أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد علي الحكيم - المادية الجدلية بين العلم و الفلسفة















المزيد.....



المادية الجدلية بين العلم و الفلسفة


محمد علي الحكيم

الحوار المتمدن-العدد: 6435 - 2019 / 12 / 12 - 00:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المادية مذهب فلسفي قديم يمكن ان نلمس جذوره في أطروحات الفلسفة اليونانية، التي كانت تعبر عن نفسها في صورة مادية ذرية ، وهو ما نجده مع الفيلسوف ديمقريطس والفيلسوف ابيقور، حيث اعتبروا العالم عبارة عن ذرات مادية تتشكل محض الصدفة )بلا غاية ( حسب حركة الذرات نفسها.

هذا الاتجاه المادي تم احياءه مع الفيلسوف فيور باخ في القرن الثامن عشر ، اذ يرى ان المادة والحركة تتمان بصورة ميكانيكية متواترة. الا انه ومع المادية الجدلية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر حدث تطور في هذا الاتجاه حيث قدمت تصورا فلسفيا متكاملا عن الوجود والأنسان والمجتمع، واتخذت صورة سياسية فيما بعد عبر عن نزعتها الكثير من دول العالم.

وهذا البحث مكرس للتعرف على راي الماديين الجدليين في موضوع المعرفة. ويقوم هذا البحث على خمسة مباحث رئيسية ، مضافا إلى المقدمة والخاتمة، التي اتت على بعض النقاط المهمة في الموضوعات التي عرض لها البحث.

المبحث الأول: الاتجاه المادي في الفكر اليوناني:
استهلت الفلسفة اليونانية فجر حياتها بالبحث في اصل الكون وطبيعته ، وكان ذلك امتدادا طبيعيا لشغف الشعراء الإغريق الذين كانت لهم تصورات أسطورية خصبة في نشأة الكون وعلاقته بالإلهة، التي كانت لا تخلو من الإيمان بشيء من القانون يحكم سير الحوادث ويضبط نظام الأشياء . وأول فيلسوف بحث في اصل الكون وطبيعته هو طاليس، الذي قال ان الماء هو اصل كل شيء ، وتكمن أهمية طاليس باعتباره أول من عبر عن أفكاره بعبارات منطقية معقولة ، ولم يلجأ إلى تفسير الكون من خلال الأساطير والخرافات، ولا بالقوى الخفية والإلهة، بل على أساس عقلي علمي معلل، يرتبط فيه المعلول بالعلة ارتباطا وثيقا (1).

ويعد هيرقليطس من الفلاسفة الأوائل الذين ذهبوا إلى تفسير الوجود تفسيرا ماديا، حيث ذهب إلى ان العالم وهو واحد للجميع ، وهو كائن منذ الأزل والى الأبد عبارة عن نارا حية تشتعل وتخبو بحساب، فمبدا الأشياء كلها ومنتهاها ليس مخلوقا من قبل اله أو بشر، وإنما هو مادة تنطوي على مبدا الخلق والحياة والتغير ، وهو النار، ويصف التغير والتبدل الذي يتضمنه العالم كالتبادل التجاري الذي يجري في الأسواق (2). إن قول هيرقليطس ان هناك (تبادل بين النار وبين جميع الأشياء إنما يعني محاولته كشف جوهر العلاقة بين المبدأ الواحد (النار) وبين تجلياته (كثرة الاشياء) على أساس ان النار تحرك العالم ، فالاحتراق قد يعني كون العالم وحركته وقد يعني فناءه في آن واحد) (3).

وظهر له ان صفحة الوجود هي في تغير مستمر وسيلان دائم، واعتبره الحقيقة الوحيدة الدائمة. ويتم هذا التغير حين يصير الشيء إلى ضده، وعلى ذلك فهو يعد الأضداد متحدة ببعضها، ويضع قائمة من الاضداد كالنهار والليل والشتاء والصيف والحرب والسلم، ان كل شيء في تغير، فانك لا تستطيع ان تنزل إلى النهر مرتين لأنه في كل مرة ستغمرك مياها جديدة، وينتهي إلى ان التغير وسيرورة الوجود تتم بشكل لولبي. (فحقيقة الوجود تقوم على أساس من توتر الأضداد، ويتضح هذا بقوله ان المثقاب يتجه في خط لولبي ومستقيم في آن واحد كما تكون البداية والنهاية متصلتين في دائرة واحدة. ويرى هرقليطس ان هذا التغير الدائم وهذا الصراع القائم بين الأضداد يحكمه قانون ازلي وائتلاف خفي هو ما يسميه اللوغوس. واللوغوس حين يرد في مثل هذا السياق يفيد معاني العقل والمقياس الذي يسري على الاضداد المتتالية التي تتوالى في الزمان. وهو الذي يسميه أحيانا زيوس، وهذا اللوغوس ليس متعسفا كآلهة الميثولوجيا، ولكنه عقل وبشعاع منه ندرك النار الالهية ونتصل بها) (4). وفي أقوال هرقليطس في الأخذ بمبدأ التناقض وصراع الأضداد ما يدعم النظرة الجدلية ، كقوله: (5)

كل شيء موجود وغير موجود ، لان كل شيء في سيلان دائم.
انك لا تستطيع النزول إلى النهر مرتين، لان مياها جديدة تنساب فيه باستمرار.
ينبغي ان نعرف ان الحرب هي الحال السائدة وان الصراع عدل.
ان التخالف يجلب الائتلاف.
النهار والليل والشتاء والصيف والحرب والسلم والجوع والشبع متصلة، ففي طبيعة كل شيء جزء من ضده.
لذا حظى هرقليطس باهتمام بالغ في العصر الحديث ، خاصة من قبل هيجل والفلاسفة الماركسيين، على اعتبار انه أول لفت الأنظار إلى حقيقة الصراع والتغير في الوجود ، وأول من عارض منطق الثبات الصوري واثبت المنطق الحركي الجدلي (الديالكتيكي)، المطابق لحركة الواقع من وجهة نظرهم. فالمنطق الصوري يلتزم بمبدأ عدم التناقض، الذي يرى ان الشيء أما ان يكون (س) او لا (س)، ولكن في منطق هرقليطس فأن الواقع يتضمن الضدين معا. (6) ويرى بروتاجوراس ان الأنسان هو مقياس كل شيء، فهو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد . فالحواس والإدراك الحسي هو المعيار الذي يقيس به الفرد وجود الأشياء، لذا فان كل شخص هو مقياس ما هو حقيقي بالنسبة اليه، فليست هناك من حقيقة غير احساساته وانطباعاته الخاصة عن شيء ما ، فما يبدو حقيقي بالنسبة لي فهو كذلك، وما يبدو بالنسبة للآخرين فهو حقيقي بالنسية لكل واحد منهم أيضا ، ولست معنيا بشيء اخر غير إحساسي الخاص. وهذا الإقرار المطلق بنسبية الحقيقة واختلافها من شخص إلى اخر تبعا لإدراكاته الحسية هو ما جعل بروتاجوراس يتوصل إلى فكرته الأساسية ، وهي إبطال الحقيقة المطلقة لتحل محلها حقائق متعددة بتعدد الأشخاص وتبدل الأحوال. وما يصدق على المعرفة يصدق على العمل أيضا فالفرد مقياس النفع والضر، والخير والشر ، والعدل والظلم. (7)

