؤها وهو يمنعه ذلك الصراع الداخلي الذي يعانيه بين بقايا الحب الذي يكنه لزوجته السابقة وبين فارق العمر الكبير بينهما .. ورغم أن المخرج أصر على أن فيلمه سياسي إلا أن ملامح قصة الحب تطغى على الفيلم .. والفيلم بعيد عن الشارع التونسي ولا لواقع الطلبة . وسمات المرحلة التي يعرض لها الفيلم والحوار كان أكثر حضوراً على حساب باقي العناصر الجمالية .

فيلم (الحلفاويين) أو (عصفور السطح) للمخرج فريد بوغديرالمنتج عام 1990 ، من أفلام السيرة الذاتية، كما أعتبره الكثيرون، أنه يتضمن مشاهد من ذاكرة مؤلفه ومخرجه أثناء طفولته في ذلك الحي الشعبي الشهير بالعاصمة التونسية حيث نشأ وتفتح وعيه وسط شخصياته وبين أسواره وظل يحمل الكثير من ذكرياته بين جوانبه.
أن فيلم بوغدير الأول هذا ينتمي لتيار السينما العربية الجديدة التي لا تعتمد على قصة محكمة الأطراف تتصاعد فيها الدراما وصولا إلى الذروة وأن طريقة البناء التي يستخدمها المخرج تعتمد على التداعي الحر الذي يصنع نسيجا شديد الحيوية، يدور حول شخصية محورية لصبي يتطلع إلى ما يحدث حوله من خلال نظرته الشخصية، ولعل الهاجس الجنسي هو أكثر الهواجس التي لم تطارد الصبي وحده، بل تملكت أكثر الشخصيات المحيطة به ويسعى الفيلم من خلال اختيار هذا الجانب المسكوت عنه في ثقافتنا العربية إلى سبر أغوار موضوعات راسخة في المجتمع العربي هي موضوع الجنس والعلاقة مع الأنثى والنظرة الذكورية للمرأة في مجتمع متخلف وقد نجحت كاميرا بوغدير في التسلل لتصوير أكثر المشاهد خصوصية داخل الحمام الشعبي للنساء. أن الحمام هنا هو معادل التحرر والحرية ولأن موضوع الفيلم الرئيسي يدور حول الكبت أو القمع الأبوي الذكوري، فإن البطل الصغير يسعى إلى التحرر من سيطرة الأب في معادل حسي جنسي بمحاولة قطف الثمرة المحرمة.
(الحلفاويين)يثير الاعجاب ليس فقط لتصويره الصادق لمجتمع الكبت الموروث والقهر الاجتماعي والنفسي ونفاق الذات، بل أيضا في سحره الخاص بإيقاعه الموسيقي الموزون، واكتشاف الأماكن الصحيحة واللقطات الشفافة والموسيقى الناعمة، ولهذا يعتبره أحد أهم الأعمال المهمة في السينما التونسية والعربية عموما التي تتعامل مع التعبير الذاتي للفنان
والحلفاوين هي منطقة شعبية في تونس، وعصفور السطح هو ذلك الصبي الصغير، ابن المخرج بالمناسبة، الذي تتشكل مخيلته عن الجنس الآخر، والعلاقة به عبر تفاصيل الحياة اليومية.
الأحداث طوال الفيلم مقدمات لحفل كبير سيقام في منزل هذا الصبي لختان أخيه الأصغر، والسرد ناعم، ولكنه شديد الجرأة يحاول استكشاف العالم الجنسي لطفل يعبر إلى مرحلة المراهقة في مجتمع تقليدي تتشابك فيه العلاقات بين الرجال والنساء.
إذا تجاوزت صدمة الانتقال فستجد الطفل ينضج وتتشكل مخيلته الجنسية تدريجيا عبر الحكايات والأساطير التي سمعها صغيرا، والمشاهد التي يختلسها أو الكلمات التي تصل إلى أذنيه، وتجارب الطفولة التي تجاهد لتعرف ما وراء الستار، وترتبك أمام تعريفات متنوعة وملتبسة للرجولة وماهيتها، وتبحث عن تأكيد هويتها الجنسية بالتعرف على هوية الطرف الآخر فيتضح الفارق، ويتأكد الاختلاف.
وهناك الخالة التي تأخر زواجها فتتشنج تارة، وتتدلل تارة أخرى راغبة في الشيخ صديق الأسرة، ولكنه معرض عنها، وهي ترفض إراقة ماء وجهها، فلا بد أن تكون الخطوة الأولى منه.
وهناك ابنة العم الناضجة المطلقة والتي جاءت للعيش مع الأسرة وهي متحررة نسبيا عن الباقيات، ورافضة للاستجابة لمحاولات الإغواء من الأب سيد الدار الذي لا يكف عن ملاحقة الحسناوات مع الحفاظ على مظهره الصارم القاسي أمام أهل بيته وولده.
وهناك الفتاة المراهقة التي تأتي للخدمة في الدار فتكون رافدا من روافد تشكيل مخيلة الطفل بطل الفيلم، وساحة من ساحات تجريبه وعبثه الطفولي.
صورة لعالم متشابك من الرغبات والحكايات لا يتعرى جهارا ، ويحب الستر، ويحرص على وجود ستار بين الرجال والنساء مهما كان هذا الستار رقيقا ليحافظ على حدود، غالبا ما تكون مرنة، وقابلة للتجاوز حسب الظروف.

