أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محفوظ مصطفى عبد الكريم - الاتجاه النسوي في فلسفة العلم وإعادة قراءة تاريخ العلم















المزيد.....



الاتجاه النسوي في فلسفة العلم وإعادة قراءة تاريخ العلم


محفوظ مصطفى عبد الكريم

الحوار المتمدن-العدد: 6435 - 2019 / 12 / 12 - 00:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة
تزايد الاهتمام بالفلسفة النسوية في الثلث الأخير من القرن العشرين عبر الدوائر الأكاديمية الغربية، لما تثيره هذه الفلسفة من إشكاليات فلسفية ومعرفية جديدة لم تكن مطروحة من قبل لا في الفلسفة بوجه عام ولا في العلم بوجه خاص، وأصبح للمرأة، بفضل هذه الفلسفة، رؤية فلسفية بلورتها بعض المنظرات النسويات على شكل نسق أو مذهب أو نظرية عرفت باسم "المذهب النسوي Feminism، الذي انحصرت مهمته المعرفية والمنهجية في هاتين النقطتين.

الأولى: إعادة قراءة تاريخ الفلسفة بوجه عام، وتاريخ العلم بوجه خاص، واستجوابهما لمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع المتدني للمرأة داخل الفكر الغربي، وسيادة النظرة الذكورية في الكثير من الإدعاءات الفلسفية، وكشف النقاب عن النساء الفلاسفة اللاتي عالجن مشكلات فلسفية وقدمن تفسيرات بديلة للعديد من الرؤى الفلسفية التي سادت تاريخ الفلسفة، باختصار حاولت الفلسفة النسوية أن تلقي الضوء على التاريخ المستبعد في الفلسفة والعلم نتيجة التحيز الذكوري.

الثانية: تقديم نظريات ورؤى فلسفية خالصة تعكس خبرة فلسفية نسائية مختلفة عن خبرة الرجل الفلسفية. ([1])

إذن طالبت الفلسفة النسوية بضرورة إعادة النظر والمراجعة للأفكار والتصورات والمفاهيم العلمية الثابتة والنظريات التقليدية في شتي ضروب المعرفة وزعزعة المثل الجامدة المهيمنة على تاريخ العلم بوجه خاص، تلك المثل التي تمجد الرجل بوصفه المبدع الواحد والوحيد لتاريخ الفلسفة والعلم والقادر على فتح آفاق جديدة لهما في المستقبل. لهذا حاول هذا البحث أن يلقي الضوء على الفلسفة النسوية وتطورها في الفكر الغربي محاولاً إبراز مساهمة هذه الفلسفة في الإبستمولوجيا العلمية من خلال القراءة النسوية لتاريخ وفلسفة العلم.


لهذا تناول البحث هذه العناصر الآتية:

1- تعريف الفلسفة النسوية وأصولها الفلسفية.

أولاً: جون ستيوارت مل وبديات الفلسفة النسوية.

ثانياً: سيمون دي بوفوار ونبذ فكرة المرأة/ الآخر.

2- الاتجاه النسوي في فلسفة العلم.

أولاً: الإبستمولوجيا النسوية.

ثانياً: نقد الاتجاه النسوي للموضوعية العلمية.

2- الاتجاه النسوي وإعادة قراءة تاريخ العلم.

أولاً: نقد التوظيف الإيديولوجي للعلم الغربي.

ثانياً: السيطرة على الطبيعة/ المرأة.

نقد الاتجاه النسوي للعلم الغربي.



1- تعريف الفلسفة النسوية وأصولها الفلسفية..
ظهرت الفلسفة النسوية" Feminist Philosophy في فترة السبعينيات من القرن العشرين، وكان المقصود بها كما جاء تعريفها في قاموس كامبردج للفلسفة" هي تلك الفلسفة الرافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل، دون خبرة المرأة، لهذا رفضت الفلسفة النسوية وجهات النظر التقليدية في الفلسفة التي استخفت بالمرأة واهتماماتها وموضوعاتها، وفشلت في معرفة طرق المرأة المختلفة في الوجود والفكر" ([2]) الفلسفة النسوية إذن تعكس خبرة المرأة الفلسفية تجاه موضوعات وقضايا ومشكلات فلسفية، مثلما نتحدث عن فلسفة ذكورية تعكس خبرة الرجل الفلسفية تجاه موضوعات وقضايا ومشكلات فلسفية، إلا أن المشكل هو أن الفلسفة الذكورية تلك عبرت عن نفسها بوصفها الفلسفة الوحيدة التي تعبر عن البشرية جمعاء" ([3]) وتهدف إلى البحث عن الطرق الصريحة والخفية التي أدت إلى هذا الوضع المتردي للمرأة في شتي ضروب الفكر الفلسفي، والذي أدى إلى هذا التحيز الصريح للرجل داخل الفلسفة وهيمنة مثل ومفاهيم ونظريات ثابتة من وضع الرجل/ الفيلسوف ذاته، لهذا حاولت الفلسفة النسوية استعادة الدور المتجاهل للمرأة الفيلسوفة داخل تاريخ الفلسفة. ([4]) وانتقاد الذم الصريح للمرأة في أعمال العديد من الفلاسفة الذين تشككوا في قدرة المرأة على التفكير الفلسفي واختلافها اختلافاً جذرياً، في قدرتها على التعقل والتفلسف، عن الرجل، فضلاً على توجيه الفلسفة النسوية انتقاداتها لمجمل النظريات الأخلاقية والسياسية الفلسفية وتطبيقاتها في الواقع المعاش، تلك النظريات التي تتعامل مع المرأة على أنها أداة أو وسيلة لاهتمامات الرجل أو المؤسسات القائمة على الرجل مثل الأسرة والدولة. ([5]) لهذا تطمح الفلسفة النسوية إعادة النظر في هذا الاستخفاف الفلسفي للعديد من الموضوعات والقضايا التي تهتم بشكل خاص بالمرأة، ومناقشة هذا الوضع المهمش لها داخل العديد من الاتجاهات والمدارس الفلسفية على مدى تاريخ الفلسفة الطويل.

وعلي الرغم من أن الفلسفة النسوية مازالت في مراحلها التكوينية الأولى، إلا أن التقدم الذي تحقق في العديد من فروعها يكشف مدى تغلغل هذه الفلسفة انتشارها داخل الأوساط الثقافية والأكاديمية بفضل تبني هذه الفلسفة لمنهج نقدي تحليلي صارم، بالإضافة إلى المنهج التاريخي الذي يكشف التوظيف الأيديولوجي الذي تمارسه الفلسفات الغربية، على اختلافها، ضد المرأة، ويمكن أن نميز داخل الفلسفة النسوية تيارين رئيسيين هما: التيار الفلسفي النسوي الليبرالي الذي يشدد على ضرورة المساواة في فرص العمل وحقوق الأفراد سواء كانوا ذكوراً أم إناثاً. والتيار الفلسفي النسوي الراديكالي الذي يدعي أن البنيات الاجتماعية كالعلم واللغة والتاريخ هي بنيات متحيزة للذكر ويجب إعادة النظر في هذه البنيات وفقاً لوجهة نظر المرأة.

ويمكن أن نحدد الأصول الفلسفية التي شكلت الفلسفة النسوية المعاصرة من خلال التطورات التاريخية التي مرت بها هذه الفلسفة والتي يمكن حصرها في ثلاث مراحل رئيسية هي:

المرحلة الأولى: والتي يؤرخ لها من منتصف القرن التاسع عشر وحتى فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، وهي الفترة التي ساهم فيها الفيلسوف الإنجليزي التجريبي الليبرالي جون ستيوارت مل حيث وضع اللبنة الفلسفية الأولى لهذه الفلسفة.

المرحلة الثانية: والتي يؤرخ لها من فترة الأربعينيات وحتى فترة السبعينيات من القرن العشرين، وهي تلك الفترة التي شهدت أعمال الفيلسوفة الوجودية ذائعة الصيت سيمون دي بوفوار.

المرحلة الثالثة: والتي يؤرخ لها من أواخر سبعينيات القرن العشرين وحتى وقتنا الراهن، حيث يمثل هذه المرحلة مؤرخات ومنظرات ينتمين إلى الاتجاهات الفلسفية النسوية المختلفة. حيث أثرن عدة إشكاليات فلسفية ومعرفية لم تكن مطروحة من قبل في الفلسفة. وأعدن مراجعة النظريات الفلسفية والمعرفية التي تتجاهل المرأة ([6])

وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك إرهاصات تهتم بالمرأة وقضاياها قبل منتصف القرن التاسع عشر، يل كان ثمة العديد من المناقشات التي طرحت قضية المرأة قبل هذا القرن، إلا أنها كانت مغلفة بإطار لاهوتي حيناً واجتماعي حيناً آخر ([7])

أولاً: جون ستيو ارتمل وبدايات الفلسفة النسوية...
لقد كانت أحد الإشكاليات الهامة التي أثارت فكر وفلسفة جون ستيورات مل. Mill S. J

(1806- 1873) إشكالية الحرية والحقوق الفردية والاجتماعية والسياسية، حيث كرس جهوده للدفاع عن الحرية الفردية وخاصة حرية المرأة، مما جعل جون ستيوارت مل من المفكرين والفلاسفة البارزين الذين أرسوا أركان الفكر الليبرالي في القرن التاسع عشر، ولعل كتابه "استعباد النساء" الذي نشر عام 1869 أحد الإسهامات الشاهدة على حقبة تاريخية ازداد فيها الاهتمام بضرورة تحرير المرأة كفرد والبحث عن حقوقها المهملة والمهمشة، كحقها في التعليم والعمل والتصويت الانتخابي والمساواة والملكية الخاصة وغيرها من الحقوق التي تم قصرها على الرجال وحدهم دون النساء.

يبدأ جون ستيوارت مل كتابه بتقدير مبدأ هام هو مبدأ المساواة الذي لا يسمح بوجود سلطة أو ميزة في جانب وعجز وعدم أهلية في جانب آخر ([8]) وينتقد بشدة أولئك الذين يؤكدون عدم المساواة بين الرجال والنساء مؤكداً:

1- أن مبدأ عدم المساواة مبدأ نظري فقط، حيث لا توجد تجربة تؤيد نظام الحكم الذكوري التي تخضع له المرأة، ولا توجد تجربة أيضاً تفند نظام الحكم القائم على المرأة.

2- أن هذا المبدأ لم ينشأ عن تفكير منطقي منظم، أو كان نتيجة لإلحاح اجتماعي يبغي الصالح العام، بل تكون هذا المبدأ وتطور منذ الخيوط الأولى لفجر المجتمع البشري، حيث وجدت المرأة ذاتها في حالة عبودية للرجل، هذه السيطرة ينظمها قانون سياسي يرفع شعار "البقاء للقوي" أي للرجل الذي يرغب في التسلط وممارسة القوة على المرأة باعتبارها عبداً أو جارية، واستخدام كل الوسائل الممكنة لاستعباد عقلها وجعلها في حالة خضوع سياسي واجتماعي للرجل.