واخذ لوقيبوس بما تظهره التجربة الحسية من وجود ذرات صغيرة معلقة في الهواء، واخذ من جهة أخرى ما قرره الايليون من ان الوجود لا ينشأ عن اللاوجود ، كما ان الوجود غير صائر إلى اللاوجود ، وانتهى إلى ان الوجود منقسم إلى ذرات لا نهاية لها في العدد ، خالدة متحركة في الخلاء، وعندما تجتمع تتكون الأشياء ، وفي انفصالها يحدث الفساد. ويتفق ديمقريطس مع ما ذهب اليه لوقيبوس ، وقد عبر عن ذلك بان الحقيقة تنقسم إلى ما اسماه بالوجود (الذرات) واللاوجود وهو (الخلاء). ووصف الذرات بانها أجسام مكونة من جوهر واحد، صلبة متناهية في الصغر، بحيث لا يمكن رؤيتها بالعين، وهي غير محدودة بالعدد وغير منقسمة، تتحرك في خلاء لا نهائي. فتجتمع الذرات المتشابه مكونة العناصر الأربعة وجميع الموجودات. (8)

والذرات ( قديمة من حيث ان الوجود لا يخرج من اللاوجود ، وانها دائمة من حيث ان الوجود لا ينتهي إلى اللاوجود، وانها متحركة بذاتها. وواحدها الجوهر الفرد ، فأنها جميعا امتداد فحسب أو ملاء غير منقسم، فهي متشابهة بالطبيعة تمام التشابه، وليست لها أية كيفية ولا تتمايز بغير الخصائص اللازمة.. وليس الخلاء عدما ، ولكنه امتداد متصل متجانس يفترق عن الملاء بخلوه عن الجسم والمقاومة). (9)

اما العوالم فهي تتكون من حركة الذرات ، التي لم يعرف مصدرها غير أنها أشبه بالدوامة، وتنتج عنها اصطدامات تجتمع فيها الذرات الثقيلة في المركز، فيما تطرد الذرات الخفيفة إلى الخارج، هكذا تجتمع الذرات من جراء الحركة مكونة عدد كبير من العوالم منها عالمنا. والمهم في كل هذا (ان تفسير ديمقريطس لنشأة العالم أو العوالم هو تفسير ميكانيكي صرف ، ولا مكان فيه لعلة غائية، ومنجهة أخرى فأنه تفسير يجعل سبب التكون سببا ذاتيا وليس تحت تأثير علة خارجية) .(10)

فيما يجد ديمقريطس النفس مؤلفة من ذرات ذات جواهر نارية لطيفة واسرع حركة متغلغلة في البدن كله ، وهي مبدأ الحياة والحركة في الكائنات، وتكون أوفر عددا في مراكز الإحساس والتفكير. ويمضي ديمقريطس بالمذهب الألي إلى حده الأقصى، فكما ان النفس ذرية عند ديمقريطس كذلك الآلهة مركبة من ذرات اكثر دقة، لذلك كانت اكثر حكمة وأطول عمرا، ولكنها غير خالدة، فهي خاضعة أيضا للقانون العام قانون الكون والفساد). (11) اما ابيقور فقد احيى المذهب الذري عند لوقيبوس وديمقريطس فالجواهر الفردة موجودة ولو لم تكن منظورة ، وهي ذات أعداد غير متناهية وتؤلف عوالم غير متناهية ، لكل عالم شكله وموجوداته وقتا ما، ثم يتبدل بانتقال الجواهر من عالم إلى اخر. والجواهر متحركة ابدا في خلاء لا متناه ، وعلة حركتها هي الثقل، اذ تتحرك الجواهر في خط مستقيم من اعلى إلى اسفل ، وبسرعة واحدة، فان اختلفت سرعتها، فذلك بسبب تفاوت مقاومة الأوساط التي تجتازها. (12)

ويعبر أبيقور عن اتجاه حسي في نظرية المعرفة ، فالأحاسيس صادقة بذاتها لأنها تنطلق من الواقع الموضوعي، أما الأخطاء فتنشأ عن تفسير الأحاسيس. ويشرح أبيقور أصل الأحاسيس بطريقة مادية ساذجة، اذ يجد أنها تدفق مستمر للجزئيات الدقيقة تزاح من سطح الأجسام لتخترق الحواس ومحدثة فيها صورا لتلك الأشياء.(13)

اما الآلهة فيؤكد ابيقور أنها موجودة، ويجب ان نتصور الآلهة على حسب احسن الأشياء الموجودة فينا .فتكون اجسامهم من وجهة نظره غاية في اللطافة، ومتحركة بين العوالم المختلفة بصورة دائمة وبمعزل عنها، فلا ينالهم ما ينالنا من اندثار، فهم مخلدون سعداء، ولما كانوا كذلك فهم غير معنيون بشؤوننا ولا يكدرون صفوهم بنا، وبالتالي ليسوا محتاجين كما تعتقد العامة إلى النذور أو تقديم القرابين لطلب مددهم ورضاهم، فكلها خرافات تناقض الفكرة السابقة عنهم، لذا وجب علينا ان نكون مطمئنين من جهتهم وان ننفي الخوف عن نفوسنا منهم. لقد كان هذا الخوف عظيما في بلاد اليونان بما توارثوه من أساطير عن عبث القدر بمصائر البشر، فاراد ابيقور ان يرفع عن كاهلهم ذلك الكابوس فآثر محو العناية والحساب معا.(14)

ويقول انجلز في كتابه (جدل الطبيعة) ان الفلاسفة الاغريق من طاليس الى هيراقليطس قد تبنوا النظرة المادية ، وان ماديتهم كانت اكثر تقدما من مادية القرن الثامن عشر، لأنها مادية جدلية لا مادية آلية مستمدة من الميكانيكا، والتي اكتفت برد المركب إلى أجزائه البسيطة ، وظهر قصورها مع ظهور التطورات العلمية في مجال الكيمياء وعلم الحياة، ولكن هذه النظرة تجعل من الأشياء منفصلة عن بعض وثابتة، ووفقا لذلك تكون الأشياء إما موجودة أو لا موجودة ، وتتجاهل ترابط الأشياء وتطورها، وبالتالي انتهت إلى النظرة الميتافيزيقية المتحجرة، ولهذا استعاد هيجل والمادية الجدلية من بعده النظرة المادية الجدلية للإغريق بدل المادية الألية في تفسير الوجود، ودعوا إلى العودة إلى التفكير الجدلي لدى هيرقليطس، الذي كان أول من ربط بين الحركة بالتناقض . (15)

المبحث الثاني: الفلسفة المادية في العصر الحديث
اعتقد ديكارت أن دورات الجسيمات هي الشكل الرئيسي لحركة المادة الكونية، وأنها تحدد بناء العالم وأصل الأجرام السماوية. وقد أعطت فرضيته دفعة لتقدم الجدل، على الرغم من أن الحركة عنده كانت لا تزال آلية .وكانت أراء ديكارت في المادة أو الجوهر المتجسد قد قامت على اساس بحوثه الرياضية والفيزيائية، فقد وحد بين المادة والامتداد أو المكان، وافترض أن الامتداد وحده لا يعتمد على أي عنصر ذاتي، وأنه مشروط بالخواص الضرورية للجوهر المتجسد .

