أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دريسي مولاي عبد الرحمان - مأساة















المزيد.....

مأساة


دريسي مولاي عبد الرحمان

الحوار المتمدن-العدد: 1485 - 2006 / 3 / 10 - 11:39
المحور: الادب والفن
    


هو صديق لي لدرجة أنه أحيانا نصبح كتلة واحدة متراصة. فنحسب أننا منسجمان إلى حـــــدود كبيرة. و أحيانا أخرى نتحول إلى نادين كل واحد ينهج طريقا معينــــة. يرسم مسارها و يحدد أهدافها بشكل واع و مسؤول أو يتيه كل واحد في متاهات لا تعرف لها بداية ولا نهاية، فنعود بمحض الصدفة أو الحاجة الضرورية الموضوعية للحوار نتبادل أطراف الحــــــديث عن مواضيع مختلفة و متعددة. نجوب أروقة الثقافة و السياسة و هموم الناس و أشياء أخرى. نحلم بواقــــــع مغاير و حقيقة مختلفة. الواحد يحا ول إقناع الآخر, فترى خبرا ت مختلفة باختلاف عمقها و غــــــناها و جدتها و فرادتها. توصلنا إلى قناعة جوهرية تشفي غليلنا و تحيي فينا الأمل في الاستمرار. حقيقــــــــة مفادها: في الاختلاف الحياة و في التماثل الموت. و أوصلتنا حواراتنا المتتالية إلى أن فكرة التضاد لا تفســر في الود قضية على أساس أن لا تتجه إلى الإقصاء و العزل. تلك هي حقيقة الجدل باعتباره نفي النفي حقيقة جديدة تحمل في أحشائها تناقضا جديدا. دائما كنت أتذكر محاورات أفلاطون و بنائها الفلسفــــــــي الشامخ و صياغتها الأدبية ذات الصبغة الفنية الرائعة الغنية بالأسطورة و السياسة و الأخلاق و الحياة. و عجبت لأثرها الفني الذي مازال يسلب ألباب المثقفين في الجيل الحاضر.جيل يحتاج للإجابـــــة عن أسئلة وجودية مرتبطة بالذات، بالواقع، بالطبيعة والتاريخ. و لن يجد لها جوابا شافيا و مقنعا إلا بالرجوع إلى ذلك التراث الفلسفي و الأدبي و العلمي لعموم عمالقة التاريخ و صناع مجد الإنسانية عبر تاريخـــــــها الطويل لأن المعرفة وأنظمتها في الوقت الحاضر شبه غائبة. وأصبح جيل اليوم جيلا يسود في أوساطه التزمت, و الإنتاج النظري أقتصر على تفسيرات و تأويلات النتاج السابق. فترى القلسفـــــة ترتد إلــــى الكانطية عاجزة عن معرفة الشيئ في ذاته. و هاربة على سبر أغوار الفكر و الإنسان و عجــز الأدب بمختلف أشكاله التعبيرية عن إيجاد الصيغ الملائمة للتعبير عن حقيقة الإنسانية الضائعة و آلامها و ربمـا أحلامها و لما أوهامها.


صديقي ألمس فيه ذلك الكائن الغريب التائه الباحث عن حقيقة ما. ربما تكون حقيقة الإنسان ذ و البعد الواحد في حضارة القمع كما صوره هربرت ماركيوز، و ربما هي حقيقة نهاية التاريــــخ عند فرانسيــــــــس فوكوياما و لم لا تكون حقيقة صرام الحضارات كما بشر بها صاموهنتنغتون. حقائق تبحث عن شرعيتها، محاولة تعميم إطلاقيتها. فارضة طابعها القداسي. فتنهي كل محاولة للحوار و الجدال. فتكتسي تلك الصيغة التيولوجية و الأسطورية و تقضي على إمكانية الكائن الإنساني في إبراز كينونته في و ضعها موضع تساؤل. في إتاحة الفرصة للخلق و الإبداع و الانفتاح على عوالم أخرى مجهولة السمات.

