أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى الدروبي - بحث بعنوان - قراءة تاريخية في العلاقات السورية الروسية -من الشيوعية إلى الأوراسية-















المزيد.....



بحث بعنوان - قراءة تاريخية في العلاقات السورية الروسية -من الشيوعية إلى الأوراسية-


مصطفى الدروبي

الحوار المتمدن-العدد: 6616 - 2020 / 7 / 12 - 22:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أولاً : المقدمة
ثانياً : العلاقات السورية الروسية إبّان العهد السوفييتي.
1 من ثورة البولشفيك إلى فجر الاستقلال السوري الأول.
2 السوفييت وأنظمة التطور اللا رأسمالي.
ثالثاً : روسيا الأوراسية واستعادة الأحلام الإمبراطورية الضائعة.
رابعاً : خاتمة.


مقدمة :
كثرت الأحاديث والتسريبات المتداولة حالياً حول مصير رأس النظام السوري بشار الأسد خصوصاً بعد الظهور الفيسبوكي لخازندار أموال السوريين المسروقة من قبل النظام رامي مخلوف وبداية فتح الصندوق الأسود للعائلة الحاكمة في دمشق والتي لطالما ظلت أسراره خفيّة على الشعب وقواه السياسية منذ خمسة عقود خلت حيث كانت جل التصريحات مصدرها روسياً فالروس قابضون على الملف السوري منذ أن غضت واشنطن الطرف عن تدخّلهم به كما يشاؤون رغبة منها كما يبدو وهي المتابعة للتطورات الدراماتيكية لهذا الملف بتوريط بوتين في المستنقع السوري وتركه يتخبط لاحقاً دون أن ينعم بجني مغامرة تدخله غير المحسوب جيداً أو أن بوتين وبسبب ابتعاد الولايات المتحدة الأمريكية عن الرمال المتحركة في الشرق الأوسط نتيجة مغامرتيها المكلفتين والمريرتين في كل من أفغانستان والعراق ظناً منه أنه سيقوم بملء الفراغ الحاصل ويجعل عملية السطو على سورياً أمراً واقعاً (بحكم الهامش المتاح أمريكياً لروسيا) خصوصاً بعد خسارتها لموقع ليبيا على المتوسط "وعد القذافي عام 2008 الرّوس بإنشاء قاعدة عسكرية روسية في بنغازي" إثر سقوط حكم الديكتاتور القذافي ومقتله في أكتوبر من عام 2011 (حيث ادعى الكرملين أنه تعرض للخداع بموافقته على قرار أممي شرع لاحقا التدخل الدولي للإطاحة بحليفها الليبي) وخسارة شركات السلاح الروسية تالياً لعقودٍ بمليارات الدولارات التي كانت فجاءت عملية تدخله مطلع شهر أيلول من عام 2015 لإنقاذ نظام دمشق والذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط بعد أن أوغل بدماء طلاب الحرية في سوريا وكذلك بعد فشل التدخل الإيراني عبر ميليشياته العابرة للحدود وعجزه مع ما تبقى من جيش النظام عن الحاق الهزيمة بفصائل المعارضة المسلحة بكاف أطيافها والتواجد على الأرض السورية كقوة احتلال مديدة بحثاً عن موطئ قدم لروسيا في المياه الدافئة وهو حلم ظل على الدوام يراود الروس منذ العهد الغابر لقياصرتها وكذلك سعي بوتين (القيصر الجديد لروسيا) للعمل على توسيع نفوذه في منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من البوابة السورية.

