أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هشام الملاك - الصهيونية في دولة عربية . يهود العراق في أربعينات القرن العشرين













المزيد.....

الصهيونية في دولة عربية . يهود العراق في أربعينات القرن العشرين


هشام الملاك

الحوار المتمدن-العدد: 6506 - 2020 / 3 / 4 - 19:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الصهيونية في دولة عربية .
يهود العراق في أربعينات القرن العشرين .
قراءة وتعقيب

هشام الملاّك. باحث عراقي مقيم في هولندا.

المؤلفة : استر مائير-غلتزنستين
عدد الصفحات : 245
نُشر باللغة الانجليزية عام 2004
الناشر :
Routledge Taylor & Francis Group
London and New York

أنجزت المؤلِفة هذه الدراسة في جامعة تل أبيب كرسالة دكتوراه تحت اشراف البروفيسورة أنيتا شابيرو، وطُبعت في كتاب بالعبرية في جامعة تل أبيب عام 1993 .
قامت البروفيسورة أستر مائير-غلستين الباحثة المتخصصة بدراسة تاريخ يهود الدول العربية في معهد بن غوريون للدراسات الاسرائيلية والصهيونية في جامعة بن غوريون / النقب، بترجمة الكتاب الى الانجليزية ونُشر في عام 2004.

أهمية البحث / الكتاب : من المهم جدا إدراج المصادر التي اعتمدت عليها الباحثة لأهميتها القصوى في التعرف على بعض المنظمات والجهات التي كانت تتواصل وتتعامل مع يهود العراق .

1 وثائق أرشيفية، وخاصة محاضر جلسات قيادة تنظيم الشباب اليهودي في العراق واسرائيل.
2 الوكالة اليهودية (الأرشيف الصهيوني المركزي)
3 اللجنة التنفيذية للهستدروت -أرشيف الحركة العمالية.(الهستدروت:الاتحاد العام لنقابات العمال
الاسرائيلية . تأسس عام 1920 في حيفا.)
4 مؤسسات الماباي(حزب عمال أرض اسرائيل. حزب يساري اشتراكي اسرائيلي سابق تأسس في عام 1930 بقيادة بن غوريون، ثم اندمج مع حزب معراخ ليصبح حزب العمل الاسرائيلي).
5 أرشيف اتحاد الكيبوتزات.
6 المراسلات المكثفة بين المبعوثين والموساد / دائرة العودة وارشيف الهاغانا.
7 ارشيف وزارة الخارجية الاسرائيلية .
8 وثائق السفارة البريطانية في بغداد.
9 مقابلات مع اشخاص ساهموا باحداث العراق واليهود خاصة .

• تم تقسيم المراجعة الى ثلاثة أجزاء لتسهيل النشر.


-------------------------------------------------------------------------------------------

الجزء الأول

مقدمة شخصية
تتميز قصة يهود العراق بكونها حالة نادرة مقارنة بأحوال يهود العالم الأخرين بكونهم أقدم مكّون يهودي تمتد جذوره لأكثر من 2600 سنة في أرض ما بين النهرين ، بالاضافة الى ارتباط اسم ثاني أقدس كتاب بالديانة اليهودية باسمهم ، الا وهو التلمود البابلي.
كان اليهود يشكلون جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العراقي ، يؤثرون ويتأثرون به، ولم يُعرف عنهم مثلا السكن في مناطق شبه مغلقة (غيتو)، كانت هناك أزقة أغلبية سكانها من اليهود، ثم كان لهم حضور قوي في احياء البتاويين والكرادة المتحضرة في بغداد ضمن بقية المكونات. كما تميز يهود العراق بكونهم أفضل مكون يهودي في الدول العربية من كافة النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ظهرت في الخمس عشرة سنة الأخيرة كتابات ودراسات وأبحاث عن يهود العراق بسبب تلك الخواص التي ميزتهم عن بقية يهود الدول الاسلامية بل بقية يهود العالم. وتعترف الكاتبة في ختام البحث ان رحيلهم عن بلدهم العراق وانتقالهم الى اسرائيل كان في الواقع كارثة لم تقع بها أية مجموعة يهودية مهاجرة أُخرى.

من الضروري في هذه المقدمة الشخصية التطرق الى تميز يهود العراق في مضمار التجارة والأعمال المصرفية والذي يمتد الى الربع الأول من القرن التاسع عشر.(مقتطفات من مقال: يهود العراق يعيدون الشبكة التجارية العالمية للقرون الوسطى. الحوار المتمدن 26-5-2015)
" ففي فترة ولاية الحاكم العثماني داود باشا في العراق ما بين أعوام 1817-1831، الذي تميز بظلمه وبشاعة تعامله مع اليهود وبالأخص مع أثريائهم الذين عانوا من تعسفه ضدهم. اذ احتجز العديد منهم لجني أموال من فديتهم. وكان أحد ضحاياه داود (ديفد) ساسون الذي تم اعتقاله في عام 1828، وهو ابن الشيخ ساسون بن صالح رئيس طائفة اليهود في العراق. تمكن داود من الهرب بعد ان دفع والده الفدية وذهب الى ابو شهر في ايران ومنها الى بومباي عام 1832م. "

بنى داود ساسون شبكة اعمال كبرى في قطاعات صناعية وتجارية ومالية، وتوسعت مملكته الى كلكوتا وموانىء ايران وشنغهاي وهونك كونك ورانغون وسنغافورة ولندن ومانجستر. أرسل ابناءه الثمانية الى تلك المراكز التجارية لإدارتها ودراسة أوضاعها الاقتصادية.
تحلى ديفد ساسون بروح ونزعة انسانية عميقة، فلم يتخل عن مساعدة أهله وآخرين من يهود العراق. كما أنشأ مستشفى ومدارس في المدن الهندية التي تواجدوا فيها، ولم تقتصر على اليهود فقط ، حيث زوّد التلامذة بالكتب والملابس وغيرها من المساعدات بالمجان. وعلى رسل ابيهم، استمر ابناؤه على هذا الطريق ايضاً. جذب نجاح شركات وأعمال ساسون اليها الكثير من يهود المشرق الذين هاجروا للعمل في الهند وبورما والصين والمستوطنات الأخرى."
ولابد هنا من الاشارة الى ان ديفد ساسون قد استفاد من الحرب الأهلية الأمريكية وذلك نتيجة استبدال مصانع النسيج في انكلترا وارداتها من القطن الأمريكي بقطن ساسون الهندي!
أصبح ديفد ساسون مواطنا بريطانيا عام 1853م ولم يكن يتحدث اللغة الإنجليزية. توفي في منزله في مدينة بوما الهندية في 17-11-1864.
تعقيب: يُطلق لقب"البغداديون" على اليهود المتواجدين في الدول الآسيوية ، وخاصة في هونك كونك وحتى الوقت الحاضر !

مصرف عائلة زلخا العراقية: تأسس عام 1899م في بغداد ثم أصبح من أهم المؤسسات المالية في العالم والشرق الأوسط خاصة حيث احتكر التحويلات المالية من العراق الى دمشق ولبنان ومصر، اي كان مسيطرا على أسواق المال في العديد من الدول العربية والأجنبية.
تم مصادرة البنك في العراق عام 1952 وسوريا عام 1954 ومصر عام 1956 ولبنان عام 1957.
استوطن عزرا نجل مؤسس المصرف خضوري زلخا في لوس أنجلس ويُعد من رجال الأعمال المرموقين وصُنف ضمن 400 من أثرياء الولايات المتحدة في قائمة فوربس.

نعيم دنكور: ولد في بغداد عام 1918 وتوفي في لندن عام 2015. ولا يسعني في سطور الكتابة عن ذلك الرجل الكريم الذي اضطر مغادرة العراق في عام 1964 تاركاً وراءه كل ممتلكاته وأعماله وأصدقائه ليستقر في المملكة المتحدة، اذ كتب الكثيرون عن تاريخ ذلك الانسان الذي بقي على عراقيته الأصيلة حتى وفاته. ( في برنامج البحث (كوكل) ملف كامل عن سيرته وأعماله.)
كما ان هناك العديد من الأسماء اللامعة في عالم الأعمال التجارية من هم من أصول عراقية.







مراجعة الكتاب وتعقيبات

القسم الأول: الصهيونية في العراق 1941-49

قُدر عدد يهود العراق حسب أحصاء 1919 87000 نسمة.
بغداد 50000 . الموصل والمناطق الكردية 14000 . كركوك 7000 . البصرة 7000 .وآخرون ن في بعض المدن الأخرى وأهمها الحلة وضواحيها. (برأيي ان هذه الأحصائآت لا يعتمد على صحتها نظرا لعدم استخدام وسائل الاحصاء الحديثة في ذلك الوقت)
أصبح عددهم حسب احصاء 1947 أكثر من 148000 نسمة .
قيادة المكون : قامت الدولة العثمانية بتعيين رئيس طائفة اليهود في العراق "حاخام باشي" في بغداد عام 1849 ، وكان هناك ايضاً مجلسان بالاضافة الى الحاخام باشي ، الأول المجلس الروحاني الذي تكّون من سبعة رجال دين (ربانيون/أحبار) وكان يتعامل مع الأمور الدينية والمعابد وغيرها. والآخر كان المجلس المدني ( الجسماني) وله رئيس وثمانية من الوجهاء، ومهماته ادارية ومالية .
الا ان القيادة الحقيقية في البتّ في الأمور الهامة كانت بيد مجموعة صغيرة من الوجهاء الأثرياء حيث كانت سلطتهم متأتية من العلاقات التي كانت تربطهم بالهيئآت الدينية الاسلامية المتنفذة وقِوى اجتماعية وسياسية اخرى. كان هؤلاء ملاّك أراض وتجار يتعاملون بالتجارة الدولية ومصرفيين، وكان العديد منهم متعلمين ارسلوا أبناءهم الى معاهد وجامعات غربية خارج العراق للتعليم العالي في الشرق الأوسط واوربا. كان لبعضهم علاقات تجارية متواصلة مع أقرانهم من يهود العراق الذين هاجروا الى الشرق الأقصى والهند بصورة خاصة ومارسوا التجارة هناك وتميزوا بها، وكانت لاؤلئك علاقات متينة ومؤثرة مع السلطات البريطانية هناك ( هاجر بعضهم الى بريطانيا لاحقاً وأقاموا فيها ايضاً أعمال تجارية ناجحة ومتقدمة.)
فمن هذه العلاقات التجارية بين التجار اليهود في بغداد والبصرة والشركات البريطانية واليهودية في الهند تفتحت امام يهود العراق تدريجياً ابواب الثقافة الغربية واستفادوا منها مالياً وخبرات ادارية تميزوا بها عن بقية المكونات العراقية الأخرى. كما كانوا واعين لأهمية تعلم اللغة الأنجليزية والفرنسية .
من هذه المنطلقات نرى تميز الطائفة اليهودية وجموحها في الرغبة والعمل على تعليم ابنائها.
(تعقيب: التعليم أمر أساس في الديانة اليهودية، فعلى سبيل المثال: يتحتم على الاولاد والبنات حين يبلغون الثالثة عشر من أعمارهم حفظ جزء من التوراة وتلاوتها في الكنيس في احتفال بار متسفا.)
طلب أعضاء من قيادة المكون في بغداد من Alliance Israelite Universelle في باريس في خمسينات القرن التاسع عشر انشاء مدرسة عصرية في بغداد ، أُنشأت في عام 1864، ثم أصبح عدد المدارس 15 مدرسة للأولاد والبنات في مطلع عام 1914. (5 في بغداد وثلاثة في البصرة، اثنتان في كل من الموصل والحلة وواحدة في كل من كركوك وخانقين والعمارة). كانت مناهج تلك المدارس مقررة من الجهة الفرنسية. ولكن وفي فترة لاحقة تعالت أصوات من الطائفة بالانتقادات بل معارضة لمناهج وأساليب التوجيه التي كانت تمارسها الهيئة التعليمية وثقافتها الفرنسية ورؤاها مخالفة للتقاليد والأعراف المحلية. انتقلت ادارة هذه المدارس في العشرينات الى قيادة الطائفة وتم مطابقة مناهجها مع المناهج الرسمية مع الاحتفاظ بتعليم مكثف في اللغتين الفرنسية والانجليزية.

يهود العراق بعد سقوط الدولة العثمانية : ساوى دستور العراق الأول الذي وضعه البريطانيون في عام 1921 بين كافة أفراد الشعب العراقي، فأصبح لليهود مواقع متقدمة في الهياكل الجديدة للدولة وتطور نوع من اعتماد متبادل بين البريطانيين واليهود الذين بدأوا يشعرون بالاطمئنان الحقيقي، ومن جانبهم اعتمد البريطانيون على يهود من أصحاب المعارف والخبرات في حقول التجارة والاقتصاد . ولذا فقد كانت عشرينات وثلاثينات القرن الماضي الفترة الذهبية في تاريخ يهود العراق حقاً. فبالاضافة الى مساهمتهم في بناء الدولة، أدار اليهود النشاط التجاري الداخلي والصيرفة والاستيراد والوكالات التجارية وعززوا علاقاتهم التجارية السابقة مع أقرانهم في الهند وبريطانيا بالأخص. مُنحوا طليعة الوظائف لولائهم ولعلو تعليمهم، فتميزت نخبة منهم كقضاة ومحامين وصيادلة، وأصبح تجارهم من أكبر مجهزي جيش الإنتداب للمواد الغذائية والمعدات. كتب سلمان شينا رئيس تحرير احدى الصحف يصف أوضاع اليهود حينها :"ازدهرت التجارة فأثرى اليهود ونزل الذهب عليهم كما ينزل المطر على الحشيش."
(From Babylonia to Zion:Memories and and Outlook.tel Aviv 1955)

من المؤكد ان حادثة الفرهود اثارت قلقا عميقا في النفسية العامة ليهود العراق، ويجمع كل من كتب في تاريخ العراق الحديث ان الفرهود الذي حصل في الثاني من حزيران ( يونيو) عام 1941 كان نقطة تحول تاريخية في وضع الطائفة اليهودية. وتسطر مائير-غليزنتين الأرقام التالية لما حدث ليهود بغداد:
قُتل 150 يهودياً و 600 جريح و نُهب 1500 منزل ومحل، فغادر بعدها العديد منهم الى ايران ولبنان .

(تعقيب: أشار الدكتور دانيال سلمان دانيال الى هذا الحدث في ملاحظات قيمة الى كاتب هذه السطور جاء فيها :" صادف وقوع الحدث مناسبة عيد الاسابيع، وكان عاملا ساهم في الفرهود. يورد ناجي ساسون خدوري نجل الحاخام الأكبر في بغداد في كتابه "راعي ورعية" ان يونس سبعاوي أستدعى والده الى مكتبه وتوسل اليه ان يمسك اليهود عن الاحتفال بالعيد لتلافي اية تبعات مأساوية. كما يضع نسيم رجوان في بكتاب له (كتاب :آخر اليهود في العراق ..ذكريات وطن مفقود) اللوم بالكامل على الانجليز لتقاعصهم المتعمد بارسالهم الكتيبة العربية مبكراً لضبط الأمن، لأنهم ارادوا ان يصُب الغضب الشعبي على اليهود بدلا عن الانجليز.")
رغم ان الأمور عادت الى مجاريها شبه الاعتيادية بعد الفرهود، الا ان معضلة كبيرة وجديدة بدت للعيان، الا وهي انبعاث الشكوك والكراهية في أوساط اليمين العراقي لليهود ونبزهم لعلاقاتهم الحميمة مع الامبرياليين والحكومة، خاصة وان وجهاء الطائفة كانوا قد رحبوا بالوصي ومجموعته عند عودتهم الى العراق بعد سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني. ونما شعور بين مثقفين يهود بأنهم مرفوضون من المجتمع، وبدا ذلك خاصة في اوساط الشباب الذين أدار العديد منهم ظهره لقيادة الطائفة التي كانت تحاول وبدأب التصرف بحكمة وهدوء، فانبعثت بينهم فورة ثورية أتخذت اتجاهين احداهما قومي قادهم الى الحركة الصهيونية والآخر اشتراكي الى الحزب الشيوعي الذي كان قد وطّد قواعده في كافة انحاء العراق حينها بثبات، فانضم الكثيرون الى صفوفه وأصبح بعض منهم قياديين فيه، وفضّل آخرون الهجرة الى الغرب وخاصة الى بريطانيا.
(تعقيب : ستظهر نتائج تلك الانعطافة بعد سنوات عندما أقتُلع المكون اليهودي بكامله تقريبا من أرض ووطن عاشوا فيه لأكثر من 2600 سنة.)

( تعقيب: اود ان أشير هنا الى مقال كتبه وليد الزبيدي في جريدة الوطن العُمانية في 6 نوفمبر عام 2004 بعنوان " اصداف يهود العراق" يتهجم فيه بشكل قاذع على البرفسور شموئيل موريه. فقد ورد في المقال ذكر لمدرسين فلسطينيين كانوا قد جاءوا الى العراق في عام 1939 فاذا بهم يتفاجئون من الوجود اليهودي واندماجهم بالحياة اليومية وخاصة عندما رأوا ان يوم السبت كان شبه عطلة في الحياة التجارية في بغداد، فأخذوا بالتأجيج ضد يهود العراق في الصحف والاذاعة والجوامع وكان في طليعتهم مدرس اللغة العربية برهان الدين العبوشي الذي ألّف قصيدة جاء فيها :

قد زرتُ بغداد يوم السبت فارتعدت
فرائصي ورأيت الخبث والفندا ( وتعني نقض الأمر وخطأه)
رأيته في حوانيت معطلة قد
شمّر الشر ساقيه بها وعدا
تكاد تفتك في دار السلام اذا
تباطأ العرب في إغلاقها ابدا
شكّل هؤلاء مجموعة مقاتلة مع رشيد عالي الكيلاني ل "مقاومة" الجيش البريطاني، ثم عادوا الى فلسطين بعد انتهاء الأزمة.
وللذكرى عاد برهان العبوشي في خمسينات القرن الماضي مرة اخرى الى بغداد مدرساً للغة العربية في متوسطة نجيب باشا في بغداد التي كنت ادرس فيها والصديق العزيز فاضل العراقي الذي ذكّرني به.)

أصبحت القضية الفلسطينية الشاغل الأساس لجماهير العراق بين الاعوام 1945-1948 ووحدت الكثير من فئآت المجتمع، فأستغلتها السلطة الاوليغارشية( Oligaric ) الحاكمة المتحالفة مع البريطانيين والممقوتة من أغلبية العراقيين لتحويل الأنظار من مشاكل المجتمع الاقتصادية والسياسية الخانقة. (اصابت العراق كارثة اقتصادية بين الأعوام 1929-1945 وارتفعت الأسعار 600% فزاد الفقر بين أغلبية المواطنين حتى غدا العديد منهم على حافة المجاعة.)
تطورت المواقف حتى أصبحت المشكلة دينية وأخلاقية للمسلمين. ارسلت الحكومة، وتحت الضغط الشعبي، ثلاث فرق عسكرية للمساهمة في حرب 1948 ولم يكن لها اية كفاءة او تسليح مناسب او تدريب كاف.
جاء في تقرير الهيئة البرلمانية لمجلس النواب العراقي التي حققت في أسباب فشل الحرب ضد اسرائيل:
" لم يكن لدى الجيش العراقي استعداد لمواجهة 50 الف من مقاتلي عصابات الصهيونية المزودين بأفضل الأسلحة والمعدات. في وقت كان مقاتلونا يعانون من نقص شديد في المؤنات والعتاد."
ورغم الحملة التي قام بها قادة العراق منذ منتصف الأربعيات للتأكيد على وطنية يهود العراق وولائهم لوطنهم وعدم ارتباطهم بالصهيونية، رأى اليهود انفسهم ورغماً عنهم جزء من الصراع القائم. ففي خطاب لنوري السعيد في آب (أغسطس)1944 حذر من غضب الجماهير العربية على المقترحات الصهيونية بخصوص فلسطين وامكانية تحوله ضد اليهود. ثم حذر الدكتور الجمالي مندوب العراق في الأمم المتحدة في خريف 1947 من ان مصالح واحوال ستمائة ألف يهودي في الدول العربية ستتعرض الى المخاطر اذا نجح "الاعتداء الصهيوني."
العلاقة بين اليهود والبريطانيين: توترت العلاقات بين البريطانيين واليهود في العراق عندما اتهمتهم السفارة البريطانية باتخاذ مواقف معادية لهم. وأجرى المستشار الفني في السفارة تحقيقا في الأمر وخلُص الى ان تبدل موقف يهود العراق منهم يُعزى الى عدة عوامل اهمها ان اليهود يتهمون البريطانيين بعدم توفير الحماية لهم حين بدأ الفرهود، بل انشغلوا بحماية مصالحهم الحيوية في البلد. ولم يشجعوا الحكومة على دفع تعويضات للمتضررين، كذلك شجعوا الحكومة في اجراءآتها الاقتصادية ضد اليهود.