في لحظات انتظاري له كنت دائما أغوص غي أعماق تفكيرلا أعرف له ثخوما. كنت أتيه في كهوف مظلمة. أحس بالشاؤم و فقدان الأمل. تتولد لدي رغبة في الصراخ و النحيب. و أحيانا كنت أتمنى الإرتماء من هاوية جبل سحيق حتى تتلاشى ذرات جسمي. و دائما عندما استفيق من كوابيسي، أتذكر قولة أحد الفلاسفة: العقل يولد الكوابيس و الأشباح و أشباه الحقائق.في غياهب و متاهات عقلي، رحت أنشد أشعاري و آخر كلمات نظمتها على نغمات موسيقى كئيبة. كلمات تحتضن الموت و الفناء. مع فسحة. بصيص أمل يلوح في أفق معالمه مفقودة. فأنا فقير، و حياتي أوراق و مهات فاشلة. شبابي بارد كالثلج، تنتابني نوبات مرضية توصلني لحدود الهوس. أيامي بلا ضوء و أفكاري ضبابية و عدمية و في الحقيقة تبريرية.

جلست في مكاني المعتاد قابعا في زاوية المقهى بمحاذاة النافذة الشفافة, فنجان القهوة أمامي أتأمله بشكل عميق. إنه الآخر يشاركني مرارتي. أصوات يعج بها المكان، تولد في نفيس الضجر. أنا بدوري لكي أخرج من هذا اللامنطق الداخلي للمكان, رحت أرقب حركة الناس الرتيبة.و كأنهم أشباه كائنة تتحرك في نسق غير منتظم. وجوه بائسة تنتظر. و لكن ماذا؟ تنتظر الموت أو عاصفة هوجاء تحمل معها بقايا هذه الكائنات الغريبة. إنهم آدميون لكنهم ملعونون بلعنة شيطان.

مشاهد غير متناسقة، وربما لا توحي بأشياء تستحق المتابعة. سيارات ضئيلة. مألوفة، أراها في حركة بطيئة تجوب شوارع البلدة النائمة في سبات عميق. ملامح الناس قاسية تشبه التركيبة التضارييسية الصعبة التي أثرت في مناخ المنطقة, فما بالك في طباع الناس و سلوكاتهم. إحساس بالفراغ ينسابني و أنا أتابع الصورة التي تتكرر أمامي يوما تلو الآخر. ضبابية تلف رؤيتي للأشياء بواسطة دخان السجائر ذات الرائح المميزة. و أنفاس الحاضرين تلهث و كأنها خرجت لتوها من معركة ضارية. فقدان النظام و الإتساق و الغموض في الهدف هي التي تطبع حياة الناس في هذه القرية. هل هي طبيعية؟ أم أن هؤلاء البشر هم المسؤولون عن طفوها إلى السطح بهذا الشكل الفضيع الممل و المقرف. لقد أصبحت هذه السمات في مستوى القانون الطبيعي ترسم حياة قدرية ملعونة. أنتظر بفارغ الصبر أن ألمح طيفه قادما نحوي. ها هو قادم يتثاءب و يتلوى كأفعى. يشبه ذرة في مهب الريح. كعادته إنه مخمور. رائحة الخمرة تفوح من مسامات جسمه و ابتسامة فيها مزيج من السعادة و الحزن.

بادرته بسؤال مباغث فيه شيئ من السخرية:
- لماذا تأخرت ياصديقي؟ أنا هنا في انتظارك منذ مدة .
- أجاب باقتضاب، و شرارة عضب تنبعث من عينيه.
- الزمن لم يعد يهمني يارفيقي. فأنا أفكر في خلق عالمي خارج الزمن الموضوعي.
- و ما هي سمات هذا الزمن؟
- الغوص في أعماق مجهولة. و الترحال في صحار قاحلة و التيه في ظلمات دامسة.
- رؤيتك للأشياء سوداوية . أنت تهرب من وثيرة الوقائع التي تدب بها الحياة. و تلقي بكينونتك إلى الانعزالية و السلبية.
- الحيا ة بمجرد زا نية جسدها نتن تفوح منه رائحة كريهة. و أنا لا أهرب منها بقدر ما أحاول إيجاد ذاتي. و أجرأة فاعليتي في سياق إنساني رائع و حلم رومانسي جميل.
- أحيانا أجد فيك التائه. و أحيانا فيلسوفا تقبع في أعماقه أمور كثيرة و مهمة.
- أنا لست فيلسوفا. و لا شخصا مقدسا. و أفضل أن أموت خنقا أو أن ألقي بنفسي في في فوهة بركان نشيط.
- بفهمك هذا أنت سقطت في العدمية. و صورة الإنسان الأعلى التي في مخيلتك مجرد أكذوبة.
العدمية إطار فلسفي له ملامح و مقومات، وصورة الإنسان تنبني على مفهوم قوة التسامي.
فالإنسان طاقة خارقة إذا أتيحت له شروط ذاتية و موضوعية، يمكن أن يفجر براكينا .و يهز الجبال و يقتلع الأشجار من عقالها. فالإنسان حقيقة الوجود.
- و لماذا تنفي عن نفسك هذه الحقيقة و تتجاهلها؟
أشعل سيجارة و أخذ نفسا عميقا. ألقى بدخانها في الهواء متأملا أشكاله الهلامية.
- ببساطة. لأن الزمن ليس بزمني, و الجيل ليس بجيلي أنا يا صديقي جئت خطأ إلى هذه الحياة. كان بالأحرى أن أموت قبل أن أولد.
- و لكنك ولدت. و الواقع يفرض نفسه ضرورة . و الآخرون ينتظرون منك أشياء كثيرة. أظن أن حقيقة الإنسان تكمن في الزمن المتر دي. المثقل بالهموم و الأحلام. حيث تنبع إنجازات للعمالقة و الكبار.

