ابو كروم بهاء
لقد بات من الواضح ان العوالم المتفرقة على وجه الارض هي في طور التغييرات الجوهرية في مجتمعاتها وفي قيمها ومفاهيمها وعلى مستوى علاقاتها في ما بينها وبعضها ببعض، وعلى اساس هذه المتغيرات التي سوف ترسو عليها ستتحدد وجهة هذا العالم في بداية القرن الحالي، من هنا وإن كان الغرب قد رسم ملامح سياسته ووضع استراتيجية المرحلة المقبلة وما برز منها على هذا الصعيد من سياسة العصا والجزرة، مع ارجحية للعصا الاميركية على الجزرة الاوروبية حتى الآن، فإن استراتيجية التلقي القائمة في دول وبلدان المنطقة ما زالت تبنى على احتمالات ما سوف يقوم به الغرب وذلك من دون اي تغيير بنيوي وقيمي في تكويناتها يستبق عمليات الخضوع المتوقعة امام مطالب الغرب وطموحاته.
وإذا اعتبرنا ان ما جرى لا بد ان يستأهل بعض التغير في انظمتنا الاجتماعية، فما الذي تغيره هذه الأنظمة طواعية قبل ان تتغير فيها كثير من الاشياء بشكل اجباري هذه المرة، إذ انه لا يمكن لهذا السبات العميق ان يستمر وأن يحكم بظلاميته بدايات القرن الحالي، مع العلم انه أمام محطات اساسية كانت اهم من احداث 11 ايلول، كانتهاء الحرب الباردة او تحدي العولمة، وجب فيها اعادة تشكل وبناء او بالأحرى بيريسترويكا عربية وإسلامية تطال كل مفاصل الحياة العامة، لم تشهد آنذاك هذه الدول اي تغيير جوهري يضعها على سكة السبق الحضاري وما يستوجبه ذلك من اطلاق للحريات العامة وحماية حقوق الانسان وإقامة العلاقات الديموقراطية.
ان الدول العربية والإسلامية مطالبة اليوم من قبل الغرب بمكافحة الارهاب من خلال التعاون الأمني والإستخباراتي والتضييق على بعض الاصوليات ومراقبتها وما يتطلبه هذا من تكبير لدور الأجهزة وتوسيع صلاحياتها، ما سوف تستغله الأنظمة لتقوم بمزيد من القمع والإرهاب ((المسموح به دوليا هذه المرة)) بحق المعارضات.
لقد تخلت مجتمعاتنا عن مهمة تحديث الانظمة وإنتاج البدائل وذلك بحجة الصراع الاقليمي او القضية المركزية وكانت كل الاستراتيجيات تبنى على اساس القدرة على حسم هذا الصراع فبرزت المشاريع القومية واليسارية والاسلامية وكانت هذه الاولوية تتقدم على مشروع النهضة او التحديث او العصرنة او اي شيء يعبر عن حركة المجتمع وديناميته.
اليوم وأمام كل ما يجري ألم تبرز الضرورة لتغيير الاستراتيجية او اعادة ترتيب الاولويات بحيث يتوجه الجهد الى بناء الذات الحضارية والنظام العصري والتربية المدنية وحقوق المرأة وحقوق الطفل والتنمية الاقتصادية والتوازن البيئي الخ... وكل هذا على قاعدة الحرية والديموقراطية والعلمانية ايضا، وان تكون هذه الحزمة من الاصلاحات في خدمة القضية القومية والصراع مع العدو من جهة وفي خدمة القضية الكونية والصراع الحضاري من جهة اخرى؟
انه ولمن المؤسف حقا ان نرى بعض مثقفينا وسياسيينا يتجنبون الكلام عن الحل العلماني في هذه الظروف وأن نرى برامج اللقاءات والتجمعات تجانب الخوض في هذا الموضوع مكتفين بانتقاد الواقع والمطالبة ببعض الحريات والديموقراطية مع تأجيل ما تبقى الى مراحل لاحقة نظرا لدقة المرحلة وشراسة الهجمة الغربية. ان واقع الحال الحضاري، اذا صح التعبير، لم يعد يحتمل التأجيل ولم تعد تكفي لحل هذه المعضلة جرعات من الحريات المؤقتة، والديموقراطية، التي تقف عند حدود المسلمات والهياكل التراثية ومؤسساتها التي ترضى ان تترنح مجتمعاتها كل يوم على ان لا تهتز اركانها ومكتسباتها يوما وذلك في نوع من نسيج العلاقات المصلحية والحماية والتغطية المتبادلتين بينها وبين السلطات القائمة.