لهذا يطالب جون ستيوارت مل بضرورة إعادة النظر في قضية المرأة ومراجعة الحكم الذي صدر في هذه القضية مقدماً عن طريق الواقع القائم والرأي العام السائد، ذلك أن تقدم أي مجتمع بشري يعتمد على تحسين وضع المرأة فيه، فقد ذهب المؤرخون والفلاسفة، على حد تعبير جون ستيوارت مل، إلى أن ارتفاع النساء أو انحطاطهن في مجمله، هو المعيار المؤكد والمقياس الصحيح للحكم على شعب ما أو عصر بالتحضر أو التمدن. ([9])

إن المساواة التي ينادي بها جون ستيوارت مل هي طريق السعادة والوسيلة الوحيدة لجعل الحياة اليومية للجنس البشري مدرسة للتهذيب الأخلاقي بالمعني السامي لهذه الكلمة، لهذا اكد جون ستيوارت مل على أخلاق العدالة التي تنحو نحو المساواة بين الرجل والمرأة بحيث لا تكون هناك سلطة في جانب الرجل وطاعة في جانب آخر المرأة، هذه المساواة تتحقق في هذه الحقوق الثلاثة:

حق المرأة في الملكية الخاصة.
حق المرأة في العمل في جميع الوظائف والمهن التي ظلت حكراً على الرجال.
حق المرأة في الاقتراع والتصويت في الانتخابات البرلمانية والبلدية.
يتضح لنا أن بديات الفلسفة النسوية، والتي عبر عنها الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل في منتصف القرن التاسع عشر، دارت في إطار تحرير المرأة اجتماعياً وسياسياً عن طريق البحث عن حقوقها المدنية والتأكيد على مبدأ المساواة بينهما وبين الرجل، إلا أن هذه البدايات لم ترتقي إلى مستوي التنظير الفلسفي والمنهجي الدقيق ولعل ما قامت به الفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار في الأربعينيات من القرن العشرين عندما أعادت طرح قضية المرأة برؤية الفيلسوفة المعبرة عن هموم عصرها، كان بمثابة خطوة ثانية لتوطيد أركان الفلسفة النسوية والتنظير الفلسفي لها.

ثانياً: سيمون دي بوفوار ونبذ فكرة المرأة/ الآخر.
تعد سيمون دي بوفوار (1986- 1908) Beauvoir. S.De أحد رائدات الفلسفة النسوية في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث صدر عام 1949 كتابها ذائع الصيت "الجنس الآخر "Le Deuxieme Sexe أو الجنس الثاني"

"The Second Sex الذي يعد علامة مميزة ونقلة نوعية تركت بصماتها الواضحة على الفكر النسوي المعاصر، حيث تكمن أهمية الكتاب في النظر إلى قضية المرأة نظرة فلسفية وجودية، أي أصبحت المرأة إشكالية فلسفية في حاجة إلى طرح فلسفي، فاستقت سيمون دي بوفوار الرؤية الفلسفية اللازمة لهذا الطرح من أعمال جان بول سارتر (1980- 1905) Sarter. J وخاصة عمله الضخم "الوجود والعدم" الذي نشر في عام 1943، فقد سارت سيمون دي بوفوار على خطي سارتر الفلسفية ومفاهيمه الوجودية عند طرحها لإشكالية المرأة.

لقد كان كتاب سيمون دي بوفوار "الجنس الثاني" بمثابة نص تعريفي لما آلت إليه الفلسفة النسوية في مرحلتها التطورية الثانية، والتي امتدت، كما أشرنا، في الفترة ما بين أواخر الثلاثينيات وحتى أواخر السبعينيات من القرن العشرين، فأصبح الكتاب، فضلاً عن أنه عمل نسوي، عملاً فلسفياً أيضا. فقد شرعت سيمون دي بوفوار في كتابها وصف حالة المرأة بوجه عام والأوضاع التي آلت إليها بعد الأساطير التي روجها الرجل من خلال علوم الكونيات (الكوزمولوجيا) والعقائد والخرافات والأيديولوجيات والآداب، فقد حاولت أن تبحث عن مكمن الداء فوجدته يكمن في أن الرجل يتم النظر إليه بوصفه ذاتاً Subject في حين ينظر إلى المرأة على أنها موضوع Object أو آخر The other ([10]).

لقد كشفت سيمون دي بوفوار عن كم الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية والنفسية التي تتآمر على المرأة وتجعلها في منزلة متدنية داخل الفكر الغربي، تقول سيمون دي بوفوار" إن المرأة كانت دائماً في حالة تبعية للرجل، أو جارية له، ولم تشارك الرجل هذا العالم بالتساوي، وذلك بسبب تجاهل الرجل الدائم للمرأة" ([11]) إن المرأة داخل منظومة الفكر الغربي، قد أصبحت ببساطة، ما يقرره الرجل، فهي تسمي الجنس، بمعني أنها تبدو للرجل على أنها موجود جنسي Sexual being إنها بمثابة جنس مطلق لا غير، في حين أن الرجل هو الذات، أما المرأة فهي الآخر" ([12]) ذلك أن الرجل بوصفه الموجود الإنساني الحقيقي يهدف إلى السيطرة على الآخر، الذي يتميز، فيما تقول سيمون دي بوفوار بثلاث خصائص رئيسية هي: أن هذا الآخر له وجود منفصل، إنه العدو، وغير جوهري، ويجعله موضوعاً له أو شيئاً تمهيداً للسيطرة عليه وامتلاكه، أي امتلاك حريته، فإذا كان الموجود الإنساني الحق لا يجد ذاته إلا في ممارسة الحرية، وعندما أعتبر المرأة هي الآخر، وأعتبرها موضوعاً وليست ذاتاً، فإنني أسلب منها حريتها، أي أسلب وجودها ذاته، تقول سيمون دي بوفوار "إن المرأة تعيش في عالم يفرض الرجل عليها أن تكون الآخر أو الموضوع الذي لا يمكن أن تتجاوزه لكي تصبح ذاتاً أو وعياً فردياً، إن مأساة المرأة تكمن في هذا الصراع بين الطموحات الجوهرية لها بوصفها ذاتاً أو أنا، وشتي صنوف الإكراه والإجبار التي يمارسها عليها الرجل لتصبح مجرد شيء أو موضوع" ([13]) لهذا اعتبرت سيمون دي بوفوار أن تاريخ المرأة صناعة ذكورية، أو بعبارة أخرى أن المرأة لم تولد امرأة بل تم صناعتها بأيدي الرجال، ولكي تتجاوز المرأة هذا الوضع عليها أن تعلو وتتجاوز هذا الوضع المعطي للمرأة من قبل الرجل وتصبح ذاتاً ووعياً، أي أن تخلق ذاتها بذاتها لأن الموجود الإنساني الحر هو الذي يخلق ذاته وأفعاله، ولكن كيف يتم ذلك؟

أعادت سيمون دي بوفوار النظر في التاريخ بوجه عام وتاريخ الفلسفة بوجه خاص وانتهت إلى أن المرأة كانت تعامل على أنها الآخر في كل العصور والأزمان، ففي عصور ما قبل التاريخ ذكرت سيمون دي بوفوار ثلاثة أسباب لسيطرة الرجال على النساء:

أن النساء قد حملن عبء التناسل أو التكاثر مما أدى إلى اعتمادهن على الرجال في الحماية والطعام.
أن الأعمال المنزلية كانت من نصيب المرأة مما جعلها تعيش في حالة تكرار وروتين مملين.
أن الرجل البدائي كان دائم العيش في خطر حتى يوفر الطعام سواء كان هذا الخطر مصدره من الحيوانات أم من الآخرين، مما أعطى للرجل مكانة عالية ومنزلة سامية. ([14])
ولم يختلف الوضع في العصور الحديثة عنه في العصور القديمة أو ما قبل التاريخ حيث ساد الاعتقاد أن الرجل يتميز عن المرأة شكلاً وموضوعاً، ويمثل بالنسبة لها المرجعية الأساسية، في حين أن المرأة لا تمثل نفس المرجعية بالنسبة للرجل لأنه هو الذات والمطلق لهذا تنتهي سيمون دي بوفوار في الجزء الثاني من كتابها إلى ضرورة تحرير المرأة الذي يتم عن طريق:

التخلي عن أسطورة الأنوثة.
التخلي عن القدر الذي فرضه الرجل عليها وهو الزواج، لأنه يمثل أكبر كارثة للمرأة.
التخلي عن دور المرأة كأم.
كل هذه الأدوار "الأنوثة" و "الزواج" و "الأمومة" تعمل على تموضع المرأة، أي جعلها موضوعاً لاهتمامات وسلب الرجل" ([15])

لقد كانت سيمون دي بوفوار من أوائل الفيلسوفات الفرنسيات اللاتي اقتحمن مجال الفلسفة النسوية وحركة تحرير المرأة الغربية، حيث وجهت رسالة فلسفية وجودية إلى الرجل والمرأة على حد سواء، كاشفة عن تاريخ اضطهاد المرأة وأساليب تحررها بوصفها موجوداً إنسانياً حراً خالق لوعيه ولذاته وأفعاله، إلا أن هذه المحاولة كان يشوبها الكثير من النواقص التي تجاوزتها الاتجاهات النسوية المعاصرة في الفلسفة، حيث كانت لديهم مهمة محددة تكمن في تقديم رؤية فلسفية نسوية جديدة ومختلفة عن الرؤى الفلسفية الذكورية. فلم يعد يشغل الاتجاهات النسوية المعاصرة في الفلسفة حقوق المرأة وتحررها من قيود الرجل، بل أصبح جل اهتمامها تقديم فلسفة نسوية مختلفة، هذه المهمة تتضح في فلسفة العلم النسوية التي عالجت إشكالية دور المرأة في هيكلة المعرفة العلمية عبر تاريخ العلم من ناحية، ودورها في المشاركة الإيجابية في الطرح الإبستمولوجي المستقبلي من ناحية أخرى.

2-الاتجاه النسوي في فلسفة العلم...
إذا كان مجال البحث هذا ينصب على الاتجاه النسوي في فلسفة العلم وإعادة قراءته لتاريخ العلم والإبستمولوجيا، فلابد من الإشارة إلى أن طرح هذا الموضوع في فلسفة العلم قد يبدو غريباً لأول وهلة، ولكن لا يمكن أن نتخذ من هذه الغرابة أو عدم ألفتنا ببعض المفاهيم والتصورات الإبستمولوجية التي ترد في ثنايا معالجة الاتجاه النسوي لبعض الإشكاليات الإبستمولوجية، ذريعة لرفض هذه الأفكار جملة وتفصيلاً، وعدم الدخول في حوار معها ومناقشتها مناقشة تحليلية نقدية، لهذا لا يمكن أن نتجاهل أو نغفل العديد من المؤلفات والأبحاث والمفاهيم التي تعكس وجهة النظر النسوية في الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم، فقد وقف الاتجاه النسوي في فلسفة العلم ضد المقولات التي تذهب إلى أن المرأة ليس لديها القدرة على تقديم مفاهيم وتصورات وأحكام علمية دقيقة، بحجة أن المرأة لا تقدر على الفصل بين ما هو ذاتي وموضوعي، كما أنها عاجزة أن تكون موضوعية وبالتالي فهي غير قادرة على الاستنتاج العقلي السليم لأنها تعتمد على العاطفة والانفعال لهذا وجه الاتجاه النسوي في فلسفة العلم عدة انتقادات لهذه المقولات وقدم بدائل إبستمولوجية نسوية تعكس وجهة نظر المرأة في سياسة وممارسة العلم.

