أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - إبراهيم الوراق - مدارات تشادية -1-















المزيد.....

مدارات تشادية -1-


إبراهيم الوراق

الحوار المتمدن-العدد: 6324 - 2019 / 8 / 18 - 21:34
المحور: سيرة ذاتية
    


ربما يتذكر الدكتور خالد محمد المحجوب عباراتي في قاعة المحاضرات بالمعرض الدولي بطرابلس، حين علقت على بعض العلماء السوريين الذين أخذوا علي في مداخلتي كثرة استشهادي بالشيخ ابن عربي الحاتمي في الوحدة الكلية للعنصر الإنساني: إني يا إخواني أمازيغي اللغة، وابن امرأة أمازيغية، فأمي لم تنبس شفتاها بكلمة عربية، وهكذا أبي الحافظ للقرآن الكريم، لا يتحدث في دروس وعظه وإرشاده إلا بهذه اللغة التي هي لسان منطقتنا في الجنوب المغربي، إلا أنه عند الاقتضاء والضرورة يتحدث باللغة العربية الفصحى التي يدرك منها كيف تدل الكلمات على المعاني. لكني وعلى رغم ذلك الانتماء إلى جغرافية يعرف المؤرخون والجغرافيون أن سكانها الأولون أمازيغيون، أحببت اللغة العربية، وعشقتها، وقدمتها على ما سواها من اللغات التي لها ظهور في عالم الاقتصاد اليوم، لأنها لسان أجدادي الذين فروا إلى بلاد المغرب خوفا من بطش الأمويين، وفتكهم بالهاشميين، فاستقبلهم الأمازيعيون في إيالتهم، ورحبوا بوفادتهم، وضموهم إلى أحضانهم، وزوجوهم بناتهم، ونزلوا لهم عن أراضيهم، وبنوا لهم قرى ومداشر في ربوع الشمال الإفريقي، وبقوا هكذا يتكاثر نسلهم إلى أن جاء دور خروجي من رحم أمي إلى رحم هذه الحياة التي أجد فيها من أجل كسب صفة الوجود.
سيتذكر معي الدكتور خالد محمد المحجوب ابن قرية المحاجيب بصرمان ليبيا، والعالم المقتدر الذي حصل على دكتورين من المغرب وليبيا، والمدرس بجامعة الفاتح الليبية، والمؤلف المكثار في النشر والطباعة، كيف شعر الشيخ جودت السعيد السوري بوخز هذا الكلام الذي لمس بؤرة هامدة بين سواكن عقله، وكيف قبل رأسي بعد اكتمال مناقشة المحاضرة، وانتهاء تلك الحوارات التي تكون في الغالب مجاملة للمحاضر، والتفافا حوله لأخذ صور تذكارية معه، وقال لي: والله لقد أفرحتني يا ابن الأمازيغية. فأنا أيضا أصولي كردية، ولكني اتقنت اللغة العربية حبا في دقة استيعاب معانيها للعقل الإنساني والكوني. فهل كانت اللغة العربية ذلك الأمل الجامع الذي عشقته في صباي، وإن أرداني في كبري، وأسقطني أرضا لما ينهشني من أحزان غضة، وصيرني بعيدا عن الميادين التي تتبارز فيها سوانح الأحلام بلغات أخرى، لا صلة لها بما مر معنا من تجارب في حياتنا.؟
كان هذا جميلا في زمنه الذي كان له أهل قوامون عليه بصدق، وقد مضت عليه سنون قضيتها بين ضيق محقق، فلم أتذكر ذكراه إلا في هذه اللحظة المتألمة بحق، وأنا أتخيل جمهورية تشاد، وعاصمتها أنجمينا، وأتفرس تضاريس جبالها وأنهارها وغاباتها ووديانها، وأتوسم أنساق ديارها وأهاليها وقبائلها ولهجاتها. فأراها أحيانا في مخيلتي المنكوبة رائعة الهندسة في جغرافية الكون، وأحيانا تبدو لي من وراء إزار الضنى مدينة مقلقة، وأحيانا مخيفة، تبعث على الملل والضجر والسآمة والكآبة، إذ نعتها كثير ممن حاورتهم بأوصاف تجعلها متباعدة عن إدراكي، ومتنائية عن أنظاري. ولا أدري، هل هم مخطئون فيما يقولون من أقوال مشحونة بالتبرم والتضيق من واقع مأساوي، وصعب، ومرير.؟ أم يحكون حقيقة ما يشعرون به من آلام الانتقال من فترة إلى فترة أخرى، تبحث فيها الدولة عن نماء البلد، وتمنيته، وإخراجه إلى بارز الوجود.؟ أم هم على شاكلة كل الشعوب التي تختلف فيها الحكاية بين قوم مطمئنين إلى موارد عيشهم اليومي، وقوم لا يجدون بلالة يتبلغون بها في عالم متوحش، لا يؤمن بقيمة الإنسان، ولا بمثله الأخلاقية.؟
إني لا أخال كل ما يقال محض الأكاذيب الممخرقة، لكن ما يصدق فيه على قصة تشاد التي نبني معها صلة ذاتية، هو القدر المختلف فيه بيني وبين من تعرفت عليهم في هذا الفضاء، لأن ما يكون الوصف دالا فيه على الموصوف، لا يتساوى فيه النظر بين قريب وبعيد. ولذا حاولت أن أجعلها دانية من قلبي، وقريبة من روحي، لعلي أن اتصور لها صورة تهذبها في ذهني، وارتب لها حدودا تزينها في عقلي، لأني أحسست بأنها جزء من كياني، ولو حصر الزمن بينها وبين جرمي، وشعرت بأن حضورها في خلدي، أولى من وجود غيرها في جلدي.