لقد بات مطلوبا من الجميع اليوم التخلي عن فكرة ان العلمانية هي نموذج غربي غير صالح لتعميمه شرقا، وعن ان العلمانيين هم مستوردو افكار ونماذج ليس الا لدرجة صار البعض يعتقد ان للعلمانيين هوائيات على رؤوسهم تجعلهم على اتصال دائم بالدوائر الغربية عبر الاقمار الصناعية. وللخروج من هذه المعاناة لا بد من اقامة حوار هادئ يهدف الى انتاج صيغة جديدة تقوم على اساس تغيير بنيوي جوهري عبر المعالجات العلمانية دفعة واحدة او على جرعات. وإذا كانت التعبيرات العلمانية هي ضحية حصريتها ببعض النماذج ((الاتاتوركية))، فان تعمية الحقيقة هذه لا تنفي قدرة الدول والشعوب على الاندماج بتجارب علمانية ذات ((امتياز محلي))، حسب تعبير المنظر السياسي مايكل وولزر.
لقد تناول عدد من الكتاب والمفكرين موضوع اولوية العلمانية على الحرية والديموقراطية. فالكاتب فريد هاليداي، يعتبر ان الديموقراطية، كما الحرية تفترض العلمانية مسبقا، اذ على هذا الاساس وحده يمكن للدولة ان تعمل بموجب حكم القانون واحترام حقوق الافراد والتسامح وتعددية الافكار والتنظيم السياسي. والعلمانية كما يتبين تبقى شرطا لازما لأنها تتيح إمكان الاستنجاد بحقوق الفرد في مواجهة السلطة ولأنها ترتبط بثقافة اوسع للفردية والتسامح اللذين هما من مستلزمات حقوق الانسان.
ان حسم وتجاوز الجدل القائم منذ قرنين حول ضرورة العلمانية او عمقها بات يشكل المدخل الرئيسي لإقامة النظام العصري، المدني بطبيعته، وانه لمن المستحيل التقدم نحو الحرية والديموقراطية من دون الخروج من التناقضات الاجتماعية العميقة والقفز فوق مسألة التمييز الديني او المذهبي، على كافة مستويات الحياة العامة بما فيها قضايا الاحوال الشخصية.
ويعتبر استاذ الفلسفة، الذي شغل منصب مدير المركز الايراني لدراسة الحضارات داريوش شايغان انه لكي يكون هناك ديموقراطية، لا بد، اولا، من ان يكون هناك علمنة للعقول والمؤسسات، ولا بد للعلمنة من ان تسبق نقد السياسة وليس العكس.
ان تتالي مسلسل الهزائم والاحباطات الاجتماعية التي تتلقاها شرائحنا تجعل من الضرورة الانتقال بالمصطلح المطلبي من طور المطالبة بالتغييرات الشكلية الى المطالبة بالاستبدالات الكيفية وإن حركة التاريخ النازعة الى التقدم باستمرار تجعل، كذلك، من ضرورة الحديث عن الاصلاحات العلمانية ان يصبح اكثر الحاحا وأن يتجدد باستمرار، لا ان يتراخى، حتى في ذروة الهجمة الغربية او الخارجية. ان التغيير البنيوي في المجتمعات هو احد اهم استراتيجيات المواجهة للأخطار الخارجية على المدى البعيد، وإن طمر او تأجيل الخطوات الاصلاحية تحت اي حجة هو الخطر الاساسي المفسد.
الم تبلغ النقاشات حول العلمانية والاصلاحات الاجتماعية اوجها في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي وذلك في عز الاستعمار وعلى مشارف الحروب العالمية ومعارك الاستقلال الوطني؟ ألم يكن مشروع النهضة العربي آنذاك، بمجمله، قائما على مسألة العلمانية و((اخواتها)) الحرية والديموقراطية، مع ما يستتبع ذلك بالطبع من احترام التعدديات الثقافية والسياسية وحماية حقوق الانسان الخ.
ان المطلوب اليوم من صفوة هذا المجتمع اي نخبه وسياسييه، ان لا ينخرطوا بمنطق الحاكم العربي المؤجل لكل اصلاح بحجة او بأخرى، وان اي حلول مؤقتة مطروحة سوف لن تجدي نفعا اذ انها لن تفعل الا فعل إطالة عمر حالة الركود الحضاري هذه والتي وصفها البعض بالحضارة الموقوفة او المعتقلة، من ذاتها قبل ان يكون من غيرها، وإلا فلا بد ان يقودنا منطق البعض الى نتيجة عقيمة تقول حسب الكاتب صادق جلال العظم انه ((ما كان يجب ان تكون نهضة ولا من ينهضون)).
() كاتب لبناني.