أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح هاشم - البسطاء وحكايا النهر ..














المزيد.....

البسطاء وحكايا النهر ..


صلاح هاشم
(Salah Ahmed Hashem)


الحوار المتمدن-العدد: 6216 - 2019 / 4 / 30 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


اعتاد عم محمد شعبان أو عم "محمد السقا" حسبما كانوا ينادونه في القرية.. على أن يذهب إلى النهر بـ"قِربَتهِ" مرتين، واحدة في مطلع كل شمس، والأخرى قرب ساعات الغروب، إلا في يوم "شم النسيم" عادة ما كان يذهب إلى النهر مرة واحدة، بعد صلاة الفجر، ليختلسَ من "النهر النائم" شربة ماء تجعله أقوى رجالات الأرض، وليملأ قربته الجديدة بماء النيل الجديد حسبُ ظَنهِ، الذي أخبره بأن مَن يسبق إلى النهر في شم النسيم، ويملأ جرته قبل الآخر، سوف تتحول مياه النهر في بيته إلى "ذهب"!

فكان السقاء يحرص في ذلك اليوم بالتحديد على أن يذهب بقربته المليئة بماء النسيم، ليصبها في "زِيرِ" بيته، ثم يذهب لينامَ، ويحلم بالتِبر!

ورغم أن النيل لم يَصدقه يومًا، فإنه ظل طيلة عمره يسابق شباب القرية إلى ماء النسيم، أملًا في أن يشفيه ماء النيل النائم من أوجاع الزمن التي ألهبت مفاصل قدميه، حتى لم يعد قادرا على التجوال بقربته في أنحاء جزيرتنا، أو أملًا في أن يتحول مائه إلى ذهب! وكأنه وجد في الأمل حياة؛ تستحق أن يسابق الجميع إلى النهر من أجلها!

ومات عم محمد شعبان ولم ينل من ماء النسيم سوى شربة ماء من كوب وضع أسفل "الزير" الذي نضحَ منه ماءُ النهر! وكأن تلك الأسطورة نُسِجَّت من خيالِ الأغنياء؛ كى يظل "السقاء" يملأ "أزيار" القرية دون مللٍ أو تمرد.. ليس فقط من أجل حفنة من الحبوب يتحصل عليها السقاء، في كل موسم حصاد، ولكن على أمل أن تأتي اللحظة التي يتحول فيها ماء النيل إلى ذهب؛ فتتحول معه حياة السقاء إلى نعيم!

ليس النيل في كل الأوقات كما هو.. ففى حين يعشق أهل الجزيرة الجلوس على شاطئيه عند الغروب، يستوحشون النظر إليه أو السير على جانبيه في العتمة.. فلا تزال "حكايا النهر" في جزيرتنا تطارد أخيلة الأطفال والصبية وأصحاب القلوب الرهيفة.. فلم أنسَ أبدًا عًم "حمدى المراكبى" الذي كان ينقلنا بمركبه عبر النهر، ورُغم طِيبتهِ المتناهية، فإن "البياض" الذي في عَيّنهِ؛ كما كان يُرعِبُنا في الصِغَرِ، كان يُثيرُ في أنفسنا أسئلةً كثيرةً في الكِبَر، أهمها: لماذا عينه بيضاء هكذا؟ مما جعلنى أتجرأ يوما وأسأل وَالِدي رحمة الله عليه عن سرِ البياضِ الذي في عَيّنهِ اليُمنَى، فحكى لى: أنه ذات يوم كان يقفُ "عم حمدى" بمركبه الصغير على شاطئ النهر، وإذا بـ"جثة" مَكفَيّةٍ على البطن تعوم في النهر، مما يدل على أنها جثة لـ"أنثى" وليست لذكر، فـ"جثث الذكور" عادة ما تأتى عائمة على الظهر، حسبما كان يُحكىَ لنا في الصِغَر!