لكن ما يقض مضجعي، ويؤرق مهيعي، وربما يغيِّب السرور عني لأيام طوال، هو ما أسمعه من طنين البعوض في ليال حارة الأجواء، وما أراه من شراسة مخالبه التي يغرسها في هشاشة بدني، لكي يمتص مني دما ما أحوجني إليه في مجاراة تعاستي. وياليته استباح البدن وترك الدم سالما، أو استنزف الدم وترك الجسد آمنا.! كلا، بل أصر على المعاندة واللجاجة، وكأنه يمتلك حقا في كياني النحيف، فلم يمنعه كل ما نقيمه عليه من حروب ضروسة من الانتقام لنفسه، لأنه صنو الظلام الدامس، وعدو النور الهامس، إذ لا يهجم إلا إذا احتاج هذا الكيان المرتج بالضعف إلى الراحة والسلامة، ولا يفر من الزحف إلا إذا همى الضياء من وراء الأستار والأسوار. لكن ما أخشاه فيما يتوارد به علينا من محن الأرزاء، أن ينقل إلى مسامنا المتعبة ألما يعانيه هذا الكادح بلا أمل، أو ذاك العاطل الذي يداري فراغه بلا عمل، وهو لا يشعر في قاع جوفه إلا بحزن وكمد، وكأنه لم يوجد على الأرض إلا ليعيش لظى الحياة بعسر وبدد، لأني وإن رضيت بأن أجود بدمي في ملحمة البقاء، لن أقبل أن أسخو بجسدي في صراع الفناء، إذ ليس لي منه إلا ما أبقته نكبات الدهر المفجعة، وما تركته علله المرزئة من خلايا منهوكة، لا أريد أن يهزمها البعوض بغاراته الشعواء، فيدمر قلاعها الهامدة، ويجعلها مفتوحة على الأوجاع الفاتكة.
سيكون للبعوض دور في دورة خيالي السارح النظرات، وهكذا حرارة الشمس القاتلة بأشعتها الحارقة اللفحات، ستلتحف مع توارد الخواطر لحاف هذه القصص المفزعة، وكلاهما في أماسي أنجمينا له ذوق خاص، ومعنى خاص. فهل أطيق أن أخوض لجة هذا المدى العميق، والغور السحيق، وأزج بنفسي بين أدغال أفريقيا الجارحة، وأقضي على ما بقي في ذاتي من رغبة جامحة، لعلي أن أدرك ما غاب عني من عناوين فرحها، أو من مواضيع قرحها.؟ حقا، ستكون لتشاد في عقلي قصة طويلة الذيل، وسواء أدركت برسم الأزل أن أخطو على بساطها منحنيا ومسلما، أو لم يكتب لي أن أسعد بأفياء أشجارها، وظلال أخبيتها، لأني عرفت هذه الدولة في زمن حربها مع ليبيا، وكنا شبابا نجيد فن الاستماع إلى المذياع الذي تعلمنا من رسائله وإشاراته كيف ننطق باللغة العربية، وكيف نفكر بدلالاتها، وكيف نكتب معانيها، إذ كنا نتتبع جل البرنامج الناطقة باللغة العربية الفصحى، ونحاول من خلالها أن نبني سقف مفرداتها في أذهاننا، لأننا كثيرا ما كنا نكرر ذلك حين نضع إبريق الشاي الأخضر بين أيدينا، أو حين نسير ذاهلين على الرصيف المبلل بأحلامنا الفتية، أو حين نجلس على كثبان الرمل نرمق كيف تنسل الشمس من سطوح بيوتنا، لتنقذف فيما وراء شخوص معالم قرانا من بحار وأمداء، بل الأدهى أن شوق اللغة العربية الساكن رخاوة قلوبنا، يصحبنا إلى محلات الخلاء، إذ كنا نتكلم جهرة في الكُنُف، فلا نكاد نشعر بذهولنا إلا حين نسمع صراخ الأمهات، وهن يقلن: إن المراحيض أماكن الجان الخفي.