و اتحد كل من محمود بن محمود و فاضل جيبي ليقدما "شيشخان" عام 1992 العنوان الغريب للفيلم ، " شيشخان " ، هو اسم سوار يتداوله الأبطال .. فمن المعروف أن لقطع الحلي الثمينة أسماء خاصة بها .. كأن يقال " زمردة تيمور " ، أو " جوهرة البنغال " ، أو " ماسة جبل النور " .. وليس لسوار " شيشخان " في الفيلم قيمة مادية فحسب ، بل هو ، في المحل الأول ، قيمة معنوية .. إنه يمثل النبل والأصالة والماضي العزيز .. ورثه عباس ، أو جميل راتب ، أباً عن جد .. وفي بداية الفيلم ، قبل ظهور العناوين ، يهجم شاب قوي الجسم ، ضليع في الإجرام ، مسرف في القسوة ، على العجوز " عباس " .. ينهال عليه لكما ، ويطرحه أرضاً ليركله بقدمه ، آمراً بأن يحضر له " شيشخان " .. ثم يتركه متورم الوجه ، يلتقط أنفاسه بصعوبة ... امرأة تقترب من العجوز ، تساعده على النهوض .. ينظر لها جميل راتب ، المتألق ، بعيون تمتلئ بالامتنان .
وليس " شيشخان " فقط هو الذي يكتسب معنى إيحائياً .. ولكن الفيلم كله يتسم بطابع إيحائي ، وإن كان يجنح ، في أحيان عدة ، إلى الغموض والإبهام .
كاتبا السيناريو ، وهما المخرجان في الوقت ذاته : محمود بن محمود وفاضل الجعايبي ، قاما بعزل أبطالهم تماماً عن الواقع ، فالأحداث كلها تدور في أماكن مغلقة ، بعيدة عن الحياة . والشخصيات تنفعل وتتصرف على نحو لا يخضع لمنطق مفهوم ، وعلاقاتهم ببعضهم البعض ، وتطوراتها ، تعزوها التفسيرات والمبررات .. ومع هذا فإن الفيلم ، المعتمد على " الأجواء " الخاصة ، بفضل تصوير الإيطالي غلبرتو أزفيديو ، بالصراعات التي عبر عنها بنزاعات الضوء والعتمة ، يعطي للمشاهد إحساساً بحرية هؤلاء الأبطال ، وتمزقا تهم الداخلية .. أضف على هذا الأداء المميز للممثلين الذين يعبرون ، باقتدار ، عن القلق والعناء .
العجوز ، " عباس " ، أو جميل راتب .. بعد أن أوصلته المرأة – اسمها كنزة وتؤديها الفنانة التونسية ، جليلة بكار – يمنحها السوار الثمين ، تقديراً لها على حنوها عليه .. وإزاء إصراره ، تقبلها.
نكتشف ، من خلال حوارات متناثرة ، إن الشاب البلطجي ، " كريم " – وهذا اسمه وليست صفته – والذي يؤديه ، فتحي هداوي ، ما هو إلا ابن عباس !.. والده يزعم أنه ، ابن حرام ، كانت والدته الإيطالية تعمل خادمة ، وعندما عرفها كانت تحمله في أحشائها .. والشاب ، بدوره ، يرى في العجوز مجرد كتلة من الأنانية المطلقة ، تستحق السحق .
بإزاء هذه العلاقة لا يملك المرء إلا أن يتساءل : هل يريد الفيلم أن يعبر عن الهوة الفاصلة بين جيلين ؟ .. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من البحث في أسس الخلاف بينهما .. وهنا لا يمكن التعاطف مع طرف ضد الآخر, وعلى هذا النحـو يلتقي الغريبان , ثم تبدأ الأمور بالانكشاف تدريجياً , فالعجـوز ليس غريباً تماماً عن المرأة التي ساعدته ... تمنـو أمامنا مجموعة علاقات عاطفية و عائلية تدور حول " ارث " يحمل اكثر من معنى و دلاله , ونجــد أنفسنا امام لعبة مجازية , وشخصـيات تكشف لنا الكثير عن حاضـر " تونس " وجزء من ماضيها , ثم نغوص في الذاكرة وفي العلاقات التي تصيغ للذاكرة معانـيها .
لكن الواضح أن الروح المسرحية غلبت على طابع الفيلم ..فالأماكن المغلقة ، والديكورات التي تبدو وكأنها منصوبة على خشبة مسرح متعددة المستويات ، والحوارات الطويلة التي تتحدث عن أحداث لا تعرض على الشاشة ، كلها أمور جعلت كفة المسرحي أثقل من كفة السينمائي .. ولولا اقتراب المصور الطلياني ، غلبرتو أزفيديو ، من وجوه الأبطال ، في لقطات كبيرة ، لكان " شيشخان " مسرحية خالصة .