أولاً : العلاقات السورية الروسية إبان العهد السوفييتي
1 من ثورة البولشفيك إلى فجر الاستقلال السوري الأول
لقد ارتبطت بعض الدول العربية بعلاقات تاريخية مع الروس منذ العهد السوفييتي الأول أي منذ وصول البلاشفة للسلطة في روسيا عام 1917 حيث استقبلت شعوبها نداء لينين والذي جاء تحت عنوان "إلى جميع الكادحين في روسيا والشرق" بارتياح شديد وبآمال عريضة حتى أن السلطة البولشيفية وعبر هذا النداء أظهرت أهداف ثورتها ورغبتها بهتك سر المعاهدات والاتفاقيات الموقعة من قبل حكومة الإمبراطورية الروسية عام 1916 مع كل من بريطانيا وفرنسا رافضة مبدأ "الدبلوماسية السرية" حيث فضحت التواطؤ" الانكلو- فرنسي الروسي آنداك" (اتفاق وزير خارجية الإمبراطورية الروسية سيرغي سازانوف مع كل من مارك سايكس الإنكليزي وجورج بيكوالفرنسي) وذلك بعد يوم واحد من انتصار الثورة ولعل هذا النداء هو أول مبادرات قادتها في هذا المجال وقد كان لإقدام الحكومة السوفيتية على فضح وكشف تلك المعاهدات والاتفاقيات دور في لفت نظر العرب اليها في فترة مبكرة حيث كانت خلالها الدول الاستعمارية الكبرى تتآمر وتعد المشاريع والاتفاقيات السرية وغيرها من المخططات لاقتسام العالم العربي ووضع اليد على التركة العثمانية وساعد الموقف السوفيتي هذا على نمو الوعي القومي والوطني لدى الشعوب العربية (ولكن لم يكن بوسع الحكومة السوفيتية ان تفعل شيئا أكثر من ذلك لمعاونة الحركة الثورية في هذه الفترة بسبب الظروف الخاصة التي أحاطت بالثورة البلشفية في أيامها الأولى)(1) وظل "لينين" يحذر من مخططات الانتدابات المتعددة والتي رسمتها الدول الاستعمارية الطامعة بالنفوذ والهيمنة وفضح نواياها كاشفاً الجوهر التّسلطي الاستعماري لمرامي سياسات الانتداب حين قال " نحن نعلم حق العلم أنهم عندما يتحدثون عن توزيع الانتدابات على المستعمرات فإنما يعنون توزيع انتداباتهم للسلب والنهب والسماح لأقلية ضئيلة من سكان الأرض بحق استثمار الأكثرية من سكانها" (2) حتى أن لينين بعث برسائل لكل من الزعيمين الوطنيين في سوريا ومصر (إبراهيم هنانو و سعد زغلول) مبدياً استعداده لتقديم الدعم للثورات العربية ومحذّراً مما هو مرسوم للعرب ومستقبل بلدانهم من قبل الدوائر الاستعمارية النافذة.
أما بالنسبة لسوريا وشعبها الرازح تحت سلطة الانتداب الفرنسي فإنها لاقت الكثير من الدعم لمطالب استقلالها من قبل الدولة السوفيتية في المحافل الدولية وأقيمت العلاقات الدبلوماسية بين موسكو ودمشق في 26 ت2 – أكتوبر من عام 1944 وحين تحقق الجلاء الكامل لقوات الانتداب الفرنسية عن الأراضي السورية وذلك بعد ست وعشرين سنة ونيّف من نضال الشعب السوري الذي لم يتوقف طيلة هذه الفترة وعبر ثوراته المتعاقبة ظل الموقف السوفييتي وفياً لتعهداته وبالمقابل ثمّنت قيادات العهد الوطني هذه المواقف التاريخية عالياً وأعربت عن امتنانها للمواقف السوفيتية والتي كان لها الأثر الكبير بتحقيق هذا الاستقلال حيث عملت لاحقاً على توطيد عرى الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل وعدم التّدخل في الشؤون الداخلية لكلا الطرفين وتجسّد ذلك بداية بتوقيع اتفاقية هامة وواسعة بين البلدين شملت مجالات عديدة اقتصادية وعسكرية