هكذا عشقنا اللغة العربية بجنون، وهكذا عشقنا سماع الأخبار في المذياع صباحا ومساء، وهكذا سمعنا عن معركة الدوم التي انهزم فيها الجيش الليبي هزيمة نكراء، وهكذا تتبعنا كل خطوات الحرب إلى أن انتهت بدمار ما دمرته، وخراب ما خربته. لكن، ما هي الصورة المرسومة لتشاد بين صور عقول لم تستجمع أدوات التفكير المنطقي في القضايا التاريخية.؟ إننا لم نستجل حقيقتها، ولم نستظهر طبيعتها، ولم نستكشف خصوصيتها، ولم نستبن ثوابتها، بل رسمنا لها صورة لا تختلف عن مثيلاتها من دول القارة الأفريقية، واقتنعنا بها في لحظة لم نكن نعرف أن جزءا من سكانها يدينون بالديانة الإسلامية، ويتحدثون باللغة العربية، وما تفرع عنها من لهجات محلية، وأن أهلها تجمعهم بنا آصرة العرق والنسب العربي والأفريقي، ووشيجة التاريخ المشترك فوق هذا الكوكب الأرضي. فما أفلسني من هذه المعلومات التي لم تدرج في سطح معرفتي إلا أخيرا، إذ تعرفت على جمهورية تشاد، وأهلها، وخبرت جزءا من أخبارها وأحوالها، وتمكنت من نقش نقوش لها على صفحات كتاباتي ومنشوراتي.
وطبعي أنك حين تكتشف شيئا لم تكن تعرفه فيما مضى من عمرك، ولم يكن محل اهتمام فيما تدبره من شؤون حياتك، وكأنه سر من الأسرار التي ادخرها الكون لمرادك، وإن لم تهتد فيما انصرم زمنه إلى درك ما يسكن جوفه من حقائق وجودك، ستكون حتما مهتما بحقائق موضوعه بشدة، ومعتنيا بسبر أغوار أنجاده بقوة، لاسيما حين تراه منفذا تجتاز منه إلى كسب حضورك الفعلي في حياة تحن إلى أن تعيشها بحدة، لأن موضوع المعرفة في الانطباع الشخصي، لم يكن متصلا بشأن ثقافي نبحث في مساحاته ومسافاته بمسبار الحقيقة المطلقة، فنلقي عدسة أعيينا على الصحراء والغابات والوديان والأمداء العريقة، لنستظهر ما هو مخبوء فيها من آيات الجمال، وأمارات الكمال، بل هو مرتبط بمعنى أنطولوجي، ومتصل بواقع يحتاج إلى أن ترمم فيه صورة الحلم المغتال بقسوة، لأنه لا يعني في قاموس المعاني إلا معنى الوجود، أو العدم، وما يجري بينهما من صوارف الدهر وملماته، وأزمات المصير وعلله، إذ كل هذا يفرض تبعات على انتماء الإنسان، وانتسابه إلى مكان دون مكان، ويلزمه بالتحول من جهة إلى جهة، لكي تستمر الحياة، وتبقى الفاعلية في كسب المعالي الخالدة. ولذا كثر ما حاورت إخواني في تشاد، وهم يصفون صعوبتها بحشو مفرط، وسواء في ذلك ما نقرأه من ألفاظهم، أو ما نسمعه من أصواتهم، فكلاهما ينزف من قاع الظلام المحتبي بسواد قاتم، وينسل إلى الكيان المتهدم بأعاصير الإخفاق، وهزائم الأزمنة الغادرة، ليجعل الأرض مكفهرة المحيا، لا تحتمل في زمنها الحاضر إلا الفقر والغربة والشتات والموت البطيء.