التواجد الصهيوني في العراق
أجج انطلاق الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر في اوربا مشاعر الاعتزاز لدى بعض يهود العراق. وكان اهارون ساسون الذي كان يُلقب بالمعلم، أحد أهم رواد الصهيونية في العراق، اذ أنشأ نواد لتعليم اللغة العبرية وأخرى اجتماعية تُقرأ فيها كتب وصحف بالعبرية ونشاطات رياضية خلال عشرينات وثلاثينات القرن. قامت الحكومة بتسفيره الى خارج العراق وذهب الى فلسطين ضمن بضعة آلاف من اليهود الذين رحلوا من العراق الى فلسطين بصورة غير شرعية.
كما كانت هناك بعض النشاطات الصهيونية "المحلية"، الا انها لم تُطور علاقات تذكر مع الحركة الصهيونية العالمية التي اعتبرت يهود المشرق فاقدي الروحية الحقة للصهيونية.
تواجد عدد من المعلمين اليهود الذين جاءوا الى العراق من فلسطين في منتصف الثلاثينات وبدأوا بتعريف شبيبة اليهود بمبادىء الصهيونية الاشتراكية. ولكن في الواقع لم يكن ليهود العراق "حاجة" للصهيونية التي كانت ترمي الى جمع يهود العالم في فلسطين، فقد كانوا افرادا كبقية أفراد الشعب العراقي الذي تميّز بتنوع الأديان والأعراق منذ القدم.
في الوقت الذي كانت المنظمة الصهيونية العالمية تقوم بثبات وفاعلية بنقل يهود اوربا ( الأشكناز) الى فلسطين منذ بداية القرن العشرين وتكوين مؤسسات اقتصادية وسياسية واجتماعية تمهيداً لقيام الدولة، لم يكن يهود المشرق ضمن اولوياتها مطلقاً. ولكن وحينما بدأت اخبار الفرهود بالوصول الى المنظمات الصهيونية في فلسطين، وكانت بلا شك مضخمة الى حد كبير، اضافة الى بداية وتعاظم حملة إبادة اليهود التي شنتها النازية في اوربا، اضطرت قيادات المنظمات الصهيونية في فلسطين الى تغيير خططها وأوجدت ما سُميت "خطة المليون"، التي كان ديفد بن غوريون العقل المدبر لها، فأحدثت تغييراً جذرياً في مفهوم سياسة العودة من اوربية الى مشرقية.

المبعوثون (Emissaries)
هم مجموعة من الشباب المتدربين من قلب المنظمات الصهيونية ومشّبعين بالفكر الغربي الليبرالي-الاشتراكي، كانوا أُرسلوا من فلسطين الى اوربا والولايات المتحدة لتشجيع وتنظيم ترحيل اليهود الى فلسطين منذ عشرينات القرن . وعندما تبدل التخطيط بالتوجه الى يهود المشرق، قامت المنظمات الصهيونية بإرسال عدد منهم الى الدول العربية.

نبذة عن بعض المبعوثين الى العراق
أنزو سيريني: مبعوث الهستدروت في المانيا والولايات المتحدة في العشرينات والثلاثينات،أُرسل الى العراق ظاهرياً كمدير اداري في شركة سوليل بونيه التي كانت متعاقدة مع شركات النفط، مما سّهل له التنقل بحرية وأداء مهماته المُرسل من اجلها.
شماريا غوتمن: عضو كيبوتس وناشط في اوساط الشباب الصهيوني في فلسطين.
عزرا قدوري: من أصول عراقية، رحلت عائلته الى فلسطين منذ صغره، أُرسل الى العراق لاجادته اللغة العربية واللهجة العراقية.
ذهب الاثنان اعلاه الى العراق بصورة سرية وظلوا يعملون في الخفاء طيلة فترة مكوثهم.
وكان هناك مبعوثون آخرون خاصة في اربعينات القرن.
بدأت الموساد ومنظمة الهاغانا العمل بايجاد تواصل مباشر مع المكون اليهودي العراقي من خلال المبعوثين.
عندما تمكن المبعوثون من التعرف عن كثب على حالة اليهود العراقية بكل أشكالها الغريبة عنهم، اصابتهم حالة من الفزع والاشمئزاز مما راؤا، وكان بداية التضارب بين ثقافة يهود المشرق والثقافة الصهيونية الغربية. فقد رأوا ثقافة "عفنة من الداخل، تعيش آخر مراحل اليهودية القديمة" كما جاء بوصف المبعوث سيريني في تقرير له . ثم كتب غتمن وقدوري في تقرير لهما:"ان مواقف آباء الشباب موقف اجرامي، زرعوا الجُبن والخوف في نفوس ابنائهم، وليس لدينا أي شيء جيد نقوله عن اليهود هنا".
لاحظ سيريني مدى اندماج يهود العراق مع أقرانهم وجيرانهم في اللغة والثقافة والعادات والتقاليد وطريقة المعيشة والنشاطات التجارية . مجتمع يهودي "عفن من الداخل" كما كتب في تقرير له.
(تعقيب: يتكرر اصطلاح العفن في مراسلاتهم عند وصف المكون اليهودي العراقي) . أراد المبعوثون تحويل اليهود من "أشباه" بشر الى "بشر حقيقيين")
"يذهب الرجال الى المقاهي، وتبقى النساء قابعات في البيوت ويلبسن العباءة عند خروجهن من البيوت". " لا فائدة من اليهود هنا اذ لا تشابه على الاطلاق بين صهيونيتنا وصهيونيتهم"! كما كتب المبعوث أيشيل في احد تقاريره. " وإحدى مهماتنا تطوير شخصياتهم وتعليمهم الأخلاق وإزالة مشاعر النقص فيهم تجاه يهود اوربا. مهمتنا تعليمهم النظرية الصهيونية."
(تعقيب:هذا فيض من قيض من نظرة المبعوثين للمجتمع اليهودي العراقي كما وردت في تقاريرهم الى منظماتهم في فلسطين.استعلاء وازدراء لثقافة المشرق متجاهلين ان قطاعاً كبيراً من المجتمع العراقي في أربعينات القرن الماضي بدأ يخطو بثبات وشغف نحو التحرر الاجتماعي والانفتاح على الثقافة الغربية، وكان اليهود في الطليعة دون شك.)

كانت مهمة المبعوثين انقاذ اليهود من الشتات، في حين لم ير يهود العراق أنفسهم في شتات، كما تؤكد الكاتبة، فقد كان العراق بلدهم وأرضهم وموطنهم. أراد المبعوثون نقل قيم الغرب التحررية بكاملها الى المجتمع اليهودي ودون قيود، ونجحوا الى حد ما في أوساط الشباب المتطلع الى التحرر وعارضتهم وبكل شدة المؤسسة الدينية بالأخص والأغلبية الساحقة من وجهائهم ومثقفيهم وقياداتهم المدنية، فقد رأوا انها تتعارض مع تقاليد مجتمعهم العراقي. ثم راح المبعوثون يحرضون الشباب على مخالفة مواقف وجهائهم والمؤسسة الدينية، وتورد الكاتبة حالات ومواقف عديدة لما حصل.
(تعقيب: كان موقف الشباب اليهودي في الواقع متوافقاً مع مواقف بقية الشباب العراقي عامة عندما تبلورت هوّة بينهم وبين المؤسسات الدينية ، وبالأخص في المراكز الحضرية كبغداد والبصرة، مع توسع التعليم وتأثيرات الحركات السياسية التقدمية حينها.)

رافق تقدم الألمان من طبرق نحو مصر شعور بين عامة العراقيين مفاده ان الألمان منتصرون لا محالة. ففي صيف 1942 ظهر منشور في بغداد جاء فيه ان "رشيد عالي قائد العرب سيعود مع الحبال والمشانق لشنق اليهود المجرمين والخونة المسيحيين وأعداء الأسلام الآخرين" من ارشيف الهاغانا رقم 14/429. وجاء في تقرير احد المبعوثين:"لم يحتفل العرب (بهذه المناسبة) بذبح الخرفان واقامة الاحتفالات فحسب، بل راحوا يتهكمون على اليهود ايضاً. هاتَف رئيس الطائفة رئيس الوزراء قائلاً له: اذا أصبح الحال كما نرى الآن بسقوط طبرق، فماذا سيحدث اذا سقطت مصر لا سمح الله؟"
بدأت حملة قومية ودينية ضد الصهيونية واليهود في عام 1943 بدعم خفي من السلطة. كانت مناورة من نوري السعيد لجلب انتباه بريطانيا وأمريكا لعدم دعم الصهيونية في فلسطين. اذ كان يرى ان قيام دولة يهودية في قلب الشرق الأوسط ستكون طعنة لجهوده في أنشاء دولة عربية موّحدة تضمن ليهود فلسطين حكماً ذاتياً محلياً. وراح في الوقت نفسه يؤكد ان يهود العراق هم مواطنون مخلصون لبلدهم، وطالب وجهاء الطائفة بإصدار بيان علني يشجب "الصهيونية المتطرفة" ودعم مواقفه.
كان على وجهاء الطائفة التعامل وبلورة موقف بما يتعلق بالصهيونية، أمر حاولوا وبكل جهد تجنبه لسنوات عديدة. رفضت قيادة الطائفة اصدار مثل ذلك البيان وقالوا ان اهتمامات يهود العراق تنحصر بالتجارة والتعليم ومثلها من الأمور البعيدة عن السياسة. استاء نوري السعيد من ذلك واعتبر موقفهم مؤيداً للصهيونية.
تؤكد الكاتبة ان يهود العراق كانوا من أشد المعادين للصهيونية في العشرينات والثلاثينات، واصدروا عدة بيانات بهذا الخصوص. لم يكن رفضهم في الواقع اصدار بيان حسب طلب نوري السعيد تغير في مواقفهم وآرائهم من الصهيونية بل احتجاجاً على معاملة السلطة لهم. وهكذا بدأت خطوات التضييق على اليهود: اولاً بإخراجهم من الوظائف الحكومية ثم دفع المصارف بالتخلص منهم. واجه المحامون اليهود مضايقات في المحاكم، كما حصل مع الأطباء والصيادلة عموماً.

مواقف جديدة: أعتمد اليهود على بريطانيا خلال سنوات الانتداب وبعدها لغاية أواسط الأربعينات من القرن الماضي، على عكس مسلمي العراق الذين كانت معارضتهم لسياسة بريطانيا في تزايد. ولكن الظروف التي رافقت الفرهود وتزايد الاستيطان الصهيوني في فلسطين أحدثت تغييراً ملحوظاً في المواقف. من ناحية، أدرك اليهود، أزاء عدم أكتراث بريطانيا بالجرائم التي تعرضوا لها، ان زمان الاعتماد على بريطانيا قد ولّى ، وتأكد هذا لديهم بعد ان توضح انحياز بريطانيا لصالح الوكالات المحلية البريطانية وضد مصالح اليهود في قطاع التجارة.
ومن ناحية ثانية، نمّت أحداث فلسطين مشاعر العداء لليهود، وتزايدت هذه المشاعر عندما أطلقت الحكومة العراقية سراح المعتقلين من مؤيدي النازية واحتلالهم مناصب هامة في الحياة السياسية والأجتماعية.

الحركة الصهيونية في العراق
كانت تنقلات المبعوثين بين العراق وفلسطين مستمرة حيث قاموا بتهريب أسلحة وأجهزة لاسلكي ومطبوعات. ابتدأوا بتعليم الشباب اللغة العبرية التي اصبحت احد أشكال الاحتجاج على اوضاعهم، اضافة الى دراسة تاريخ اليهود والصهيونية وغيرها. انشأ المبعوثون منظمة شباب اليهود الرواد (Hehalutz) على نفس النمط الذي كان قائما في مناطق مختلفة في العالم، ومراكز تعليمية وتدريبية على أستعمال السلاح، وأسسوا منظمة الدفاع : شباب متدربون أُثيرت فيهم روحية العزة والكرامة، دورها درء فرهود قادم غير معروف!
كانت خلفيات الشباب اليهودي الاجتماعية تقليدية، اي غير رافضة لطبيعة حياتهم اليهودية، كما ولم يرغبوا بالتخلي عن هويتهم اليهودية الوطنية، كما حصل في وسط الحزب الشيوعي الذي طالبهم بالتخلي عن الهوية اليهودية. وجد العديد من شباب اليهود داخل الحركة الصهيونية مزيجا ملائما بين القديم والحديث، اذ وفرت البديل لأوضاعهم المعيشية والنفسية ومعاناتهم في الكبت والغضب والقلق، فتم توجيه كل ذلك نحو الايجابية والنشاط والريادة، حركة شبابية أوجدت واقعاً ينبض بالحيوية والانفتاح: حفلات رقص واختلاط بين الجنسين وركوب الدراجات الهوائية ورحلات مشتركة وغير ذلك. فصار خرق العادات الاجتماعية الأمر السائد بينهم. تم تعليم أعضاء المنظمة اداء التحية بصورة سرية عند اللقاءآت. وفي هذه الأجواء أصبح الرحيل هو البديل الأمثل لهم، كما رسخته الصهيونية في اذهانهم.

الأزمة الأولى:
جلبت النشاطات الصهيونية في العراق انتباه الجهات الأمنية العراقية والبريطانية. أُجبر سيريني على مغادرة العراق في عام 1943.
عندما عبرت قوات الحرية البولندية من روسيا الى ايران في طريقها الى جبهة البحر الأبيض المتوسط عام 1942، هرب اليهود الذين كانوا في صفوفهم وقامت الحركة الصهيونية السرية بمساعدتهم بالهروب اولاً ثم تهريبهم عبر شواطىء شط العرب الى البصرة متخفين بملابس عربية، ونقلهم الى بغداد ومنها الى فلسطين. كانت الجهات الأمنية في العراق مطلعة على تلك التحركات.
أنضم عميل بولندي يهودي أسمه آرثر لاندز الى مجموعة الهاربين من تلك القوات، ونجح باختراق الحركة الصهيونية في العراق، ورُحل الى فلسطين. عاد في بداية عام 1943الى العراق وقام بكشف خلايا النشاطات الصهيونية، فتم القاء القبض على جندي اسمه مائير جلبارت الذي كان ينسق بين الموساد والهاربين البولنديين. اضطر غالبية العاملين في ترحيل اليهود من مبعوثين وأفراد محليين الى الهرب او الاختفاء، ومن ثم الذهاب الى فلسطين.
راحت الجهات الأمنية العراقية ومسؤولو الأمن في السفارة البريطانية يقللون من أهمية التواجد الصهيوني في العراق. فقد ورد في تقييم أحمد الراوي، مدير عام دائرة الشرطة حينها، ان "نشاطات الوكالة اليهودية لنشر الصهيونية في أوساط يهود بغداد ليست ذات أهمية، ويبدو انها قد توقفت بعد رحيل الدكتور سيريني. وتشير معلوماتنا الى ان تلك الوكالة غير مقتنعة ان يهود بغداد مؤهلون كمهاجرين. "

الأزمة الثانية (أزمة الرسائل):
تمكنت الجهات الأمنية عام 1944 من الحصول على رسائل وتقارير في الرمادي كانت في طريقها الى فلسطين تكشف أسماء حقيقية ورمزية لعملاء وعناوين النشطاء والمبعوثين والممرات/الطرق السرية التي أُستعملت في ترحيل اليهود.ومن ضمن ما كُشف تقرير مسهب/ كُتيب عن الفرهود وكيفية تلافي مثله مستقبلا، وعلى غلافه رسم لجندي يوجه سلاحه الى يهودية تحمل طفلا. أثار هذا الكتيب حفيظة المسؤولين وغضبهم، وأدركوا ان حركة صهيونية سرية تعمل بدأب في أوساط يهود بغداد وتتواصل بانتظام مع الحركة الاستيطانية في فلسطين (Yishuv)، وأعتُبر ذلك تهديداً للدولة العراقية. لم يكن موضوع تهريب الأفراد ما أغضب الحكومة العراقية، بل كان الأمر أكثر جدية من ذلك حين اتهمت الحركة بالاستهانة بالدولة بتشكيل تنظيم سري معادٍ للشعب العراقي والحكومة وتنظيم ترحيل شباب الى فلسطين من قبَل عملاء أجانب. أُلقي القبض على مجموعة من الفتيان والفتيات. وقامت الشرطة بدهم منازل يهود بحثا عن الهاربين، فاتضح ان اهاليهم كانوا يجهلون حقيقة ما يقوم به أبناؤهم وبناتهم من نشاطات في التنظيم.
(تعقيب: أرى ان وصف الأوضاع التي تطورت بعد كشف التنظيم هو احد أهم محتويات الكتاب، اذ تشرح الكاتبة بدقة سعة الشرخ بين جماعة المبعوثين وقيادة المكون اليهودي العراقي بشقيه المدني والديني، ثم التطورات اللاحقة في الوضع العام الذي أوقع يهود العراق في أعظم معضلة بتاريخهم حينما وجدوا انفسهم ضحية لصراع مرير بين طرفين كلاهما يتنافس في القسوة والتشدد. فمن جانب كان للصهيونية هدف محدد وهو اخراج اليهود من العراق بعد ان أصبحت الحاجة لوجودهم في فلسطين من أولوياتها. وضع الشباب أنفسهم بمواجهة شديدة امام قيادة المكون وراح المبعوثون يحفزونهم على التمرد ومخالفة توجيهات القيادة. أوجدوا تنظيمات سرية تعليمية محكمة وتدريب على السلاح والاتصالات اللاسلكية السرية. رسخوا في أذهانهم ان الرحيل/ العودة (Aliyah) يعني الخلاص الأخير.
هذا من جانب، ومن جانب آخر ظهور شبه هيجان في العراق ضد الاستعمار والحكومة، ودعاية نازية واسعة وموجة حماس قومية ودينية معادية لليهود خاصة. كان هناك الكثيرون ممن أغضبهم ثراء التجار اليهود او حصولهم على وظائف متقدمة في الدولة والمصارف وغيرها، وتظاهرات تنطلق من المقاهي والمدارس تهتف لمجد العرب وفلسطين (ويتذكر الكثيرون يونس بحري ونداءه الشهير من برلين: " حيّوا العرب"، ونشاط أمين الحسيني عند تواجده في بغداد!)، والحكومة ترحب خفية بما يجري للتعتيم على فشل سياساتها. والأهم من ذلك موقف السفارة البريطانية الذي مثّل حقيقة أحابيل البريطانيين الذين قدموا كافة أشكال الدعم للصهيونية عالمياً وفي فلسطين بالأخص في حين راح السفير ومسؤولو المخابرات في السفارة يلومون الصهيونية ويهود العراق على ما يحصل لهم.
وصف وضع اليهود بانهم أصبحوا بين حانة ومانة يعتبر تبسيطاً في وصف الحال، اذ كانوا في حقيقة الأمر بين السندان والمطرقة.)