فناداها عم حمدى على الفور بالنداء الذي اعتاده الجميع في مثل هذه المواقف "يا جثة حَلِّت الدفنة" وإذا بالجثة تأتى إليه ليُكرِمُها بالدفن! وحين شرع عم حمدى في دفنها في الرمل الجاثم على شاطئ النهر، نظر إلى فَرجِها وقال "لو كنت حفظتيه ما كان قد فُعِلّ بك هكذا.. وإذا بالجثة تصفعه بكفها على عَيِّنِه، فيصيبه العمى في الحال! وظل عم حمدى يَذكرُ حكايته مع الجثة حتى مات، تاركًا خلفه درسًا لأبناء جزيرتنا، بألا يخوضوا في أعراض الناس بلا دليل!

لا تتعجبوا.. فهذه ليس حكايات ماتت عن النهر، لكنها ما زالت حيَّة، تتوارثها أجيال جزيرتنا حتى الآن، لتكمل جملة الأساطير التي ربطها المصريون بالنيل على مر التاريخ، حيث كان النيل بالنسبة للمصريين رمزا، نَسَجَت حوله أخيلةُ المصريين عديدًا من الحكايا، التي أوصلته ذات يوم ليصبح بالنسبة لهم "إلهًا" تقربوا إليه بأجمل فتياتهم في "عيد الوفاء" وصلى له المسلمون حتى يجرى، وحين تمرد النيل؛ أرسل له عمر بن الخطاب برقية تهديد!

وهناك أيضًا قصص ما زالت تُروى لأطفال جزيرتنا أغربها حكاية "المَسحُوُر".. والمسحور هو "رجل" أعدت له زوجته سحرًا، يجعله يُفَضِّلُ الحياة في النهر، فيتحول من إنسان يعيش خارج النهر، إلى وحش لا يمكنه العيش سوى في داخله!

وكانت عملية السحر هذه بمثابة عملية تأديب، إذ بإمكان الزوجة أن تفك السحر، بشرط ألا يمضى على نزوله النهر أربعون يومًا كاملة، فإذا أردت أن تستعيده مجددا ذهبت إلى النهر، ومعها زوج من الحمام، نصفه مطهو ونصفه الآخر نَيئ، ووقفت على شاطئ النهر تناديه باسم "أمهِ"، فإذا سمع المسحور صوتها حَلَّ إليها، فتقدم إليه الحمامتين المطهوة والنيئة، فإذا فضل المطهوة أعادته إلى بيتها، أما إذا استحسن النيئ على الطيب؛ علمت الزوجة بأنه لا أمل في عودته؛ فقد صار وحشًا!

ورغم عدم منطقية هذه الأسطورة، فإنها كانت مُصدقة لديهم.. وكانت ترمز دائمًا لجبروت المرأة هناك، وتكرس في عقيدةِ البسطاءِ من الناس، أن الرجل ألعوبة المرأة، وأن المرأة دائمًا كانت ألعوبةَ إبليس.. وعلى الرجل دومًا أن يتوخى الحَذَر!

فلم تكن حكايا المسحور في جزيرتنا مجرد أسطورة تتناقلها مجالس الكبار والأطفال، فبخلاف أنه "البعبع" الذي تهدد به الأمهات أطفالها المتمردين، فقد بات بمثابة مبرر قوى، لغرق كثيرٍ من أطفال القرية وصبيانها، ليظل النيل في سكينتهِ دائمًا، شاهدًا على جرائم الليل المعتم!

فكما كان النيل في الصعيد بسيطًا متواضعًا، كانت حكايا البسطاء أيضًا بسيطة، ترسم كل يوم خصائص الإنسان في الصعيد، الذي حركته يومًا إلى النهر شَربَة ماءٍ من قِربَةِ سقاء، وأخَافتهُ من النهر "حكايا المسحور"!



#صلاح_هاشم (هاشتاغ)       Salah_Ahmed_Hashem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خرافة مواجهة الفقر
- الحقيقة .. والشيطان المستنير
- حوارى مع صديقى الإرهابى .. !


المزيد.....




- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح هاشم - البسطاء وحكايا النهر ..