صعب أن لا تستجيب لهذه الرسائل والإشارات المفعمة بصوت حزين، يحكي بنبرة مبحوحة عن كيان مفتت الأوصال، ومشتت الآمال، وممزق الأذيال، لا تجمعه حقيقة، ولا تضبطه طبيعة. لكن، هل يجوز لي أن استجيب لصوت مضمخ بعرق جبين متورد بعصبية كاسرة، ومستوفز نحو شيء مجهول ينتظره بعينيه الذاهلتين والزائغتين، وهو يريد أن يتصور ملامحه بصورة مَّا، ومهما كانت مستغربة لا تشاكل في بصره ما يراه، أو مستهجنة لا تماثل في واقعه ما يعرفه، أو يريد أن يعرف ما يختبئ في معالمه من غايات شقية، وما يضمره من مغبات عصية، لكنه لم يجد إلى صوغه دليلا، ولا إلى صنعه سبيلا، وكأن الدنيا قد كسفت بين عينيه، وهدمت ديارها، وغدت أصواتها نازفة من جوف الأرض بأنين المعذبين، ونحيب المخذولين، وعويل المنبوذين.؟
لو استجبت لهذا الصدى الساكن في شرايين دمي، لأصابني الجنون في متوقد هممي، ولانقطعت بي السبل عن التفكير في خلاص ذممي، لأني أدركت يقينا أن ما احتقنه صدري من غصة مكبوتة على من أفسد مياه بركتي، وعكرها برجيع مكره، وصديد غدره، وصيرني بين مجامع الحزن غرثان، عطشان، لا ألوي في طي جرابي على شيء له مزية، أو قيمة، هو ما يتحدث عنه صديقي الذي أجرى المقارنات بعقله المتوقف مع المظاهر الخداعة، وقاس ما بين الوضعين من حيث القرب، أو البعد من الحضارة، أو من البداوة، فرآني وافر الجناب بالاقتراب من نبع التمدن، ومعدن المدنية، ثم استراب من الموضوع المطروح لذوي الرجاحة والكياسة، فقال: لم تريد أن تُنشر بمنشار القسوة بين مخالب أفريقيا الكاسحة، وتموت بين رمالها اللافحة، وتذوب ملحة حياتك من الوجود، وكأنك لم تكن في يوم من الأيام كائنا متحدثا بصوتك عن اعتلال الزمان، واختلال المكان.؟
هذه المقارنة خاطئة، لا ينبني عليها أساس الأحكام الصحيحة، لأنها توقفت على تصور غير سليم للقضية، إذ نحن حين نريد أن نرجع المقدمات إلى مبتدأ الحكاية، سنصل إلى الخبر الحقيقي في النتيجة، وإذ ذاك سنكون بين خيارين؛ إما أن نقول: الحضارة هي الإنسان في روحه. وإما أن نقول: الحضارة هي الإنسان في مادته.! بل لنقل بلسان الشكاك المرتابين من كل ما هو مطرد في القواعد الذهنية، ولا يرد في صياغة الأدلة إلا للاستفهام والاستيضاح: ما الذي يدفعك إلى أن تهجر عشك، وتترك كنك، وتتيه بين غمرات هذا المدى المكتظ بفحيح الأفاعي، وزئير السباع، وهزيم الرياح، وعويل المصروعين تحت التراب بلا قبور معلومة، وزفير الحررومين الذين يرمقون الأمل في سراب الرؤى الكليلة، فلم يظهر لهم هذا الغد المنتظَر مع طول المدى إلا عمقا فتاكا، وغورا قتالا.؟ وما الذي يدفعك إلى اقتفاء أثر الهباء، وقد دفع كثيرا توطنوا قبلك مواطن أخرى، أنجبت لهم إخوانا، لم تلدهم أمهاتهم بين المهاد الملوثة بعار الضرائر، وأحقاد الجدات والعمات والأخوات.؟ فهل ستنال بؤبؤ عين ذلك الطفل الذي أراد أن يبني عرينه بوحل الأمطار، لتكون له أبا يرفع غصنه بعماد إلى أن يزهر ويثمر.؟ قد تقول لي: إننا نهجر الفقر، عسانا أن نصل إلى الغنى. أجل، تلك هي الحقيقة التي لم تظهر لك كما تجلت لي على سواد لوحة أقرأ سطوحها بنظر دقيق، لاستكشف من اضطراب سطورها، ما هو السر في أن تكون ابن قبيلة، ثم تموت منسيا بلا قبر بين الفيافي الغامرة الظلام.؟ لو أدركت أن سر الوجود في سر الانتماء، لهان عليك الخطب، ولسهل عليك الجلب، ولا محالة، ستقتنع بأن تشاد كون من لا كون له، وأرض من لا أرض له. وهل أنا مرتحل بين الديار إلا لبقاء اللون صافيا في زجاجة الحياة الفاقدة للأنواء.؟