خشى المبعوثون ان المُلقى القبض عليهم سيعترفون بأمور أكثر خطورة تحت التخويف والتعذيب، وأهمها كشف تنظيم الموساد، فتوجه المبعوث أريا أيشل الى المحامي يوسف الكبير، وكان احد وجهاء يهود بغداد، طالباً منه الترافع عن الصهاينة اذا أُلقي القبض عليهم. وافق يوسف الكبير بشرط السماح له باجراء محاكمة سياسية ضد الأنجليز والشرطة لكشف حقيقة ما يجري في البلد. رفض أيشل ذلك طالباً ان يكون التعتيم على الأدلة والتقليل من شأنها جوهر القضية وذلك لحماية الحركة الصهيونية في العراق وعدم كشفها. كان موقفه المتشدد يمثل التفكير الصهيوني بحق، اذ لم تكن نيته تحسين أوضاع اليهود في العراق كما كان يبتغي يوسف الكبير، لأن أيشل كان مقتنعاً ان لا مستقبل لليهود في العراق. لم يكن هناك أي شيء يجمع بين مبعوثي الصهيونية ويوسف الكبير والأغلبية الساحقة من قيادة المكون. فقد كان يوسف الكبير وآخرون يعيشون المعاناة التي خلّفتها خيانة السفارة البريطانية لأصدقائهم، بل حلفائهم، وكان يبحث عن سبل انتقام من ذلك الموقف.
توجه مبعوثو الصهيونية الى قيادة المكون الرسمية مطالبين بالتدخل المباشر لإيقاف التحقيقات والتعذيب الذي سيؤدي الى اعترافات يجب ان لا تحصل. وتحت الضغط المتزايد من داخل الوسط اليهودي ومطالب المبعوثين تم عقد اجتماع ضم القيادة والوجهاء للبحث في الأمر.
جاء في تقرير المبعوث يهوشوا جيفوني ما يلي:"وافق عضو واحد على مطلبنا ان يتوجه الحاخام الأكبر الى وزير الداخلية ويطلب منه ايقاف كافة الاجراءآت في هذا الأمر. رفض الجميع التدخل وكان رأيهم ان ما حدث لم يكن أمراً يهودياً عاماً، بل "أمراً سياسياً - صهيونياً." وكان من الواضح ان القيادة لم تكن متحمسة "لإخراج الكستنة من النار" من أجل الحركة الصهيونية، كما تصور الكاتبة ما حدث.
كتب أيشل تقريراً في آب 1944 يهاجم فيه بقسوة واحتقار المكون عموماً جاء فيه:"...ظهرت مؤسساتهم الرسمية وأفرادها على أفضل وجوهها :الخوف والتخاذل واللامسؤولية تجاه الشعب(ويقصد اليهود). بذلنا كل ما في وسعنا لدفع الجسم المدني التخلص من السلبية. الانجاز الوحيد الذي تحقق انهم عقدوا اجتماع للبحث في أمرنا. اقول انجاز لأننا لم نتمكن من إحضار العضو الوحيد الذي كان يمثلنا. انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي قرار. قالوا ان مقابلة الوزير امر ضروري، وقدم كل واحد منهم أسبابه بأن لا يكون هو من يقوم بهذا الأمر." وفي اجتماع له مع فردين بارزين من يهود بغداد، ذكّرهم ايشل ان ما يحصل يصل الى فلسطين وانهم هناك "ينتظرون منكم المساعدة النشطة. انكم جزء من الأمة (الشعب اليهودي) كما وانكم بحاجة الى مساعدة الوكالة اليهودية، وسيتذكرون تخليكم عن اليهود الصهاينة."
تدخل بعض الوجهاء في نهاية الأمر وعملوا بطرقهم الخاصة لإنقاذ المقبوض عليهم برشوة المحققين وغيرهم بسخاء.
كتب ايشل :"انهم ليسوا صهاينة. ولكن عندما تحصل لاسرائيل (اليهود عامة) متاعب، سيقوم قياديون بالمساعدة. ولقد أصبح واضحاً لهم أننا قوة لا يستهان بها، وان تعرضنا للمحاكمات سيأتي بالضرر على اليهود عامة."
كان تدخل أحد مستشاري وزارة الداخلية البريطاني - كريس- في الأمر عاملاً حاسماً لانهاء اجراءآت التحقيق عندما منع نشر التحقيقات في الصحف لكي لا تُثير مشاعر عامة الناس ضد اليهود، ثم التأكد من معاملتهم حسب القانون، وكذلك عمل على تصوير الأمر بانه مجرد أعمال طائشة من مجموعة من الصبية اليهود وان لا تؤخذ بجدية.
لم يكن نشطاء الصهيونية في بغداد جالسين ينتظرون الأقدار. فقد قاموا بإخفاء العديد من المطلوبين من الشرطة. كما وفشلت الشرطة بإلقاء القبض على محرري الرسائل الى المنظمات الصهيونية في فلسطين وكتبة وطابعي الكتيبات وغيرها.
بعد انتهاء "أزمة الرسائل" بأسابيع قليلة تأكد للنشطاء ان ما أنقذ الحركة وأبقاها مستمرة كان مدى انتشار الفساد في اوساط الشرطة والجهات التحقيقية، اذ اذهلهم استعداد مسؤولين على كافة المستويات لتسريب معلومات والتعتيم على أدلة دامغة واطلاق سراح موقوفين مقابل رشاوي. كما اتضح لهم تأثيرات المستشارين الانجليز، اضافة الى القدرات الكبيرة لأعضاء الحركة.
جاء في رسالة مهمة للمبعوث مائير شيلون ما يلي:" لم يخطر ببال اي منا، نحن عملاء فلسطين هنا، ان نزج الحركة في هذا الشأن. ولكن احد الأعضاء المسؤولين البارزين لدينا طرح فكرة القيام بعمل مثير بين اليهود في ذلك اليوم - عيد المساخر - "Purim day." ثم تأكد انهم - المبعوثون- كانوا يريدون ان تصبح حركتهم حركة مقاومة تماثل المقاومة السرية المسلحة التي تخوضها الصهيونية في فلسطين.

(تعقيب: يجدر للقاريء هنا التوقف والتساؤل عن ما يرمي اليه شيلون بقوله "القيام بعمل مثير بين اليهود"! وحقيقة الانفجارات التي حدثت في منشآت يهودية في بغداد في تلك الفترة والتي أثارت الرعب في صفوف اليهود، ثم تعدد التفسيرات حول القائمين بها. هذا تساؤل مشروع عندما اتضحت مواقف المبعوثين الصهاينة المتشددة ونظرتهم الساخطة الى عموم يهود العراق. فهل لنا ان نستغرب بانهم من قاموا بتلك التفجيرات لاحقا عملا بفكرة "القيام بعمل مثير بين اليهود" كما ورد في المذكرة أعلاه.)

في أثناء الاحتفال بالعيد وخلال اداء الحاخام ساسون قدوري المراسيم الدينية الاحتفالية في المعبد الرئيس في بغداد، قام بعض الشباب بمقاطعته والصياح مطالبينه بعدم مقابلة أعضاء اللجنة المذكورة، وأصروا مطالبين ان لا يقدم شهادة بحسن حال اليهود في العراق. ثم وُزع منشور في اليوم التالي في المعابد يطلبون من اليهود ان يمنعوا الحاخام من مقابلة اللجنة الدولية التي جاءت الى العراق للتحقيق في أوضاع اليهود. "ليخسأ من يخون شعبه بالأكاذيب لينفذ بجلده، لن نجعله يذهب ويقدم الأكاذيب، سوف نتجمع عند باب داره ونمنعه من الخروج."
هكذا كانت لهجة الصهانية تجاه زعيم روحي كان يحاول تهدئة النفوس ويتعامل مع جهات متعددة كل منها يحمل في جنباته أجندات فاقت طاقته. ورغم الصدمة التي أصابت أوساط اليهود من تلك الكلمات البذيئة الموجهة للحاخام، فقد وجدت الأكثرية نفسها مشلولة امام الهجمة الشرسة للصهيونية وسعة انتشارها في صفوف الشباب.
في حقيقة الأمر كانت الحركة الصهيونية في العراق تعتبر الحاخام ساسون أحد ألد وأخطر أعدائها.
ورغم ذلك فقد قابل الحاخام اللجنة ولّمح في شهادته الى بعض المضايقات التي يواجهها يهود العراق كحرية السفر الى فلسطين. ولكنه رفض وبشكل قاطع ان يبدي رأياً حول القضية الفلسطينية قائلاً انه غير معني بالسياسة، اضافة الى تلميحات بخشيته اتخاذ موقف علني بهذا الخصوص. ولكن أبراهيم الكبير، مدير عام وزارة المالية واحد ابرز وجهاء المكون اليهودي، كان قد اتخذ موقفا مغايرا عندما أرسل مذكرة الى أعضاء اللجنة الدولية يؤكد فيها ان يهود العراق لا يواجهون تمييزاً بكونهم يهود وان حقوقهم محفوظة في الدستور. وكان ذلك في واقع الأمر موقف قيادة المكون التقليدية.
كان بن غوريون على علم بتفاصيل ما يجري لليهود في العراق وقال في تصريح له عام 1943: " ان يهود العراق قد يواجهون مذبحة، وان حدث ذلك سيكونون ضحايانا، وبسببنا، لذا فلابد للصهيونية ان تجعلهم مدركين لتلك المخاطر وكسبهم للصهيونية ثم عودتهم والاستقرار في المستوطنات الزراعية في فلسطين."
رغم كل تلك الأحداث والصراعات داخل المكون اليهودي، بقيت هوة شاسعة تفصل بين الحركة الصهيونية في العراق وعموم اليهود. وتستشهد الكاتبة بتقرير لمردوخاي بن بورات ورافائيل زوراني ورد في كتاب لموشي غات "The Jewish Exodus from Iraq 1948-1951" جاء فيه:"لا يشعر يهود العراق ان لديهم مشكلة ليساعد بحلها أُناس من الخارج، وان وجدت مشاكل داخلية فلابد من حلها بالتفاهم والتعاون. انهم لا يشعرون بحاجة للهجرة الى فلسطين او أمريكا او اي بلد آخر. ان اليهود يحيون حياة سعيدة."
من هذا يتضح تكثيف الجهود التي قام بها مبعوثو الصهيونية وتوجههم الى المدارس اليهودية في عموم العراق ليتغلغلوا في صفوفها والدعاية للصهيونية للتأثير على النشأ وايجاد مناخ متعاطف معهم. أصبح الصراع شديدا بين الطرفين وتبلور في الوسط التعليمي. فقد منعت الهيئة التنفيذية للمجلس الأعلى لليهود تدريس الصهيونية في المدارس بشدة. ومن جانبهم أصر المبعوثون على مواقفهم وتشددوا بها بدءاً بطبع منشورات تثقيفية صادرة من البيانات المذاعة من الهاغانا في فلسطين، وخاصة أنباء الانتصارات التي كانت تحققها القوات الصهيونية في فلسطين.

الصهيونية والشيوعية في العراق:
كان للحركتين تأثيرات واسعة في صفوف اليهود. فقد كسب الحزب الشيوعي جموع المتعلمين والنخبة المثقفة وكثيراً من الصحفيين اليهود ، في حين كسبت الحركة الصهيونية مؤيديها من بين ذوي الدخل المنخفض والتعليم المتواضع.
كانت طروحات الحزب الشيوعي تغطي مسائل الفقر والاستعمار وفساد السلطة وغيرها من المسائل الوطنية، ومن ضمنها قضية اليهود حيث ان الحل يكمن بتطبيق الاشتراكية. في حين كان رحيل اليهود هو الغرض الأساس لحركة الصهيونية وتواجدها في العراق.
واجه الحزب الشيوعي حملة شرسة من السلطة في عام 1946 بعد فشل الاصلاحات التي شُكلت على أساسها وزارة السويدي، وقيام الحزب بتظاهرات في أنحاء مختلفة في العراق. شنت الحكومة حملة اعتقالات أوائل عام 47 شملت رئيس الحزب فهد وقياديين آخرين. ساد قلق شديد في أوساط اليهود، فآثر العديد منهم السكون والابتعاد عن النشاطات العامة، وراحت الحكومة تمزج بين الأنشطة التخريبية لكلا الحركتين.
عاد نوري السعيد الى الحكم عام 49 بعد الانتفاضة التي عمت العراق عند عقد معاهدة بورتسموث الانكلو-العراقية في سنة 1948، وتعامل مع الشيوعيين بقسوة شديدة، وتم اعتقال كافة أعضاء اللجنة المركزية ضمن مئآت من أعضاء الحزب وخضع العديد منهم للتعذيب الشديد. تشير الكاتبة الى ما ذكره حنا بطاطو بكتابه Old Social Classes ص 567 الذي أشار الى ان ما حدث للحزب الشيوعي كان كشف أحد أعضائه للتنظيم بالكامل.
في الرابع والخامس عشر من شباط عام 1949 ، وبعد سنتين من السجن، تم أعدام القادة الشيوعيون وبدأت فترة عصيبة في مسيرة الحزب.
جلبت ظروف العراق المتوترة والعصيبة الخوف في صفوف الحركة الصهيونية والخشية من اعتدءآت محتملة ضد اليهود. وفي الوقت ذاته فان محنة الحزب الشيوعي قد جعلت الحركة الصهيونية البديل الوحيد المعارض للقيادة التقليدية ليهود العراق.

نشاطات المنظمات الصهيونية المحمومة في العراق في الأربعينات:
( تعقيب: أحد الجوانب الهامة جداً في هذا البحث الأكاديمي هو التعرف على الأهمية البالغة التي أولتها الحركة الصهيونية ومنظماتها العديدة ليهود العراق ونشاطاتها المحمومة بإرسالها مبعوثين بصورة دورية ومكثفة وشراء أسلحة وذخيرة وإقامة اتصالات منتظمة مع رئآساتها في فلسطين، اضافة الى الفعاليات الثقافية والاجتماعية. كما وتقدم الكاتبة شروحات للصراعات الايديولوجية التي كانت قائمة بين تلك المنظمات وإنعكاسها في الساحة العراقية ، وتورد حادثة الجدل العنيف والتعنيف المتبادل بين مبعوثين في اجتماع لشبيبة الرواد اليهود في البصرة، مما أصاب الحاضرين دهشة كبيرة واستهزاء وانتشار الخبر في صفوف الشارع اليهودي.)

عاد الى العراق بعض الشباب العراقيين اليهود الذين كانوا هاجروا من قبل، بعضهم لأسباب شخصية وآخرون كمبعوثين. وكان منهم سالم حياوي ومنشه حايك والبرت شماش الذين شكلوا وقادوا منظمتين، أحداها جمعية اليهود الأحرار، وكانت نشطة خلال عامي 1942-43 وضمت ما يقارب من 300 عضواً. ومنظمة ليحي/شتيرن (فرع من منظمة شتيرن "المقاتلون من أجل حرية اسرائيل" الارهابية . التي كانت من أكثر المليشيات الصهيونية شراسة وشهرة في فلسطين، قاتلت قوات الانتداب البريطاني وكانت تفضل التحالف مع المانيا النازية بدلاً من بريطانيا - من ويكيبيديا.) أرسلت شتيرن مبعوثين من أصول غير عربية وبلغ عدد أعضائها 80 في عام 1945. وكانت تريد المساهمة بالأعمال المضادة للبريطانيين في العراق. ويجدر بالذكر ان أكثر المنظمات نشاطاً وقوة كان فرع الموساد في العراق، الممثل شبه الرسمي للوكالة اليهودية.
كانت عملية ترحيل اليهود الى فلسطين في الأعوام السابقة تجري بصورة غير شرعية اما بتهريبهم او الحصول على موافقات سفر وتأشيرات دخول. واجهت تلك العملية مصاعب من جانبين: أولهما ان الراغبين بالهجرة كانوا من فقراء اليهود والأقل تعليما، وكان عليهم رعاية أنفسهم ماديا عند الاقامة في فلسطين، مما وضعهم في ظروف صعبة للغاية. اضافة الى ذلك، فقد كان الفتية والفتيات من شريحة اجتماعية محافظة كبقية أفراد الشعب العراقي. ولكنهم وعند الاستقرار في فلسطين وجدوا أنفسهم في أوساط انفتاح اجتماعي وحرية وانطلاق لم يألفوها في حياتهم من قبل. وكان يُنظر لهم في الكيبوتسات وأماكن العمل بكونهم قابعين بالتخلف والجهل.
شهد العراق عام 1942 مرحلة هدوء واستقرار نسبي في الحياة الاقتصادية عامة، فخفّت رغبة يهود العراق عامة بالمغادرة حين مسّهم ذلك التحسن الاقتصادي بشكل كبير كما وشعروا بالأمان من جديد.
قامت المنظمات الصهيونية بمحاولات كسب أثرياء يهود العراق للهجرة والاستثمار في فلسطين، وتم تقديم مقترحات وسبل استثمار. كتب سيريني تقريرا حول هذا الأمر قال فيه:"الرأسماليون اليهود الشرقيون لا يقبلون نصائح وتوجيهات من غرباء. وفي حقيقة الأمر ليس هناك ما يرتجى منهم، فلا اهتمامات لديهم في الزراعة، ولن يفلحوا في الصناعة لأنهم لا يمتلكون المؤهلات والخلفية المعرفية. سيتوجهون للتجارة لا محالة كما فعلوا طيلة حياتهم. ولكننا سنعمل كل ما في وسعنا قبل فوات الأوان."

( تعقيب: جانب من نظرة المبعوثين عن يهود العراق "الرأسماليين" خاصة انهم سلبيين وغير متعاونين، والتي عكسوها لقياداتهم في فلسطين طيلة تلك الفترة. وكان من نتائجها عدم اهتمام اسرائيل بأموال يهود الدول الاسلامية حينها وفيما بعد.)

لم تكن هناك هجرة كبيرة في عامي 1942-43 كما كانت تأمل المنظمات الصهيونية، ورأت ان القادمين أقل من المستوى المطلوب عدديا بل وحتى "نوعياً"! حيث توجه أغلبية المهاجرين الى المدن وفضلوها على الكيبوتزات.
جاء في تقرير شاؤل أفيغور الى سكرتارية الهستدروت في نيسان عام 1944:"رغم كافة جهودنا، فقد فشلنا في فتح طرق العودة(aliyah) طيلة السنتين الماضيتين، ولدي مخاوف اننا سنضطر الى ايقاف العودة من أراضي المشرق. لذا لابد لنا من توفير موارد هائلة وجهود لتحقيق انجاز في هذا المجال."
تغير الحال عام 1944 عند وصول مبعوث الموساد أريا ابرامفوسكي الى العراق، وحصل على تصاريح هجرة من السفارة البريطانية. فقام بتحضير جوازات سفر مزورة وتقدم أصحابها بطلبات موافقة سفر لغرض العلاج او السياحة او الدراسة، رغم العراقيل الادارية والمالية التي وضعتها الحكومة بوجه طالبي السفر من اليهود.
كان هناك مبعوثون آخرون وصلوا العراق في ذلك العام، ورسائل تشجيع لهم من المنظمات الصهيونية بعدم اليأس والبحث عن طرق تهريب بديلة . مما يدل على مدى الاهتمام الذي صارت توليه تلك المنظمات ليهود العراق، فتزايد عدد المبعوثين ونشاطاتهم المحمومة في كافة انحاء العراق وتنقلاتهم بين العراق وفلسطين. ذكر تقرير للموساد ان عدد اليهود الذين وصلوا من الشرق الأوسط في ذلك العام كان ما بين 3300-3500. لم يُعرف بالضبط عدد يهود العراق من أولئك المهاجرين،ولكننا نعلم ان 2000 يهودي عراقي وصلوا فلسطين بين عام 1941 و45. هناك اشارتان مهمتان تذكرهما الكاتبة، اولهما ان العديد ممن هاجر بعد الفرهود مباشرة عادوا الى العراق. والثانية ان موظفين من البلاط الملكي الأردني كانوا نشطين بمساعدة المهرّبين عند وصولهم قرب حدود شرق الأردن. وقد يفسر ذلك مقدار الرشاوى التي كان يتقاضاها هؤلاء حين بلغ سعر ترحيل الفرد أكثر من مائة دينار بعد ان كان لا يتجاوز 15-20 دينار من قبل!
قامت الموساد في عامي 47-48 بتنظيم رحلات جوية من بغداد الى مطار اللد بعملية أطلق عليها أسم "عملية مايكلبيرغ" ليهود في مقتبل العمر حصلوا على جوازات سفر مزورة.
حصل توتر وخلافات بين المبعوثين الأشكناز ويهود العراق. اذ رغم ان المبعوثين كانوا يتحدثون اللغة العربية بلكنة فلسطينية، الا انهم كانوا يجهلون الثقافة والعادات العراقية. فعلى سبيل المثال، رفض ممثلو منظمة شباب الرواد اليهود (Hehalutz) في البصرة تسليم جواز سفر مزور الى احد المهربين بناءا على تعليمات المبعوث ييهوناتان باهاراف لعدم ثقتهم بذلك المهرب، ثم رضخوا لاصراره وأعطوا الجواز للمهرب، وصح ظنهم عندما سلم المهرب الجواز بدوره الى الشرطة.
بعد عودة باهاراف الى فلسطين عام 47، اخذ شموئيل مورية مكانه في التنظيم (ملحوظة: من غريب الصدف ان يشترك شموئيل هذا مع البروفيسور شموئيل موريه ذائع الصيت، فهو من مواليد البصرة، والبروفيسور من مواليد بغداد .)
نجح موريه خلال عام واحد بتهجير ما يقارب 300 من أعضاء المنظمة وأعتُبر ذلك انجازاً كبيراً بسبب استمرارية المصاعب في الترحيل التي كانت سائدة.
كان وصول بواخر المهاجرين اليهود الاوربيين الى فلسطين أسلوباً هاماً من أساليب الصهيونية ضد السياسة البريطانية المقيدة للهجرة. ومن جانبهم، أعتبر شباب يهود العراق ان أعمال التهريب التي كانوا يجرونها للمهاجرين جزءً من ذلك النضال الصهيوني. ولكن منظر المهاجرين على البواخر ونزولهم وفتح أبواب الهجرة لهم في فلسطين كان قد ترسخ في الذهنية والروحية اليهودية بصورة ثابتة كفصل من فصول إقامة الدولة، في حين كان وصول يهود المشرق عن طريق البر والتهريب خارج القصة والسردية اليهودية، وتم تجاهلهم اعلامياً بالكامل ، في حين كانت صور وأخبار بواخر المهاجرين الأوربيين تملأ صحف العالم واذاعاتها وتؤثر في مواقف الحكومات. تجاوز عدد المهاجرين الأوربيين غير الشرعيين 70000 بين عامي 1946 و47. و قامت السلطات البريطانية بحجز آلاف في معسكر أتلت قرب حيفا ثم في معسكرات في قبرص، فأصبحوا أكبر عامل دعائي واعلامي للصهيونية في اوربا. في الوقت الذي كانت تجري الهجرة من المشرق/العراق بصورة سرية.