ولوجستية كـ إنشاء سكك حديدية وطرق ومنشآت للري ومحطات كهربائية وبناء مؤسسات صناعية وغيرها من مشاريع البنى التحتية وذلك بعد الزيارة المشهورة لرجل الدولة والشخصية السورية المرموقة خالد العظم في ديسمبر/ كانون الأول من 1957 إلى موسكو وتوقيعه لاتفاقية تعاون اقتصادي واسعة حيث رأت القوى الوطنية من البرجوازية السورية حينها أن السوفييت أكثر ضماناً وصدقيّة من الدول الغربية الطامعة على الدوام بالهيمنة والسطو على مقدرات الشعوب المستقلة حديثاً وفرض أجنداتها السياسية وزجها وتوريطها بأحلاف لا ناقة لها فيها ولا جمل ..بل يراد منها المس بالقرار الوطني المستقل لهذه الدول حديثة الاستقلال وكان هذا أمراً واقعاً في الحقيقة خصوصاً أن قائد الثورة البولشفية كان يرى بانتصار شعوب المستعمرات عهداً جديداً يتجلى بانحسار الهيمنة الإمبريالية على العالم وأن نصرة الشعوب المستضعفة من قبل الدولة السوفيتية الناشئة ماهي إلا دعم لثورة العمال والفلاحين الروسية وحليف هام لكل قوى التحرر الوطني والاشتراكية على مستوى العالم وهذا ما أكدته لاحقاً وبعد وفاة لينين وثائق الكومنترن بعد صعود الحركة النازية في المانية والفاشية في إيطاليا حيث طلب المؤتمر السابع للأمميّة الشيوعيّة من الشيوعيّين "أن يبيّنوا أنّ الطبقة العاملة هي المدافع الحقيقي عن الحريّة القوميّة واستقلال الشعب انطلاقا من نضالها ضدّ الاستعباد وضدّ كلّ اضطهاد قومي ووطني. وفي نفس السياق دعا المؤتمر الشيوعيين إلى مجابهة الفاشيين في ما يعمدون إليه من تزوير للتاريخ ونبّه إلى خطورة السلوك المتمثّل في ازدراء مسألة الاستقلال الوطني والمشاعر القوميّة لدى الجماهير الشعبيّة. وذكّر بأنّ الشيوعيين معنيّون بمصائر بلدانهم ولا يمكن أن يكونوا من أنصار العدميّة القوميّة كما انّهم ليسوا من المدافعين عن القوميّة البورجوازيّة الضيّقة"(3)
ثم أكد الكومنترن لاحقاً ولأكثر من مرة على ضرورة التحالفات بين الشيوعيين وكافة القوى الطبقية المناهضة للاستعمار بما فيها البرجوازيات المحلية لأنها طرفاً متضرراً أيضا من هيمنة القوى الاستعمارية على اقتصادات بلدانها وهذا ما تجلى في سوريا وأثمر بشكل طيب من خلال تجسير العلاقة بين الشيوعيين في كل من سوريا ولبنان مع البرجوازية الوطنية في هذين البلدين حيث أكدت بنود المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان المنعقد عام 1944 على "تشكيل جبهة وطنية واسعة من أجل نيل الاستقلال الوطني وترسيخه تحت لواء حكم وطني تقوده البرجوازية السورية ..." .
وفي أثناء عقد المفاوضات بين وفد الكتلة الوطنية والحكومة الفرنسية في عام 1936 انتقل خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري من موسكو إلى باريس كي يسهم في إيصال المفاوضات إلى النجاح وذلك بدفع الشيوعيين الفرنسيين وحلفاءهم في الجبهة الشعبية الحاكمة آنذاك إلى تأييد استقلال سوريا عبر صحافتهم وبياناتهم وكانت لقاءات عديدة قد تمت بين بكداش وبعض قادة الكتلة الوطنية السورية وأن صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي " اللومانتيه " قامت بتغطية واسعة لجولات المفاوضات ولعبت دوراً هاماً في هذا المجال.
2 السوفييت وأنظمة التطور اللارأسمالي!