وقد بدأ الاتجاه النسوي في فلسفة العلم في الظهور في فترة السبعينيات من القرن العشرين وأتسع نطاقه في فترة الثمانينيات من نفس القرن، وقد جاء هذا الانتشار نتيجة لطرح إشكاليات معرفية لم تكن مطروحة من قبل في فلسفة العلم، هذه الإشكاليات دارت حول هدف ومضمون العلم ودور المرأة وفاعليتها في العلم وتاريخه وفلسفته، وما إذا كان الاتجاه النسوي لديه القدرة على تحقيق ثورة مفاهيمية داخل العلم ذاته؟ وهل يمكن إعادة قراءة تاريخ العلم من أجل زعزعة الوضع القائم في الإبستمولوجيا العلمية الغربية التي تستند في مجملها على التصور الذكوري للعلم والمعرفة العلمية، وبالتالي يتم حجب المرأة عن المساهمة في هذا المجال نتيجة المحاباة الفجة للرجل داخل منظومة المشروع الثقافي الغربي؟ ([16]) وهل يمكن السؤال عن علم نسوي؟ وأن يكون هناك منهجاً علمياً نسوياً؟ وهل المرأة تمارس العلم بطريقة مختلفة عن الرجل؟ وهل يمكن أن نعد العلم القائم على التفرقة الجنسية علماً يعتد به؟ لهذا قدم الاتجاه السنوي في فلسفة العلم عدة تحليلات لتاريخ العلم وأعاد النظر في عدة مفاهيم علمية أهمها الموضوعية والعقلانية ووضع إستراتيجيات نسوية تطالب بسيادة ما يسمي بديمقراطية العلم، وقد ارتبطت هذه الدراسات النسوية المعالجة لهذه الموضوعات بالحركات المناهضة للتفرقة العنصرية التي ترتبط بالنظم الاستعمارية والإمبريالية التي تعمل على توظيف العلم توظيفاً أيديولوجياً مغرضاً وخاصة في مجالات الصحة، لهذا حاول هذا البحث أن يناقش الإسهامات النسوية في فلسفة العلم، محاولاً كشف الخلفيات والركائز المنهجية التي أستند عليها هذا الاتجاه، ومدى النجاح الذي حققه في فلسفة العلم يجعله في مصاف الإسهامات المتميزة والمؤثرة التي قدمها فلاسفة العلم ما بعد الوضعيين في فلسفة وتاريخ العلم.

أولاً: الإبستمولوجيا النسوية...
استخدم الاتجاه النسوي في فلسفة العلم مصطلح "الإبستمولوجيا" للإشارة إلى سبل المرأة وخبرتها في المعرفة العلمية، أو بعبارة أخرى استخدم هذا الاتجاه مصطلح الإبستمولوجيا للإشارة إلى نظرية المعرفة العلمية التي تجعل المرأة محورها، لهذا أعاد الاتجاه النسوي في فلسفة العلم النظر في الإبستمولوجيا التقليدية، وتشكك في المضمون المعرفي التقليدي للطبيعة، والحدود التقليدية للمعرفة، هذا المضمون الذي تجاهل السياق الاجتماعي والسياسي للذات العارفة في إنتاج المعرفة العلمية ذاتها. ([17]) حيث وضع الاتجاه النسوي في فلسفة العلم أثر القيم والاهتمامات الثقافية والاجتماعية في عملية المعرفة، أي ارتباط المعرفة العلمية بالمحيط الثقافي والاجتماعي التي تنشأ فيه، وهي الفكرة التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين حيث ساهم بعض فلاسفة العلم المعاصرين أمثال توماس كون (1992-1922) Kuhn. T وبول فييرآبند Feyerabend.p (1994-1924) ونورود راسل هانسون Hanson. N. R (1967-1924) في توطيد دعائم الإبستمولوجيا العلمية ونبذ الفكر الإبستمولوجي الوضعي التجريبي، الذي ذهب إلى أن المعرفة العلمية الجديرة بهذه الصفة (العلمية) تستمد من الوقائع التي تمدنا بها الملاحظة والتجربة، فلا مكان في العلم للآراء الشخصية والأذواق وتأملات الخيال، لأن العلم موضوعي ([18]) نقول إنه بفضل هؤلاء الفلاسفة الإبستمولوجيين أصبحت الملاحظة، التي كانت أساس العلم التجريبي التقليدي ومصدر اليقين الموضوعي، نظرية- محملة Laden- Theory بمجموعة من الافتراضات المسبقة والاعتقادات والآراء والخلفيات الثقافية والأيديولوجية التي تجعل الملاحظة مختلفة من ملاحظ إلى آخر.

إن وضع القيم والاتجاهات الثقافية والاجتماعية في الاعتبار وبيان مدى تأثير هذه القيم على الخطاب العلمي السائد، جعل الاتجاه النسوي في فلسفة العلم يحاول أن يجد مكاناً للذات المعرفية الأنثوية داخل منظومة الممارسات العلمية السائدة، وذلك عن طريق كشف التحيز الثقافي والاجتماعي والعلمي للذكر وعلاقته بعملية التبرير العلمي، حيث تسعي المؤسسات العلمية والاجتماعية في المجتمع العلمي إلى التبرير العلمي وفرض التسلسل الهرمي للوضع العلمي القائم الذي يبرز قيم واهتمامات الرجل الإبستمولوجية، ويتجاهل القيم والاهتمامات الإبستمولوجية للمرأة. ([19]) لهذا دعت فلسفة العلم النسوية إلى ضرورة وضع إستراتيجية إبستمولوجية تعمل على إزالة هذا التشويه الذي يسمح فقط بالقيم والاهتمامات الإبستمولوجية الذكورية داخل المنظومة المعرفية العلمية، دون أدنى اعتبار لقيم واتجاهات واهتمامات أنثوية توجد جنباً إلى جنب مع قيم واهتمامات ذكورية، هذه الإستراتيجية الإبستمولوجية يمكن تلخيصها في هذه النقاط التالية:

وضع إطار إبستمولوجي جديد من خارج الأطر المفاهيمية والتصورية للمؤسسات العلمية والاجتماعية القائمة التي تعمل على تشويه البحث بعرض وجهة نظر واحدة ووحيدة هي وجهة نظر الرجل.
وضع إبستمولوجيا أو فلسفة علم تنطلق من اعتبار أن المرأة كمقولة معرفية، متغايرة من حيث الأفكار والتصورات والمناهج، وطرح التساؤلات والإشكاليات الفلسفية والعلمية عن الرجل كمقولة معرفية.
وضع منهج علمي يضع في الاعتبار خبرة المرأة في القدرة على الكشف.. ([20]) لقد انطلقت الإبستمولوجيا النسوية من فكرة جوهرية وهي أن هناك تصورات ومفاهيم وممارسات معرفية سادت تاريخ العلم عملت على إعاقة المرأة، بوصفها ذاتاً عارفة ومتميزة ومختلفة، عن تقديم تصورات ومفاهيم وممارسات معرفية نسوية، من بين هذه التصورات والمفاهيم مفهومي العقلانية والموضوعية. فقد كانت إعادة قراءة تاريخ العلم من قبل فلاسفة العلم المعاصرين الحافز للاتجاه النسوي على مراجعة هذين المفهومين باعتبارهما المسئولين عن سيادة النظرة الذكورية في تاريخ العلم، حيث تم توظيف العقلانية والموضوعية توظيفاً أيديولوجيا لتدعيم هذه النظرة.
ثانياً: نقد الاتجاه النسوي للموضوعية العلمية..
إن النظر إلى العلم بوصفه قصة من التناسق والدقة والصرامة المنهجية والموضوعية، لم يعد له وجداً الآن في ظل التطورات والتحولات والانقلابات الجذرية التي حدثت في فلسفة وتاريخ وسوسيولوجيا العلم، كما تم رفض الموضوعية بمعناها الكلاسيكي الذي يعني إدراك الأشياء الموجودة في العالم الخارجي على ما هي عليه دون تدخل الذات بأهوائها ومصالحها وتحيزاتها وخلفياتها المعرفية والأيديولوجية. لقد آمنت الفيزياء الكلاسيكية بالموضوعية كأساس للعلم المتقدم، وكان المقصود بها في إطار هذه الفيزياء، استطاعة العلم دراسة الظواهر الطبيعية باعتبارها أجساما، دون أن يكون هناك أدني علاقة أو ارتباط بالعالم الملاحظ أو المجرب ذاته، أو بالمنهج الذي أتبعه في دراسة هذه الظاهرة أو تلك من ظواهر الطبيعة. فالظاهرة الطبيعية المدروسة توجد مستقلة عن الذات التي تدركها أو تلاحظها، مما أدى إلى نفي الذاتية في الفيزياء الكلاسيكية. ([21]) فلإنسان في هذه الفيزياء الكلاسيكية، يقف موقف المشاهد المحايد إزاء العالم الخارجي، حتى تكون نتائجه موضوعية. أي مطلقة ونهائية وضرورية.

إلا أن الموضوعية مع ثورة العلم المعاصرة، ثورة النسبية والكم، واكتشاف أسرار الذرة والجينات والحاسوب، لم تعد قائمة على وصف الظاهرة كما هي معطاة في الطبيعة، بل صارت تركيباً جديداً بين الظاهرة الطبيعية والعالم أو الملاحظ الذي يشاهدها. فالملاحظ Observer في نظرية النسبية والكم لم يعد مشاهداً فقط بل أصبح مشاركاً، لهذا انهارت المطلقات الإبستمولوجية النيوتنية الميكانيكية التي استبعدت الذات نهائياً، ولم تعطي لها أي دور في تشييد المعرفة العلمية، وقد حاول الاتجاه النسوي في فلسفة العلم أن يراجع آليات العلم الحديث التي كانت الموضوعية أحد حراسه الأمناء.