لكن الاسم البارز في هذا العقد كان هو المخرج نوري بوزيد خريج ال IDHEC الذي قدم موضوعات وطرق مجالات جديدة تماما على السينما العربية و قدم أول أفلامه الروائية عام 1986 { ريح السد } الذي حاز عنه التانيت الذهبي بقرطاج و يغمس (( ريح السد )) موضوعه هذا في خصوصية بيئة محلية أصيلة ، هي بيئة مدينة صفاقس التي ينتمي إليها مخرجه النوري بوزيد . ومن تفاصيل هذه البيئة وعناصرها المكانية ، وكذلك من طبيعة ملامحها الاجتماعية وطقوسها وعاداتها الموروثة ، ينسج بوزيد معالجة موضوع فيلمه ، فيعطيه كينونة اللحم والدم والأعصاب ، وبالتالي صدق الشهادة وقوة تأثير الخطاب . ثم { صفائح من ذهب }عام 1988 و {بزناس } 1992الذي يحكي عن نموذج من الشبان التونسيين الحائرين بين التقاليد وبين الحياة الاستهلاكية , فهذا الشاب " زوفا " يؤجر جسده الفتي للسائحات ويحلم بممارسة الحياة العصرية والسفر , بينما هو مشدود الى تقاليد العائلة والحي . .
وفي أواخر الثمانينات و أوائل التسعينات ظهر –بالإضافة إلى بوزيد- عدد آخر من صانعي الأفلام ، منهم:
المخرج حبيب مسلماني بفيلم "صبرا والوحش" عام 1986 .
نجيب زواوي بفيلم "42 درجة في الظل عام 1986 .
علي لبيدي بفيلم "برق الليل" عام 1990 مقتبسا من رواية لبشير خريف .
فيتوري بلهيبا بفيلم "رقية" عام 1990 .
المخرج محمد علي العُقبي بفيلم "الززوات" عام 1992 .
المخرج احمد جيماني بفيلم "ريح المصائر" عام 1992 .
المخرج منصف دويبي –الذي كان معروفا من قبل بأفلامه القصيرة- بفيلم "سلطان المدينة" عام 1993 . : في وكالة قديمة , يعيش عدد من الأسـر علاقات متشابكة تسيطر عليها طقوس و تقاليد عتيقة ... " رملة " العذراء الشابة التي تعيش حبيسة غرفة صغيرة في انتظار عودة خطيبها ليخلصها من هذا السجن العتيق _ " فرج " شقيق المعتوه الذي تؤمن النسـاء بقدراته السحرية , يقنع " رملة " بالهرب معه خارج سجنها , لكنهما يعجزانفي النهاية عن تجاوز الحدود المرسومة التي فرضت عليهما .