ومع تطور حالة الصراع مع الكيان الصهيوني ودعم المراكز الرأسمالية العالمية لهذا الكيان أصبحت قضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني على رأس أجندة الحكومات العربية خصوصاً في كل من سوريا ومصر والعراق ولهذا توطت عرى العلاقات السوفيتية العربية رغم امتعاض السوفييت من الاضطهاد الذي كان يتعرض له الشيوعيين في هذه البلدان على يد حكوماتها لكن السوفييت ظلوا يراهنون على المستقبل وتفهّم وقناعة العرب لاحقاً من صدق النوايا السوفيتية من قضاياهم رغم المنغصات التي اعترت هذه العلاقات ولأكثر من مرة خصوصاً بعد تصويت المندوب السوفيتي على قرار تقسيم فلسطين (قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 والذي أُصدر بتاريخ 29 نوفمبر 1947 ) والذي كان فرصة هامة كما نرى "وأضاعها العرب للأسف" بسبب غياب العقلانية في العمل السياسي العربي ولعدم تفهم الساسة العرب لطبيعة المشروع الصهيوني ومراميه بعيدة المدى والدور الوظيفي المرسوم لـ إسرائيل من قبل المراكز الإمبريالية حيث لو قَبِل العرب بالتقسيم لاستطاع الشعب الفلسطيني أن يبني دولة مكتملة الأركان منذ ذلك التاريخ ولكان قد وفّر الكثير من الآلام والدماء والتضحيات الجسام والهرولة وراء حلم دولة لم يتحقق حتى الآن بل انتهى عند صفقة وقحة تجيز للصهاينة تصفية القضية الفلسطينية وتضع أجيال فلسطين أمام متاهات جديدة.
وحين كانت تحضّر سوريا و مصر وتعد لحرب تشرين 1973 تتالت زيارات حافظ الأسد للاتحاد السوفييتي لتأمين الدعم العسكري واللوجستي لكل من الجيش السوري والمصري خصوصاّ بعد أن ارتكب السادات حماقته المشهورة بطرد 20 ألف خبير عسكري سوفيتي يوم 8 تموز 1972 ظناً منه أن أمريكا ستفتح له الأبواب المغلقة ( كان الاتحاد السوفيتي يقدم لسوريا ومصر الدعم السياسي والعسكري في مواجهتهما لإسرائيل تحديا للدعم الكبير التي كانت تتلقاها إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية "لذا ساهم السوفيات بشكل متعاظم في بناء الجيش السوري وقدراته العسكرية، خاصة بعد وصول حافظ الأسد للسلطة وتحديداً بين عامي 1970-1973، فوتيرة التّسلح في هذه المرحلة لم يكن لها نظير في أية تجربة للاتحاد السوفياتي، حتى مع حلفائه في الكتلة الاشتراكية".
"التجربة السوفياتية في سوريا تُعد ذات دلالة خاصة، كونها مثلت رهاناً جيوسياسياً متعاظماً، ارتبط بالإستراتيجية العالمية للاتحاد السوفياتي كدولة عظمى"(4)
بعد ذلك تم توقيع اتفاقية الصداقة والتعاون بين اتحاد الجمهوريات السوفيتية وسوريا يوم 08.10.1980 والتي ظلت ترتقي وتتعمق خصوصاً في عهد أندربوف والذي قدم دعماً مفتوحاً لها حتى أنه قال قولاً حاسماً لوزير دفاعه ذات يوم : " إذا لم يكن هناك فائض من السلاح فاذهب وخذه من المخازن وارسله إلى دمشق فوراً ".. وتابع :«إنّنا لن نسمح لأحدٍ بأن يهدد سوريا» وهذا ما اشتغل عليه السوفييت انطلاقاً من الموقع الجيوسياسي والستراتيجي الهام لسوريا والتي تشكل مدخلاً هاماً نحو العمق العربي فكلنا يذكر المحاولة الانقلابية التي حضّر لها رفعت الأسد مستغلاً الوضع الصحي لحافظ الأسد عندما تحركت قواته (سرايا الدفاع) صبيحة 13 نيسان 1984 للاستيلاء على السلطة وبداية ظهور نذر التّصدع والصّراع بين أركان العائلة الأسدية المهيمنة على سوريا ومقدراتها حيث تدخّل السوفييت حينها وقاموا باحتواء الحالة وتخميدها من خلال ترتيب لقاء للأطراف المتصارعة في موسكو ليتم على إثرها منع عودة رفعت وحلفائه إلى دمشق وكذلك وقوفهم إلى جانب الأسد بقضية التوريث لبشار بعد مقتل شقيقه باسل مراهنين على ديمومة العلاقات بين البلدين منعاً لوصول قوى أخرى لا يروق لموسكو وصولها أو الرهان عليها.