لقد زعزع التوجه النقدي النسوي للموضوعية العلمية، الأسس التي استند عليها الاتجاه التجريبي الوضعي الذي يعتبر الملاحظة الحسية المصدر الرئيسي والدقيق لكل معرفة موضوعية. وأن موضوعات المعرفة منفصلة عن الذوات العارفة، وهي وحدات جامدة منفصلة عن الذات العارفة التي تلاحظها، إن هذه النظرة إلى الموضوعية أدت إلى تورط الاتجاهات الإبستمولوجية التي تتمسك بالمفهوم الوضعي الضيق للموضوعية، إلى مذالق السياسة، وتم توظيف هذا المفهوم توظيفاً أيديولوجياً وسياسياً وتدعيمه بقيم إبستمولوجية كالاستقلالية والمحايدة من أجل تنحيه الذات بوجه عام، وذات المرأة العارفة بوجه خاص، لهذا كانت الموضوعية المعقولة، والواقعية، من وجهة نظر الاتجاه النسوي هي تلك التي تأخذ الذات العارفة بكل اهتماماتها وفروضها المسبقة وخلفياتها المعرفية في الاعتبار. ([22]). ومن هنا يمكن مشاركة الذات العارفة في كل طور ودور ومرحلة من أطوار وأدوار ومراحل تكون المعرفة، وأن الذات الإبستمولوجية، سواء كانت هذه الذات لرجل أم لامرأة، لا توجد إلا في جماعة إبستمولوجية، لهذا أدعي الاتجاه النسوي في فلسفة العلم، أن العلم معرفة اجتماعية ولا ينفصل عن القيم الثقافية والاجتماعية لمجتمع ما، وأن المشاريع الإبستمولوجية لا تتشكل إلا عبر جماعات تمارس إنتاج المعرفة، وليس عن طريق أفراد. ([23]). لهذا وجد الاتجاه النسوي في فيلسوف العلم المعاصر توماس كون نموذجاً لإدراك الطابع الجمعي الذي لازم العلم الحديث منذ نشأته وتزايد في الوقت الراهن إلى درجة غير مسبوقة بحكم تصاعد متوالية المعرفة ومدى الأبحاث العلمية وأتساع نطاقها وارتفاع تكاليفها. فقد انتهت تقريبا صورة العالم الفرد المنعزل بأبحاثه وعبقريته العلمية، وأصبح الشكل العام للبحث العلمي الآن في صورة برنامج ضخم يعكف على إنجازه فريق من الفنيين والدارسين والباحثين والعلماء ([24]). ذكورا كانوا أم إناثا، فقد أنصب اهتمام توماس كون على المجتمع العلمي أو الجماعة العلمية التي تتبنى نموذجاً قياسياً ما، وهي نفسها التي تصيغ الفروض والنظريات والمفاهيم العلمية أو قل يتفقون على القواعد التي يمارسون من خلالها العلم القياسي أو السوي، وفي سعيهم هذا يواجهون عدة صعوبات وعقبات وأزمات تجعلهم يتخلون عن النموذج القياسي المقبول لديهم ليعلنوا تبني نموذجاً قياسياً جديداً قادراً على حل تلك الصعوبات والعقبات والأزمات. ([25]) إذن وجود إطار عمل جماعي داخل العلم لا يفرق بين ذكر وأنثى أو رجل وامرأة هو الذي يعطي لمفهوم الموضوعية مصداقيته، لهذا يري الاتجاه النسوي في فلسفة العلم أن ممارسة العلم لا تتم إلا من خلال مجموعة علمية في مجتمع علمي، يشتركون معاً في مجموعة التعهدات التي ينطلقون منها، ويعملون وفق إطار عمل أو نموذج قياسي واحد يمدنا بآليات نقدية أو استحسانية لنظرية علمية أو برنامج بحث ما، وهذا يؤدي بدوره إلى بزوغ مفهوم جديد للموضوعية يكشف زيف المفهوم الذكوري الذي كان يصف عقل الرجل القادر على استبعاد التحيز الشخصي من الملاحظة الفردية الذي يقوم بها. ([26])

(ب) ونتيجة رفض الاتجاه النسوي لاعتبار الملاحظة الحسية المصدر الرئيسي للمعرفة العلمية الدقيقة واليقينية، رفض أيضاً أن يكون ثمة منهجاً علمياً واحداً يسيطر على مجمل العلم، ويحدد له مساره التقدمي. لأن الإيمان بمنهج علمي واحد يضفي سمة الاكتمال والنهائية على الإبستمولوجيا، وهذا ما يرفضه العلم المعاصر الذي رفض هاتين السمتين واعتبرهما عائقين يعملان على تجميد وعرقلة العلم ذاته. فمن الخطأ الإيمان بمجموعة من القواعد والأنساق والمعايير الثابتة والمطلقة التي يتم فرضها على العلماء، ذلك لأن مثل هذا الاعتقاد في تلك القواعد والأنساق والمعايير الثابتة والمطلقة يجعلنا نغفل العديد من الجوانب الفيزيقية والتاريخية والاجتماعية وغيرها التي تؤثر تأثيراً حقيقياً في تغير العلم ومن ثم تقدمه أو تقهقره، لأنها تؤثر على نظرياتنا العلمية، لهذا وجد الاتجاه النسوي أنه لا يوجد منهج علمي واحد يستطيع أن يضمن صحة نتائجه، والوصول إلى الصدق الموضوعي لا يمكن أن يكون بالالتصاق بصياغة إجرائية بسيطة. ([27])

(ج) ومن ناحية ثالثة وجه الاتجاه النسوي نقده للمركزية الذكورية القابعة خلف مقولات الموضوعية، فإذا كانت الموضوعية، وفقاً للإبستمولوجيا التقليدية تتطلب الحياد، فإن هذا الحياد يتم تنظيمه وفقاً للنموذج العلمي الذكوري الذي يستبعد الذات العارفة واهتماماتها، وخاصة ذات المرأة العارفة ([28])، فقد استبعدت الإبستمولوجيا التقليدية المرأة من مجال البحث الإبستمولوجي وتنكرت لأي أساس معرفي نسوي، وقامت بتشويه الأنماط والطرق المعرفية الأنثوية في تاريخ العلم، إن قيمة الموضوعية، من وجهة نظر الاتجاه النسوي، تكمن في وضع الذات العارفة في الاعتبار، وهذا يتطلب تحليلاً تجريبياً دقيقاً للإدعاءات المعرفية للذات العارفة ووضع القيم المعرفية لهذه الذات موضع اهتمام وتقدير ([29]).

إذن حاولت الإبستمولوجيا النسوية أن تقدم نظرية إبستمولوجية جذرية ونسباوية؛ فهي جذرية لأنها تقف موقفاً جذرياً من النظريات التقليدية في المعرفة، تلك النظريات التي تجاهلت العلاقة الوثيقة بين العلم، بوصفه فاعلية إنسانية، وبين المجتمع بكل مشكلاته، لهذا لجأ الاتجاه النسوي في فلسفة العلم إلى ما يسمي بعلم اجتماع العلوم لإعادة قراءة تاريخ العلم والكشف عن البنية الاجتماعية والتسلطية وراء هذا التاريخ، وبيان تهافت النظرة الوضعية التي تري أن التصورات العلمية والمفاهيم المعرفية تنفصل عن تاريخ صانعيها ومجتمعاتهم، وأن العلم ينفصل عن كل عملية اجتماعية لأنه موضوعي، وبالتالي لا يرتبط إلا بالقوانين الطبيعية والمنطق والتجربة. فالمعرفة لكي تكون علمية لابد أن نتحقق من دقتها المنطقية والتجريبية، وكذلك النظرية العلمية الصحيحة هي تلك النظرية التي تم التثبت من صحتها عن طريق الواقع التجريبي المباشر، وقد كشفت الإبستمولوجيا النسوية أيضاً عن البنية العلمية التسلطية التي تعكس الخلفية الأيديولوجية للمؤسسة العلمية التي ينتمي إليها العالم، والتي تمارس ضغوطاً من نوع ما من أجل أن يقدم معرفة علمية تتناسب وأيديولوجية هذه المؤسسة، لهذا كان الهدف المنشود من الإبستمولوجيا العلمية التقليدية تبرير الإبستمولوجيا القائمة واستبعاد أشكال المعرفة الأخرى المنافسة لها. وقد أكدت الإبستمولوجيا النسوية على النسباوية التي تتنكر لوجود أي معرفة علمية تقوم على منهج أو إجراء أو معيار واحد، وتدعو إلى ضرورة وجود تعددية منهجية وبالتالي تعددية إبستمولوجية تضع الذوات العارفة (الرجل والمرأة) موضع الاعتبار وتكشف عن إشكاليات جديدة خاصة بالمرأة وخبرتها كذات عارفة.



3- الاتجاه النسوي وإعادة قراءة تاريخ العلم..
اهتمت فلسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين اهتماماً ملحوظاً بتاريخ العلم حيث كانت العلاقة شبه مقطوعة الصلة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم، هذا الاهتمام أنصب على جعل تاريخ العلم مبحث إبستمولوجي جدير بالدراسة والبحث لما له من أهمية كبيرة في تعقب خطوات التقدم العلمي عبر تاريخ العلم. فقد استشعر بعض فلاسفة العلم المعاصرين الملقبين بفلاسفة العلم ما بعد الوضعين المناطقة أمثال توماس كون T. Kuhn وإمري لاكاتوس I. Lakatos وبول فييرآبند P. Feyerabend وماري هيس M. Hess وجوزيف آجاسي J. Agassi وغيرهم الكثير، الخطر الذي يهدد العلم وفلسفته نتيجة التجاهل والإهمال المتعمد من قبل الاتجاه الوضعي المنطقي لتاريخ العلم.

فقد كانت محاولة تعقب المفاهيم والنظريات والمناهج العلمية عبر تاريخ العلم من الموضوعات غير المطروحة على ساحة البحث الإبستمولوجي الوضعي، لعدم جدوى هذه الموضوعات على ساحة البحث الإبستمولوجي القائم على التحليل المنطقي الصارم للمفاهيم والتصورات النظرية التي تشكل بنية النظرية العلمية لديهم، ولعل أبرز فيلسوف علم معاصر ناهض هذا الإهمال لتاريخ العلم وأنتقده بشدة، فيلسوف العلم الأمريكي المعاصر توماس كون الذي نجح في ترسيخ دعائم العلاقة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم، معلناً أن تاريخ العلم ليس مجرد حكايات نادرة أو تسلسل زمني يسرد فترات وحقب علمية مختلفة حسب جدول زمني محدد بل تاريخ العلم عبارة عن سلسلة من المراحل التاريخية التي تتعاقب فيها نماذج إرشادية متقدمة تعبر عن تقدم المعرفة العلمية في حقبه ما من الحقب التاريخية المختلفة في تاريخ العلم، فالتقدم في العلم عبر تاريخه يكمن في التحول من نموذج إرشادي أعاق تقدمه أزمات وعقبات، إلى نموذج آخر جديد قادر على حل تلك الأزمات والعقبات وتجاوزها بفصل البنية الثورية الجذرية القابعة في صلب هذا النموذج الإرشادي الجديد. ([30])