لقد آمن ديكارت أن الطبيعة العامة والضرورية للمعرفة الرياضية مستمدة من طبيعة المخ. ومن ثم نسبت قوة خاصة في فعل المعرفة إلى الاستنباط القائم على البديهيات الصادقة المستوعبة بشكل حدسي. وكان لمذهب ديكارت في الصدق المباشر للوعي الذاتي وللأفكار الفطرية ، التي أدرج ضمنها فكرته عن الله وعن الجوهرين الروحاني والجسماني تأثير لاحق على المدارس المثالية، التي تعرضت لهجوم شديد من جانب الفلاسفة الماديين. ومن جهة أخرى فإن رأي ديكارت، المادي في جوهره، عن الطبيعة ونظريته في تطور الطبيعة، وعلم النفس الفسيولوجي المادي عنده ، قد أثرت جميعا في النظرة الشاملة المادية للعالم. (16)

وقد أثارت سبينوزا - الذي ينزع إلى الوحدة - آراء ديكارت التي قسم فيها الوجود إلى عنصرين نهائيين، احدهما تندرج فيه كل تشكلات المادة، والأخر يندرج تحته جميع أشكال العقل، كما أثاره تفسير ديكارت للعالم كله (عدا الله والنفس( تفسيرا اليا ورياضيا (17). فقد قرر سبينوزا أولا ان إرادة الله وقوانين الطبيعة اسمان يطلقان على حقيقة واحدة، فان قوانين الطبيعة العامة وأوامر الله الخالدة شيء واحد، ومن ثم توصل إلى ( ان كل الأحداث التي تقع في العالم ان هي إلا نتيجة الية لقوانين الطبيعة الثابتة ، وليست نزوة من نزوات حاكم مطلق يجلس في النجوم ، وليست هذه الألية قاصرة على المادة والجسم فقط كما ذهب ديكارت ، فان سبينوزا يرى أنها تشمل الله والعقل أيضا . ان العالم جبري، وليس مقصودا أو له غرض.(18) وبدت الفلسفة الحديثة والثقافة والمجتمع في نظر هيجل مشحونة بالتناقضات، كما هي الحال في التناقضات بين العقلِ والطبيعةِ، بين الذات والآخر، بين الحرية والسلطة ، بين المعرفة والإيمان. لذا (كان مشروع هيجل الرئيسي الفلسفي أَن يأخذ هذه التناقضات والتوترات ويضعها في سياق وحدة عقلانية شاملة، موجودة في سياقات مختلفة، دعاها (الفكرة المطلقة) أَو (المعرفة المطلقة)، وطبقًاً لهيجل الخاصية الرئيسية في هذه الوحدة أنها تتطور وتتبدى على شكل تناقضاتContradiction) ) وسلب ((Negation. تولد التناقض والسلب لهما طبيعة حركية في كل مجال من مجالات الحقيقة- الوعي، التاريخ، الفلسفة، الفن، الطبيعة، المجتمع-، وهذه الجدلية هي ما تؤدي إلى تطوير أعمق حتى الوصول إلى وحدة عقلانية تتضمن تلك التناقضات كمراحل وأجزاء ثانوية ضمن كل تطوري أشمل. هذا الكل عقلي لأن العقل وحده هو القادر على تفهم كل هذه المراحلِ والأجزاءِ الثانوية كخطوات في عملية الإدراك. وهو عقلاني أيضا لأن النظام التطوري المنطقي الكامن يقبع في أساس وجوهر كل نطاقات الواقع والوجود وهو ما يشكل نظام التفكير العقلاني)(19).

يتفق هيجل مع القائلين بوحدة الوجود ، (ويرى ان المطلق هو الواقعي بما فيه من روح لا متناه أو مثال أو عقل كلي أو مبدا خالق منظم، وان الطبيعة والفكر حالان له . يظهر الفكر في وقت ما من أوقات تطور الطبيعة، لا انهما وجهان له متوازيان. ويرى انه لأجل فهم الوجود في مبدئه وتسلسل مظاهره، يجب اتباع منهج منطقي يبين هذا التسلسل من اصل واحد (هو القضية) ينقلب إلى نقيضه ثم يأتلف مع هذا النقيض، ويتكرر هذا التطور الثلاثي ما شاءت مظاهر الوجود. أي انه يجب ترك العقل يجري على سليقته هذه ابتداء من أول وابسط المعاني، وهو معنى الوجود. هذا المنهج هو المنطق أو الجدل الذي شانه ان يتأدى من معنى إلى معنى ضرورة، بحيث يبدو الفكر وجوديا، ويبدو الوجود الواقعي منطقيا، أي ضروريا ومعقولا ضرورة). (20)

أما التطور كما يراه هيجل ف (هو يتم في قفزات أو طفرات تظهر فيها كيفيات جديدة مثل الحياة والوعي ..الخ ، وهو أيضا تطور حتمي صارم يتم طبقا لقوانين الروح ، فليس هناك مجال للصدفة ولا للإرادة الحرة، فكل ما هو واقعي فهو عقلي ، وكل ما هو عقلي فهو في الوقت نفسه واقعي) .(21) من هنا اتسمت فلسفة هيجل بالطابع المثالي.

وقد كان المذهب الطبيعي في دراسة الأنسان سمة مميزة لمادية فيور باخ ، فقد نقد فهم هيجل المثالي لجوهر الإنسان، وكان هذا النقد النقطة المبدئية في تطوره الفلسفي ، وانصب نقده بشكل حاد على الطبيعة المثالية للجدل الهيجلي ، ما أدى إلى نبذه المثالية بوجه عام، ولم يلحظ إنجازها المهم وهو اكتشاف الجدل. وكانت إحدى الخدمات التي أداها فيور باخ للمذهب المادي أنه أكد الرابطة بين المثالية والدين، وفتح هذا الطريق إلى الاستفادة من المضمون العقلي للفلسفة الهيجلية، وساعد في هذا الصدد على تشكيل الماركسية. وكان المضمون الأساسي لفلسفة فيور باخ إعلان المادية والدفاع عنها. وهنا تبدى المذهب الطبيعي في دراسة الإنسان في مشكلة جوهر الإنسان ومكانته في العالم حيث يوجد في مكان الصدارة، ولكن فيور باخ – إجمالا – لم يتغلب على الطبيعة التأملية للمادية السابقة على الماركسية، وظل– في فهمه للتاريخ - يتخذ مواقف مثالية كلية . (22)

المبحث الثالث: التطورات العلمية في العصر الحديث:
يمكن ان نطلق على الاتجاه المادي في العصر الحديث اسم مادية العلوم الطبيعية ، لأنها كانت تستند بشكل مهم وأساسي على نتائج العلوم الطبيعية التي أخذت تتطور تطورا كبيرا. وقد شهد القرن التاسع عشر تزايدا على نطاق واسع في مجال العلوم الطبيعية وتطبيقاتها العملية؛ الأمر الذي دفع علماء الطبيعة إلى الطموح للإجابة عن مسائل فلسفية تخرج عن نطاق بحوثهم العلمية الطبيعية. وبذلك طغى التفسير المادي على مجمل الجوانب، وأصبحت كل الحقائق تفسر تفسيرا ماديا. وسادت هذه النظرة المادية في مجالات يتعذر تفسيرها بالمادة في نظر الفكر المحايد، فقد عرضوا لتفسير الحياة والعقل والشعور والخيرية والشرية والألوهية وغيرها في ضوء المادة وحدها، واصبح الإنسان يدرس وكأنه عينة معملية تخضع للملاحظة والتجربة. وقد بدى الزحف المادي واضحا في مؤتمر علماء الطبيعة الذي عقد في المانيا، اذ كشف ان عددا كبيرا من العلماء كان يفكر بهذا الاتجاه.(23)