فيلم" كش مات " للمخرج رشيد فرشيو المنتج عام 1994 ، مسرحي الطابع .. يدور ، في مكان واحد ، قصر أقرب إلى القلعة.. في منطقة معزولة ، يستقر فيها الرئيس السابق ، ليجمع شتات نفسه ، ويعيد حساباته ويستعد للعودة مرة أخرى .. وفي هذا " المكان الواحد " ، الذي يشبه خشبة المسرح ، يتحرك إلى جانب الرئيس أربعة أفراد : زوجته " ياسمين " ، حيث تقوم بدورها فرانسواز كريستوف .. وهي ، وإن بدت ناعمة وملساء من الخارج ، فإنها ، في داخلها ، على قدر كبير من خشونة تصل إلى درجة الشراسة ، تجيد التخطيط للمؤامرات وتحتفظ دائماً بزمام المبادرة يساعدها على تحقيق مآربها ، مساعد زوجها ، رجل المخابرات " سعيد " أو مازيد لاكال ، المخاتل ، الذي لا يتورع عن تغيير ولائه من سيد لآخر ... ثم يأتي إلى " القصر – القلعة " ، " مهدي " ، نيلز تافرنير ، الشاب الرقيق ، ابن الرئيس ، المختلف دائماً مع والده .. ومعه ، صديقته الأثيرة " مايا " التي تقوم بدورها شيريهان ، صاحبة الشخصية المنطلقة التي يكتنفها الغموض .
بهذه الشخصيات الأربع ، في علاقاتهما المركبة ببعضهما ، تنهض " دراما " الفيلم ، والتي لا تعتمد على الأحداث ، بقدر ما تعتمد على الحوار .. بل ولا يكاد " كش مات " يتضمن أحداثاً متعددة ، أو كبيرة . ولكن ثمة سلسلة من مواقف متوالية ، بين شخصيتين أو أكثر ، يدور بينهما ، أو بينهم ، حوارات صاغها كاتب الحوار ، المشارك في كتابة السيناريو ، حسن . م . يوسف ، على نحو مميز بحق ..

فصل من كتاب - السينما في المغرب العربي.



#محمد_عبيدو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السينما في تونس- البدايات
- فيلم -المنارة- للجزائري بلقاسم بلحاج:
- محمد شويخ - سبنما التأمل الجريء بالواقع العربي
- آلان رينيه: الإنسان ليس إلا حصيلة لماضيه
- السينمائي الفرنسي موريس بيالا
- رحيل المخرج الياباني الكبير شوهي امامورا
- اخطبوط صهيوني في افلام الرسوم المتحركة
- مهرجان السينما الفرانكفوفونية بدمشق
- سينما شعرية تحاكي الموت وتقارب نبض الحياة
- السينما الاسبانية
- (( ليل السكّير ))
- اشتهاءات مبددة
- اسبوع الفيلم الاوروبي بدمشق
- سعاد حسني : قمر السينما المكسور
- معطف الارتباك
- «نساء في صراع»
- - فندق رواندا
- أفلام الرسوم المتحركة
- مرزاق علواش
- الحرائق تسكن دمه


المزيد.....




- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبيدو - السينما في تونس- 2