لقد كانت الدعوة الملحة لإعادة هيكلة فلسفة العلم وإبراز الدور الذي يضطلع به مبحث تاريخ العلم بالنسبة لها، أثر كبير على الاتجاهات الإبستمولوجية المعاصرة وخاصة الاتجاه النسوي في فلسفة العلم، الذي حاول كشف الإدعاءات الإبستمولوجية التي تقوم على مركزية الرجل المسيطر على مجمل المشروع الإبستمولوجي الغربي السائد. وكان سنده في هذا الكشف تاريخ العلم، حيث أعاد قراءته قراءة نسوية خالصة، وبحث في الدور المهمش للمرأة وبين إنجازاتها العلمية والمعرفية داخل هذا التاريخ وأكد حقيقة هامة وهي أن المرأة كانت متواجدة بشكل قوي ودائم في العلم. لهذا أخذ الاتجاه النسوي يهتم بالأصول الأنثروبولوجية للعلم في محاولة منه لتقديم طرح متكامل لتاريخ العلم الذي يمثل سجلاً موثقاً لتطور العقل الإنساني. ([31]) هذه النظرة لتاريخ العلم تعطي لكل حضارة قيمتها ودورها في المنظومة المعرفية المسماة العلم، وتقف بشدة ضد النظرة التاريخية الوضعية المتطرفة التي يتبناها العديد من مؤرخي العلم الغربيين والتي تتلخص في أن العلم بدأ بالإغريق وأنتقل إلى أوروبا عبر مرحلة ناقلة تسمي مرحلة العلم العربي. نقول أن اهتمام الاتجاه النسوي في فلسفة العلم بالأصول الأنثروبولوجية والبحث عن مكانة المرأة في تاريخ العلم جعله يقف على الفترات التاريخية الطويلة التي تشهد على مرحلة المجتمع الأمومي، حيث كانت المرأة تمثل الدور الرئيسي في الأسرة والمجتمع ككل حيث كانت تقام على أكتافها الزراعة، المصدر الرئيسي للحياة عند الشعوب البدائية القديمة، فمعظم التقدم الذي أصاب المجتمع البدائي كان يعزي للمرأة أكثر مما يعزي إلى الرجل، فبينما ظل الرجل قروناً مستمسكاً بأساليبه القديمة من صيد ورعي، كانت المرأة تطور الزراعة وتباشر الفنون المنزلية التي أصبحت فيما بعد أهم ما يعرف الإنسان من صناعات.. كما قامت المرأة في المجتمع البدائي بالتجارة واستطاعت أن تضيف الرجل إلى قائمة ما استأنسته من حيوان ودربته على أوضاع المجتمع وضروراته التي هي من المدينة أساسها النفسي وملاطها الذي يمسك أجزاء البناء" ([32]) هكذا كانت المرأة في الشعوب البدائية تؤدي الأعمال كلها وهذا ما جعلها تتولى الحكم في بعض القبائل، أو تكون مستشارة لأعمال الحكم في القبيلة.

وقد بحث الاتجاه النسوي أيضاً كيف تحول المجتمع الأمومي إلى مجتمع ذكوري من خلال بحثه في الأصول الأنثروبولوجية للعلم وتاريخه، فعندما تقدمت الزراعة بفضل جهود المرأة، أخذ الرجل يستولي على زمامها شيئاً فشيئاً؛ فأخذ يربي الماشية كمصدر للقوة والثروة والاستقرار وحتى تعينه على أعمال الزراعة التي تعلمها من المرأة، فحل الرجل محل المرأة في الإشراف على الزراعة وانتزع منها زعامتها الاقتصادية التي توفرت لها بسبب الزراعة، فأدى هذا إلى سيطرة الرجل الذي يملك وسائل الإنتاج والثروة، على المرأة التي أصبحت مستهلكة وليست منتجة، كما أدى امتلاك الرجل للماشية ومنتجات الأرض أن يكون لديه ثروة، هذه الثروة أدت إلى خضوع المرأة خضوعاً جنسياً، لأن الرجل طالبها بأن تخلص له في مقابل أن يورث هذه الثروة إلى أبنائه التي تزعم المرأة أنهم أبنائه يقول ول ديورانت: وهكذا نفذ الرجل بالتدريج خطته, واعترف للأبوة في الأسرة، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجل، وانحدرت الأمومة أمام حق الأبوة، أصبحت الأسرة الأبوية، أي التي يكون أكبر الرجال سناً على رأسها، هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع وانقلبت الآلهة، وقد كانوا قبل نساء في أغلبهم، انقلبوا رجالاً ذوي لحي هم للناس بمثابة الآباء، يحيط بهم من النساء، كالذي كان يحلم به ذوو الطموح من الرجال في عزلتهم. ([33])

لقد كانت إعادة قراءة تاريخ العلم وإبراز المساهمات النسائية المهمشة في تاريخ العلم لأغراض أيديولوجية إبستمولوجية، هو الشغل الشاغل للاتجاه النسوي في فلسفة العلم.

إن النجاحات التي حققتها المرأة في تاريخ العلم يمكن أن تظهر للعيان إذا أزلنا العقبات والحواجز التي تقف في سبيل تقدم المرأة، لهذا يقترح الاتجاه النسوي في فلسفة العلم أن يكون ثمة تاريخاً تعويضياً Compensatory History للعلم يبرز تلك النجاحات والإسهامات العلمية والمعرفية النسوية ([34]) لهذا بدأ هذا الاتجاه يتساءل عن دور المرأة في هيكلة المعرفة العلمية عبر تاريخ العلم والصعوبات النظرية والعملية التي حالت دون مشاركة المرأة في العلم مشاركة إيجابية عبر تاريخه الطويل. لهذا حاول هذا البحث أن يعالج هذه الإشكالية التي طرحها الاتجاه النسوي في فلسفة العلم، أعني التفسير النسوي لتاريخ العلم موضحاً أبعاد تلك القراءة وخلفياتها الإبستمولوجية ومدي الإسهامات التي حققها هذا الاتجاه في فلسفة العلم.

بداية يعيب الاتجاه النسوي في فلسفة العلم تلك التفرقة التي وضعها فلاسفة العلم الأنجلو سكسون بين الإبستمولوجيا وفلسفة العلم، فإذا كانت الإبستمولوجيا تعني في أحد تعريفتها أنها نظرية المعرفة التي تهتم بطبيعة ومغزى وهدف المعرفة من حيث فروضها المسبقة وأسسها وإدعاءاتها، فإن المدافعين عن هذا التعريف إنما يخفون بعض المشكلات التي يمكن أن تنشأ من جرائه، وإذا كانت فلسفة العلم هي تحليل لطبيعة وهدف وتفسير العلوم الطبيعية عامة والعلوم الفردية خاصة، فإن الإلحاح على هذا التمييز الصارم بين الإبستمولوجيا وفلسفة العلم يحجب- في رأي الاتجاه النسوي- المجالين معاً وبالتالي تنشأ مشكلات إبستمولوجية كثيرة، إنما المشكلة تكمن في المعرفة العلمية المؤسسة على الخبرة الذكورية التي عملت على ترسيخ إدعاءات هي أن خبرة المرأة لا تتساوى وخبرة الرجل، فهي في مستوى أدني، وبالتالي لا تقدم المرأة إسهامات منهجية يعتد بها في الميثودولوجيا والإبستمولوجيا ولا في فلسفة العلم بوجه عام ([35]).

لهذا كان الهدف من إعادة قراءة تاريخ العلم من قبل الاتجاه النسوي في فلسفة العلم يكمن في هذه النقاط التالية:

أولاً: نقد التوظيف الأيديولوجي الغربي للعلم.

ثانياً: نقد التصور الغربي للطبيعة في تاريخ العلم الحديث.

أولاً: نقد التوظيف الأيديولوجي الغربي للعلم..
تصدت الاتجاهات النسوية في فلسفة العلم إلى التوظيف الأيديولوجي للعلم، عندما صرفت اهتماماتها إلى تاريخ العلم وإعادة قراءته، حيث دأبت العقلانية الغربية إلى جعل العلم مقياس التفوق من أجل محق الاختلافات والبدائل غير الغربية، وتوحيد نمط العيش وفقاً لأنموذج واحد هو النموذج الغربي، إن الاعتقاد بأن العلم متمركز داخل الحضارة الغربية، بداية بالإغريق القدماء وحتى وقتنا الراهن، يصدر عن تقدير الغرب المفرط لذاته واحتقاره لغيره من الحضارات الأخرى غير الغربية مما يؤدي هذا إلى الفشل في تتبع الحقيقة العلمية عبر مسارها المتشابك والمعقد والمتصل، أعني عبر تاريخها.

إن النظام المعرفي الغربي يعكس فكرة مؤداها أن العقل الغربي هو سيد العقول، وأن الإنسان الغربي هو الإنسان الأعلى، وأن مشروعه الثقافي هو مركز الفكر والحضارة والتاريخ كله، وبالتالي نتج عن هذا النظام المعرفي عقلانية تضع مميزات عرقية وقومية وجنسية ودينية، مما أدى إلى فرض هيمنة كلية على التاريخ الحديث والمعاصر للإنسانية. ([36]) وبالتالي تصبح الأنظمة المعرفية غير الغربية غير معترف بها داخل المشروع الثقافي المعرفي الغربي. يقول بول فييرآبند أحد أبرز فلاسفة العلم المعاصرين الناقدين للأيديولوجيا العلمية الغربية: "لقد غدت حقيقة أن العلم الغربي قد أفسد العالم بأسره تماماً كأحد الأمراض المعدية، حيث أخذ الناس منتجاته الثقافية والعقلية والمادية كأشياء مسلم بها، ولكن السؤال الذي لابد من طرحه هنا، والحديث هنا لبول فييرآبند، هل هذه السيطرة للعلم الغربي كانت نتيجة لحجة، كما يري المدافعون عن هذا العلم؟ وهل يمكن أن يكون هناك تقدم للعلم عن طريق مبادئ العقلانية الغربية؟ وهل أدخل العلم الغربي تحسينات على حياة أولئك المتعاملين معه؟ إن الإجابة لدي بالنفي، ذلك لأن الحضارة الغربية قد فرضت نفسها بالقوة وليس عن طريق حجج تبين صدقها، كما أنها قدمت أسلحة جيدة لتحقيق الدمار، إن الحضارة الغربية لم تتوخى القيم الروحية لحياة الإنسان، فحسب، بل قوضت البيئة الطبيعية المحيطة بنا دون أن نقدم أية بدائل ([37]).