=====================================================
















الصهيونية في دولة عربية.
يهود العراق في أربعينات القرن العشرين

الجزء الثاني

الهاغانا وتشكيل منظمة الدفاع اليهودية
كان أول عمل قام به مندوب الهاغانا في العراق عزرا قدوري في عام 1942 هو حل منظمة شباب الانقاذ وتشكيل فرع الهاغانا. استأجر دارا في شارع يكتظ بسكانه اليهود وبدأ بتدريب بعض شباب منظمة الرواد في سرداب المنزل على أساليب الدفاع عن النفس والتدريب على استعمال السلاح. قاموا بتخزين السلاح في عدة مراكز تحت الاشراف المباشر والصارم لمندوبي الهاغانا.
أسماء بعض اعضاء منظمة الهاغانا: رافائيل زوراني وغدوين غولاني، وطلبة وخريجي كلية بغداد (الأمريكية) يحزقيل يهودا واخوه فؤاد واري شفير (البرت باباي) وأيتيان (صالح) شماش وأفرام بن موردخاي (توفيق مراد) شقيق عضو المحكمة العليا يحزقيل مراد) وابن عمه نعيم وكرجي شاشا.
بداية، لم يكن لهؤلاء الشباب المتعلم في واقع الأمر اهتمام بالصهيونية او تعلم اللغة العبرية وكانوا يرفضون حضور الاجتماعات التي كان يرأس بعضها افراد أقل تعليم منهم او من طبقة اقل شأنا. كان هدفهم في حقيقة الأمر إجادة أساليب الدفاع عن النفس فقط. ولكن بعضهم اندمج في النشاط الصهيوني المحموم وأصبح يحزقيل يهودا عام 1944 رئيس المنظمة، وبن موردخاي مسؤول الاتصالات اللاسلكية.
اما المبعوثون، فقد كانوا يعتبرون المنظمة اجراء مؤقتاً لترسيخ الفكر الصهيوني في عقول يهود العراق ثم ترحيلهم الى فلسطين.

شهد العراق عام 1943 تأثيرات بريطانية متزايدة وملحوظة. فقد ازداد تواجد القوات البريطانية وأصبح البلد تحت سيطرة بريطانية متزايدة، ما جلب شعوراً بالأمان في أوساط اليهود، فقّل الاهتمام بالتدريب العسكري وتوقف ارسال الأسلحة من فلسطين وترّكز الاهتمام بتنظيم الهجرة السرية وبناء منظمة الشباب الرواد.

خطة دان رام الدفاعية:
تعاظم الخوف في الأوساط الصهيونية في فلسطين على يهود المشرق بعد انتهاء الحرب العالمية عام 1945 حين ازدادت مطالب الشعوب العربية بالاستقلال واشتداد الصراع في فلسطين، فأرسلت البلماح (القوة الضاربة للهاغانا، ومن ثم العناصر الأساسية للجيش الاسرائيلي فيما بعد) أحد مسؤوليها دان رام الى العراق وبقي هناك من حزيران 1945 لغاية آذار 46. وضع رام خطة مكونة من ثلاثة عناصر: تحضير ترتيبات دفاعية، وتشكيل تنظيم راسخ، وتخزين أسلحة. فجرى تقسيم منطقة البتاويين ومناطق اخرى يسكنها اليهود بكثافة الى قطاعات ونقاط رقابة في كل قطاع. ثم تم تشكيل فرق تلتحق في تلك النقاط عند الاشارة بانذار. وكان هناك قادة معينون لنقاط الرقابة.
نرى من هذه التحركات والمخططات ان القيادة الصهيونية في فلسطين ارادت تهيئة يهود العراق بصورة مشابهة لدفاعات غيتو اليهود في بولندا، او الانتحار الجماعي في مسادا.
(تعقيب: جبل مسادا او مسعدة باللهجة الفلسطينية يطل على البحر الميت: حاصر الجيش الروماني عام 73م حوالي 1000 يهودي متمرد في قلعة الجبل وقتل العديد منهم، ثم قام من تبقى منهم بعملية انتحار جماعي مفضلين الموت على الاستسلام. هكذا كانت تصورات قيادة الهاغانا لما قد يحدث ليهود العراق!)
عاد دان رام مرة اخرى الى بغداد ووضع خطته موضع التنفيذ ولقي تجاوباً واسعاً في أوساط الشباب اليهودي، ومن ضمنهم اولئك الذين لم يستهوهم الفكر الصهيوني والرافضون مبادلة وطنهم بوطن آخر، وإنما كان دافعهم التهيؤ للدفاع عن افراد المكون ان تعّرض افراده للخطر، كما حدث في الفرهود.
أسماء بعض قياديي الهاغانا العراقيين في بغداد عام 1948: يوسف مائير مسؤول حارة اليهود ونسيم عبودي مسؤول البتاويين، ونعيم ناحوم مسؤول الكرادة ونعيم باخور نائب رئيس القيادة. وانضم اليهم بعض الفتيات وكانت مهماتهن تنحصر بالاسعافات الأولية.
كان دان رام يريد تكوين روابط قوية بين يهود العراق والنشاط الصهيوني حين قام بتنظيم مجموعة من عشرين فرداً اشتروا أسلحة بأنفسهم ويدربهم أفراد من الهاغانا. ثم نظّم حملة تبرعات لشراء أسلحة، وكان يأمل بجمع آلاف الدنانير. أصابته خيبة أملٍ، وكتب في تقرير له:"..الخطة الكبيرة بجمع آلاف الدنانير كانت حلماً! اذ لم نستطع جمع حتى بضعة مئآت من الدنانير". اتضح من ذلك الفشل الذريع مدى التباعد بين مبعوثي الصهيونية وعموم يهود العراق كما يتضح ذلك في مواقف متكررة وعديدة تطرحها الكاتبة.
لم تكن القوة الدفاعية التي شكلتها الهاغانا فرقة تؤخذ بجدية. كتب عضو الهاغانا العراقي يوري شيفر الذي كان قد هاجر الى فلسطين عام 1944 رسالة انتقادية شديدة موجهة الى الموساد جاء فيها: "ما عسى بضعة أفراد ان يفعلوا للدفاع عن مائة ألف يهودي منتشرين في أحياء متباعدة في بغداد؟" واقترح تدريب 15-20 فردا من المهاجرين في فلسطين يتوجهوا بعدها الى العراق ليصبح تنظيم الهاغانا تنظيما قويما فيقوموا بدورهم بتدريب 300-500 من الشباب في غضون عام." وأضاف "... ليس هناك أكثر من أربعة أفراد مؤهلين حقاً يعملون كمدربين، ولا يوجد أكثر من عشرة أفراد قادرين على الدفاع عند الضرورة. فأن حصل هيجان ضد اليهود (تعقيب :يستعمل اصطلاح pogrom) فستكون النتيجة كارثية، وان لم نفعل ذلك فورا فسوف تؤنبنا ضمائرنا حين يصبح الأمر متأخراً جدا."
على أثر ذلك قامت الهاغانا بارسال اثنين من أعضائها، وهم افرام بن مورداخاي مدرب الاتصالات اللاسلكية، ويستحقيل يهودا (عراقي الأصول) للقيام بتدريب عسكري منظم. غادر المبعوثان العراق بعد ستة أشهر وعينوا قائدا محليا يراس الهاغانا في بغداد. لم يتقبل البعض فكرة ان يتراسهم فرد من العراق كانوا يريدونه مرسلاً من الخارج.
لم تفِ الهاغانا بوعودها بإرسال اسلحة ومبعوثين ومدربين اضافيين الى العراق، فحصلت ردة فعل شديدة في أوساط التنظيم ووجه يتسحقيل يهودا وأيتان شماش توبيخات شديدة الى المبعوثين، ثم استقال شماش على أثرها، وكانت فترة عصيبة بتاريخ الهاغانا في العراق، فلا تدريب ولا أسلحة ولا مبعوثون دائميون، واصابت أعضاء التنظيم خيبة أمل كبيرة بعد ان قدموا كل ما بوسعهم من تضحيات لتهيئه ظروف ملائمة للعمل. وكان من تبعات ذلك عدم تعاون أعضاء التنظيم بترتيبات الهجرة. لم يكن لدى المبعوثين بدورهم انطباعات جيدة عن رئآسة التنظيم من العراقيين. فقد جاء بتقرير مطول لهم:"..انهم دائمي التذمر لأتفه الأمور وغير متعاونين...ان هذه العصابة- أفرام(توفيق مراد) و يسرائيل (يسحقيل يهودا) وايتيان (شماش) وآخرون، هم ابعد ما يكونوا عن الصهيونية وأبعادها ومفاهيمها الجدية. انهم حفنة من الضائعين الكسالى الذين يقضون أوقاتهم بلعب الورق والحفلات..لقد تركوا العمل الجدي معنا وليس لهم سوى التفاخر بأسمائهم! لا فائدة تُجدى منهم."
(تعقيب: بامكاننا من هذا المثال والعديد غيره تكوين فكرة جيدة عن حقيقة العلاقات بين مبعوثي الصهيونية وأفراد المكون اليهودي العراقي. أستعلاء وازدراء من مبعوثين صهاينة أشكناز لأناس لم يكن مفهوم الشتات ينطبق عليهم. أراد المبعوثون فرض مفاهيمهم وطروحاتهم وزرع الخوف فيهم بأي طريقة كانت. ولقد أصبح من شبه المؤكد لدي ان حقيقة التفجيرات التي حدثت في بعض دور العبادة اليهودية لابد انها كانت من فعل مبعوثي الهاغانا والموساد.)
كان هدف الصهيونية في تلك الفترة وبصورة اساسية انقاذ يهود أوربا من بطش النازية، لذا لم تمنح قيادتها في فلسطين الاهتمام والرعاية التي كان يتوقعها المبعوثون لنشاطهم في العراق حتى عام 1946 حين بدأت الهاغانا بتكثيف نشاطاتها في الدول العربية، فقامت بارسال مبعوثين اضافيين وأسلحة وأموال لشراء أسلحة من الداخل. تم تشكيل منظمات الرواد في البصرة وكركوك بعد ان تساءل ايغال آلون عن أسباب عدم الأهتمام باليهود خارج العاصمة. قاد منظمة الهاغانا في البصرة كل من داود حاخام وشموئيل موريه ويوآف بيرون، الذين تم تدريبهم من قبل عسكريين محترفين من فلسطين وجاؤوهم بكراريس تعليمات التدريب وتسليح، وأصبحوا مع آخرين يشكلون اول فرقة كوماندو الهاغانا في العراق.
عندما أخلت بريطانيا معسكر الشعيبة عام 1946 أصبح تهريب الأسلحة واسع الانتشار بكميات كبيرة. حصل فرع الهاغانا في البصرة على كميات كبيرة منها وبأسعار بخسة، فقاموا ببيعها الى فرع بغداد بأسعار اعلى بكثير من قيمة شرائها بحجة ان المنظمة في بغداد هي أكثر ثراءاً من منظمة البصرة! وعندما تم اكتشاف الأمر،أُجبر داود حاخام على الاستقالة من رئآسة تنظيم البصرة وعُين شخص آخر موثوق به من قبل المبعوثين.
مر العراق بأحداث عاصفة بين أعوام 1945 و48 وحلّ تخوف كبير في أوساط المكون اليهودي، وخاصة اليوم الثاني من تشرين ثان، ذكرى وعد بلفور. ولكن لم يحدث ما كان يُخشى منه من مظاهرات كما حدث في القاهرة وطرابلس. وبعدها بأيام أفشلت الشرطة اجتماعات كانت الغرض منها القيام بأعمال عدائية ضد اليهود. نشرت اللجنة الأنجلو أمريكية تقريرها عن أوضاع يهود العراق، وأصدرت الأمم المتحدة قرارها بالتقسيم في 29 من نفس الشهر عام 1947، لم تحدث ايضا اية تظاهرات تذكر بعد تدخل الشرطة، ما عدا التظاهرات العارمة التي انطلقت في أنحاء العراق بعد توقيع اتفاقية بورتسموث عام 48. عندها بدأت منظمة الهاغانا باتخاذ أجراءآت دفاعية لمواجهة الوضع المتأزم، وخاصة مسألة إطلاق النيران ورمي قنابل يدوية وغيرها من أجراءآت في حالة وقوع هجوم على مناطق سكن اليهود.
عقد ممثل المكون اليهودي داود سالا (سلمان) في اليوم التالي للتحضيرات اجتماعاً مع المبعوثين وحذر التنظيم السري من القيام بأية أعمال مسلحة، وأخبرهم ان الشرطة قد اتخذت احتياطات لازمة لحماية اليهود. وكان ذلك يعني ان قيادة المكون اليهودي كانت على علم بتفاصيل أعمال ومخططات الهاغانا وبطرقها الخاصة. كما ويؤكد كذلك رغبتهم بالاعتماد على اجراءآت الدولة وعدم ترك الأمور الى التنظيمات السرية في تقرير طبيعة الاجراءآت الوقائية لحماية اليهود.
أُعلن دخول الجيوش العربية الى فلسطين في الخامس عشر من مايس، فأعلنت الحكومة العراقية الأحكام العرفية ومنعت حمل الأسلحة والتجمعات في كافة أنحاء البلد، فلم يتعرض أحد من اليهود الى اية تهديدات او حوادث او تعديات. لّخص داود سلمان برسالة له الوضع جاء فيها:" ..لقد كانت معجزة عدم حدوث اية تعديات، جاءتنا معلومات ان حزب الاستقلال كان قد قرر الهجوم على أحياء اليهود ...لم تكن لدينا إمكانيات الدفاع فيما لو حصل ذلك."
حرص تنظيم الهاغانا على العمل بسرية مطلقة (تنظيم سري داخل تنظيم سري كما تصفه الكاتبة)، في حين كانت وجود النشاطات التي تدعو للصهيونية سراً علنياً في الوسط اليهودي. لم تكن الغالبية العظمى من عائلات أعضاء الهاغانا على اي علم بانتماءآت ابنائهم او أزواجهم.

مكّون محاصر من كل الجهات: شهد عام 1948 الحرب العربية - الإسرائيلية وقيام دولة اسرائيل. قامت حكومة العراق بحملة مراقبة ومحاكمات للعديد من اليهود، واشتدت ملاحقة التنظيم الصهيوني السري.
تقدم الكاتبة ثلاثة تساؤلات لهذه السياسة المتشددة، أولها: هل توصلت الحكومة الى قناعة ان يهود العراق لم يعودو حلفاء؟ وثانياً:هل كانت الحكومة تخطط لتهجيرهم او دفعهم للهجرة؟ وثالثاً: هل كان هناك اعتقاد ان الوضع القلق ما هو الا مرحلة عابرة ومرتبطة بظروف الحرب وسيستعيد اليهود بعدها وضعهم المريح كما كان سابقا؟
مر العراق بمرحلة تقلبات واضطرابات في العامين 48 و49، واهتزت أركان الحكم الهاشمي حين سيطرت الجماهير على الشارع خلال الانتفاضة ضد معاهدة بورتسموث، حتى ان بوادر حصول انقلاب عسكري بانت للعيان، وتم تلافي حصول انقلاب حينما تجاهل الوصي المعاهدة، وشكل محمد الصدر وبعده مزاحم الباججي حكوماتهم، ولم يكونا من المؤيدين للبريطانيين. عاد نوري السعيد للحكم في كانون أول 1949 وارضى قوى اليمين وشن حملته الشعواء ضد الشيوعيين وأنصارهم.
دفع التهرؤ في كيان الحكم ما بين أعوام 47-1948 الى اتخاذ العراق أكثر المواقف تشدداً حيال الصراع العربي - الاسرائيلي وتحت ضغوطات الشارع الملتهب بالحماس وحملات الصحف المضادة. ولعب العراق الدور الأساس باقناع مصر بالذات وبقية الدول العربية بشن حرب ضد اسرائيل.
"كان للوصي عبد الأله غريزة البقاء أمام الظروف الصعبة، وما زجّه بالجيش العراقي في حرب ضد اسرائيل الا أحد مظاهر هذا الاحساس." ( من كتاب للمؤرخ مايكل إيبل The Palestine Conflict in the History of Modern Iraq: Dynamics of Involvement, 1928_48الصفحات 183-5 )
عندما أعلنت الحكومة الأحكام العرفية بسبب ظروف الحرب كانت ترمي في واقع الأمر الى حل مشاكلها الداخلية المتفاقمة، فحدت من نشاط المعارضة ومنعت التظاهرات والتجمعات وقامت بوضع قيود على النشر وزجت بالشيوعيين وأنصارهم بالسجون. وفي حين أوجدت هذه الاجراءآت شيئاً من السكينة في الوضع السياسي العام، فقد اشتدت الأزمة الاقتصادية في البلد وفشلت الحكومة باجراء اي اصلاح حقيقي. ومن عوامل الأزمة: موجة الجفاف التي ضربت المحصول الزراعي في ذلك العام، وتكاليف الحرب وكلفة اغلاق انبوب نفط حيفا وغيرها.
كانت لمساهمة العراق الفعالة في حرب فلسطين تبعات جدية على المكون اليهودي العراقي. ففي تموز عام 1949 أقر البرلمان قانوناً اعتبر فيه الصهيونية كالشيوعية والفوضوية جريمة يعاقب عليها بالسجن من سبعة سنوات الى الاعدام. لم يعّرف القانون الصهيونية، لذا أصبح القانون عرضة للتفسيرات وفتح المجال لملاحقة اليهود قضائياً بصورة عشوائية، وشاع بين عامة الناس القول ان اليهود طابور خامس.
أصبح واضحا ان الحكومة تشارك عامة الناس بتلك المواقف رغم علمها ان الغالبية العظمى من يهود العراق أناس مخلصون حقا لبلدهم.
في واقع الأمر، جعلت الحكومة يهود العراق ورقة ضغط بيدها للتأثير على حكومة اسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين، فأصبح للعراق سمعة واسعة بين عامة العرب والفلسطينيين خاصة بكونه مدافعاً شديداً عن حقوقهم، والأهم من ذلك كانت الحكومة ترمي تحسين سمعتها في أوساط الرأي العام العراقي بصورة خاصة. وبذلك أصبح يهود العراق رهائناً بيد الحكومة حين ربطت مصيرهم بمصير عرب فلسطين، وكانت تلك معادلة وضعت يهود العراق في أقسى وضع، اذ لم يكن لهم اي ضلع بالصراع العربي - الاسرائيلي.

الحكومة تحاصر المكون اليهودي من كل جانب
مر يهود العراق بفترة قاسية للغاية في عامي 1948-49. ففي حين أوجدت الحكومة حماية لليهود وممتلكاتهم من تهديدات اليمين العراقي، لكنها ايضا حاصرتهم بتقييدات على تحركاتهم، ثم منعهم من السفر خارج العراق الا في حالة تقديم كفالة مالية بمبلغ 2000 دينار والحصول على موافقة من وزارة الدفاع. أُرغموا على التبرع لعرب فلسطين، وأعتُقل أثرياؤهم بحجج واهية وفرضت عليهم غرامات مالية عالية. وقامت الشرطة بحملة اعتُقل فيها مئآت من اليهود وتم حبس الكثير منهم بتهم التواصل مع الصهيونية عندما كبسوا رسائل من اقارب وأصدقاء لهم من فلسطين. منعت وزارة المالية مصارف يمتلكها يهود من اجراء تحويلات مالية للخارج. وأوقفت تراخيص استيراد وتصدير التجار اليهود. فُصِل المئأت من الموظفين اليهود وبلغ عددهم 796 موظفاً، وأُجبر ابراهيم الكبير مدير عام وزارة المالية على التقاعد بعد ان خدم وطنه باخلاص لأكثر من ثلاثين سنة.
أدت تلك الاجراءآت الى قطع أرزاق مواطنين عراقيين لم يكن لغالبيتهم العظمى اي ذنب سوى كونهم يهودي الديانة.
جاء في تقرير للسفير البريطاني في بغداد السير هنري ماك ان "..محاكمة تجري في البصرة خلف أبواب مغلقة ليهود هم مسؤولون كبار في ادارة المطار والميناء والسكك الحديدية، وموظفون كبار في شركات أجنبية بتهمة الصهيونية." ثم ورد شرح مفصل في مذكرة لوزارة الخارجية الاسرائيلية عن التهم التي وجهت لهم التي كان من ضمنها تهمة الكشف عن خطة الدفاع عن ميناء البصرة.
كان من أشد الأمور حزناً ما أصاب قاضي البصرة روفين بطاط الذي حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات عام 1948 بتهمة الصهيونية لحكم كان قد أصدره عام 1923 (أجل عام 23!) في قضية كان فيها احد الطرفين يهودياً. تم ألغاء المحكومية وأُخرج من السجن بعد ثلاثة أشهر من حبسه.