وتتجلى المادية بشكل واضح لدى ديدرو – رئيس تحرير دائرة المعارف الفرنسية- الذي تدرجت كتاباته من المذهب الطبيعي المنكر للعناية الإلهية إلى الإلحادية المادية الزاعمة ان المادة حية بذاتها، وان الأحياء تتطور ابتداء من خلية تحدثها المادة الحية (24). ان اكتشاف الخلية عده الماديين انتصارا لنظريتهم، لانهم اعتبروا ان الخلية هي اللبنة الأساسية لجسم الكائن الحي ، وهي سبب التطور. فالعديد من الأفكار البيولوجية التي جرى طرحها في غضون تلك الفترة ، عارضت بقوة ما كان يعتبره جميع الناس صحيحا ،بحيث تطلّب قبول هذه الأفكار ثورة أيديولوجية. ومن بين جميع البيولوجيين، يتحمل تشارلز داروين القدر الأكبر من المسؤولية عن إحداث أكثر التعديلات وأعمقها في النظرة السائدة لدى الناس العاديين. فيما كان لامارك هو أول إنسان أثارت استنتاجاته العلماء ، فقد عبر عن أراءه في كتابه (الفلسفة الحيوانية) سنة 1809 م ، وكذلك في كتابه الأخر الذي كان تحت عنوان ( التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقرية) عام 1815م، حيث كشف عن مبدأ جديد يتلخص ان جميع الأنواع الحية بما فيها الإنسان قد انحدرت من أنواع أخرى، وبذلك لفت الانتباه إلى وجود احتمال بان جميع التغيرات في العالم العضوي ، وكذلك العالم غير العضوي ناتجة عن قانون، وليست نتيجة تدخل إعجازي. (25)

وعلى الرغم من ان آراء لامارك قد لفت انتباه العلماء إلى مسالة التطور في الكائنات الحية ، من خلال عملية تدريجية يقوم بها الكائن العضوي للتأقلم مع البيئة والظروف الجديدة التي تحيط به ، مكتسبة خصائص جديدة تساعدها على الحياة بشكل افضل، وهذه الخصائص تورث وتظهر أنواع جديدة. غير ان دارون رفض فكرة لامارك حول التحولات التدريجية ، وقرر ان التطورات التي تحدث لدى الكائنات قائمة على أساس التحول الفجائي أو الطفرة ، أي ان التغيرات التي تتعرض لها الكائنات الحية تكون مفاجئة وبطريقة لا يمكن تفسيرها ، وقد تكون تلك التغيرات نافعة للحيوان ، وهي تكافح من اجل البقاء، وعلى هذا تكون الأفراد التي تحوز هذه الخصائص افردا منتخبة للبقاء، وعلى أساس إنها باقية فان صفاتها الجديدة ستورث ، ومن ثم تظهر الانواع الجديدة . (26)

ويمكن ان نجمل اهم الأفكار المستخلصة من النظرية الدارونية بالأمور التالية (27):

أولا: ، ترفض الداروينية جميع الظواهر والمسببات فوق الطبيعية ، وتفسر نظريةُ التطور حسب مبدأ الانتقاء الطبيعي موضوع التلاؤم والتنوع في العالم على نحو مادي حصرا .لقد لفت داروين النظر إلى أن الخلق حسبما جاء في النصوص التي تتحدث عن الخلق في مختلف الثقافات ،تعارض تقريبا كل ناحية من نواحي العاَلم الطبيعي. فكل جانب من جوانب (التصميم المدهش) الذي يؤكده اللاهوتيون الطبيعيون يمكن أن يجد تفسيرا له في الانتقاء الطبيعي. وكذلك تكشف النظرة المتأنية أن هذا التصميم كثيرا ما لا يكون مدهشا جدا . وقد فسحت نظرية داروين المجال لتفسيرات علمية بحتة لجميع الظواهر الطبيعية، وأدت إلى نشوء مذهب الواقعية.

ثانيا: ومن ناحية ثانية ترفض الداروينية فكرة التيپولوجيا (التنميط) typology. فمنذ زمن فيثاغورس وأفلاطون، يؤكد المفهوم العام للتنوع في العالم على ان العالم يتألف من عدد محدد من الأصناف الطبيعية (ماهيات أو أنواع) يشكل كل منها طائفة (صنفا). وكان يُعتقد بأن أفراد كل طائفة تكون متماثلة وثابتة، كما تكون واضحة الانفصال عن أفراد الماهيات الأخرى.

ثالثا: جعلت نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي أي محاولة لابتغاء الغائية (الغرضية) أمرا لا لزوم له. فمنذ أيام الإغريق وما تلاها ساد اعتقاد شامل بوجود قوة غائية في العالم تقود المسير المتعاظم نحو الكمال. وكان هذا (المسبب النهائي) واحدا من الأسباب التي خصها أرسطو. لقد كان قبول سلم الارتقاء الطبيعي والتفسيرات اللاهوتية الطبيعية شواهد أخرى على رواج الغائية، ولكن الداروينية أطاحت بمثل هذه الاعتبارات.

رابعا: ينفي داروين مذهب الجبرية. كان لابلاس قد تبجح بأن المعرفة الكاملة للعالم الحالي وصيروراته كلها ستمكنه من التنبؤ بالمستقبل حتى اللانهاية. أما داروين فقد قبل مبدأ شمولية العشوائية والمصادفة أساس سيرورة الانتقاء الطبيعي .

خامسا: طور داروين نظرة جديدة للبشرية، وبها يكون قد أوجد مركزية بشرية جديدة. فمن بين جميع مقترحات داروين، تُعد صحة انطباق نظرية التحدر أصعب مقترح حظي بقبول معاصريه؛ إذ إن اللاهوتيين والفلاسفة على حد سواء كانوا يعتبرون الإنسان مخلوقا يسمو فوق الكائنات الحية الأخرى وينفصل عنها. وقد توافق أرسطو وديكارت وكاْنْت على هذا الرأي بغض النظر عن تباعد تفكيرهم فيما عدا ذلك. إن انطباق نظرية التحدر المشترك على الإنسان حرم هذا الأخير من منزلته السابقة الفريدة.

كما ان هلباخ الذي كان زميلا لمجموعة من العلماء في كتابة دائرة المعارف في مجال الكيمياء ، فقد ذهب في كتابه (نظام الطبيعة) الذي يعد انجيل المذهب المادي، إلى انه لا يوجد عدا الذرات المادية شيء الهي أو روحي، فلا وجود إلا لما هو مادي ، أما ما هو روحي فلا وجود له أو هو ليس إلا شيئا ماديا دقيقا ، فلا وجود إلا للمادة والحركة ، وكل الحوادث تسير حسب قوانين طبيعية ، أي قوانين ميكانيكية علية، وتسري هذه القوانين أيضا على الدولة وعلى المجتمع . (28)

المبحث الرابع: الاتجاه العلمي في المادية الجدلية:
ظهرت المادية الجدلية في القرن التاسع عشر، وهي تعبر عن اتجاها غير فلسفيا، اذ يؤكد ماركس ان الفلسفة التي ترتكز على الميتافيزيقا قد بلغت نهايتها في واقع الأمر مع فلسفة هيجل. وبالتالي فسرت الفلسفة من قبل الماديين الجدليين على إنها رؤية عامة إلى العالم تمدنا بقاعدة للسلوك ، فكانت المادية الجدلية لديهم الأساس العقائدي لقوة سياسية واقتصادية عالمية ، ترمي إلى تحرير القوى العاملة المتمثلة في طبقة البروليتاريا من الاضطهاد والاستغلال التي تعاني منه في ظل الهيمنة البرجوازية على الأنظمة السياسية في العالم.