إذن أنطلق الغرب من منطق القوة والسيطرة والسلطة المركزية التي يتفرع عنها سلطات وشبكات رقابة وتحكم في الشعوب والحضارات غير الغربية، فالتجربة الغربية دائماً، تنحو نحو المركزية، سواء كانت هذه المركزية علمية أو سياسية أو ثقافية، كما أنها تعمل على تطوير تقنيات هذه المركزية، أي تقنيات السيطرة عن طريق عمليات التوجيه الدائم، أحد هذه التقنيات السلطوية اعتقاد فلاسفة الغرب أن التاريخ إنما يبدأ معهم، وليس بمن سبقهم، فهم الذين اهتدوا إلى باب التاريخ الحقيقي اقتحموه بالتقنية، في حين تبحث عنه الحضارات الأخرى ولكنها تضله دائماً. ([38]) وقد انعكست هذه الرؤية السلطوية المركزية الغربية على تاريخ العلم، وتشكلت المفاهيم والتصورات وتم نسجها بطريقة أيديولوجية مغرضة عكست خبرة الرجل الغربي (الأبيض) واهتماماته، دون الالتفات إلى خبرة غير الغربي، وأيضا عدم الالتفات إلى خبرة المرأة (الغربية وغير الغربية) داخل هذا التاريخ. ([39])

حاول الاتجاه النسوي كشف الأبعاد السياسية والاجتماعية التي تدخل في عملية التنظير العلمي عبر تاريخه الطويل، ذلك أن ما يخبرنا به العلم إنما يعكس الأبعاد المفاهيمية والتصورية والممارسات العلمية المقبولة والعلاقات القائمة بين العلماء المشاركين في بناء النظرية العلمية في ثقافة أو مجتمع ما، ويعكس أيضاً من الذي يستطيع أن يأخذ المقام الأول في عملية التنظير للعلم والمعرفة العلمية. لهذا حاول الاتجاه النسوي أن يهتم بسوسيولوجيا العلم من خلال النظر إلى العلم على أنه نظام اجتماعي ثقافي مثله مثل الأنشطة الدينية والتربوية والاقتصادية والأسرية، فرفض النظر إلى العلم من الداخل، أي من خلال النظر إلى العلم بوصفه فاعلية تخصصية مستقلة، والاهتمام بالأدوات الداخلية للنسق العلمي كدور الرياضيات والملاحظات والتجربة والفرض والتنبؤ والتفسير إلى آخر هذه الأدوات" ([40]) بل أخذ هذا الاتجاه بالنظرة الخارجية للعلم كنشاط إنساني يتأثر بأبعاد الحضارة الإنسانية ويؤثر فيها" ([41]) إن إغفال العوامل الخارجية في تفسير نشأة العلم وتطوره يجعلنا ننظر إلى تاريخ العلم على أنه تاريخ للعقل الغربي المبدع الواحد والوحيد لهذا العلم دون سواه من العقول غير الغربية التي يتم تهميشها وطرحها جانباً لأنها لا تقوي على مثل هذا التفكير الناقد الذي يتمتع به العقل العلمي الغربي، بالإضافة إلى إغفال العوامل الخارجية في تفسير تاريخ العلم يجعل المؤرخين وفلاسفة العلم يسردون السير الذاتية لمشاهير العلماء والفلاسفة، مما يؤدي إلى الاعتقاد بأن هذه السير الذاتية تعتبر برامج بحث ناجحة ومتقدمة" ([42]) لا يمكن الخروج عليها أو حتى مخالفتها مما يؤدي ذلك إلى استبعاد البدائل المطروحة لبرنامج البحث الشهير المنتقي من قبل المؤرخين وفلاسفة العلم وفقاً لخلفية أيديولوجية، لهذا حاول الاتجاه النسوي أن ينظر إلى تاريخ العلم على أنه نص Text قابل للتفسير وإعادة النظر والمراجعة.

لقد أخذ الاتجاه النسوي بالبحث في أثر العوامل الخارجية في تشكيل مفاهيم وتصورات العلماء عبر تاريخ العلم حول المرأة وتهميش دورها داخل هذا التاريخ، فأخذ يطرح عدة تساؤلات حول العوامل الاجتماعية التي تؤثر في العلم والبحث العلمي، هذه التساؤلات أدت إلى بحث هذا الاتجاه العلاقة بين النظريات العلمية التي يقدمها العلماء والثقافة العامة التي يتواجد فيها هؤلاء العلماء، لهذا تذهب ساندرا هاردينج إلى القول "أن العلوم الطبيعية عبارة عن ظواهر اجتماعية نشأت وتطورت كلحظات خاصة داخل المنظومة الثقافية العامة للمجتمع" ([43]).

إن تأكيد الاتجاه النسوي البنية الاجتماعية والعوامل الخارجية في قراءة تاريخ العلم يكشف التوظيف الأيديولوجي للعلم، هذا التوظيف الذي يكمن في هيمنة وسيطرة النظرة الذكورية على المجتمع العلمي بكل قاطينيه من العلماء والباحثين والدارسين حتى تحولت هذه النظرة إلى تقليد Tradation أو تراث ثابت لا يمكن الحياد عنه، فالجماعة العلمية في المجتمع العلمي الذكوري تعمل على المحافظة على التفوق العلمي للرجل، وتمارس، في الوقت ذاته، ضغطاً من نوع خاص على المعرفة عن طريق المعرفة ذاتها، فإذا كانت المعرفة تمثل قوة، فإن الجماعة العلمية تسيطر على مجمل التفسيرات والنظريات والمفاهيم والمناهج العلمية داخل المجتمع العلمي الذكوري، وهذا يؤدي إلى تنحية المرأة، بكل إنجازاتها وتصوراتها العلمية الخاصة، جانباً.

أتخذ النقد النسوي لتاريخ العلم، إذن، خطوة في سبيل إعادة قراءته قراءة نسوية وذلك عن طريق توجيه المزيد من الاهتمام للبنية الأيديولوجية القابعة خلف البحث العلمي الذي يفترض وجود اختلافات جوهرية بين الرجل والمرأة أو بين الذكر والأنثى في عملية التنظير للعلم والمعرفة العلمية ورؤية النظريات العلمية من منظور الأيديولوجيات الذكورية التي تحاول تدعيم وجهات نظرها بمفاهيم الموضوعية والعقلانية التي يتم توظيفها توظيفاً ذكورياً لإبراز التميز الإبستمولوجي للرجل في مقابل المرأة". ([44])

فأصبح الاتجاه النسوي في فلسفة العلم ضد كل منهج موضوعي عقلاني نحكم من خلاله على صحة نظرية علمية أو برنامج بحث ما، كما رفض المنحي الإبستمولوجي الغربي الذي يجعل من الذات العارفة للرجل مقياساً أو نموذجاً قياسياً تقاس على أساسها كل الذوات العارفة الأخرى أعني المرأة التي ليس لديها القدرة على الاستقلال والسيطرة على الطبيعة ([45])

ثانياً: السيطرة على الطبيعة/ المرأة:
نقد الاتجاه النسوي للعلم الحديث..
أكد الاتجاه النسوي في فلسفة العلم أن ثمة علاقة وثيقة بين نظرة العلم الحديث للطبيعة وضرورة السيطرة عليها، وبين قهر واستعباد المرأة داخل المشروع الثقافي الغربي، فقد أعتقد الرجل الغربي أن الطبيعة قد وجدت لخدمته هو، فظن أنه سيدها ومالكها، يتصرف فيها كيف شاء، فممارس كل أشكال القمع عليها مما تسبب في تدمير الطبيعة ذاتها، لهذا حاول الاتجاه النسوي في فلسفة العلم أن يبين العلاقة بين تصور الطبيعة في العلم الحديث (علم القرن السابع عشر) وبين استعباد المرأة وقهرها، بعبارة أخرى، حاول هذا الاتجاه أن يبحث عن أواصر القربى النظرية والأخلاقية المفاهيمية بين اضطهاد المرأة والسيطرة على الطبيعة، واللجوء إلى تاريخ العلم للوقوف على المواقف العدائية التي اتخذها علماء وفلاسفة العصر الحديث من الطبيعة، وانعكاسات الإبستمولوجيا العلمية الذكورية، على تبني هذه المواقف.

لقد كانت الطبيعة الموضوع الرئيسي للعلم الحديث، والمصدر الذي يستقي منه العالم معرفته العلمية اليقينية. فقد أهتم علماء العصر الحديث، وخاصة علماء القرن السابع عشر، بطرح سؤال الطبيعة، وتقديم تصورات وتفسيرات لها، وكانت الفكرة الرئيسية في العلم الحديث تكمن في أن هذا الكون بأسره، عبارة عن آلة ضخمة في حالة حركة مستمرة، وأن ما يحدث في الطبيعة من ظواهر ناتجة عن علل وأسباب ميكانيكية غاية العلم معرفتها وحسابها بدقة. ([46]) لهذا ربط فلاسفة العلم الكلاسيكيون بين التقدم العلمي والقدرة على التحكم في الطبيعة وفرض قيود وقواعد لكشف أسرارها وطلاسمها تمهيداً للتحكم فيها، فقد كانت الطبيعة مغلفة بإطار من السرية والغموض، وكان الهدف المنشود من العلم هو السيطرة على هذه الطبيعة حتى نستطيع صياغة قوانينها حسب رغباتنا، ونتيجة إيمان إنسان العصر الحديث (الرجل) بالعقل وقدرته على كشف أسرار الطبيعة وقوانينها، ووضع نظاماً عقلانياً يساعده في تحقيق الهدف المنشود من العلم ويبرر له السيطرة على الطبيعة، هذا النظام العقلاني عبر عنه بدقة داعية المذهب التجريبي الشهير "فرنسيس بيكون (1626-1561) Bacon.F الذي جسد روح العصر الحديث بمنهجه التجريبي الاستقرائي الذي يؤكد أن المعرفة قوة، هذه القوة تستخدم للسيطرة على الطبيعة، فإذا كانت المعرفة قوة، فإن الطبيعة هي مملكة المعرفة الإنسانية، والميدان الوحيد المثمر والمأمول لسيطرة الإنسان، وفقط عن طريق المنهج التجريبي أي ملاحظة الواقع والتفكير في مسار الطبيعة ([47]) وإخضاعها لإرادة القوة، لإرادة الإنسان (الرجل).

لقد كان الهدف الذي يبغيه فرنسيس بيكون من فلسفته كشف القيم الجديدة التي تتضمنها الحضارة العلمية الحديثة في أول عهودها.. والتعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة، وفي هذه الحالة الأخيرة تبدو فلسفة فرنسيس بيكون في صورة "إحياء" لقدرة الإنسان (الرجل) على السيطرة على الطبيعة، لأن فرنسيس بيكون كان يؤمن بأن الإنسان (الرجل)- كم جاء في سفر التكوين- كانت له السيادة على المخلوقات جميعاً، ثم أدى فساد العلم إلى فقدانه هذه السيطرة، ومن هنا كانت غايته هي مساعدة الإنسان (الرجل) على استعادة سيطرته على العالم. ([48])

أصبح التصور الميكانيكي الآلي، في القرن السابع عشر، نموذجاً إرشادياً قياسياً" براديم Paradigm"، فرض نفسه على العقول، فأصبحت معاييره ومقاييسه هي المعايير والمقاييس الموجهة لكل بحث في الطبيعة. ولم تقتصر الصفة الآلية الميكانيكية على الطبيعة المادية فحسب، بل امتدت لتشمل الطبيعة البشرية التي تخضع، هي الأخرى، لقوانين الآلية الشاملة، وقد ساعد على استفحال هذه النظرة الآلية للطبيعة البشرية عدم الالتفات، من قبل فلاسفة القرن السابع عشر، للعوامل الاجتماعية والأخلاقية التي تؤثر تأثيراً كبيراً على المفاهيم والتصورات العلمية والفلسفية في حقبة ما من حقب تاريخ العلم، مما ساعد هذا على هيمنة الآلية كتصور للطبيعة المادية والبشرية على حد سواء، ولا يمكن أن نغفل جهود الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1650- 1596) Descartes.R المتحدث الرسمي عن فلسفة العلم في عصره، وفي ترسيخ دعائم النظرة الميكانيكية الآلية للطبيعة المادية والبشرية معاً، فقد عبر ديكارت عن هذا التصور بقوله، أن المادة التي يتكون منها العالم لا تتضمن خصائص أخرى غير تلك البادية للحدس العقلي، أي الامتداد، لذا يجب تصورها على نحو يفهمه ويقره العقل الطبيعي، ذلك العقل الذي يهتدي بالمبادئ الرياضية، فالمادة امتداد هندسي يملأ المكان ويشغله، بحيث لا يبقي فيه خلاء أو فراغ... وهذا ما يجعلنا قادرين على أن نسخر المادة ونكون سادة عليها ([49]).