من هنا نتفهم موقف الاتحاد السوفيتي من قضية دعمه لسوريا"لكن على الرُّغم من ذلك فقد أخذت العلاقات السورية الروسية بالتعزيز منذ عام 2006، وأصبحت روسيا مورِّدَ السلاح الأساسي لسوريا، وأخيراً وافقَ الرئيس السوري بشار الأسد في سنة 2008 على اتفاقية لبناء قاعدة عسكرية بحرية روسية دائمة مجدداً في طرطوس، لتكون مركزاً جديداً لروسيا في البحر المتوسط"(5). علماً أن حافظ الأسد قد وقّع مع السوفييت عام 1971 اتفاقية إنشاء نقطة إمدادات ومساعدة تقنية ذات أهمية استراتيجية عسكرياً وتجارياً ومنصة هامة للإطلالة على المتوسط لتخديم الاسطول الروسي في طرطوس.
ورغم تراجع العلاقات السورية السوفيتية واتسامها بالبرود بعد وصول غورباتشوف لقيادة الاتحاد السوفييت وإطلاقه لمشروعه في التحديث والشفافية والذي عرف بـ (البيريسترويكا والغلاسنوست) إلا أن الدولة العميقة الروسية وريثة العهد السوفيتي ظلت تعتبر سوريا موقعاً جيوسياسياً وستراتيجياً بالغ الأهمية.

ثالثاً :روسيا الأوراسية واستعادة الأحلام الإمبراطورية الضائعة
بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وحجر زاويته الاتحاد السوفييتي حدث فراغ أيديولوجي كبير وأصبحت روسيا أمام خطر التّفكك والحصار الذي دهمها من محيطها القريب أي من حلفاء الأمس في حلف وارسو المنحل كـ (التشكيك – المجر- بولندا- بلغاريا – استونيا – لاتفيا- رومانيا – سلوفاكيا- ألبانيا) بالإضافة إلى سولفينيا وكرواتيا والجبل الأسود والتي كانت في السابق جزءًا من جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية (1945–1991) ولأن الطبيعة والعقائد والأيديولوجيات لا تعرف الفراغ خرج بعض المفكرين والفلاسفة الروس للمتح من عقيدة الأوراسية بعد أن علا سطحها غبار كثيف منذ أن طرحها بعض المفكرين الروس في عشرينيات القرن المنصرم وأعاد تجديدها وطَرْحِها من جديد الفيلسوف الروسي المنشق في العهد السوفيتي "الكسندر دوغين" وأخذ يروج لها مدعوماً من بعض الشخصيات المؤثرة في السلطة الروسية حتى باتت أفكاره لاحقاً الموجّه للفريق الحاكم الذي خَلَفَ سلطة يلتسن وعلى رأسهم فلاديمير بوتين حتى راح البعض يسمي هذا المفكر بـ دماغ القيصر الروسي الجديد و بُوصِلتة!