قضية شفيق عدس:
(تعقيب: أسطر هنا بعض المعلومات ملخصة عنه، اذ قد أثار استغرابي عدم ايراد الكاتبة التفاصيل بشأنه. وللذكرى كان ابنه صباح صديقاً لنا في مانجستر زمن الدراسة، وكان يعاني من اصابته بشلل الأطفال في الصغر.)
عدس من مواليد عام 1900 في مدينة حلب، هاجر الى العراق بعد الحرب العالمية الأولى واستقر في مدينة البصرة وأصبح من كبار تجارها ووجهائها. كان له شريكان محليان هما ناجي الخضري ( قد يكون الخضيري اسم العائلة التجارية المعروفة في البصرة) وصالح عبد الله.
وجهت له تهمة شراء معدات عسكرية من قاعدة الشعيبة بعد رحيل الجيش البريطاني عنها وتصدير المعدات الى ايطاليا ثم اعادة ارسالها الى المليشيات الصهيونية في فلسطين. ولابد هنا من الاشارة الى ان وزارة الدفاع العراقية كانت قد استولت على كافة المعدات العسكرية التي تركها البريطانيون، ثم قام العديد من صغار تجار البصرة بشراء ما تبقى، وأثرى العديد منهم من تلك التجارة وبقوا معروفين للقاصي والداني لسنوات طويلة بعدها.
اضافة الى تهمة ارسال المعدات الى فلسطين، وجهت له تهم أخرى منها التخابر مع منظمات صهيونية في فلسطين والتبرع للحزب الشيوعي العراقي! كانت المحكمة عسكرية يرأسها القاضي عبد الله النعساني الذي كان معروفا بعدائه الشديد وكرهه لليهود والشيوعيين.
ملاحظات
• لم يُقدم شريكاه للمحاكمة لشراء معدات معسكر الشعيبة.
• كانت تلك الفترة تزخر بالتفاعلات والهيجان بسبب قيام دولة اسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية التي كانت قائمة.
• من المعلومات الثابتة حول المحاكمة ومجرياتها، يتضح وجود قرار مسبق باعدام شفيق عدس، اذ اكتفت المحكمة بالاستماع لشهود الادعاء فقط ولم تسمح باستدعاء شهود الدفاع.
• لم تكن هناك أية وثائق او دلائل على علاقة عدس بالحزب الشيوعي.
• ان ما يجلب الانتباه بنفس الوقت الاهتمام غير العادي الذي حظيت به القضية من قبل الحركة الصهيونية العالمية، حيث أرسلت مندوبين أحدهما من يهود العراق والآخر أجنبي وتحدثا بأسم الصهيونية العالمية عارضين تقديم مبلغ كبير من المال الى حكومة العراق مقابل عدم إعدام عدس وقابلا اعلى المسؤولين في الحكومة دون جدوى. وورد في وثائق وزارة الخارجية البريطانية بعد ثلاثين سنة مدى الاهتمام الشديد من الحكومتين البريطانية والأمريكية بقضيته وتواصل سفرائهما في بغداد مع الحكومة. قد يكون، وبسبب ذلك الاهتمام الكبير، من غير المستبعد ان كان لشفيق عدس تواصل مع الحركة الصهيونية بسبب موقعه التجاري والاجتماعي والعلاقات الحميمة التي كانت تربطه بأعلى المسؤولين في الدولة ومن ضمنهم الوصي عبد الأله. وكما رأينا مدى النشاط المحموم الذي كانت يمارسه مبعوثو الصهيونية في العراق في الأربعينات.
• ومرة أخرى، أثار استغرابي عدم خوض الكتاب/ الأطروحة، او تعرض الكاتبة لهذا الأمر بتفاصيل وافية، فلقد أثار اعدام عدس الهلع لدى الكثير من يهود العراق وكان محفزا لهجرة الكثير منهم ممن لم يكن لديهم نية الخروج مسبقا، كما ورد في العديد من الكتابات.
• أُعدم شفيق عدس يوم 32 أيلول عام 1948 وصودرت كافة ممتلكاته.

في ظل تلك الأوضاع المرتبكة، عرض نوري السعيد على السفير البريطاني تسفير 100,000 يهودي عراقي الى فلسطين و تبادلهم بنفس عدد من الفلسطينيين ليأتوا كلاجئين الى العراق ويُمنحوا مساكن اليهود التي ستُخلى، كما أُسكن يهود في دور الفلسطينيين في فلسطين. رفض البريطانيون تلك الخطة، فأخذتها حكومة نوري السعيد الى الأوساط الدولية، ونُقلت الى اسرائيل بصورة غير رسمية التي وافقت على مجيء يهود العراق بصورة أصولية وعلى شرط ان يأخذوا ممتلكاتهم النقدية معهم، فاسرائيل لا تريد ان يأتيها يهود كانوا أثرياء فأصبحوا فقراء معدمين. هكذا صرّح وزير خارجية اسرائيل حينها موشي شاريت.
سقطت حكومة نوري السعيد في أواخرعام 1949 وانتهت معها تلك الخطة التي لم يعرها احد أي اهتمام، وقد تكون احدى تلك مناورات ذلك السياسي لكسب تعاطف الشارع العراقي، حيث أيدت الخطة جماهير اليمين . وفي حقيقة الأمر لم يستقبل العراق سوى 5000 لاجىء فلسطيني بين عامي 48-1949 ورفضت وبإصرار قبول أية اعداد اخرى.



اشتدت حملة الحكومة في قمع المعارضة الداخلية وخاصة الحزب الشيوعي، وكان يهودا صديق ضمن من أُعدموا من قادة الحزب الشيوعي في 14 شباط عام 49، كما أُعدم ساسون/شلومو دلال في شهر آيار. وصدر حكم اعدام غيابي بحق يعقوب قومجيان الذي استطاع الهرب الى ايران.
(تعقيب:اعتُقل القادة الشيوعيون في بيت ابراهيم ناجي شميل في محلة الصالحية في الكرخ. وللتاريخ أيضاً فقد أستشهد شاؤول طويق عضو الحزب الشيوعي في مظاهرة عارمة في بغداد عام 1946.)
أرادت الحكومة بإجراءآتها المتشددة ضد اليهود كشف التنظيم الصهيوني السري، والذي كانت تعلم جيدا بوجوده منذ سنوات. وكما وضحنا فقد كان للعديد من أعضاء التنظيم وآخرين علاقات وتواصل مستمر مع المنظمات الصهيونية في فلسطين وتزويدها بالمعلومات عن الأوضاع العامة وتحركات الجيش وغير ذلك، كما زودت تلك المنظمات المنظمة السرية الصهيونية بالأموال والسلاح وأجهزة الاتصال اللاسلكية والتدريب.
بدأت الشرطة العراقية باتخاذ إجراءآت مشددة للحد من تصاعد الخروج غير القانوني لليهود وخاصة عن طريق شط العرب وتهريب الأموال الى ايران، حيث كان الموساد ينظم تلك الهجرة طيلة السنتين الأخيرتين، وتجاوز عددهم المئآت شهرياً. بلغ عدد من القي القبض عليهم وحُكمو بالسجن 150 فردا عام 49.
نمت مشاعر متزايدة في صفوف المكون اليهودي ان ما يحدث من مظالم طالت عموم يهود العراق دون تمييز ودون عدالة لأغلبية لم يكن لها ضلع بما يحدث. ومن جانب آخر، فقد اشتدت حملة الصهيونية في الداخل والخارج لتصوير وضع اليهود بكونهم مُعرضين ليس فقط للتهديد بل الفناء كما حصل لغيرهم من اليهود في أوربا، وقد آن الأوان لل عودة والخلاص.
كان هناك عامل اضافي زاد من قسوة أوضاع اليهود، الا وهو سعة الفساد الاداري الذي كان متفشياً في أوساط قوات الأمن الشرطة بالذات، وكان التهديد والابتزاز على أشدهما لامتصاص الرشاوي من العوائل والأفراد. وغني عن القول ما لهذا الأمر من أثر على أناس أصبحوا محاصرين من كل الجهات. دبَ الارتباك في صفوف العائلات اليهودية التي بدأت باتلاف كل علامات تشير الى كونهم يهوداً وحرق رسائل ومطبوعات.
لم تكن هناك خطة او سياسة بشأن ترحيل اليهود عندما قامت الحكومة بحملتها ضدهم. بل كانت تلك الحملة تعبرعن مدى الضعف الذي تعاني منه السلطة في تلك الفترة وكان البلد على شفا انقلاب عسكري ضد الحكم الهاشمي، فوظفت اجراءآت الطوارىء ضد أضعف حلقة في المجتمع وجعلتهم كبش فداء، اضافة الى المعارضة المتصاعدة التي اشتدت وتوجت بوثبة 48.
ومرة اخرى كان ربط تواجد يهود العراق بالقضية الفلسطينية من قبل الحكومة من أكثر الأمور قسوة وأيلاما لهم، فادخل في نفوس العديد منهم التفكير بالهجرة مرغمين.
لابد هنا من الاشارة الى مذكرة لرئيس المكون الحاخام قدوري في عام 1949 جاء فيها:"...نحن مقتنعون ان حل هذه الأزمة يكمن برفع القيود الخانقة التي حدّت من حرية يهود العراق، ومعاملتهم بالتساوي مع بقية الموطنين...ثم ايجاد الأمان للمائة والعشرين الف من اليهود المعروفين بأحترامهم للقوانين وولائهم لوطنهم والمملكة الهاشمية."
فحوى تلك المذكرة في حقيقة الأمر تعبر عن مشاعر الأغلبية الساحقة ومطالبهم من أجل العيش الكريم في وطنهم العراق.

التهّيؤ لمغادرة العراق
تتسائل الكاتبة عن أهداف الحكومة العراقية من اتخاذها مواقف متشددة من اليهود العراقيين بعد انتهاء الحرب العراقية الاسرائيلية وعودة الجيش. ومن هذه التساؤلات: هل أصبح هناك اعتقاد ان اليهود لم يعودوا حلفاءهم الآن؟ هل بدأت بالتخطيط لترحيلهم، او دفعهم للرحيل؟ هل هذا فصل عابر مرتبط بظروف الحرب، وعندما ينتهي هذا الفصل يستعيد اليهود مكانتهم كما كانوا في السابق؟
كانت الحكومة الاسرائيلية طرفاً في في مسألة يهود العراق، اذ شكلوا عاملاً مهماً جدا في خطة المليون التي اعتبرت يهود العراق مواطنين مقبلين في الدولة الجديدة، كما واعتبرت القيادة الاسرائيلية نفسها مسؤولة لما سيحصل لهم.
وبنفس الوقت كانت تصورات حكومة اسرائيل ان يهود العراق لن يلاقوا مذبحة طالما بقي الحكم في العراق مستقراً، كما ولم يكن بامكانها ان تطالب بتحسين أوضاعهم او السماح لهم بالهجرة لأنها كانت في حالة حرب مع العراق، وان اي تدخل في شؤون مواطنين عراقيين كان سيُفسر بكونه تدخلاً في شؤون العراق الداخلية. كما ان الدعوة للصهيونية في العراق كانت تعتبر عملاً اجرامياً منذ عام 48. ولهذه الأسباب قررت حكومة اسرائيل عدم التدخل المباشر في هذا الأمر في تلك المرحلة حتى لا يصيب يهود العراق أذىً اضافي او يعرضهم لمخاطر اضافية.
وكان العراق قد أتخذ موقفاً في غاية الصلابة من اسرائيل، حيث كانت الدولة الوحيدة بين الدول المحاربة التي رفضت التفاوض بعد وقف اطلاق النار، بل ورفضت التوقيع على اتفاق الهدنة. لذا فلم يكن هناك أي فرص للاسرائيليين لفتح ملف هجرة اليهود العراقيين حينها.
ولذا فلم تكن هجرة جماعية يهود العراق الجماعية الى اسرائيل ضمن أولويات حكومة اسرائيل، حيث انصبت في حينها كافة اهتماماتها تقريبا على احضار يهود أوربا. ولهذا فقد وكلّت منظمات خيرية غير صهيونية وأفراداً للقيام بهذه المهمة، وكان من ضمن تلك الجهات: المؤتمر الدولي لليهود، ومنظمة الأنجلو- جويش البريطانية، ومجلس أمناء يهود بريطانيا (The Board of Deputies of British Jews. تأسس في عام 1760)، والأعضاء اليهود في الكونجرس الأمريكي والبرلمان البريطاني. وقد قامت هذه المنظمات وأفراد يهود وغير يهود بارزين بحملات ضغط سياسية ودبلوماسية واسعة شرحوا فيها أوضاع يهود الدول العربية والعراق بالذات، وشكلوا عاملا فعالا للضغط على حكوماتهم ومنظمة الأمم المتحدة ونجحوا بتشكيل لجان تحقيق رسمية للتحري في أوضاع يهود العراق.
ربط اول وزير خارجية لاسرائيل موشي شاريت في تقرير له في تموز عام 1948 مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بمستقبل يهود الدول العربية، وكان ذلك مطلب الدول العربية، والعراق بالذات، من قبل، فنجحت اسرائيل بتلك الخطة بدمج موقفها التكتيكي باستراتيجية بعيدة الأمد: فقد حولت أنظار الرأي العام العالمي والانتقادات التي وجهت اليها عن وضع الفلسطينيين المأساوي وطريقة معاملتهم غير الانسانية، وطرحت وبكل وضوح مسألة هجرة يهود الدول العربية بكونها جزء من مصالح الدولة الجديدة الوطنية الكبرى وأنها لن تتخلى عن مثل هذه الفرصة في خضم المفاوضات السياسية التي كانت قد بدأت آنذاك بينها وبين الدول العربية. عندها اتضح لاسرائيل عدم تمكنها من طرح قضية يهود العراق لأن العراق لم يكن مساهماً بها ولم يكن من الموقعين على اتفاقية وقف العمليات العسكرية أصلا.
ثارت ثائرة أعضاء الكنيست في جلسة يوم 30 من آذار عام 1949عندما جاء خبر من الاذاعة العراقية بحكم قد صدر باعدام سبعة يعود عراقيين بجريمة الصهيونية. ثم اتضح ان الحكم كان غيابياً، وان السبعة المحكوم عليهم كانوا قد غادروا العراق قبل ذلك. ومع ذلك فقد أستمر الأعضاء بلوم الحكومة بأنها لا تتخذ مواقف صارمة لإنقاذ اليهود بعد النصر المدوي والحاسم الذي حققته اسرائيل على العرب. فقد بدأت المشاعر والمواقف تُطرح بوضوح ان ما حصل ليهود اوربا والتخاذل بانقاذهم يجب ان لا يحصل لليهود في الدول العربية، وكانت أصوات النواب الشرقيين مؤثرة حينما أصروا ان العودة الجماعية (Aliyah) هو الحل الوحيد لتلافي كارثة قادمة. وقالوا ان هناك سابقة للتبادل السكاني عندما حصل ذلك بعد الحرب العالمية الأولى بين تركيا واليونان.

(تعقيب: حصل التبادل السكاني بين اليونان وتركيا عام 1923. وكانت اتفاقية مرتكزة على الهوية الدينية، تضمنت نقل مليون ونصف مسيحي كانوا يعيشون في تركيا الى اليونان، ونُقل نصف مليون مسلم كانوا يعيشون في اليونان الى تركيا. هُجِر أغلبهم بالقوة من أوطانهم..ويكيبيديا.)
لم تكن مسألة التبادل السكاني في صلب فكر أصحاب القرار في اسرائيل الأشكنازية، فيهود المشرق كانوا يمثلون عنصراً دونياً بالنسبة لهم. ولكن الجديد في الأمر ان البريطانيين والأمريكيين والعراقيين اضافة الى عموم الاسرائيليين كانوا قد تبنوا تلك المعادلة، فارتبط مصير يهود العراق بمصير المهاجرين الفلسطينيين. فوجد يهود العراق أنفسهم في مصيدة، وفقدوا اي تحّكم بمصيرهم.
بمراجعة أحداث تلك الفترة، نستطيع مشاهدة شبكة تُحبَكُ بخفاء وتحاك حول المكون اليهودي العراقي. وأحد أهم الحائكين كان الحكم الهاشمي الذي شجع النشاطات المعادية للصهيونية لتحويل الأنظار عن أخفاقاته ومشاعر العداء الداخلي له. فأرسل جيشه لمحاربة اسرائيل تلبية للضغط الداخلي من عناصر اليمين المتحمس. وما تشديد الملاحقات والمحاكمات لليهود ثم التخفيف عنها بين الحين والآخر، الا دليل على كونها اجراءآت مؤقتة لتلائم ظروف فرضتها المرحلة، رغم قناعة السلطة تماما ان يهود العراق هم مواطنون مخلصون لوطنهم الأصلي أشد الاخلاص. لقد أخطأت السلطة عندما ظنت ان بامكانها اعادة عقارب الساعة الى الوراء واصلاح أمور هذه القضية، حيث ترسخت سوابق لم يكن بالامكان تجاهلها، وأولها ان الحكومة قد اوجدت التبريرات القانونية لاتهامات اليمين ان اليهود غير مخلصين للعراق، وانهم صهاينة يدعمون العدو الصهيوني. كما لم ينس اليمين ان اليهود كانوا متعاونين مع السادة البريطانيين المبغوضين.
اضافة الى ذلك، لم تعد قضية اليهود معضلة عراقية داخلية تتعلق بعلاقات بين أكثرية وأقلية ، او مسألة مسلمين ويهود، او بين مؤيدين ومعارضين للبريطانيين، بل أصبحت مشكلة ذات أبعاد أوسع: انها جزء من الصراع العربي-الاسرائيلي، وتعقيدات ربطهم بالتبادل السكاني وغيرها. ولكن من الجدير بالذكر ان لا دليل هناك على نية للحكومة العراقية بإجبار اليهود على الرحيل، ولكنها اتخذت هذه القضية كإحدى أوراق المساومة في سياستها الخارجية. كانت حكومة اسرائيل تريد احضار اليهود العراقيين، ولكنها وبنفس الوقت لم تعتبر الترحيل الآني أمراً عملياً او حتى مرغوب. وقد اضافت مسألة ممتلكات اليهود في العراق بعداً آخر في مباحثات هذه القضية.
لم يرفض أي طرف معادلة التبادل السكاني سوى يهود العراق، وكانت جل مطالبهم هي عودة الحياة الطبيعية والكريمة اليهم كما عاشوها سابقا. ولكن وكنظرائهم الفلسطينيين، فقد أصبحوا فاقدوا التحّكم بمصيرهم ومستقبلهم. عاجلا ام آجلا، ستُعاد الكرة من جديد ويعود التساؤل والتشكيك بوطنيتهم وولائهم بل وحتى مغزي تواجدهم.
(تعقيب: وسيُقتلع أقدم مكون من شعب العراق من موطنه الأصلي وللأبد.)
في خضم تلك الظروف الخارجية والداخلية المعقدة، أصبحت التساؤلات: هل ستكون الهجرة جماعية ام محددة؟ فورية ام على مراحل؟ هل ستكون طوعية ام اجبارية؟ هل سيسمح للمهاجرين أخذ ممتلكاتهم معهم، ام سيرحلون فقراء بعد ان جُردوا منها؟ وأخيرا، الى اين سيتوجهون، وما هي نسبة من سيرحل الى اسرائيل؟