وقد اكتملت عناصر النظرة الآلية الميكانيكية للطبيعة، وأصبح كل شيء في العالم ينظر إليه على أنه آلة تسير بمقتضي قوانين الحركة، بفضل قوانين اسحق نيوتن (1727-1642) Newton.I الذي وضع نظاماً فيزيقياً متكاملاً يهدف إلى معرفة سلوك الطبيعة، لأن هذه المعرفة ستجعلنا سادة الطبيعة وملاكاً عليها. فقد نيوتن اكتشافه لحقيقة هذا الكون، وهو أنه شكل على هيئة آلة ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة وطاقة تسير تلقائيا بواسطة عللها الداخلية، وتبعاً لقوانينها الخاصة في مسار تفضي كل مرحلة من مراحلها إلى المرحلة التالية، أي يؤذن حاضرها بمستقبلها. ([50])

إن سيادة التفسير الميكانيكي الآلي عمل على تقويض دعائم النظرة الحيوية للطبيعة، تلك النظرة التي كانت تري الطبيعة كائناً حياً فعالاً، أو أماً حاضنة لكل الجنس البشري، حتى تحول هذا الكائن الحي أو الأم الحاضنة الراعية لهذا الكون إلى آلة صماء، وتحولت مشاعر الحب والعاطفة تجاه الطبيعة الأم إلى الاستعباد والاستغلال لها. ([51])

إن تجاهل الثورة العلمية في العلم الحديث لتصور الطبيعة/ الأم ككائن حي، أدى إلى التغير في النظر إلى المرأة ذاتها التي كانت تمثل مصدر الحياة، حيث تم حصرها في أدوار ثانوية لأنها ليست بذات أهمية ولا تمثل جزءاً جوهرياً من المجتمع الحديث الذي شيده الرجل عندما سيطر على الطبيعة/ الأم/ المرأة.

وقد حمل الاتجاه النسوي في فلسفة العلم المفاهيم الديكارتية المسئولية كاملة عن تلك التصورات والرؤى الفلسفية والعلمية المعادية للمرأة، فديكارت عادة ما يوصف بأنه "أبو الفلسفة الحديثة" لما حققه من ثورة مفاهيمية أحتل فيها العقل ذروته بعدما تجاوز النماذج الإرشادية للعصور الوسطي المدرسية، وحاول إحياء البحث العقلي الذي كان ينظر إليه على أنه ضد الإيمان الراسخ، وبحث أواصر القربى بين اللاهوت وبين الفلسفة الطبيعية (العلم)، وإذا كان لابد للمعرفة أن يكون لها أساس تستند عليه، فلابد أن يكون هذا الأساس هو الكوجيتو من ناحية ووجود الالة الصادق الضامن للحقائق من ناحية أخرى. إذاً مجد ديكارت العقل بأفكاره الفطرية الواضحة والمتميزة، إلا أن هذا التمجيد، في رأي الاتجاه النسوي، كان لصالح الرجل، بوصفه حامل لواء العقلانية النجيب دون منازع من المرأة. فعقل الرجل هو العقل القادر على التفكير بطريقة منهجية منظمة وواضحة ومتميزة، في حين أن عقل المرأة لا يقوي على مثل هذا التفكير.

لقد كانت عقلانية ديكارت محاولة منه للتوفيق بين الكون الفيزيائي الميكانيكي الحتمي، وبين وجود الآلة والحرية الإنسانية، فقد أطاحت الفلسفة الطبيعية، وخاصة في أعمال كبلر وجاليليو بمركزية الإنسان من الكون الفيزيائي، إلا أن ديكارت حاول أن يعيد للإنسان مركزيته العقلانية والأخلاقية المسلوبة، وفي نفس الوقت لا يكون هذا على حساب التضحية بالكون الفيزيائي، مما أوقع ديكارت، حسب الرؤية النسوية، في ثنائية جمعت بين ثناياها كم هائل من المتناقضات: العقل والعاطفة، الحرية والعبودية، العقل والجسم.. وهذه الثنائية كان لها تأثيرها- كما سنري- على سيادة الاختلاف الجنسي، واقتران العقل بالذكورة ([52]).

لقد كانت الانتقادات النسوية منصبة على تلك الثنائية الفجة التي سادت القرن السابع عشر، والتي كان ديكارت المسئول عنها في تفرقته الحاسمة بين الجسم، الذي هو عبارة عن آلة ميكانيكية محايدة إبستمولوجياً، وبين العقل الذي يمثل جوهر الإنسان، هذا الجوهر يكمن في التفكير، وهذا ما جعل ديكارت يربط التفكير العقلاني بالتحرر من الجسم. ([53]) إن الثنائية الديكارتية بين العقلي واللا عقلي، أو بين العقل والجسم كانت لها انعكاساتها على فهمنا للاختلافات الجنسية، والتي نتج عنها التمييز بين العقل والتفكير العقلاني والذي يمثله الرجل، والجسم والتفكير اللا عقلاني والتي تمثله المرأة، بحيث أصبح العقل الفلسفي المجرد القادر على إحراز المعرفة الموضوعية هو عقل الرجل، في حين أن العقل المختص بشئون الحياة اليومية واحتياجاتها البسيطة هو عقل المرأة. ([54]).

لقد استخدم الاتجاه النسوي آليات التحليل النفسي في قراءة وتحليل النصوص الديكارتية. فقد ذهب إلى أن المثل الديكارتية الواضحة والمتميزة والموضوعية، تعد دليلا على ما يمكن أن نطلق عليه بـــــ "صياغات رد الفعل" Reaction Formations فقد كان السياق الثقافي في الحقبة الحديثة يسوده التوتر والقلق، حيث صارع العلم الذكوري صراعاً مميتاً لكي يحرر نفسه من التصورات الموروثة من العصور الوسطي والنهضة الأوربية حول الطبيعة بوصفها أنثي، أو بوصفها تعبيراً عن الأمومة، لهذا كان ميلاد العلم الحديث نتيجة الخوف من قوي الطبيعة والرغبة في السيطرة عليها، والتحكم فيها. ([55]) لهذا حاول ديكارت أن يعيد النظر في مفهوم الطبيعة كخطوة أولي، ويقدم هذا المفهوم في حدود ومصطلحات ذكورية خالصة، فالطبيعة لابد أن تفهم بوصفها آلة ميكانيكية هندسية خالصة، ويتعين على الفيلسوف والعالم أن يتحكما ويسيطرا عليها عن طريق المعرفة الموضوعية التي يمدنا بها العقل كخطوة ثانية، لهذا أعلن ديكارت موت الكون أو الطبيعة بوصفها أنثى أو أم، وأعلن ميلاد وجهة النظر الميكانيكية الذكورية. ([56])

إن النقد النسوي في فلسفة العلم يتجه إلى نقد أشكال السلطة المعرفية بكل أشكالها كالعقلانية والموضوعية والصدق والمناهج العلمية الثابتة والواضحة بذاتها والمتميزة، تلك السلطات المعرفية التي سادت الحقبة الحديثة، وكانت تهدف إلى وضع نسق منهجي عقلي صارم يقوم بإضفاء الموضوعية على العلم والإيمان بالعالم الطبيعي الآلي الميكانيكي بوصفه المصدر الرئيسي للمعرفة العلمية الموضوعية الصحيحة، هذه المعرفة لها غاية تسعي لبلوغها وهي السيطرة على تلك الطبيعة واستغلالها وإثبات أنها خاضعة لمجموعة من القوانين الرياضية التي إذا عرفها الإنسان استطاع أن يسيطر على الطبيعة ويفك طلاسمها الخفية عن طريق منهج علمي صارم ثابت ينظم تلك المعرفة، ويساهم في كشف ما خفي من أسرار الطبيعة، هذا المنهج العلمي كان هو المنهج الاستقرائي التجريبي، هذا التصور، من وجهة نظر الاتجاه النسوي في فلسفة العلم، أنتهي إلى جعل الطبيعة كالأنثى التي يجب اختراقها والتحكم فيها والسيطرة عليها. ([57]) عن طريق مفاهيم علمية كالعلاقنية والموضوعية. لهذا ليس غريباً أن نجد مذهباً نسوياً يهتم بالطبيعة والبيئة عرف باسم المذهب النسوي البيئي Ecofeminism هذا المذهب الذي جعل موضوع البيئة، بوصفها الوسط أو المجال الذي يعيش فيه الإنسان (الرجل والمرأة) بما يضم من ظواهر طبيعية وبشرية يتأثر بها ويؤثر فيها، أي كل ما يحيط الإنسان، أحد الموضوعات الرئيسية المطروحة على خريطة البحث النسوي. لقد رصد الاتجاه النسوي البيئي الآثار السيئة التي خلفها الرجل نتيجة الاستغلال الخاطئ للموارد الطبيعية والتوظيف السيئ لمنجزات التقدم العلمي والتكنولوجي. من هذه الآثار ثقب الأوزون وأسلحة الدمار الشامل والتلاعب بالجينات والتلوث الكيماوي. لهذا ربط المذهب النسوي البيئي بين التلوث والتدمير الحادث في الطبيعة، وبين دعوة العلم الحديث (علم القرن السابع عشر) لسيطرة الرجل على الطبيعة، وعلى المرأة على حد سواء، وطالب هذا المذهب بنبذ فكرة التقدم العلمي التي تربط بين التقدم في العلم والقدرة على التحكم في الطبيعة، وأن يتم تفسير التقدم في العلم وفقاً لقدرة العلماء للاستماع إلى ما توحي به الطبيعة، أو ما تبوح به، والمحافظة عليها. ([58])