إن جوهر الأوراسية يكمن في النظر إلى أن روسيا هي قلب أوراسيا النابض(أوربا – آسيا) وأن أوراسيا هي قلب العالم ..يقول د. محمد دياب الخبير في الشأن الروسي ملخصاً جوهر هذه العقيدة: (الأوراسيّة عقيدة روسيّة ترغب بالتحوّل من جديد إلى تيار فكرو/‏‏‏ سياسي منظّم هدفه معارضة الهيمنة العالمية للغرب، واستعادة موسكو لتوازنها من جديد مع حلف شمال الأطلسي وإقامة «الإمبراطورية الأوراسية» المعبّرة عن الروح القومية الروسيّة المتجدّدة، وبسط الهيمنة الجيوسياسية لهذه الإمبراطورية على المحاور البرية والبحرية المجاورة، والتي يشكّل عالمنا العربي والعالم الإسلامي أحد أحزمتها المركزية.. وكله بحسب ألكسندر دوغين، فيلسوف الأوراسيّة، وعقلها التنظيري المدبّر، والمؤلف لـ أكثر من 60 كتاباً ، في طليعتها كتبه المختصّة بالهوية الروسية والتحديات المصيرية والاستراتيجية المفروضة على الدولة - الأمة الروسية، خصوصاً كقطب عالمي يرفض الأحادية القطبية ويسعى إلى فرض التعددية القطبية بديلاً منها.). و"بالتالي، فإن روسيا هي دولة أوروبية وآسيوية، حيث يقع القسم الأكبر من أراضيها وثرواتها في آسيا، بل إن عمقها الاستراتيجي، الاقتصادي والعسكري، يمتد في رحاب هذه القارة. وهي لم تتحول دولة عظمى لها ثقلها ودورها الفاعل على الصعيد الدولي، إلا بعدما نجحت في القرون الماضية في الخروج من قوقعتها في جزئها الأوروبي، وتمددت جنوباً نحو القوقاز كخطوة على طريق تحقيقها حلمها الدائم في الوصول إلى المياه الدافئة، وشرقاً عبر سيبيريا، وصولاً إلى الشرق الأقصى وشواطئ المحيط الهادئ"(6).ومن هنا نستطيع القول : أن سطوة اليمن المتطرّف على الكرملين اليوم جاء لتحقيق أهداف هذه النزعة القومية ومبادئ الكنيسة الأرثوذكسية وبناء عالم متعدد الأقطاب ولذا ينظر الشيوعيون إلى هذه النظرية على أنها نظرية برجوازية و فاشيّة ومحافظة ومعادية لكل أشكال الحداثة شيوعية كانت أم ليبرالية.
يرى الكاتب اللبناني مصطفى فحص : أنه "بعد إعادة انتخابه سنة 2012 دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إعادة تعريف الهوية الروسية الجديدة بعيدا عن تأثيرات الليبرالية الغربية، باعتبارها عقيدة وطنية تمثل خيارات الأمة الروسية العظيمة ببعديها الجغرافي والعقائدي، اللذين يمنحاها شرعية زعامتها للعالم الأرثوذكسي، وكونها قوة عالمية فهي مؤهلة للقيام بواجب التدخل لحماية رعاياها".(7)
إن التيار اليميني المتطرف والمافيوي والذي يحكم روسيا اليوم يستند إلى الأوراسية ويأخذ انتقائياً منها ما يفيد مشروعه القائم على الهيمنة والنفوذ ولذا وجدنا بوتين حين قرر التّدخل في الشأن السوري استند إلى ذرائع كاذبة ورجعية بدءاً من دعوة النظام "الشرعي !!" له لمساعدته في دحر الإرهاب وليس انتهاءًا بمباركة بطريرك موسكو وعموم روسيا "كيريل" والذي دعم تدخل بوتين لذبح أطفال سوريا وأطلق على حربه على الشعب السوري الطامح بالحرية والعدالة والكرامة بالحرب المقدسة!
إن الحاكم المطلق لروسيا اليوم وقيصرها الجديد يرى نفسه أنه مكلّف من العناية الإلهية بتحقيق أحلام قياصرة روسيا بالتّمدد والهيمنة والنفوذ استناداً لذهنية لاهوتية كَنسية ترى في حروب بوتين إعادة لمجد روسيا وتسويقاً لحروب صليبية ترعاها الكنيسة الأرثوذوكسية بناء على دعاو مفادها حماية مسيحي سوريا والمشرق!! فما أشبه اليوم بالأمس وكأننا أمام نداء البابا أوربان الثاني والذي أطلقه نهاية القرن الحادي عشر استناداً لشهوة سياسية وكَنسية بآن! علماً أن قيادة الكرملين تعلم أن ثورات الربيع العربي ثورات محقة وأن اتهام الشعوب بالتآمر والعمل على تنفيذ أجندات أمريكية محض افتراء فالشعوب لا تباع ولا تشرى ولا تتآمر وأن الثورات قاطرات للتاريخ.