وتستند المادية الجدلية إلى اصلين رئيسين هما : (29)

الأصل المادي ، الذي يستند إلى الفلسفة المادية التي عبرت عنها أفكار هيرقليطس وابيقور وغيرهم من فلاسفة اليونان ، وصولا إلى الأفكار المادية التي عبر عنها الفلاسفة في العصر الحديث ، والتي وجدت في بعض المكتشفات العلمية رصيدا لها.
الجدل الهيجلي الذي كان له تأثيرا بالغا على الفكر المادي الجدلي ، والذي يعد حسب احدهم بمثابة النفس للماديين الجدليين. فقد كان ماركس وهو الأب الروحي للماديين الجدليين مقلدا المذهب الهيجلي المثالي ، الا انه تحول فيما بعد إلى المادية الجدلية بعد تعرفه على كتابات الفيلسوف المادي فيور باخ ، وانه اعتبر فيور باخ هو من انقذه من المثالية الهيجلية .
على حين يذهب لينين إلى ان تأريخ الفلسفة وتأريخ العمل الاجتماعي يبينان بكل وضوح ان الماركسية ليست مذهبا انعزاليا، قام بمعزل عن الطريق الرئيسي لتطور المدنية العالمية. بل بالعكس، فان عبقرية ماركس كلها تتقوم بالضبط في كونه أجاب على الأسئلة التي طرحها الفكر الإنساني التقدمي، وقد ولد مذهبه بوصفه التتمة المباشرة الفورية لمذهب اعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية. ان مذهب ماركس صحيح ومتناسق وكامل ويعطي الناس مفهوما منسجما عن العالم، لا يتفق مع أي ضرب من الأوهام ومع آية رجعية، ومع أي دفاع عن الطغيان البرجوازي. وهو الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الإنجليزي، والاشتراكية الفرنسية . (30)

ولما كانت الفلسفة لدى الماديين الجدليين ضرورة لأغراض عملية ، لأنها تتيح لهم فهم العالم من جهة، ومن ثم توفر لهم قواعد للسلوك من جهة أخرى . فإذا أردنا تغيير الواقع سواء كان الطبيعة أو المجتمع فإنه يجب علينا أولا أن نعرف هذا الواقع، ولكي يعرف الإنسان العالم عليه الرجوع إلى العلوم المختلفة. هكذا تتشكل النظرة العلمية في الفلسفة الماركسية أو المادية الجدلية.

ولكن ما الفرق بين (العلم) و (الفلسفة)؟ أو ليست الفلسفة مماثلة للعلم وفقا للمادية الجدلية؟ والجواب ان الفلسفة من وجهة نظر المادية الجدلية لا تنفصل عن العلوم ولكنها تتميز عنها. إذ أن غرض كل علم من العلوم هو دراسة القوانين المتعلقة بجزء معين من الواقع كما هو الحال في الفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس . أما المادية الجدلية فهي تدرس أعم قوانين الكون، وهي القوانين التي تشترك فيها جميع جوانب الواقع سواء منها ما يتعلق بالطبيعة ام بالكائنات الحية ام بالمجتمع . وان ماركس وانجلز، وهما مؤسسا المادية الجدلية لم يبدعا الجدلية من خيالهما. بل إن تقدم العلم هو الذي أتاح لهما اكتشاف أعم القوانين التي تشترك فيها جميع العلوم وصياغتها وهي القوانين التي تعرضها الفلسفة. كما ان المادية الجدلية هي النظرة الوحيدة العلمية، التي تتفق وتعاليم العلوم، من حيث ان هذه العلوم تقرر أن الكون حقيقة مادية، وأن الإنسان ليس غريبا عن هذه الحقيقة، وأنه يمكنه معرفتها، ومن ثم تغييرها كما تدل على ذلك النتائج العملية التي توصلت إليها مختلف العلوم. (31)

أولا: نظرية المعرفة:
يعتقد انصار المادية الجدلية بان العالم المادي هو العالم الحقيقي الوحيد، وان العقل ليس إلا نتاج لعضو مادي هو الدماغ، ويرى ان التعارض بين المادة والوعي لا قيمة له إلا في مجال نظرية المعرفة، أما في نظرية الوجود فلا وجود لشيء اخر غير المادة . (32)

يؤكد الماديون ان الإنسان وعيا هو نتيجة متأخرة نسبيا بالنسبة للعام المادي. وبما ان الوعي متصل بالمادة اتصالا تاما، فالإنسان يعيش في وسط تحيطه الأشياء المادية من كل صوب ، وعملية التفكير تتم من خلال تأثير الموجودات على الإنسان ، وحينما تكون هذه التأثيرات التي تنتقل إلى الدماغ مطابقة مع موضوعات العالم الخارجي عندئذ تكون الإحساسات صائبة. يقول انجلز: ان العالم المادي الملموس حسيا الذي ننتمي نحن إليه، هو الحقيقة الوحيدة ... ان وعينا وتفكيرنا، مهما قد يبدو من الحساسية القصوى، هو نتاج للمادة، العضو الجسدي، الدماغ. ان المادة ليست نتاجا للفكر بل ان الفكرة ذاتها ليست سوى اعلى نتاج للمادة . (33)

(وحيث ان المادة هي التي تحدد الوعي ، فان الماركسيين يرون ان المعرفة ينبغي ان ينظر إليها بنظرة واقعية تحترم الوقائع، فالذات العارفة لا تنتج الموضوع المعروف ،إنما الموضوع يوجد قائما بذاته ومستقلا عن الذات وما هي المعرفة اذن إلا نسخ أو انعكاس أو صور فوتوغرافية للمادة (34). يقول لينين: ان المادة هي تلك التي بعملها على أعضائنا الحسية تنتج الإحساس؛ المادة هي الحقيقة الموضوعية المعطاة لنا بالإحساس ... ان المادة، الطبيعة، الوجود، الجسم الطبيعي – هي الأساس، والروح، الوعي، الإحساس ، الكيان النفسي – هي الثانوية .(35)

أما العالم فانه لدى الماديون الجدليون قابل للمعرفة إلى اقصى حد ، وان منهج المعرفة الحقيقي للعالم يقوم بالعلوم الطبيعية، المستند إلى المعرفة الحسية، وان التفكير العقلي ضروري من اجل تنظيم معطيات التجربة. وان التقدم الحاصل في تلك العلوم يبرهن بشكل واضح على ضعف مواقف القائلين بعدم امكان المعرفة . (36)

ثانيا: المادية الجدلية
كشف (كانت) عن ضرورة تجاوز الفلسفة الدوغمائية (القطعية) التي تدعي البحث عن جواهر الأشياء ، في حين أن دور الفلسفة من وجهة نظره يجب أن تقتصر على البحث في الظاهرة . لذا يجب استبدال الفلسفة الدوغمائية بالفلسفة النقدية. لقد صرح كانت بان التناقض هو الجدار الذي كان يصطدم به كل من يبحث عن الجواهر. وبدل أن يوجه تفكيره نحو بناء منظومة فلسفية جديدة تدعي اكتشاف جوهر الحقيقة، فقد جعل من مسألة التناقض موضوعا مركزيا لبحثه الفلسفي، ذلك لان كانت ظل سجينا للمنطق الأرسطي الذي يعتقد بان التناقض مستحيل التحقق، ولأن جوهر الأشياء يقوم على التناقض ، فلذلك خلص كانت إلى هذه النتيجة: وهي استحالة إدراك جوهر الأشياء بواسطة العقل... فالعقل لن يؤدي إلا إلى اللامعقول. هكذا نقد هيجل الفلسفة الكانتية، إذا كان البحث عن جوهر الأشياء، يقودنا دائما، في نهاية المطاف ،إلى التناقض، فلماذا إذن يجب الاستنتاج من ذلك عجز العقل، بدل من التأكيد ببرود على الخلاصة التالية، وهي:

أن التناقض بالضبط، هو الجوهر النهائي للأشياء .