خاتمة...
استخدم الاتجاه النسوي في فلسفة العلم آليات نقدية صارمة من أجل إعادة النظر في تاريخ وفلسفة العلم، من خلال زعزعة المفاهيم والتصورات والاتجاهات المعرفية الذكورية التي سادت الفكر الغربي الحديث، فالعلم الذي نتناوله عبر الدوائر الأكاديمية والصناعية قد تحدد وفقاً لاتجاهات الرجل المعرفية والمنهجية، الذي وضع بدوره الأسس النظرية للتفسيرات العلمية، فأصبحت البنية النظرية المفاهيمية والمنهجية بنية ذكورية تسيطر على تاريخ العلم، وانحصر دور المرأة في هذا التاريخ في دور المستهلك فقط لمنتجات هذا العلم الذكوري دون المشاركة فيه. لهذا رفض الاتجاه النسوي كل أشكال السلطة التي تضفي الشرعية العقلانية على قواعد وأهداف ومناهج بعينها على كل إنجاز علمي، كما رفض هذا الاتجاه إمكانية وجود صدق أو صحة للخطاب العلمي ذاته، وتفوقه على الأنواع الأخرى من الخطاب، أي رفض الأيديولوجيا العلمية التي تسود الخطاب العلمي السائد وتفرضه على التاريخ والعالم كله باسم الموضوعية والعقلانية، وتدعي أن هذا الخطاب هو الخطاب العلمي الحقيقي، وما دونة خاطئ، وبالتالي رفض الاتجاه النسوي النظر إلى العلم بوصفه قصة من التناسق المنهجي وأحدث قطيعة مع أشكال العقلانية الإبستمولوجية والمنطقية والميتافيزيقية التي شكلت وساهمت في بلورة مرحلة الحداثة في العلم، أعني تلك المرحلة التي سادت فيها إبستمولوجيا أحادية الجانب أعني الإبستمولوجيا التي قدمت تصور معرفي للطبيعة والعلم يقوم على الرجل وليس على المرأة، مما ترتب على ذلك أن أصبح الرجل ذاتاً إبستمولوجية قائمة بذاتها وفردية، وتم إقصاء المرأة حتى لا تشاركه أدواره المعرفية التي رسمها لنفسه، ومن ناحية أخرى سادت في مرحلة الحداثة الدعوات الليبرالية التي تدعو إلى ضرورة تحرير المرأة كفرد، والمطالبة بحقوقها المهملة كحقها في التعليم والعمل والتصويت الانتخابي والمساواة والملكية الخاصة وغيرها من الحقوق. إذن تمخض عن فكر الحداثة، الذي انطلق من اكتشاف العالم الجديد وإنجازات عصر النهضة والإصلاح والثورة العلمية في القرن السابع عشر وحتى عصر التنوير الأوربي، إرث فلسفي وعلمي اتخذ طابعاً مقدساً طبع به كل أشكال المعرفة الفلسفية والعلمية حول المرأة، يمكن أن نلخصها في الآتي:

تهميش دور المرأة داخل البنية الفكرية والثقافية والمعرفية الغربية أو قل تهميش دور المرأة في تاريخ وفلسفة العلم، وذلك عن طريق وضع عراقيل وعقبات تعوق تقدمها العلمي والفلسفي، هذه العراقيل والعقبات تنوعت ما بين قيود قانونية وأخرى دينية، فقد فرضت الأيديولوجيا الدينية المسيطرة على حقبة الحداثة الأوربية المبكرة قيوداً على المرأة بوصفها مصدر الإغراء والنجاسة والخطيئة.
تواطأ العلم، عبر تاريخه الطويل، في استبعاد المرأة من العلم، فأثناء حدوث الثورات العلمية، وما يتبعها من تغيرات معرفية واجتماعية كبيرة، فإن وضع المرأة يظل كما هو، فالعلم لم يغير من الأفكار الموروثة عن المرأة بوصفها مخلوقاً من طبقة دنيا، واستخدم العلم مناهج الملاحظة والقياس والتجريب لتبرير هذه المكانة المتدنية للمرأة. ([59])
الاهتمام بالأوضاع الاجتماعية للمرأة الغربية فقط، كالاهتمام بتعليم المرأة وحقها في العمل وكذلك حقوقها المدنية، بعبارة أخرى أهتم فكر الحداثة بإبراز فكرة المساواة التي كانت المطلب الرئيسي في هذا الفكر، وقد اتخذت هذه المساواة أشكالاً ومظاهر منها المساواة أمام القانون والقضاء والمساواة أمام الوظائف العامة والمساواة في التكاليف والأعباء العامة.
هذا الإرث الغربي الحديث كان موضع انتقاد اتجاهات ما بعد الحداثة الذي يعد الاتجاه النسوي أحد أبرز تلك الاتجاهات، حيث تتطلع الاتجاه النسوي إلى وضع قيم جديدة تقوم على فكر مضاد لفكر الحداثة، ومن ثم عقلانية علمية إبستمولوجية مضادة للعقلانية العلمية الغربية الحديثة، تلك العقلانية التي تكشفت في ثنايا هذا البحث والتي يمكن إجمالها في الآتي: أن الاتجاه النسوي أنطلق من ضرورة أن يكون للمرأة رؤية إبستمولوجية تعبر عن تصوراتها ومناهجها ونظرياتها العلمية الخاصة، أي أن يكون لديها إبستمولوجيا مختلفة تسير جنباً إلى جنب مع الإبستمولوجيا الذكورية، هذه الإبستمولوجيا النسوية تعبر عن خبرة المرأة ومن ثم رفض هذا الاتجاه التركيز على الاختلافات بين الرجل والمرأة من النواحي البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية التي سادت الحقبة الحديثة، كما رفض الاتجاه النسوي في فلسفة العلم الانتباه إلى فكرة المساواة التي تتطلب دائماً طرفين متقابلين أو متعارضين (الرجل/ المرأة، الذكر، الأنثى) حيث يكمن وراء خطاب المساواة إحساساً بالتفوق نابعاً من افتراض ضمني يحمله الخطاب بمركزية الرجل/ الذكر، فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل وحين يسمح لها بالمشاركة فإنها تشارك الرجل، وفي كل الأحوال يصبح الرجل مركز الحركة وبؤرة الفاعلية، ويبدو الأمر كأنما هو قدر ميتا فيزيقي لا فكاك منه ولا مناص" ([60])

ولا يمكن أن نختم حديثنا عن الاتجاه النسوي في فلسفة العلم دون الإشارة إلى بعض فلاسفة العلم المعاصرين الذين أثروا بعمق في هذا الاتجاه وكانوا بمثابة الخلفيات المعرفية والفلسفية التي أستقي منها الاتجاه النسوي أفكاره وتوجهاته وانتقاداته وعملت على بلورة وتعميق مناهج ورؤى وأطر هذا الاتجاه نذكر منهم توماس كون وخاصة في كتابه "بنية الثورات العلمية" الذي أنتقد فيه بشدة الصورة التقليدية التي رسمها فلاسفة العلم الوضعيين، وخاصة الصورة التراكمية لتاريخ العلم، وأيضا فيلسوف العلم المعاصر بول فييرآبند الذي تكمن أهميته في الطابع النقدي الذي وجهه للعقل والعلم الغربيين والذي كشف عن أزمة الثقافة الغربية التي تنحصر في سيطرة منطق فرض سلطانه وسيطرته على العقل ذاته، وأصبح أداة للسيطرة على الشعوب والأفراد الأخرى غير الغربية باسم العقلانية، هذا المنطق يكمن في تمركز المشروع الغربي الثقافي والحضاري على العلم الغربي والاعتقاد في القدرة على اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها، فأصبح هذا العلم هو المقيم الواحد والوحيد للحضارات والمعارف الأخرى غير الغربية، كما تأثر الاتجاه النسوي بانتقاد بول فييرآبند لتلك الأفضلية المعطاة للمنهج العلمي الحديث، تلك الأفضلية التي لا يمكن تبريرها أو افتراضها، فنحن لا نستطيع، من وجهة نظر فييرآبند، أن نتنبأ بالمعرفة وما الذي ستكونه في المستقبل، ولا يمكن أن نقنع أنفسنا أن هناك منهجا كلياً واحداً قادراً على إكسابنا معرفة ما. ولا يمكن أن نغفل تأثير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو Foucault.M (1984-1926) على تحليلات الاتجاه النسوي في فلسفة العلم للعلاقة بين السلطة والمعرفة وكيفية توظيف العلم لخدمة الطبقة المسيطرة والتشكيك في الإدعاءات العلمية التي تخفي وراءها قيم ومعتقدات أيديولوجية مغرضة كما هو الحال في تفسير العلم الحديث للطبيعة والسيطرة عليها.

لقد طرحنا في بداية هذا البحث سؤالاً: هل يمكن من الناحية المنطقية الإبستمولوجية أن يكون ثمة فلسفة نسوية تعكس خبرة المرأة المختلفة عن خبرة الرجل تجاه موضوعات وقضايا ومشكلات معرفية ومنهجية وميتافيزيقية وأخلاقية وسياسية واجتماعية؟ بعبارة أخرى وعلى غرار السؤال الكانطي "هل الفلسفة النسوية ممكنة؟ وقد تلقينا الإجابة في هذا البحث الذي كشف عن عمق التحليلات النسوية المعاصرة التي تبناها الاتجاه النسوي في فلسفة العلم، تلك التحليلات التي أعادت التفكير والنظر في تاريخ العلم قديمه وحديثه وطرح إشكاليات معرفية ومنهجة لم تكن مطروحة على ساحة البحث في فلسفة العلم الكلاسيكية والمعاصرة، ولم تكن أيضا مطروحة في الفلسفة النسوية التقليدية، مما أدى في النهاية إلى فلسفة نسوية للعلم لها أسسها ومناهجها ورؤيتها ومفاهيمها الخاصة التي تعكس خبرة المرأة تجاه موضوعات وإشكاليات وتساؤلات العلم وتاريخه وفلسفته.



المراجع
أولاً: المراجع العربية
آلان شالمرز "نظريات العلم" ترجمة: الحسن سحبان. فؤاد الصفا. دار توبقال للنشر. الدار البيضاء. 1991.
د. إمام عبد الفتاح إمام "سلسلة الفيلسوف... والمرأة" مكتبة مد بولي. القاهرة. 1996- 2000.
جون ستيوارت مل "استعباد النساء" ترجمة وتعليق وتقديم ا.د إمام عبد الفتاح إمام. سلسلة الفيلسوف والمرأة (5). مكتبة مد بولي. القاهرة. 1998.
سالم يفوت "فلسفة العلم المعاصرة ومفهومها عن الواقع" دار الطليعة.. بيروت. 1986.
د. فؤاد زكريا "آفاق الفلسفة" مكتبة مصر. القاهرة. 1991.
مطاع صفدي "نقد العقل الغربي: الحداثة ما بعد الحداثة" مركز الإنماء القومي. بيروت 1990.
ول ديورانت "قصة الحضارة: نشأة الحضارة. الشرق الأدني. ترجمة د.زكي نجيب محمود، محمد بدران. المجلد الأول. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2001.
ول ديورانت "قصة الحضارة: النهضة/ الإصلاح الديني "ترجمة: محمد بدران. د. عبد الحميد يونس. المجلد الحادي عشر. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2001.
نصر حامد أبو زيد "دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة" المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء 1999.
د. يمني طريف الخولي "فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول- الحصاد- الآفاق المستقبلية" عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت- ديسمبر 2000.



#محفوظ_مصطفى_عبد_الكريم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محفوظ مصطفى عبد الكريم - الاتجاه النسوي في فلسفة العلم وإعادة قراءة تاريخ العلم