أزمة الصهيونية الثانية في العراق، خريف عام 1949:
بدأت الأزمة في تشرين ثان عام 49 عندما كشف شيوعي كان عضواً في الحركة، أسماء أعضاء مجلس منظمة الرواد، فتم القاء القبض على العشرات وتم حل منظمتي الهاغانا والرواد. تم تشكيل لجنة طوارىء مكونة من نعيم بيخور وداود شوكر وسالم خليفة لعرض التواصل مع وجهاء الطائفة للتدخل والمساعدة خشية ان يحصل لهم ما حصل للشيوعيين. ومن خلال معلومات مسبقة من الشرطة تمكنت الحركة من اخفاء العديد من المطلوبين.
اصاب قيادة الحركة الصهيونية والمبعوثين بالذات ارتباك وهلع مما كان يحدث، وجاء في تقرير لهم أنهم " فقدوا حتى علاقات كانت تربطهم ببعض افراد الأمن والشرطة." وكما حصل في السايق، فقد التجاؤا الى المحامي يوسف الكبير للمساعدة، فكرر لهم ان ما أُخبروا به في ازمة الرسائل عام 44، ان الطائفة اليهودية لن تتدخل لمساعدة حركة سرية وعليهم حل مشاكلهم بأنفسهم، بل زاد على ذلك ان عليهم تسليم رفقائهم من المطلوبين للشرطة.
( تعقيب شخصي: هكذا كانت مواقف كافة وجهاء الطائفة من الحركة الصهيونية حتى في أشد الظروف التي واجهت يهود العراق حينها.)
كتب أحد المبعوثين في تقرير له:" ..يتحتم علينا في هذا الظروف انقاذ الأفراد القياديين في الحركة والهاغانا وترحيلهم الى اسرائيل وننهي مهمتنا، ان بقينا أحياء."
كان هلع المبعوثين له ما يبرره. فقد كان الغطاء الذي جاوءا به انهم ايرانيون قادمون من البحرين، ولم يكن سيصمد بأي حال من الأحوال اذ لم يكن لهم معرفة باللغة الفارسية.
من المفيد الاشارة الى ان اختلافات بين أعضاء حركة الرواد المحلية والمبعوثين ظهرت علنا وطالب العديد من أعضاء المنظمة ان يكون القياديون أفراداً محليين متعلمين وأصحاب ثقافة محلية وقدرة على القيادة. ووجهوا انتقادات للمبعوثين بضعف الكفاءة في الظروف الصعبة. كان لتلك الانتقادات ما يبررها حين أظهر المبعوثون ضعفا في مواقفهم وقدراتهم على التصرف في تلك الظروف الصعبة.
عقد أعضاء مجلس منظمة الرواد الهاربين من ملاحقة الشرطة اجتماعاً بان فيه مدى اليأس والاحباط الذي كانوا يعانون منه. وكان عقد الاجتماع مخاطرة بحد ذاته. أتخذوا قرارا انتحاريا بمهاجمة المبنى الذي كانت تجري فيه التحقيقات والتعذيب مع المقبوض عليهم، عملا بمقولة جاءت في سفر القضاة 16:30 حين هد شمشون البيت على من فيه:" وقال شمشون: لتَمُت نفسي مع الفلسطينيين
(Philistines). وتقضي الخطة نسف المبنى ومقاتلة قيادة المكون! فزع المبعوثان من ذلك ووصلت برقية من الموساد في اليوم التالي برفض تلك الخطة جملة وتفصيلا، ووعد بارسال المعونات، وحثوا على اقناع الأعضاء بعدم حمل السلاح مطلقا خشية من تفاقم الوضع. ومن جانبهم اقترح المبعوثان تهريب المخفيين لاحباط حملة الأمن والشرطة لتلافي كشف المزيد من أسرار التنظيم السري. تم تهريب العديد وبلغ عددهم 250 فردا.
كان موقف الموساد سلبياً بما يخص تهريب النشطاء وذلك لعدم تفريغ العراق منهم. تطورت البلبلة الى الاحتجاج عندما انتشر القول بين أعضاء منظمة :" ..يرحل/ يهرب القياديون في وقت الشدة ويتركونا عرضة للملاحقة والسجن والتعذيب؟"
في واقع الأمر، كانت ملاحقة الشرطة منصبة على أعضاء التنظيم من الصهاينة. ولكن الجاني الآخر أراد استغلال تلك الحملة ليظهرها بأنها حملة ضد السامية، وخاصة في الأوساط العالمية. في الداخل، تكثفت الضغوطات على قيادة الطائفة وانتشرت دعوة الى صيام يوم واجراء صلاة عامة كنوع من الاحتجاج على ما يجري. رفض رئيس الطائفة الحاخام ساسون قدوري وقياديون آخرون ذلك خشية من ردة فعل الحكومة. عُقد اجتماع بين لجنة الطوارىء ونشطاء آخرون مع بعض الوجهاء وكان من بينهم عضو مجلس الأعيان عزرا مناحيم دانيال والنائب سلمان شينا والتاجر المعروف حسقيل شمطوب والذي كان ولده عضواً في الهاغانا، واقنعوهم بالعمل على مساعدتهم، حيث لعب عاملان أساسيان دوراً في ذلك: اولهما ان المنظمة السرية تمتلك كمية كبيرة من الأسلحة والمعدات، وان كشفها سيوقع الطائفة بكاملها في كارثة. ثانيا ان في كل عائلة يهودية عضو في المنظمة وان أستمرت الاعتقالات والتعذيب، فستطال الطائفة بالكامل. وُجه تحذير للوجهاء ان امتناعهم عن المساعدة سيوقع الطائفة بكوارث وسيكونوا هم المسؤولين عما سيحصل من نتائج. أقيمت صلوات التوبة في المعابد والصيام يوم 25 تشرين ثان (نوفمبر) 1949. أُذيعت برامج خاصة وصلوات من اذاعة اسرائيل تضامنا مع يهود العراق.
قبل أيام من الصيام تجمهرت نساء يهوديات في مظاهرة أمام مكتب الحاخام مطالبات ان يتخذ موقفا مدافعا عن المحبوسين، وكان صراخهن وبكائهن يُسمع في داخل المكتب. انطلقت تظاهرة كبيرة شارك فيها العديد من ابناء الطائفة وأنطلقوا الى الشوارع الرئيسية، واعتقلت الشرطة بعض المشاركين. بعدها بعشرة أيام، واجابة على استفسار من الموساد، اعترف المبعوثون ان رئيس الطائفة قد نُقل الى المستشفى بعد التظاهرة، ولكنهم أنكروا ان أعتداءاً قد جرى من قبل البعض، ولكن من الصحيح ان"عمامته قد جُرّت من على رأسه."
كانت المظاهرة تعبيراً عاطفياً وتنفيساً أكثر من اي شيء آخر، اذ كان الوجهاء قد وافقوا على الصلوات والصيام الاحتجاجي. وفي حقيقة الأمر، لم تكن لرئيس الطائفة شعبية كبيرة بين الكثيرين من أبناء من أبناء الطائفة، وخاصة العوام منهم. كان أعضاء منظمة الرواد يعتبرون الحاخام ساسون عميلاً وخائناً وأداة طيعة بيد السلطة وانه يشكل خطراً على الطائفة، فأصبح ضحية لهذه الآراء في فترة الأزمة تلك، ولم يبد الحاخام نشاط يذكر سوى عقد اجتماعات ولقاءآت مع مسؤولين حكوميين كبار وبصورة هادئة لم تأت بثمار لتخفيف وطأة الأزمة. كان الحاخام يعتبر دائما ان لابد للأمور ان تعود الى سابق عهدها، في حين كثّف الصهاينة من ضغطهم عليه وطالبوه ان يعمل شخصيا ومباشرة على اطلاق سراح المعتقلين.
جاء في تقرير للسفارة البريطانية بما يخص تلك الأحداث ما يلي:"تجمهر حوالي 150 شخصا امام منزل الحاخام وطالبوه ان يرأس وفدا للاحتجاج على الاعتقالات الأخيرة. وحين رفض الحاخام ذلك، تم أخذه عنوة واضطروه لمصاحبتهم. فرقت الشرطة المظاهرة بعد وصولها الى الطريق العام وجرى اعتقال 15 شخصا، ونُقل الحاخام الى مستشفى مير الياس لليهود."
حقق يوم الصيام في 25 تشرين ثاني نجاحا باهرا وغير متوقع، حين امتنعت أغلبية اليهود من الذهاب الى اعمالهم، وامتلأت المعابد بالمحتجين الذين تعالت أصواتهم بالاحتجاج بشكل غير مسبوق. وجاء في مذكرة للسفارة البريطانية ايضا:"...كان الاحتجاج مدوياً ومذهلاً لم يحدث مثيل له من قبل."
أعتُبرت مشاركة المكون اليهودي بالكامل تقريبا بذلك الاحتجاج نيابة عن الحركة الصهيونية نقطة انطلاق في تاريخ يهود العراق وعلاقتهم بالصهيونية وإسرائيل، فكيف نفسر استعدادهم بالتضامن العلني مع الحركة الصهيونية السرية وفي ظل قوانين الطوارىء؟ وكيف نفسر انقلابهم من الحذر وقبولهم الأمر الواقع الذي ميّزهم حتى ذلك الوقت الى الاحتجاج والرفض علناً ودون خوف؟ نما شعور بين اليهود ان اياً منهم سيكون ضحية لتحقيقات الشرطة. ولكن التضامن والتوحد الذي ابدوه في ذلك اليوم كانا علامة مميزة بحق.

ولكن بامكاننا ان نفهم ان ما حصل كان نتيجة للجهود المكثفة والعمل الدؤوب الذي قام به المعنيون في الحركة الصهيونية داخل العراق.
أُرسلت تقارير الى الموساد ذُكر فيها ان ما يحدث ما هو الا اساءة تعامل مع أطفال - مراهقين ومراهقات - جل ما فعلوه هو تعلم اللغة العبرية، فأعتبرت جريمة يجب ان يعاقبوا عليها، وان هذا سيحدث لأي يهودي في العراق. أكد تلك الانطباعات منشور وزعته منظمة الرواد في بغداد جاء فيه:"...باسم العروبة والاسلام واتهامات بالشيوعية والصهيونية، يقوم نوري السعيد بتضييق الخناق على يهود العراق بالاذلال والتعذيب من غير ذنب سوى كونهم يهوداً. لا يعرف اليهودي ماذا سيحصل له في اليوم التالي، وهل سيبقى خارج السجون او توجه له تهمة الشيوعية او الصهيونية او الكفر او أنه يهدد الأمن الوطني."
استمرت المنظمة السرية بطلب المساعدة والتدخل المباشر من قيادة المكون باطلاق التحذيرات في صفوف عموم اليهود وراحت تبالغ بوصف التعذيب الحاصل على المعتقلين، وحذرت القيادة من مخاطر كشف مخابىء الأسلحة بالأخص وما سيلحق ذلك من تبعات على المكون بالكامل.
كانت المخاوف تتجدد من تكرار ما حصل في فرهود عام 1941 كلما ازدادت الحملة ضد السامية. وعاش اليهود منذ مايس (مايو) عام 1948 حياة ملؤها القلق والصعوبات المالية التي واجهتها العائلات اليهودية من كافة الطبقات، وفقد العديد منهم الشعور بالانتماء للدولة والمجتمع وأن فرص الحياة آخذة بالتقلص فعلا. ويُفترض ان القتل الجماعي ليهود أوربا كان عاملاً مهماً في تفسير ما يجري لهم في العراق. وأصبح من الواضح ان الغضب المتراكم واليأس والخوف من المستقبل كانت عوامل أساسية حفزت اليهود على التعاون مع التنظيم السري. كما لا يُخفى أن الانتصارات العسكرية والسياسية التي حققتها إسرائيل حينها أثارت الحماس في صفوف عموم اليهود وحفزتهم على دعم الحركة الصهيونية السرية في العراق. كانوا يصغون الى اذاعة اسرائيل، وازداد توزيع المنشورات في المدارس اليهودية، واحتفلوا بالذكرى الأولى لقيام دولة اسرائيل في بيوتهم بناءا على تعليمات الحركة التي وسعت من نشاطاتها.
تحركت قيادة الطائفة بدورها، وعُقدت عدة اجتماعات مع مسؤولين في الحكومة ومنها اجتماع وفد مكون من الحاخام قدوري والنائب السابق افراهام حاييم وحسقيل شمطوب والياهو توفيق مع نائب رئيس الوزراء عمر نظمي في 23 تشرين أول عام 49. وورد بتقرير للسفارة البريطانية ان نظمي اخبرهم ان لدى الحكومة دلائل على وجود حركة سرية صهيونية في العراق وان من واجب الحكومة القيام بالتحريات. وأعلمهم انه قد أمر شخصيا ان تكون اجراءآت التحقيق ضمن القانون. وفي الثامن والعشرين من ذلك الشهر أخبر نظمي السفير البريطاني انه قد وعد الوفد ان الحكومة مستعدة لاجراء تحقيق قضائي يرأسه قاض بريطاني في اية قضية يختارها اليهود، وانه على استعداد لقيام طبيب يهودي لفحص المعتقلين.
كانت مطالب الوفد تتلخص برفع القيود على السفر للخارج وبيع الممتلكات ووقف فصل الموظفين اليهود والتفرقة في القبول في المعاهد العليا. كان طلب الوفد برفع القيود عن المكون اكثر الحاحا وشدة من مطالبتهم وقف ملاحقة أعضاء التنظيم السري. كان أعضاء الوفد يريدون ان يحققوا مطالب لعموم اليهود لكي يبعدوهم عن الحركة الصهيونية. ثم أكد الحاخام قدوري ذلك الموقف برسالة ارسلها الى عمر نظمي يؤكد فيها ذلك الموقف والمطالب. وكان رد الحكومة ان رفع الأحكام العرفية قريبا سيسهل في رفع منع السفر وحق بيع الممتلكات، ولكن لم يكن هناك تجاوب آني لمطالب الطائفة يخفف من شدة التذمر في أوساطها. ثم عقد الحاخام اجتماعاً مع وزير الدفاع شاكر الوادي وكان من ضمن مطالبه صرف جوازات سفر لليهود أسوة بباقي المواطنين.
رئيس الطائفة الروحي ساسون قدوري: كان الرأي السائد داخل المكون اليهودي عموماً ولدى الناشطين بالأخص، ان ما قام به رئيس الطائفة في الدفاع عن وشرح أحوال اليهود "كان قليلاً ومتأخراً وهادئاً أكثر مما يجب" في تلك الفترة العصيبة. تميزت فترة رئآسته الطائفة حوالي عشرين سنة بقي فيها بعيد عن عامة اليهود، ومتعالياً عليهم ومنقطعاً عن التواصل معهم. كان يعد من أصحاب الثروات الكبيرة ويسكن في بيت فخم. لم يكن مدركاً للمؤثرات الجديدة التي تغلغلت في صفوف طائفته في الحداثة والانفتاح الاجتماعي، اذ كان اليهود في طليعة الفئآت العراقية المنفتحة على الثقافة والمفاهيم الجديدة التي بدأت تغزو الشرائح المثّقفة في المدن الرئيسية. وقد أصبح من الواضح ان الحركة الصهيونية لم تكن حركة وطنية وسياسية فقط، بل اجتماعية المنحى ايضاً حيث بدأت باستقطاب الجيل الجديد والطبقة الاجتماعية الجديدة ثم أصبح لها صوت مسموع في أواساط اليهود عموماً. كانت تلك طليعة الطبقة المتوسطة التي لم يكن لها اي ثقل سياسي في السابق بسبب "التركيبة الاوليغاركية" في رئآسة الطائفة، فوجدوا البديل والملاذ في منظمة الرواد والهاغانا. لم يكن خاف على أحد ان أعضاء المنظمة السرية كانوا يعملون على إقصاء رئيس الطائفة الحاخام ساسون واستبداله بحسقيل شمطوب الذي لم يكن لديه مانع من التعاون معهم.
قامت الحركة السرية بأكبر وأنجح عمل لها عندما دعت الى مقاطعة شراء اللحوم الذي أصبح شبه انتفاضة داخل المكون اليهودي بكونها عملية احتجاج شامل ضد الرئيس. وبما ان تلك الضريبة التي تستحصلها الرئآىسة كانت تشكل أكبر فقرة في ميزانيتها، أصبحت غير قادرة على مواجهة التزاماتها للمؤسسات اليهودية. انتشرت المقاطعة في كافة الأوساط وفاقت نتائجها كل التوقعات حيث أستمرت لمدة ثلاثة أسابيع (من19 تشرين ثان /نوفمبر حتى 10 كانون أول (ديسمبر) عام 49) وكانت نتائجها سياسية واجتماعية، حيث أعتُبرت تعبيراً عن عدم الثقة في رئآسة الحاخام ساسون، الذي استقال على اثرها وتم حل المجلس المدني ايضا.
حل الارتباك في صفوف وجهاء الطائفة وطالبو قيادة الحركة السرية بإيقاف المقاطعة. وعندما حاولت جهات حكومية ووجهاء الطائفة اعادة الحاخام ساسون الى الرئآسة، اظهر المبعوثون موقفهم بكل علانية وصراحة:" نحن معارضون عودة الحاخام الى منصبه، ومن هنا وصاعدا سنقوم بتوجيه المقاطعة بأنفسنا مباشرة." جاء رد حاد من الموساد يقول:"ان استمرار المقاطعة سيؤدي الى تفكك الطائفة وسيأتي بالأذى والتعقيدات لليهود. لذا عليكم إيقاف المقاطعة فورا وان لا تتدخلوا بشؤونهم الداخلية."
طلب المبعوثون من منظمة الرواد إيقاف المقاطعة، فجاءهم رد حاسم بالرفض مما أكّد بأنهم الموجهون لتلك الحركة الشعبية. كان موقف الموساد مسايراً لتحركات اسرائيل السياسية والاعلامية والدبلوماسية بالضغط على حكومة العراق لوقف المضايقات على اليهود.
أظهرت أحداث تلك الفترة مدى التذمر والغضب في وسط شباب اليهود من الطبقة المتوسطة الدنيا الذين ثاروا ضد قيادة المكون الدينية وضد المبعوثين، وكانت قوة جذرية مضادة للمؤسسة التقليدية. وظفوا زخم المنظمة نحو أهداف اجتماعية، دون إعارة اي اهتمام لتعليمات الموساد او تعليمات المبعوثين.
كانت تعمل الموساد على توجيه سلطتها وتعليماتها الى منظمة الرواد في العراق بالتحكم عن بعد (رموت كونترول)، فوجدت نفسها عاجزة عن التوجيه بل حتى إسماع صوتها، فقد أصبحت قيادة المنظمة بيد نشطاء لهم صوت مسموع في الشارع اليهودي العراقي. كانت حركة راديكالية تبغي رفض قبول الأمر الواقع الذي كان يعيشه اليهود. لم يكن ذلك أمراً غريباً في حقيقة الأمر، فلقد عُرف عن شبيبة يهود العراق رفضهم وتمردهم على المؤسسة من قبل عندما انضم العديد منهم الى صفوف الحزب الشيوعي وتقدموا في صفوفه الأمامية، بل ان تشكيل منظمة الرواد كانت بحد ذاتها حركة من خارج المؤسسة التقليدية. ثم ان رفض الفكر الصهيوني كان أمرا شائعا بينهم.
وافقت الحكومة في العاشر من كانون اول(ديسمبر)عام 1949 على تنحي الحاخام ساسون قدوري من رئآسة المكون وتعيين حسقيل شمطوب بدلا عنه. كما وتوقفت حملة الشرطة والأمن ضد النشطاء وغيرهم ولم يتم كشف تنظيم الهاغانا ومخابىء الأسلحة. ولكن الملاحقات والتوقيفات التي شملت العشرات من الجنسين أثارت مشاعر غضب عارم بين عموم يهود العراق ضد الحكومة، ولطخت سمعة العراق في العالم الغربي.
توطدت قواعد تنظيم الرواد وأصبحت كلمتهم مسموعة بحق في الشارع اليهودي وكذلك في أوساط قيادة المكون. كما وتم إنقاذ الحركة السرية الصهيونية.