لقد ثمن ماركس تثمينا عاليا اكتشاف هيجل للجدل .والأساسي في ذلك الاكتشاف، هو موضوعية الجوهر الجدلي.. هو كون العلاقات التناقضية التي هي المحرك للصيرورة الجدلية، هي علاقات موضوعية. لكن العيب الحاسم في الجدل الهيجلي- من وجهة نظر ماركس- هو مثاليته. بمعنى أن العلاقات التناقضية الموضوعية ، تتم داخل الفكرة المطلقة. وما يريده ماركس إذن، هو إخراج الجدل من الفكر إلى الواقع، من مجال الفكر الخالص إلى مجال الواقع المادي، هو التأكيد على الطابع المادي الموضوعي للعلاقات الاجتماعية الواقعية، بمعنى أن العلاقات التناقضية الموضوعية أو أن الصيرورة الجدلية الموضوعية، يجب ألا تنطلق من الفكرة المطلقة وتتم داخلها، بل على العكس يجب أن تنطلق وتتحرك على أرض الواقع المادي والاجتماعي.(37) لم يتصور الماديون الجدليون سير التطور بشكل دائري ، بلهو تطور خطي طولي، ولذا ساد الاعتقاد بان سير التطور يفضي الى التقدم نحو الأفضل . غير ان ( الماركسيين يتصورون هذا التطور على هيئة سلسلة من الطفرات ، فحين تتراكم مجموعة من التغيرات الكمية الصغيرة في داخل وجود الشيء ، فانه ينتج عنها نوع من التوتر ومن الصراع، حتى لتصبح هذه العناصر في لحظة معينة قوية إلى درجة تجعلها قادرة على كسر التوازن السابق في وجود الشيء ، وفجأة تظهر كيفية جديدة ابتداء من تلك التغيرات الكمية المتراكمة. (38)

ان كل العملية التطورية تجري من دون سبب محدد سابق من قبل، وهي إنما تتم بسبب ضغط العوامل الداخلية، ان الماديين الجدليين يتصور العالم على هيئة صراعات وصدامات ، وهو يسير بلا غاية أو هدف ، وإنما يسير سيرا اعمى خاضعا لقوانينه الخاصة. (ولا يوجد شيء ثابت ، فالعالم كله وكافة عناصره فريسة للتطور الجدلي ، والقديم يموت وينشأ الجديد دائما وفي كل مكان، فليس هناك من جواهر دائمة ولا من مبادئ خالدة. الذي يبقى وحده خالدا في الحركة الكونية هو المادة، من حيث هي مادة وقوانين تحولاتها). (39)

ان القوانين التي تحكم هذا العالم قوانين حتمية، ولكن قد تتدخل أسباب خارجية قد تعرقل سير تلك القوانين ، واذا ارتفعنا إلى حركة الكون ككل نجد الماديين الجدليين يستبعدون تدخل أي نوع من أنواع المصادفة، فمجموع قوانين العالم تسيطر سيطرة كاملة ومن دون استثناء على مجموع صيرورة الكل.(40) وقد وضع انجلز هذه القوانين التي تعبر عن تطور المادة والقواعد التي يخضع لها هذا التطور ،وحددها في ثلاث قوانين أساسية هي باختصار: (41)

قانون وحدة الأضداد : وتقريره ان المادة تتحرك وتتطور اعتمادا على تناقضاتها ، التي تجعلها في صراع دائما. فتطور المادة لا يمكن تفسيره إلا على أساس افتراض وجود تناقضات خارجية بين الأشياء، وتناقضات داخلية في قلب الشيء الواحد، تمثل الحالات المختلفة لذلك الشيء في مراحل تطوره. فحركة المادة تتخذ أشكال متعددة، فيزيائية (حركة الذرات وأجزائها) ،وبيولوجية (الخلايا)، واجتماعية ( الصراع الطبقي).
قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية: ويقرر ان تطور المادة يتخذ شكل تراكمات كمية تنتقل في مرحلة معينة وبصورة فجائية فتصبح تغيرات كيفية، فالماء تحت تأثير الحرارة إلى درجة معينة يتحول إلى بخار ، وفي درجة حرارة أخرى إلى جليد، فبفعل التراكم الكمي لحرارة الماء، تتغير كيفية الأخير من حالة إلى حالة أخرى.
قانون نفي النفي: يقرر ان الشكل الجديد للشيء أو للمجتمع في مراحل تطورهما لا تعني نفيا تاما للشكل القديم ، بل ان كل جديد يتضمن القديم ، من حيث ان الشيء الجديد يحتوي القديم ثم يتخذ منه أساسا ينطلق منه إلى الشكل الجديد . وهذا النفي لا يكون خارجيا بل داخليا كون الظاهرة أو أي شيء يتضمن تناقضاته في داخله ، وهي التي تحمل شروط بقاءه أو زواله .
ثالثا: المادية التاريخية:
من البين أهمية توسيع مبادئ المادية الجدلية إلى ميدان دراسة الحياة الاجتماعية وتاريخ المجتمعات، وعظم أهمية تطبيق هذه المبادئ على تاريخ المجتمعات. واذا كانت الروابط بين الظواهر الطبيعية واعتمادها قوانين تطور الطبيعة، فذلك يؤدي أيضا إلى ان الترابط والاعتماد المتبادل لظواهر الحياة الاجتماعية هي قوانين تطور المجتمع وليست أشياء عرضية. وعليه فان الحياة الاجتماعية وتأريخ المجتمع ،لا يبقى مجموعة (أحداث طارئة) بل يصبح تأريخ تطور المجتمع وفقا لقوانين حتمية، وتصبح دراسة تاريخ المجتمع علما. ولهذا فان النشاطات العملية لحزب البروليتاريا يجب ألا تقوم على أساس الرغبات الطيبة (لأشخاص بارزين) ،ولا على ما يمليه (العقل) أو (الاخلاق السامية) الخ.. بل على قوانين تطور المجتمع وعلى دراسة هذه القوانين. ثم ، اذا كان العالم قابلا للمعرفة وكانت معرفتنا لقوانين تطور الطبيعة معرفة موثوقة، لها صحة الحقيقة الموضوعية، ينجم عن هذا ان الحياة الاجتماعية، وتطور المجتمع، هو الأخر قابل للمعرفة وان المعلومات العلمية بخصوص قوانين تطور المجتمع معلومات موثوقة، لها صحة الحقائق الموضوعية .وعليه يمكن ان يصبح علم تاريخ المجتمع، رغم تعقد ظواهر الحياة الاجتماعية، علما دقيقا لنقل مثل علم الأحياء، علما قادرا على الاستفادة من قوانين تطور المجتمع للأغراض العملية. (42)

اعتقد ماركس ان المادية التاريخية التي توصل اليها لتفسير التاريخ هي نظرية علمية لا تقل في دقتها عن النظريات العلمية المعروفة في مجال عالم الطبيعة. ويبدو ان الذي عزز لديه هذا الاعتقاد انه كان حريصا في بحثه على تطبيق المنهج العلمي عن طريق الملاحظة والاستنباط تماما كما فعل دارون حتى وصل إلى نظريته عن التطور البيولوجي.