راح يرمقني بنظرات متعبة. أحسست أن كثرة الأسئلة التي أطرحها سوف تفجر أعماقه. فجأة أخرج قنينة عرق. إلتفت إلى جميع الجهات .عب الخمرة بشكل سريع, مرجعا القنينة إلى مكانها تحت حزام سرواله. أمتعض و أرتشف من فنجان قهوتي.و صاح:
طوبا للخمر. إنها تخلق لي حالة صوفية. و أنا يا صديقي عجزت عن القيام بأي شيئ حتى تجديد شروط وجودي. زماني موحش، رفاقئ ذئاب. وواقعي مريض, و أنا كذلك مريض. عجزت عن تمثل مجتمع الحرية. و أثرت التصوف كتجربة ذاتية ذهنية للإنسلاخ من كل المؤثرات الخارجية: الطبيعية و الاجتماعية و النفسية. هناك في ذلك العالم الصوفي سأتعلم الرقص و الغناء بأعلى صوت و اعزف غلى الناي ألحانا جميلة.
- حاول أن ترقص في عالمنا هذا. جرب. ستكون محاولة ناجحة.
- ملعون أنت إذا كنت سأرقص. سأختار رقصة الخنجر تتوج في آخر حركاتها بطعنة قاتلة تنهي حياة إنسان بئيس.

خرجنا من المقهى, كنا نسيح في أزقة القرية النائمة. صديقي يحاول أن يحيي فيها الحركة و الحياة كما تحيي المياه المعدنية نسوغ النباتات. كان يصرخ بأعلى صوت حتى بح. كان إنسانا آخر، كان يحلم. إفترقنا على أساس أن نلتقي في الغد في المكان المعتاد و في الوقت المحدد.


عندما عدت إلى المنزل رحت أفكر في ذلك الكائن الغريب – الإنسان- القوي الضعيف فقد إرادته و سلبت قوته. و فشل فشلا ذريعا في أداء رسالته التاريخية الملقاة على عاتقه. رسالة تحقيق الفرح و المتعة و الغبطة, رسالة الحرية و الحب و العدالة والسعادة. لقد مني بهزيمة نكراء. إنه الإنسان الذي يتخبط في خضم الحياة. تتلاطمه أمواج القلق و الفرح وو شائج الحزن و الأسى، و يسعى جاهدا إلى تحقيق حالة من الإتزان و الإرتواء و السكون. إتسمت في معظم حالتها بالكمون.

غريب أمر هذه الحياة. غريب سر و جودها، و معها مصير الإنسان. و باقي الكائنات الأخرىالتي تشاركه غريزة البقاء في كوكب الأرض. كان يحاول منذ صدمة الميلاد الأولى أن يحقق التوازن في رحلة محطاتها مكانين هما: الرحم و القبر. رحلة لها نهاية سلفا كنهاية صديقي. لقد مات صديقي و لم يتبقى لي غير مظاهر و ذكريات دفنت معه وهو يرمى في حفرة أرضية أجهل تفاصيل و حيثيات وقائعها. و تبقى شاهدة القبر صامدة على مر الأزمان كصمودي أنا.



#دريسي_مولاي_عبد_الرحمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفكر اليومي العربي ومازقه التاريخي
- في حضرة الرائحة
- مونولوج داخلي


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دريسي مولاي عبد الرحمان - مأساة