موقف اسرائيل: حين بدأت ملاحقات واضطهاد اليهود في العراق في مايس (مايو) عام 1948 ، لم تستجب اسرائيل، التي أُعلن قيامها في الرابع عشر من ذلك الشهر، لتلك الملاحقات بصورة مباشرة. لم يكن سبب ذلك الموقف ضعف او قلة اهتمام بيهود العراق ، بل عجز حكومة اسرائيل عن اتخاذ أية خطوات عملية لمساعدتهم، بل ان اي تدخل مباشر منها سيأتي بنتائج عكسية ويزيد وضعهم سوءا، لذا فقد اتخذت اسرائيل موقفاً تكتيكياً: بما ان يهود العراق مواطنون عراقيون يجب ان يعاملو كبقية المواطنين في المساواة بالكامل وان أي أذىً يصيبهم يمثل خرقاً لحقوقهم المدنية. " ان أي تدخل من جانبنا سيمنح العراقيين العذر واتهامهم بان لهم علاقات وتعاون معنا." كما جاء بمذكرة لوزير الخارجية الاسرائيلية حينها. وكان استنتاج حكومة اسرائيل ان على يهود العراق ان يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، وان أية مساعدة لهم ستكون عن طريق المنظمات اليهودية. بَنَت وزارة الخارجية الاسرائيلية استنتاجاتها على اساس ان هناك مبالغات بوصف أوضاع يهود الدول العربية. " لا توجد مخاطر على يهود مصر ...ولا دلائل على معاملة سيئة ليهود سوريا ولبنان. ولكن من المؤكد ان يهود العراق يعيشون في ظروف بالغة الصعوبة." ومع ذلك فقد أكدت اسرائيل بانها معنية فعلاً بيهود الدول العربية، وان اية عملية سلمية وتسوية لمسألة اللاجئين لابد ان ترتبط بالمكونات اليهودية في الدول العربية. تم ترجمة ذلك الموقف بما يتعلق بيهود العراق بتوفير موارد أكثر للتنظيم السري وإرسال مبعوثين اضافيين. ثم أوجد اعتراف ايران باسرائيل في آذار(مارس) عام 1950 ظروف ملائمة لتوفير كافة المتطلبات المالية للعودة الجماعية للمخيمات التي أُقيمت في ايران والنقل الجوي وغيرها ليهود العراق الذين استطاعوا الخروج من العراق بصورة غير شرعية، ولم تكن هناك مخاوف من إعادتهم الى العراق.

الموساد وتغير الموقف الاسرائيلي تجاه يهود العراق:
بعد أزمة خريف عام 49 ووصول أخبار اعتقالات أعضاء منظمة الرواد، شن الموساد حملة أنقاذ الصهيونيين العراقيين، على ان تكون الخطوات بالغة السرية فتقرر ان يكون العمل على ثلاث محاور: دعاية في الأعلام العالمي، ونشاطات دبلوماسية في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة، ومن ضمنها مظاهرات امام الهيئات الدبلوماسية العراقية، ثم ضغوطاً اقتصادية على العراق، ووصف حال يهود العراق بكونهم اسرائيليين عرب أصبحوا رهائن مما يشكل تهديداً للاستقرار في الشرق الأوسط.
حدث ذلك التبدل في سياسة اسرائيل بعد وصول برقيات من العراق تظهر ارتباكاً حقيقياً في وصف عمليات التعذيب . عندها اعتمد الموساد سياسة طوارىء وخطوات متشددة في معاداة العراق حتى وان تطلب الأمر كشف العلاقات المباشرة بين يهود العراق واسرائيل. ونجح الموساد باقناع وزارة الخارجية باعتماد تلك السياسة. وتأكد ذلك بفقرة وردت في مذكرة للوزارة جاء فيها:" لقد قررنا ان تقوم اسرائيل بالدفاع علناً عن يهود الدول العربية."
كان الموساد الجهة الوحيدة المسؤولة عن التنسيق مع التنظيمات السرية في العراق وتوفير كافة المتطلبات لهم. كان العمل يتم عن طريق وزارة الخارجية والمنظمات اليهودية في الخارج، وكان للموساد تأثير كبير في اوساط الاعلام الداخلي والخارجي. اشتدت حملة اسرائيل ضد العراق حتى انها اتهمت البريطانيين بالضلوع في حملة الحكومة في اضطهاد اليهود، وقام الموساد بإرسال تقارير عن طريق وزارة الخارجية الى العديد من الجهات في اوربا والولايات المتحدة ادعت انها اخبار مباشرة من العراق تشرح فيها الاعتقالات والتعذيب، ونجحت بتحويل المسألة الى قضية دبلوماسية وسياسية عالمية وبالحث على تدخل الحكومات المباشر لإنقاذ يهود العراق.
بذلت حكومة إسرائيل كل ما لديها من أدوات لتضخيم معاناة يهود العراق وتصويرهم، وبشكل مرّكز، على انهم رهائن. كما وربطت هذه المسألة بموضوع الأمن وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. جاء ذلك في تقرير لها في 23 من تشرين اول (اكتوبر) عام 1949 وورد فيه ايضا ان حكومة العراق تصب جام غضبها على من تلقي القبض عليهم لمحاولتهم الخروج من العراق بصورة غير شرعية، وخلُص التقرير الى ان ترحيل اليهود من العراق الى إسرائيل هو الحل الوحيد لانقاذ حياتهم من وضعهم المأساوي .
نُشر تقرير الحكومة الاسرائيلية بصورة واسعة في إعلام الدول الغربية، وفرنسا بالأخص، والولايات المتحدة. بعدها بثلاثة أيام قام مكتب الاعلام الحكومي بعقد اجتماع علني ل "شاهد" ذكر وبأوصاف مشابهة لما حدث في معسكرات الهولوكوست، عن شحن مئآت اليهود الى مناطق مجهولة في العراق. لم يكن ذلك الشاهد سوى المبعوث شموئيل موريه الذي كان قد غادر العراق في كانون اول/ديسمبر عام 1948. (مرة اخرى، شموئيل موريه هذا هو ليس البروفسور شموئيل (سامي) موريه الذي غادر العراق مع عائلته عام 1951).
بالإمكان القول ان تلك الحملة الشعواء باءت ببعض الفشل لعدم صحة الصورة التي عرضتها اسرائيل عالميا. وقامت الحكومة العراقية بحملة دبلوماسية مضادة فندت فيها ادعاءآت اسرائيل واتهمتها بنشر الأكاذيب والادعات الكاذبة. رفضت الحكومة البريطانية التدخل، وأعلنت الحكومة الأمريكية ان الاعتقالات التي ذُكرت في تقرير الحكومة الاسرائيلية جرت لأفراد انتهكوا القوانين العراقية. وصرح وزير فرنسي كان يزور العراق "..بعدم وجود مذبحة (بوكروم) يهود، بل اجراءأت ضد ارهابيين يهود / مجموعات يهودية كثير منهم مسلحون كانت ضمن مهماتهم تهريب اليهود العراقيين الى اسرائيل." أعلن دبلوماسيون بريطانيون في واشنطن، وبغبطة واضحة، ردة فعل الموقف الأمريكي ومعارضتهم عرض الأمر في الأمم المتحدة، وتحذيرهم لإسرائيل ان أفعالها تلك ستؤدي الى توجيه الاتهامات الى يهود العراق.
وفي اجتماع لوفد يهودي مع أحد مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية، اعترفوا فيه ان عدداً من اليهود قاموا فعلا بأعمال مضادة للقوانين العراقية.
أثارت اتهامات اسرائيل ومنذ البداية، حفيظة العديد من الدبلوماسيين والمسؤولين الغربيين. وكتب السفير البريطاني في بغداد الى وزارة الخارجية البريطانية ان الدعاية الإسرائيلية لا تخدم يهود العراق بل تأتي بالضرر عليهم. وجاء في تقريره المؤرخ في 12 كانون اول (ديسمبر) 1949:"ان هذه المحاكمات تجري تحت أجراءآت قانون الطواريء..ومن الصعوبة معرفة الأسباب التي حدت بالمنظمات الصهيونية في الخارج التركيز على اعتقال مواطنين يهود لم يتجاوز عددهم 60 فردا."
خلص الدبلوماسيون الى الاستنتاج الى ان اسرائيل تبغي بحملتها زيادة التبرعات والمساعدات من الولايات المتحدة. وبنفس الوقت لم يخطر ببال هؤلاء الدبلوماسيين في الغرب ان الشرطة العراقية لم تستطع الكشف الاّ عن جزء يسير من التنظيم الصهيوني في العراق الذي كان قد انتشر بشكل واسع في أوساط يهود العراق وأصبح يشكل خطر حقيقي.
بعد ان أدرك الموساد فشل جهوده، قام بحملة مضادة للتأثير على الرأي العام الأمريكي. قام دبلوماسيون اسرائيليون بتنظيم تظاهرات أمام البعثات الدبلوماسية العراقية ونظم أصدقاء اسرائيل حملات مضادة لطلبات العراق قروض من مصارف أمريكية. في نهاية المطاف انتهت تلك الزوبعة عندما توقفت تحركات الحكومة العراقية ضد اليهود. أصاب الغضب والقلق دبلوماسيي العراق وخشوا ردود فعل العوام في العراق ضد اليهود، وكذلك الخشية من عدم الحصول على قروض مالية كان العراق بأمس الحاجة لها. كما وأثبتت تلك التحركات والاتصالات مدى التغلغل والتأييد التي كانت تحظى به الصهيونية في الولايات المتحدة.
كان لتلك الأزمة انعكاسات كبيرة على يهود العراق حين أصبحت قضيتهم فقرة رئيسية على جدول أعمال القوى العظمى وعليهم إيجاد حل لها. ليست هناك دلائل على تدخل مباشر من تلك القوى لإيقاف اضهاد وملاحقة اليهود في العراق من قبل الحكومة، ولكن لابد ان مواقفها قد اضطرت حكومة العراق على تغيير سياستها في ملاحقة المغادرين الى ايران على سبيل المثال ثم القرار الكبير في قانون إسقاط الجنسية في عام 1950، ولكن يُعتقد ان جهات في وزارة الخارجية الأمريكية لعبت دورا في صياغة ذلك القرار.
غيرت اسرائيل من موقفها السابق المعارض لرحيل يهود الدول العربية الجماعي الذي كان مرتبطاً بحق نقل الممتلكات اوتبادلها مع ممتلكات عرب فلسطين المهجرين، خاصة وقد اصبحت الهجرة بالمئآت شهريا عن طريق ايران امر في غاية الأهمية. تم أعلام المبعوثين في العراق ان الحكومة الاسرائيلية مستعدة لاستقبال اليهود فوراً، مما جلب الغبطة والحماس في أوساط المكون الذي أصبح فيه التأثير الصهيوني سمة غالبة وبعد تسرب الخوف والقلق الدائم مما يخبىء لهم المستقبل حين بدءوا يشعرون ان لا مستقبل لهم في العراق.
" يهود العراق على شفا الإبادة". "اناس يهربون لإنقاذ حياتهم، ولا ملجأ لهم سوى اسرائيل، ففتحت اسرائيل ابوابها لهم"، هكذا بدأت اسرائيل حملتها الاعلامية الجديدة ضد العراق. فترسخت تلك الصورة في الذهنية والضمير الاسرائيلي. ولكن الثمن كان باهضا على العراقيين اليهود حينما استُقبلوا ليس كمهاجرين فخورين بل مهّجرون عليهم الامتنان والدَين لمنقذيهم .

(تعقيب1: نقل العديد من الأساتذة من يهود العراق صوراً لما جرى لهم عند وصولهم الى اسرائيل وازدراء مستقبليهم لهم : رشهم بالدي دي تي، ثم اسكانهم في معسكرات في غرف من صفيح وغير ذلك.
2: كان ليهود فلسطين قبل قيام دولة اسرائيل ال Yishuv نظرة تعالي وغطرسة تجاه يهود العراق، الذين كانوا بدورهم يعتبرون انفسهم ورثة التلمود البابلي ،وتؤكد الكاتبة هذا الأمر.)







الصهيونية في دولة عربية.
يهود العراق في أربعينات القرن العشرين.


الجزء الثالث

رحيل أم طردٌ:
توطئة: أصبحت القوى الصهيونية مسيطرة بالكامل تقريبا على الشارع اليهودي العراقي وقيادة المكون، بل طال نفوذها -كما تذكر الكاتبة- الحكومة العراقية وباتت نشاطاتها شبه علنية.
بعد سقوط حكومة نوري السعيد عام 1950 ورفع الأحكام العرفية ارتفع عدد المهاجرين ما بين كانون ثاني (يناير) و مايس (مايو) عام 1950 الى أكثر من 4000 فرد، في حين كان عدد من من وصل الى اسرائيل بين عامي 1941-1948 لا يتجاوز 1700.
ماذا حدى بتلك الهجرة شبه الجماعية في تلك الفترة بالذات؟ أولاً في أواخر عام 1949كانت هناك رغبة عارمة في صفوف آلاف من يهود العراق في الرحيل الى إسرائيل لأسباب ايديولوجية/الصهيونية، وثانيا آخرون خاب أملهم للحصول على مساواة في الحقوق والواجبات والعيش الكريم في وطنهم. فبعد سنين من التقييدات على السفر ومنع بيع الممتلكات وغيرها، وانتشار البطالة والفقر في صفوفهم، خففت الحكومة من تلك القيود فرأوا انها فرصة سانحة قد لا تتكرر مرة أخرى، فكانت أغلبية الراحلين من الطبقة الدنيا والعاطلين. تم تحويل مبالغ كبيرة بشكل رسمي وغير رسمي الى ايران بعد ان أصبح بإمكانهم بيع ممتلكاتهم. زادت تحويلات الأموال الى ايران من شدة الأزمة الاقتصادية التي كانت تضرب في البلد. ولم تجدِ محاولات الحكومة في التصدي لانتقال الأموال او الحد من الرحيل الى ايران. ومما يجدر ذكره أن أفراد الشرطة والجنود المسؤولين عن ضبط الحدود كانوا من أشد المتعاونين في تسهيل خروج اليهود بسبب كمية الرشاوى التي كانوا يتقاضونها وبشكل شبه علني، اضافة الى رفض ايران التعاون مع الحكومة العراقية في إعادة المهاجرين غير الشرعيين الى العراق. كما لم تتشدد حكومة العراق فعلا في إيقاف الهجرة خشية من الانتقادات الخارجية.

الحل البديل:
نُشر قانون اسقاط الجنسية لمن يرغب بالهجرة من العراق بالجريدة الرسمية في 9 آذار (مارس) عام 1950. أكد صالح جبر -وزير الداخلية- في حكومة توفيق السويدي آنذاك ان المحفز الأساس لإصدار القانون كان للحد من الهجرة المتزايدة الى ايران، وان ابقاء من يريد الخروج بالقوة سيكون له مؤثرات سيؤثر سلبياً على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلد. ولذلك فمن يريد الهجرة عليه التخلي عن جنسيته العراقية بصورة نهائية.

(تعقيب: يشير المؤرخ عبد الرزاق الحسني في لقاء مع السويدي ان الأخير كان يرغب بأخراج اليهود من العراق واقترح على السفارة البريطانية في بغداد نقلهم الى الهند للتخلص من مشكلتهم. ألا ان بريطانيا لم تستحسن الفكرة، فكلف وزير الداخلية لمتابعة الموضوع مع السفارة البريطانية، فكان الحل قانون إسقاط الجنسية. ولم يكن اختيار صالح جبر لهذه المهمة اعتباطا، فقد كان يتمتع بصلات قديمة مع الأنجليز تمتد الى بداية الأحتلال البريطاني العراق حين دخل في خدمة المستشار البريطاني يتس Yets الذي عُين لادارة مدينة الناصرية في تموز (يوليه)عام 1915. ووفقا لذلك يتضح ان القانون كان تدبيراً بريطانيا أُعدت فقراته في السفارة البريطانية وبايحاء من اليهود العراقيين. ويؤكد نعيم كلادي ذلك بالقول:" ان مردخاي بن بوران كان في بغداد بمهة مزدوجة، فهو من جهة يفاوض الحكومة على طريقة تهجير اليهود الى فلسطين ومن جهة اخرى يشرف على سير وضع القانون الخاص بإسقاط جنسية اليهود وتجميد أملاكهم لكي يقطعوا الأمر ويرحلوا الى اسرائيل." ملاحق جريدة المدى - ذاكرة عراقية: قانون اسقاط الجنسية من اليهود. تاريخ النشر 6-3-2016.)

فاق عدد المسجلين للهجرة كافة التوقعات. ففي بداية شهر مايس (مايو) من ذلك العام بلغ العدد في انحاء مختلفة في العراق 47000 فرد، وفي شهر أيلول (سبتمبر) 70000، وبعدها صار العدد 104000. مع استمرار الهجرة غير الشرعية عن طريق ايران.
العوامل الحاسمة التي حفّزت على تلك الهجرة كبيرة بعد ان كانت مجرد رغبة عابرة لدى البعض (لابد لنا هنا من الاشارة الى ان تلك الارقام كانت تشير الى عدد المسجلين للهجرة وليس المهاجرين):
• سياسة الحكومة العراقية وتبعاتها الاقتصادية.
• رد فعل الشارع العراقي الاسلامي وتأثيراته في أوساط يهود العراق.
• المؤثرات في أوساط القيادة التقليدية لليهود والمجموعة النخبوية الصهيونية التي أصبح لها نفوذ قوي بين اليهود.
(تجدر الاشارة الى ان احد نصوص قانون إسقاط الجنسية لم يسمح للمسجلين العودة عن قرارهم)

لم يتوافق تسجيل ذلك العدد الكبير مع عملية الرحيل الفعلية التي واجهت مصاعب لوجستية في بداية الأمر. خاصة وقد غيرت ايران من موقفها عندما رفضت السماح في عبور مهاجرين غير شرعيين عن طريقها أستجابة لطلب من اسرائيل حين ساد الاعتقاد ان ذلك الطريق لم يكن آمنا للمهاجرين.
كان أمر الإقبال على التسجيل مفاجأة للحكومة العراقية التي لم تضع الخطط والترتيبات أصلا لترحيل المسجلين، فأزداد التخبط بمعالجتها ذلك الأمر، "الذي انعكس على العديد من سياساتها العامة في داخل البلد، وخاصة حصول خلخلة كبيرة في الحياة التجارية" كما ورد في تقرير للسفارة البريطانية. انخفضت أسعار العقارات بشكل كبير وأصاب قطاع الانشاءآت تدهور بسبب ذلك، وأغلق غالبية التجار اليهود أعمالهم وخاصة الصيارفة الذين كانوا القوة الفاعلة في التجارة العامة، عقب صدور قانون في 12 كانون ثاني/ديسمبر 1950 الذي قيّد أعمالهم، تراجعت السيولة النقدية وانتشرت الاشاعات بتجميد أموال اليهود وغير ذلك، وازدادت حملة الصحف والقِوى القومية والاسلامية على اليهود عامة التي حمّلت اليهود المسؤولية بالكامل عن تدهور التجارة واتهمت صحف قومية اليهود بشن حرب باردة ضد البلد لشل الحياة الاقتصادية لسرقة ثروات العراق.
شملت الحملة المعادية لليهود قطاعات واسعة. فقد وجه مدراء بنوك كبرى في اجتماع مع وزير المالية اتهاماً للتجار اليهود بأنهم يعملون على تخريب اقتصاد البلد! وفي منتصف شهر نيسان/ابريل أغلقت الحكومة البنوك لمدة اسبوع مما يدل على مدى الاضطراب الذي كانت تعاني منه الحكومة حينئذ بحجة عدم تمكين التجار اليهود من سحب أموالهم .
عجزت حكومة السويدي عن القيام بأي تحرك للسيطرة على مجريات الأمور العامة او مواجهة الضغوط الخارجية. وصل الى بغداد مندوب من الوكالة اليهودية يراحميل آسا في نيسان (ابريل) 1950وكتب تقرير وصف فيه أوضاع يهود العراق بأنها في أسوأ حال حتى أصاب الفقر أغنياءهم وعجز الكثيرون عن شراء المواد الغذائية.
إضافة الى المصاعب الاقتصادية والمالية، كانت هناك تعديات من أعضاء حزب الاستقلال ضد اليهود. ففي التاسع من آذار (مارس) قام بعض هؤلاء بمهاجمة مزاد علني لبيع اغراض تعود لمواطنين يهود. وفي الثامن من نيسان أُلقيت قنبلة يدوية على مقهى لليهود وأصيب اربعة بجروح خطيرة. وجاء في تقرير لاحق ان استفزازات واعتداءآت بالحجارة تحدث في مناطق مختلفة في بغداد ضد اليهود. ثم كتب المبعوث ايضا ان قنبلة قد انفجرت في مقهى في منطقة البتاويين وأصابت ستة مواطنين بجروح ثلاثة منهم من اليهود. اعتقلت الشرطة ستة أفراد بينهم اربعة يهود للتحقيق معهم. (هنا تقول الكاتبة ان تلك الأحداث المثيرة لم يكن لها أي أثر في أوساط اليهود عموما مما يثير شكوكاً حقيقية عن ما جاء في تقارير مبعوثي الموساد وحتى عن القائمين بتلك الأعمال.)
اما في المناطق الكردية فقد تدهورت بشكل كبير أحوال اليهود، الذين كان جلهم من المزارعين الفقراء، بعد صدور قانون اسقاط الجنسية حيث منح بعض الافراد انفسهم الحق باعتبار اليهود غرباء غير محميين، فشن هؤلاء حملة للسيطرة على ممتلكات اليهود وبمساعدة المسؤولين المحليين. ففي قرية صندور، التي كان جُل سكانها من اليهود، وجه جيرانهم تهديدات بقتلهم ان لم يغادروها في الحال وأجبروهم على ترك بيوتهم ومزارعهم والتوجه الى بغداد، فأصبحوا من أوائل المسجلين للهجرة من العراق.
في خضم تلك الأحداث، وتخبط الحكومة العراقية في معالجتها للأوضاع المتدهورة والضعف الذي كانت تعاني منه، قامت الحكومة مضطرة بعقد اتفاق غير معلن مع اسرائيل على تسيير رحلات جوية يومية مباشرة بين بغداد واللد وقامت أول رحلة في 19 مايس (مايو) عام 1950