يمثل التاريخ الإنساني عددا لا يحصى من الوقائع والأحداث والعلاقات والخاصيات، والسؤال المهم كيف يمكن الربط منطقيا وواقعيا بين كل تلك الجوانب اللامتناهية؟ ما هو جوهر التاريخ؟ ما هو محركه؟ . هذه الأسئلة أجاب عنها الكثير ، فقد أجاب هيجل انه الفكرة المطلقة، ورأى فيور باخ انه الإنسان الملموس، وقال فرويد الجنس، وذهب سارتر إلى انه المعنى الوجودي. وهكذا ظل كل فيلسوف يدلو بدلوه في هذا المجال. ان الطبيعة المشتركة لكل هؤلاء هي قلب العلاقات الواقعية، بمعنى أن الفيلسوف بدل أن ينطلق في تفسيره للتاريخ، من العلاقات الواقعية الأصلية، التي هي أساس كل شيء، فإنه بالعكس ينطلق من الظواهر.. التعبيرات.. التجليات.. الجوانب.. الفروع ، لتفسير التاريخ. إنه يريد أن يفسر الجوهر الأصلي بالتعبير المظهري لذلك الجوهر. والمطلوب التحرر من الوعي الايديولوجي المقلوب، والتي عبر عنها ماركس بالانتقال من دائرة الايديولوجيا إلى علم التاريخ أو المادية التاريخية ، بقوله: ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي ، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. لقد قرر ماركس ان العلاقات التناقضية على صعيد الإنتاج المادي هي المحرك الجوهري للتاريخ .(43)

فظروف الملكية أو النظام الاقتصادي بالتعبير الحديث هي التي تحدد مسار التاريخ، فالتاريخ في حقيقة الأمر هو صراع دائم حول الأمور الاقتصادية بين الطبقة المستفيدة من النظام، وتحاول الحفاظ عليه، وبين الطبقة المتضررة منه ، والتي تريد تغييره. وتبعا لذلك يكون التاريخ كله عبارة عن صراع بين الطبقات. (44)

وقد سار المجتمع الإنساني عبر تاريخه الطويل من خلال المراحل التالية: المجتمع البدائي، العبودية، الإقطاع ، الرأسمالية، الاشتراكية والشيوعية. وكل مرحلة تمثل تقدما بالمقارنة للمرحلة السابقة لها، وكل مرحلة تنتهي بثورة الطبقة المضطهدة والمتضررة. وعلى هذا تكونت الطبقة البرجوازية في ظل النظام الإقطاعي، وتكونت طبقة البروليتاريا في ظل النظام الرأسمالي. (45)

ويذهب الماركسيون إلى ان الصراع الطبقي في الدول الرأسمالية سيصل إلى ذروته بين الطبقة البرجوازية المستغلة والطبقة العاملة المستغلة، عندها يكون التناقض بين الطبقتين قد وصل إلى حد يكون فيه التغير الكيفي للأوضاع الاجتماعية امرأ حتميا على وفق قوانين المادية الجدلية، حينئذ تثور الطبقة العاملة ويكون النصر حليفها . (46)

عد ذلك يقيم العمال النظام الاشتراكي ودولته (دكتاتورية البروليتاريا) على انقاض دكتاتورية الرأسمالية ، (ويعلنون صراحة ان أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلا بدك كل النظام الاجتماعي القائم بالعنف).(47) ودولة البروليتاريا ما هي إلا مرحلة في طريق تحقيق المجتمع الشيوعي، وعند تحققه يكون المجتمع من دون طبقات . و)ما ان تختفي الفوارق وتزول خلال سير التطور، ويصبح كل الإنتاج متمركزا في أيدي جمعية واسعة تشمل الأمة باسرها ،حتى تفقد السلطة العامة صبغتها السياسية)(48) فتنتفي الحاجة لوجود السلطة، وتختفي وتزول.

المبحث الخامس: نقد المادية الجدلية
بعد هذه الجولة السريعة في الفلسفة المادية الجدلية ،يمكن ان نؤشر على بعض الإثارات النقدية الموجهة لها من دون الدخول في التفاصيل، لأنه سيخرجنا عن الاطار المحدد لهذا البحث، وهي باختصار شديد:

أولا: كل مشكلة موضوعية إنما يمكن اعتبارها علمية وحلها بطرق العلم التجريبي تتوقف سلفا على صدق التجربة العلمية وموضوعيتها، أما اذا طرحت نفس التجربة لبساط البحث وثار النقاش حول قيمتها الموضوعية، فلا مجال لإثبات ذلك بالرجوع إلى التجربة نفسها، فواقعية الحس والتجربة أذن هي الأساس الذي يتوقف عليه كيان جميع العلوم. فاذا درسنا المسألة دراسة فلسفية نجد ان الإحساس التجريبي لا يعدو كونه مجرد تصور، فمجموع التجارب مهما تنوعت إنما تمول الإنسان بإدراكات حسية ، وما دامت هي تصورات فلا يمكن ان تبرهن على الواقع الموضوعي ودحض المثالية. فيجب علينا ان ننطلق من المذهب العقلي لنشيد على أسسه المفهوم الواقعي للحس والتجربة، فمن خلال إيماننا بوجود مبادئ تصديقية ضرورية في العقل نتمكن من ان نثبت موضوعية أحاسيسنا وتجاربنا ، أما المادية الجدلية فلا يمكنها اتخاذ هذا الأسلوب، لأنها لا تؤمن بمثل هذه المبادئ من جهة ، ومن جهة أخرى فالديالكتيك يفسر تطورات المادة بتناقضاتها الداخلية، فليس الحوادث في تفسيره محتاجة إلى سبب خارجي ، وبالتالي يمكن ان تقول المثالية ما قاله الديالكتيك عن الطبيعة فتزعم ان هذه الظواهر في حدوثها وتعاقبها محكومة لقانون نقض النقض الذي يضع رصيد التغير في المحتوى الداخلي ،من هنا نعرف ان الديالكتيك لا يحجبنا عن السبب الخارج عن الطبيعة فقط ، بل يحجبنا عن الطبيعة بالذات وعن كل شيء خارج الشعور (49) ، وبالتالي نقع في المثالية التي سبق وان اعتنقها هيغل ورفضها ماركس .