من هنا نفهم سبب التدخل الروسي في الشأن السوري وأبعاده فإنقاذ نظام الاستبداد والفساد في دمشق يراد منه وضع اليد على سوريا بمنطق استعماري فاشي بربري ولذا وجدنا الطاغية بوتين ينفذ حرب إبادة بحق ابناء الشعب السوري الأعزل تحت عنوان محاربة الإرهاب! و إ شهار حق الفيتو في مجلس الأمن ولأكثر من عشر مرات لحماية النظام في المحافل الدولية من أية عقوبة بالرغم من كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها بحق السوريين وسوريا التاريخ.. وأن نهج غروزني الذي اتبعه الروس في تدمير الحواضر السورية وفق سياسة الأرض المحروقة كان يراد منه دفع الشعب السوري نحو اليأس المطلق والإذعان للقيصر المغرور الباحث عن مجد شخصي أمام شعبه والترويج لتجارة السلاح الروسي حيث لم يخجل من تصريحه عن حجم إفادة روسيا من تجريب أسلحتها بلحم السوريين الحيّ وفق منطق إرهابي فاشي سار عليه النازيون سابقاً في حربهم العالمية الثانية على الشعوب.
إن من الوهم القول اليوم أن روسيا قد تراجع حضورها بعد العهد السوفيتي في بنية نظام الأسد (الأب والابن) عسكرياً وأمنياً وسياسياً فروسيا في عهديّ ميدفيديف وبوتين بقيت على حضورها الدائم استناداً لموجبات الابقاء على هذه العلاقات واستمراريتها من أجل المصالح الجيوساسية والاستراتيجية الروسية وعند انطلاقة ثورة السوريين كان الروس حاضرين وبشكل خفي وناعم من خلال الإشراف الأمني على قمع الثوّار السوريين وتقديم الدعم اللوجستي للنظام حيث قدموا له المزيد من الدعم غير المعلن في هذا المجال إلى أن جاء تدخلهم العسكري في أيلول من عام 2015 بعد أن استبقوا الزمن في آب من نفس العام ليوقعوا اتفاقاً معه وذلك لاستخدام قاعدة حميميم كقاعدة عسكرية جوية روسية حيث نص الاتفاق على أن : (يمنح الحق للقوات العسكرية الروسية باستخدام قاعدة حميميم في كل وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى!) وانطلقت منها لاحقاً طائرات سوخوي الحديثة للقيام بالأعمال القتالية ضد فصائل المعارضة السورية وقتل المدنيين السوريين وتهجيرهم...و(بعد مرور سنة على التواجد الروسي أعلنت روسيا عزمها توسيع قاعدة حميميم بغرض تحويلها إلى قاعدة جوية عسكرية مجهزة بشكل متكامل. " (8)
يقول الباحث زياد المرهون بهذا الصدد : " سوريا الآن هي مركز نفوذ روسيا في الشرق، ووجودها العسكري فيها لا مثيل له سوى في أرمينيا وطاجيكستان. هذه قضية يُبنى عليها الكثير في الحسابات الجيوسياسية والستراتيجية، والقوى الكبرى في العالم تدرك ذلك دون ريب، كما يدرك الجميع أن الأزمة السورية خلقت واقعاً جديداً لم يكن في حسبان أحد "..وهذا ما تؤكده الإجراءات اللاحقة التي قام بها الروس وما زالوا من خلال تهميش حاكم دمشق والذي بات البعض يطلق عليه لقب مختار "حي المهاجرين" حيث يمعن بوتين بإذلال هذا الطاغية الصغير أمام العالم ليقول أن هذا الحاكم لم يعد لديه ثمة إرادة أو مقام رئاسة وأن سورية هي في عهدة بوتين وقبضته ثم جاء تعيين بوتين لسفيره في دمشق يوم 25 أيار الماضي ألكسندر يفيموف كسفير مفوض فوق العادة ليؤكد نية روسيا في المزيد من إضعاف سلطات بشار الأسد وتحويل سوريا إلى فِناء خلفي للمصالح الحيويّة الروسية في شرق المتوسط بل جعل يفيموف ممثلاً شخصياً لبوتين بل وحاكماً فعلياً ومندوباً سامياً لسوريا حيث أعقب مرسوم تعيين هذا السفير مرسوماً رئاسيا آخراً يمثل استكمالاً للسيطرة على التراب السوري ويتمثل مضمونه بتسليم وزارة الدفاع الروسية منشآت ومناطق بحرية إضافية في سوريا ...سوريا التي أضحت تحت الوصايا الروسية لآجال غير مسماة والسوريون متوجّسون من سيناريو معد من قبل المحتل الروسي قد يكون شبيهاً بسيناريو بريمر للعراق وفق صيغة طائفية بغيضة ستنتج وتعيد إنتاج النزيف السوري لعقود طويلة قادمة .

إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبإلحاح : هل سيكون بوتين قادراً على تحمل أعباء بلد مدمر ومنهك كسوريا شارك هو نفسه في تدميره خصوصاً أن الاقتصاد الروسي في هذه المرحلة بوضع لا يحسد عليه حيث جاءت انهيارات أسعار النفط لاحقاً لتزيد الطين بِلة بالإضافة إلى الفجوة التكنلوجية والعلمية بين روسيا والولايات المتحدة وكذلك تراجع الناتج القومي الروسي والذي لا يزيد كثيراً عن الناتج القومي لولاية فلوريدا الأمريكية لوحدها بالإضافة إلى التدهور الحاصل للأوضاع المعيشية والروحية لعموم شعوب الاتحاد الروسي والتي ترزح تحت وطأة التهميش والقمع وسطوة المافيات و الدولة الأمنية والفقر وسوء إدارة الموارد وكذلك تراجع ثقافة الأجيال الحالية رغم الثراء الروحي التاريخي الزاخر للشعب الروسي والذي أنجزته القامات الخالدة في الأدب والمسرح والموسيقا والفنون كافة عبر قرون مديدة.
لقد ألحق نهج بوتين الدموي أشد الضرر بالعلاقات التاريخية بين الشعبين السوري والروسي وسيعمل قدر استطاعته على ديمومة الحالة السورية في تشظيها واضطرابها لأنه يعلم أن سوريا المدنية الديمقراطية ستلقي بكل اتفاقيات الإذعان التي عقدها مع نظام الفساد والاستبداد لمزبلة التاريخ وأن حساسية السوريين تجاه كل تواجد أجنبي هي عالية على الدوام.
إن نهج الأوراسية الرجعي والغرور الأعمى الطاووسي لبوتين وإدارة حكمه المافيويّة والأمنية جعل من روسيا دولة استعمارية مكروهة بعد أن كان ينظر إليها في العهد السوفيتي بأنها صديقة للشعوب المستضعفة والمتطلعة إلى الحرية والعدالة والعيش الكريم.




مصطفى الدروبي
كاتب صحفي سوري مقيم في فرنسا

12.07.2020
المراجع
- (1)( تاريخية العلاقات السوريه-الروسيه وآفاقها) – عبد الكريم صالح المحسن – الحوار المتمدن
- .( (2)لينين – حركة شعوب الشرق الوطنية التحريرية – دار التقدم – موسكو 1969
(3)الشيوعيّون ومسألة التحالفات - تجربة الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ نموذجا (1934- 1936) -
– (4)مركز الجزيرة - عبد الجليل زيد المرهون
(5)موسوعة المعرفة –
- (د.محمد دياب – صحيفة الاتحاد)(6)
(7) موسكو ـ بيروت: نوستالجيا المسألة الشرقية – موقع قناة الحرة-
الجزيرة نيت- (8)



#مصطفى_الدروبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
- ما الذي تبقى من نظام آل الأسد؟
- كنت ناصرياً ذات عهد ...عن 23 تموز- يوليو واشياء أخرى
- رداً على زياد ماجد عن -الإسلاميين والعسكر ومقولة وجهَيّ العم ...


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى الدروبي - بحث بعنوان - قراءة تاريخية في العلاقات السورية الروسية -من الشيوعية إلى الأوراسية-