الحركة الصهيونية في قيادة المكون اليهودي العراقي:
في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ يهود العراق، وجدت القيادة التقليدية نفسها عاجزة تماما بالتأثير في مجريات الأمور. كان في رأيها بل ومن مصلحتها ومصلحة الطائفة عموما تشجيع هجرة المشاغبين الذين كانوا يثيرون البلبلة وتقويض السلم الاجتماعي.
كانت هناك رغبة حقيقية في أوساط الطبقة المتوسطة والنخبة من يهود العراق بالبقاء في بلدهم الذي ساهموا باقامة الدولة الحديثة فيه وكانوا مشاركين بهويتها الوطنية. لم يريدوا التخلي عن ممتلكاتهم القيمة ودورهم الزاهية وحياتهم المرفهة. تبوأ العديد منهم مناصب قيادية في السلك الحكومي وآخرون كانوا من أصحاب المصارف وكبار رجال الأعمال والتجار وملاك الأراضي. كانوا جزء من التركيبة الاجتماعية والنسيج الوطني العراقي(راجع كتاب: التاريخ المنسي ليهود العراق. المستدرك من ذكريات أنور شاؤل. تأليف مازن لطيف.)
كان عدم تمكنهم من بيع ممتلكاتهم أحد أسباب رفضهم الهجرة. كانوا مصممين على البقاء في العراق، ولكنهم لم يبدوا معارضة لمن كان يريد الهجرة.
(تعقيب: تجدر الاشارة هنا الى ان وجهاء الطائفة كانوا على علم، ومنذ الأربعينات، بتواجد حركة صهيونية سرية لكنهم فضلوا الصمت والتغاضي عن نشاطاتها، وهو أمر يثير الاستغراب حقا. لم يحذروا بقية أفراد الطائفة بالأغراض الحقيقية التي كانت وراء تواجد تلك الحركة وتركوا لها الباب مشرعاً للتغلغل في أوساط الشباب وعموم اليهود.)
انطلقت الحركة الصهيونية من ذلك الباب المفتوح وقدمت مشروعها الواضح وموقفها الصامد والحل الوحيد: دولة اسرائيل. كانت الحركة تحمل في طياتها زخماً وطنياً، وملأت فراغاً كبيرا عندما تحدت القيادات التقليدية علناً ونجحت مناوراتها بتنحية الحاخام ساسون قدوري من رئآسة الطائفة واستبداله بالحاخام شمطوب الذي كان متعاطفاً معها ثم وفّر لها كافة الفرص لتنفيذ مخططاتها لقيادة الطائفة. لذا فليس من المستغرب ان يَهِب ذلك العدد الهائل من يهود العراق في التسجيل للهجرة عندما سنحت الفرصة لهم.
في الأسابيع الاولى بعد سن قانون اسقاط الجنسية منعت قيادة الحركة الصهيونية (الهاغانا والموساد ومنظمة الرواد في العراق) اليهود من التسجيل الى حين ايجاد طرق مناسبة للهجرة. وبنفس الوقت لم يكن هناك قرار واضح في اسرائيل لاستقبال ذلك العدد من يهود العراق. حينها حصل تذمر في أوساط اليهود وهددوا بالتسجيل رغم قرار الحركة. عقدت القيادة اجتماعاً في الثامن من نيسان/ابريل 1950 وقررت الغاء قرارها السابق وأعلمت مراجعها في اسرائيل بذلك، حيث أصبحوا على ثقة ان اسرائيل لن تتخلى عن يهود العراق الذين " ..أصبحت حياتهم مهددة" كما ورد في القرار الذي أُرسل الى اسرائيل ايضا.
أصدرت الحركة بياناً اعلامياً لليهود جاء فيه:" يا ابناء صهيون التائهين في ارض بابل: فروا. نحن اليوم نواجه فرصة وانعطافة بتاريخ شتات هذا المكون….وقد قررنا اليوم الخروج من جحيم هذا الشتات….ان اسرائيل تناديكم ايها اليهود: ارحلوا عن أرض بابل." ذُيل البيان بإسم اسرائيل! وتُلي علناً في المعابد والتجمعات اليهودية في كافة أنحاء العراق بعد عيد الفصح وتم توزيعه على كافة فروع منظمة الرواد. تحشد في اليوم التالي الآلاف منهم في مراكز التسجيل، وكانت الاستجابة للبيان انعكاساً للأوضاع المعيشية القاسية التي كان اليهود يمرون بها في تلك الفترة إضافةً الخوف مما هو آتٍ.
وصل البيان الى جميع يهود العراق، مما دلّ على مدى اتساع نشاطات المنظمة الصهيونية والتعاطف معها في صفوفهم وبالأخص في المناطق الكردية.

من الهجرة الى النفي: والنهاية المأساوية.
بدأت عملية "العودة" في مايس/مايو 1950 وكان المفروض ان تنتهي في آذار/مارس 1951، الا ان عملية الرحيل تلك تراجعت بشكل كبير جدا ولم يتسنّ الا لعدد قليل المغادرة مما فاقم من وضع اليهود المتأزم بشكل كبير، وتبدلت الحالة من هجرة طوعية الى عملية تهجير وأصبح العديد منهم معرضين للمسائلة والنبز والأعتداءآت والفقر المدقع .
واجه يهود المناطق الكردية اعتداءآت وتهديدات من جيرانهم، وأُجبروا في حالات متكررة على التخلي عن دورهم وممتلكاتهم والرحيل فورا، وقامت الشرطة بترحيل عوائل الى بغداد.
وصلت الى بغداد أعداد غفيرة من يهود المناطق المحيطة ومن شمال العراق، وتم ايوائهم في المعابد والمبان العامة التي تدهورت فيها الأوضاع الصحية والمعيشية بشكل كبير.

متابعة شخصية:
التفجيرات في بغداد ما بين نيسان (ابريل) 1950 وحزيران (يونيو) 1951
• نيسان 1950: القيت قنبلة يدوية على مقهى الدار البيضاء التي كان يرتادها العديد من اليهود، وجرح اربعة اشخاص.
• مايس 1950: انفجرت قنبلة في مكاتب شركة لاوي للسيارات ولم تحدث اية اصابات.
• حزيران 1950: انفجرت قنبلة في البتاويين التي كان يقطنها يهود ولم تحدث اصابات.
• كانون ثان (يناير) 1951: انفجرت قنبلة قرب معبد مسعودة شيم-توف وقُتل 3 من اليهود وجرح عشرة.

الاعتقالات والمحاكمة:
اعتقل شالوم صلاح شالوم وكان عمره 19 عاما وكان متدرباً على استعمال السلاح ومسؤول منظمة الهاغانا في العراق.
واعتقل ايضا المحامي يوسف ابراهيم بصري الذي كان يرأس شبكة التجسس في العراق، ودل المحققين على اماكن تخزين الاسلحة التي كانت تتواجد في ثلاث معابد ومنازل. فعُثر على 436 قنبلة يدوية و33 رشاش وكميات كبيرة من العتاد.
كما والقي القبض على المبعوث مرداخاي بن بورات ومبعوث المخابرات يهودا تاجر وغيرهم العديد.
قُدم المتهمون للمحاكمة. وجاء في تقرير الشرطة:" ..تدل التحريات ودراسة الأدلة بدقة ان القائمين بتلك التفجيرات لم يبتغوا قتل اليهود، وان كل قنبلة قد القيت كانت في مناطق غير مركزية ولا تدل على نية في القتل او جرح اي شخص."
كما جاء في تقرير للسفارة البريطانية في 20 كانون اول/ديسمبر 1951:" لا توجد شكوك على سير المحاكمات بصورة طبيعية."
أُعدم شالوم بصري في كانون أول 1952. وحكم على يهودا تاجر بالسجن المؤبد، وعلى آخرين بأحكام مختلفة. ولكن بن بورات تمكن من الهرب من السجن.

تذكر الكاتبة ان التهم كانت باطلة وتورد اسبابا منها ان التسجيل للهجرة كان قد بلغ أوجه في تلك الفترة ولم يكن هناك دافع او حاجة للتخويف وتحفيزهم على التسجيل. وهناك نظرية ان تلك التفجيرات حصلت لجلب انتباه الحكومة الاسرائيلية للمخاطر التي يتعرض لها يهود العراق ومن ثم التعجيل بنقلهم الى اسرائيل.

( تعقيب:أكدت تقارير العديد من الباحثين المرموقين اضافة الى دراسات عديدة صحة قيام الصهاينة بتلك الأعمال، اذ جاء في دراسة للمؤرخ موشي غات:" ...شارك يهود العراق الاعتقاد بأن القنابل التي أُلقيت كانت من عمل عملاء الصهيونية. "The Jewish Exodus from Iraq 1948-1951"
ووافقه في الرأي عالم الاجتماع فيليب مندس في كتابه:" The Forgotton Refugees.
The causes of the post 1948 Jewish Exodus from Arab countries
وأتفق باحثون عديدون كالمؤرخ عباس شبلاق ونعيم جيلاد ووكيل المخابرات المركزية ويلبرد كرين ايفلاند وغيرهم ان يهودا قاموا بتلك التفجيرات لا محالة.
اضافة الى ذلك فقد كتب مبعوث الصهيونية في العراق يودكا روبينويتز تقريرا في 1949 يذكر فيه وبتذمر:" ان هناك عدم اكتراث في صفوف يهود العراق يهدد تواجدنا." ويقترح ان :"تقوم الموساد بالقاء بضعة قنابل يدوية لتخويفهم، وتوزيع مناشير تدعو لنفيهم."
وأكد تقرير للسفارة البريطانية ان الصهاينة كانوا هم من قامو بتلك التفجيرات.)


كان نوري السعيد، الذي عاد الى رئاسة الوزارة في أيلول (سبتمبر) عام 1950، مصمماً على اخراج اليهود من العراق وباسرع وقت. ولكن اسرائيل كانت قد غيرت من سياستها حينما قرر بن غوريون اعطاء اولوية العودة الى يهود بولندا وبلغاريا بدلا من يهود العراق، حيث كانت السلطات في تلك الدولتين قد سمحت لليهود بالهجرة، فوصل آلاف منهم الى اسرائيل. كانت لدى بن غوريون قناعة ان بالامكان تأجيل نقل يهود العراق لأنهم راحلون لا محالة، والأفضلية الآن ليهود اوربا الشرقية. ( لا ننسى ان بن غوريون هو بولندي الأصل - اشكنازي!)
أعلم نوري السعيد بريطانيا والولايات المتحدة انه سيرّحل اليهود الى المفرق وبيروت ومنها الى اسرائيل التي سوف لن ترفض ادخالهم الى اراضيها.( رفض ملك شرق الأردن عبد الله التعاون مع العراق في هذا الشأن.). كانت لمواقف نوري السعيد تلك أصداء واسعة في الاعلام العراقي وساهمت بتشدد مواقف عامة المواطنين تجاه اليهود. أُغلقت محلاتهم بالأقفال وجُمدت حساباتهم في البنوك، فأصبحوا بين ليلة وضحاها معدمين لا يمتلكون اي شيْ. واجهوا معاملة قاسية جدا في مطار بغداد عند المغادرة بالمهانة والبصق وحتى التعدي بالأيدي على الكثير.( خفضت الحكومة حقهم بكمية النقد المسموحة من خمسين دينارا الى خمسة دنانير فأصبح التفتيش فرصة لمفتشي المطار بالحصول على ثروة لم يكونوا يحلموا بها!).
لم يكن لأثرياء اليهود ووجهائهم والعديد من أبناء الطبقة المتوسطة والمتعلمين نية بالرحيل من العراق. ولكن تشابك وتوالي اجراءآت الحكومة كالفصل من الوظائف وتجميد اعمال الصيارفة والتجار وغير ذلك دفعهم الى التسجيل للرحيل في الأيام الأخيرة لصلاحية قانون اسقاط الجنسية. فضاق الوقت على الكثيرين لأخراج اموالهم، فاستغلها المهربون العراقيون والايرانيون واللبنانيون الذين سرقوا الكثير من تلك الأموال، وفي حالات متعددة سُرقت الأموال بالكامل.
عندما انتشرت تلك الأخبار في اسرائيل أستأنفت الحكومة الاسرائيلية موقفها السابق وبدأت بتوجيه اهتماماتها الى ترحيل يهود العراق.

الاستنتاجات:
من المنظور الصهيوني، تقول البروفيسورة غليتسسنتين ان وصول يهود العراق الى اسرائيل انهى دائرة مغلقة كانت قد بدأت في عام 1942 عند بداية وصول مبعوثي الصهيونية الى العراق. حلقة استمدت ديمومتها من ايديولوجية الصهيونية الهرتزلية (نسبة الى مؤسسها ثيودور هرتزل)، فأعتُبرت العودة (aliyah) الدليل القطعي والخالد على صحة طروحات المسيرة الصهيونية ومن ثم انتصارها.
رغم ان جذور يهود العراق كانت متشابكة بالمحيط العربي -الإسلامي وثقافته وتاريخه الطويل، الا انهم كانوا دائمي التطلع الى الغرب ومفاهيم الحداثة والتعليم الغربي. لذا فقد اصبح المجتمع اليهودي واجهة الانفتاح العام الذي بدأ يدب في المجتمع العراقي
(تعقيب: صحفيون وأدباء وفنانون ومهنيون في أختصاصات متفرقة. كان يهود العراق حقاً المحركون الفعليون في التغيرات الجديدة في المجتمع العراقي آنذاك.)
الا ان تراجعا كان قد بدأ في هذا الانفتاح حين تصاعدت حركة القومية العربية في اواسط الثلاثينات، وبلغت ذروتها في فرهود عام 1941. كانت تختبىء في فكر تلك الحركة جوانب مظلمة كالفاشية والعداء للسامية (كراهية مَرَضية لليهود). وراح القوميون يشيعون ان اليهود ما هم الا أقلية اثنية مرتبطة بالاستعمار البريطاني والصهيونية ومن ثم فهم غرباء خونة لا انتماء لهم للوطن.

ومن جانبهم، كان على مبعوثي الصهيونية ايجاد مجموعة من النشطاء المخلصين الذين ينحون نحو الاشتركية ومستعدين للنضال نحو اهدافهم، من أجل تحقيق الأغراض التي جاؤوا من اجلها الى العراق.
فبدأ المبعوثون حملة تثقيفية للنشطاء وكانت البداية زرع نمط التفكير الغربي باستقلالية التفكير وملائمة مبادىء الصهيونية الاشتراكية. ارادوهم ان يصبحوا قادة المكون اليهودي والبدلاء عن القيادة التقليدية.
(تعقيب: كما تم التوضيح سابقا لم يخفي المبعوثون مدى احتقارهم للثقافة المشرقية والاشمئزاز من مدى اندماج اليهود بالمجتمع العراقي بل وحتى من مفاهيم الدين التي كانوا يحملونها.)
انتمى المئات من شبيبة اليهود الى الحركة التي منحتهم أهداف ايديولوجية وشعور بالانتماء والفخر، فقد وعدتهم بوطن بديل عن العراق التي تخلى عنهم. نجح المبعوثون بخلق حماسة ثورية ونشاط اجتماعي محموم للاختلاط بين البنات والصبيان. والى الآخرين الذين لم يتحمسوا للهجرة، فقد منحتهم الحركة شعور بالأمان والفخر حين كثُرت التعديات الجسدية واللفظية عليهم في حياتهم العامة، فراحوا يبحثون عن حلول ثورية لتغيير الواقع الجديد فلم يجدوا امامهم سوى الهجرة (الى الدول الغربية او امريكا اولا) او الانضمام الى الحركات الثورية كالحزب الشيوعي او الحركة الصهيونية.

ومن جانب آخر كان هناك سكان فلسطين اليهود (Yishuv) الذين كانوا في أمس الحاجة لمهاجرين يهود وبالأخص حينما ادركوا ان يهود اوربا على وشك الانقراض بسبب الحملة النازية، لذا فقد توجهوا الى حوض يهود المشرق لينهلوا منه ويتحقق لهم الأكثار من تواجدهم والبقاء في فلسطين. ومن هذا المنطلق بدأت نقاط التلاقي بين الحركة الصهيونية وشباب يهود العراق، ومعاً بدؤا باختراق وصهينة الشارع اليهودي لتحفيز يهود العراق على هجرة جماعية الى فلسطين.

(تعقيب: التخطيط والتنفيذ الذي مارسه مبعوثو الصهيونية في العراق يظهر مدى التفوق والصلابة الفكرية التي كانوا يمتلكونها، بالاضافة الى الثقة بقدرة مسؤوليهم في فلسطين على توفير الحماية لهم بشتى الأشكال. وكذلك تثبت أحداث العراق في تلك الفترة مدى هشاشة التنظيمات الأمنية الحكومية وسعة الفساد المستشري على كافة المستويات. كما وان أحابيل السفارة البريطانية في بغداد لعبت دورا محوريا في تعقيد الأمور المستجدة في البلد، بل والتخلي عن أخلص حلفائهم في أصعب المواقف، كما أوضح ذلك بعض وجهاء اليهود كموقف المحامي يوسف الكبير والعديد لاحقا في كتابات لهم.)

عملية الاجلاء:
قامت شركة الشرق الأدنى للنقل الجوي المحدودة، وهي شركة امريكية تمتلكها الوكالة اليهودية بتسيير رحلة واحدة من بغداد الى مطار اللد عن طريق قبرص اولا، ثم بلغ عدد رحلاتها 5-6 يوميا فيما بعد وبدأ الترحيل من بغداد الى اسرائيل مباشرة. وكانت تلك نتيجة مفاوضات بين رئيس الوزراء حينها توفيق السويدي وبين شلومو هليل المبعوث الاسرائيلي واحد عملاء الموساد، حين وُضعت بموجبها عملية أجلاء اليهود في أيدي السلطات الاسرائيلية . وقد أشرف شلومو هليل على تسيير الرحلات بصفته مدير شركة الطيران بأسم المستر آرمسترونغ.

(تعقيب 1 : ينتمي شلومو هليل الى عائلة عراقية من بغداد هاجر الى فلسطين عام 1946 وجندته الموساد في صفوفها. ذهب الى العراق مرات عديدة متخفيا. أصبح وزير الشرطة في حكومة اسرائيل فيما بعد.)
(تعقيب 2: وُجهت اتهامات الى كل من توفيق السويدي ونوري السعيد وابنه صباح وآخرين بتلقي رشاوى وتقاسموا الأرباح من صفقة نقل اليهود، كما يشير الى ذلك الباحث عباس شبلاق في جامعة أكسفورد في كتابه "هجرة او تهجير".
يذكر د. أحمد برهان الدين باش أعيان في بحثه المسهب: النشاط الصهيوني في العراق 1914-1950عدد اليهود المهاجرون كالتالي:
نهاية عام 1951 89088
عام 1952 960
عام 1953 413
المجموع: 124638 )

تختم الكاتبة البحث بالقول: طغى الحماس بين المسجلين للهجرة بحياة رغيدة ومستقبل زاهر في اسرائيل بعد ان ساءت الأوضاع التي عاشها اليهود في بلدهم العراق في تلك الفترة، فوصلوا الى اسرائيل كمهجرين معدمين ومحارَبين مضطهدين. ولكنهم وجدوا انفسهم في وضع كارثي جديد.
لم يكن دافع يهود العراق العودة Aliya بعينها ولكن نتيجة لها، اي انهم أُضطُروا للرحيل تحت غطاء العودة، فكان المكون اليهودي العراقي الوحيد الذي دفع ثمنا باهضا بالرحيل الى اسرائيل.


أنتهى.



#هشام_الملاك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصهيونية في دولة عربية . يهود العراق في أربعينات القرن العش ...


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هشام الملاك - الصهيونية في دولة عربية . يهود العراق في أربعينات القرن العشرين