ثانيا: في مجال نظرية المعرفة يقول الماديون الجدليون بنظريتين مختلفتين، فهم من ناحية يتبنون نظرية المذهب الواقعي الساذج التي تذهب إلى استقلال الموضوع عن الذات واعتبار المعرفة مجرد تصوير فوتوغرافي للشيء، ومن ناحية يربطون هذا التصور الواقعي بتصورات برغماتية تنبثق عن نظريتهم بان حاجاتنا الاقتصادية هي التي تحدد وعينا، ويترتب عليه ان لكل طبقة من طبقات المجتمع رؤيتها وفلسفتها الخاصة ، ولا مجال إلى القول بان هناك فلسفة مستقلة غير متحيزة . وهاتان النظريتان متجاورتان في الماركسية من دون محاولة جادة للتنسيق فيما بينها. وهنا تقع في التناقض فانه لو كانت الحقيقة تتحدد عن طريق الحاجات المادية فان المعرفة حينئذ لا يمكن ان تكون صورة فوتوغرافية عن الواقع، فالحاجات المادية متغيرة باستمرار الأمر الذي يجعل المعارف متغيرة فلا تكون صورة فوتوغرافية للأشياء الواقعية (50).

ثالثا: بالرغم من إصرار المادية الجدلية على الطابع العلمي لفلسفتها ورفضها أي لون من التفكير الميتافيزيقي، نجد إنها لا تتقيد بالحدود العلمية للبحث، ذلك ان الخبرة العلمية يجب ان تمارس مهمتها في الحقل العلمي ولا تتجاوزه، ومجال العلوم على اختلافها كما هو ثابت لا يخرج عن اطار الطبيعة، التي يمكن إخضاعها للتجربة والملاحظة الحسية ، فليس من صلاحيتها ان تتناول مسائل ما وراء الطبيعة بالبحث والحكم عليها بالنفي والإثبات، وبالرغم من ذلك نرى ان الفلسفة المادية الجدلية تتدخل في هذا اللون من القضايا وتجيب بالنفي على القضية القائلة بان للعالم مبدأ أول وراء الظواهر، الأمر الذي يجعلها في موقع المتمرد على الحدود التي وضعتها لنفسها (51).

رابعا: تقوم المادية الجدلية على أساس ان الطبيعة واقع موضوعي مادي يحكمه نظام آلي، ولكن هذا المفهوم لم يصمد للكشوفات العلمية الحديثة التي فرضت على العلماء ان يقلبوا نظرياتهم راسا على عقب، وتبين ان الحقل العلمي لا يزال في البداية، وكان من اهم هذه الاكتشافات التعرف على بنية الذرة، وإمكان انحلالها إلى مكونات غير مادية (كهربائية). فبينما كانت الذرة هي الوحدة المادية الأساسية التي تؤلف الطبيعية، أصبحت مركبة ومن أشياء غير مادية . وأيضا تغير مفهومنا عن الكتلة وثباتها، حيث بدت كتلة المادة نسبية تختلف باختلاف حركتها، حتى انه قد تتلاشى كتلة جسم ما حين تصل حركته إلى سرعة معينة متحولة بشكل كامل إلى طاقة. وهكذا بات جليا للفيزيائيين ان المادية قد ماتت وان المفهوم المادي للعالم يتعارض مع العلم والبراهين التجريبية (52).

خامسا: تقوم نظرية المعرفة لدى الماديين الجدليين على اعتبار الوعي صدى أو انعكاس للمادة القائمة في الخارج، وبالتالي تتجاهل دور الإنسان في عملية المعرفة، فأغفلت ما يسقطه الإنسان على الأشياء في معرفته لها من إضافات وفروض ، ثم دور التقييم واختيار الصالح أو المناسب منها. وهو امر غريب حتى بالنسبة لانصار المادية الجدلية، الذين عدوا الجدل أو الديالكتيك إنسانيا أولا واخرأ، الأمر الذي دفع البعض منهم – وخصوصا المعاصرين- إلى نبذ هذه النظرية (53).

سادسا: يبدو ان التناقض بين العقيدة والواقع ظاهر في جوانب من المادية الجدلية. فالعقيدة تعلن ان ديكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية مؤقتة، وما هي إلا مرحلة للوصول إلى الشيوعية التي تذوب فيها السلطة، وفقا لقوانين الديالكتيك القطعية، ولكن واقعها - دولة البروليتاريا- يكشف عن تركيز النشاطات الاقتصادية والثقافية تركيزا شديدا وتوطيد السلطة إلى حد يجعل نظرية زوال السلطة نسيا منسيا (53).

سابعا: ومن التناقضات التي وقع فيها انصار هذه الفلسفة انهم من جهة يدعون ان فلسفتهم فلسفة علمية، ومن ثم يجب ان تكون موضوعية ومحايدة وغير مؤدلجة، فيما نجد أنصارها في حقيقة الأمر ليسوا باحثين عن الحقيقة الموضوعية، وإنما مبشرين ومدافعين عن نظرية يفترض إنها علمية إلا إنها في حقيقة الأمر هي نظرية ذات طابع لاهوتي ، حيث يسترسل الفيلسوف والرياضي (رسل) في وضع قائمة لمفاهيمها في قبال مثيلاتها من المفاهيم اللاهوتية المعروفة مثل: (ماركس، عامة الشعب، الثورة، عقاب الرأسمالية ،الدولة الشيوعية..)، وهي على التوالي (المسيح، الأخيار ، الظهور الثاني، جهنم، النعيم الموعود)... (54).

الخاتمة:
في ختام هذا البحث في الفلسفة المادية عبر مراحل تطور الفكر الإنساني ، وصولا إلى المادية الجدلية يمكن ان نؤشر على مجموعة من النقاط الجديرة بالاهتمام ، منها:

ظهر المذهب المادي في مراحل التفكير الفلسفي الأولى ، فقد برز بشكل واضح لدى هيرقليطس، الذي ذهب إلى ان مبدأ الخلق ومنتهاه المادة، وهو النار. أما بروتاجوراس فوجد ان معيار الحقيقة هو الإحساس ، وهكذا بدت المادة هي كل ما ينطوي عليه الوجود .فيما ارجع ديمقريطس مجمل الوجود إلى الذرات ، بما فيه الالهة والنفس. ولم يأتي ابيقور بأكثر من إرجاع العالم إلى الذرات ورد المعرفة إلى الحس.
أما في العصر الحديث فقد طغت النظرة الألية عن الطبيعة وتطورها ، وخصوصا عند ديكارت ، كما ان رؤاه الخاصة بعلم النفس ، كانت مثار اهتمام الماديين فيما بعد، إلا انه لم يتخلى عن التفسير الثنائي، الذي كان محط انتقاد سبينوزا النازع إلى الوحدة، ومن ثم اقر بان إرادة الله وقوانين الطبيعة ما هي إلا شيء واحد .
على حين كشف (كانت) عن ضرورة مغادرة البحث في الجواهر، الذي يفضي دائما إلى التناقض، الأمر الذي انتهى إليه هيجل في تفسيره للوجود وتطوره، حسب المنطق الجدلي الديالكتيكي، لكنه ظل سجين الرؤية المثالية، ما دفع الفيلسوف المادي فيور باخ إلى رفضها.
لكن المادية بعثت من جديد في هذا العصر لدى علماء الطبيعة أمثال لامارك ودارون وديدرو وهلباخ وغيرهم، وكانت النتائج التي توصل إليها دارون قد فسرت تطور الكائنات وفقا لمبدأ الانتخاب الطبيعي، ورفضت التفسير الغائي لتطور الطبيعة وجميع الظواهر والمسببات خارج إطارها. للمزيد تابع : anchored text



#محمد_علي_الحكيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حجم ثروتنا النفطية!!!


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد علي الحكيم - المادية الجدلية بين العلم و الفلسفة