تالله، ما جاملتك لأحيى، بل ما قلت إلا ما قلته قديما، وأنا استفهم ما في الصدى من صوت، وأقول له: إن إلهي، لم يخلق ذاته العلية، وإنما خلقني أنا المتألم في صخب وضوضاء. فمن عظم الإله تعظيما يليق به كمالا وجمالا، وعلى أي عقيدة، أو أي شريعة، ولم يعظم صورته الدالة عليه في الإنسان الجريح والقريح، فقد صبأ عن دين الأنبياء، وحكمة الحكماء، وإشارات الأولياء. فما أبلهني حين خلت التكليف يكون بالقدرة الباقرة، والإرادة الكاسرة، لأني كنت متأثرا بما ابتلعته من فكر الحضارة والحداثة، وتقليد دينها، وانكسار تاريخها، وانبثاث حاضرها، واجتثاث غدها، إذ التكليف فيما توارد علي من وجع السقوط والهبوط، لا يكون إلا للإدراك النافذ إلى المعاني الخالدة، والمفاهيم التالدة. فآه، آه، ليس من شرب الخمرة للاستهداء، كمن شرب العسل للاسترقاء، إذ الأول شراب الروح، والثاني شراب البدن. وكل واحد منهما له حكم في الظاهر والباطن، وعلاقة بما يبني الداخل والخارج من ذهول وحصول، لكن تجاوز سطوح هذه القضية، وتخطي حدودها الضيقة، ومصاديقها الفجة، يعلمنا كيف نسير بخطوات إلى مرتع الحقيقة، وكيف نرفع عماد الحياة بأدب وحب ورحمة، لأن صعق العقل وسحقه ومحقه، هو الطلب الذي ارتحلت القوافل بأمله بين الآجام والآكام، وسافرت بهمها لبلوغ شأوه وقمته وذروته، إذ نهاية البدن الفناء، ونهاية الروح البقاء. وهما متلازمان ومتقابلان، ولا يجوز لنا أن نغرد بأحدهما، ما لم نتخل عن الآخر، إلا إذا عرفنا سر المزج بينهما في قارورة العشق الأبدي. وحينئذ نكون قادرين على أن نعرف لكل واحد حده وحقه.
وهكذا كان السر حائرا بين القباب التي تنافست حول غموضها همم السائرين والواصلين، وما بينهما عشت قصة مأساوية مع الدليل والحجة والبرهان، وخضت وحل دروب مكتئبة بأوهام الإنسان، وتناقض وجهات حياته بين المبادئ الإلهية، والقوانين البشرية، وغصت بين أمداء ملبدة بغيوم الوحشة والغربة، وولجت غمرة صراع دخلته سليما، وخرجت منه سقيما. فهل كنت أبله حقيقة حين رسمت للحق طريقا واحدا، لا يمشي عليه إلا الأفذاذ العظماء.؟
لا، بل كنت مرآة انعكست عليها حياء علي (ض) في صفائه، ووفاء الحسن(ض) في نقائه، وكان ما كان، وحصل ما حصل، ووقع ما وقع، ولم أشهد في عطايا الناس إلا مزيدا من الذلة والخسة، ولم أر فيها إلا غروبا لهمتي وهامتي. أجل، قد عشت معرتها فيما لمسني من غنم النعمة، وغرم المنة، وجسني من ليونة القماش، وغضارة الريش، وسرت معها مراحل قطعتها متشظيا بين الأماكن المطلولة بغدر الإنسان ومكره وخزيه، فلم تغنني وفرة ما نلته من مكسب عن هجمة الألم، وهجعة الورم، ولم تفدني الصفات بما أسبلت علي من رداء الخدعة التي سايرتها جبرا، فقادتني متاهاتها إلى أن أفقد كل ما احتوى عليه جوف الطفل من أفكار وأسرار. فلم لا أسائل ذاتي عن سبب الرزية، وعلة الوقيعة.؟ ولم لا أراجع منطلقاتها ومنعطفاتها.؟ ولم لا أواجه معايبها ومثالبها.؟ ولم لا أنقض بناءها الذي تهاوى لأنات رجت أركانه، وهنات هزت أساطينه.؟ فأين الخلل إذن، ما دمنا لم نجن من هذه الشجرة التي غرسناها إلا العناء والعماء.؟



#إبراهيم_الوراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب بنيويورك
- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - إبراهيم الوراق - مدارات تشادية -1-