أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سفيان البوحياوي - بلدة تموت بشكل آخر















المزيد.....

بلدة تموت بشكل آخر


سفيان البوحياوي

الحوار المتمدن-العدد: 5681 - 2017 / 10 / 27 - 03:00
المحور: الادب والفن
    


جليس أرتشف كوب شاي منسم بلون الحياة والحزن يتاخمني، يستمتع بكوب الحياة الراغدة محققا ما يصبو إليه، أتساءل لماذا أراني غريبا في المكان الذي لفظت فيه أول الأمر ووعشت طفولتي به؟ تلك الطفولة التي عندما أعود إليها أو تعودني كثيرا ومن غير رغبة في استرجاعها، تداهمني من حيث لا أدري في كثير من الأحيان عندما أريد الهجع، وفي أحيان أخرى تباغتني ككوابيس وكأني بجحيم حينها، أستفيق مكدر الصفيح عابس الملامح عاقدا العزم على الخروج المزعوم، رغبة في نسيان هذا الألم بجانب البحر، فقد قيل لي يوما أن البحر أنيس الساهدين الذين تنتابهم نوبات هذيان تجعلهم يحكون ويعبرون بسذاجة عن كل أهاتهم وأحزانهم، ينسابون مع أمواج البحر، تتدفق حكاياتهم حروفا تغازل الشفاه كما يغازل زبد البحر خصر الشاطئ ، آه للبحر كم يحمل من حكاية ورواية في قواريره، كم يحمل في جوفه من أسرار المحبين المعذبين، لكن أعلم أني لست من هؤلاء، فحبي لم يمر ولم يطأ يوما خصر شاطئ ، لكن لا بحر في هذا المكان الذي أعيش به اليوم، لا جدول ماء قريب حتى أستطيع تخيله بحرا فكم من حوض ماء يتسع فجأة في أعيننا عندما نريد البوح، وكأنه الحب يغازل مقلتي المحب حين يرى محبوبته في تألق وبهاء مهما كانت سيئة الخلقة.
يعم القفر والخلاء هذا المكان مما يتيح لي الهذيان بشكل أقل أفقا وتعبيرا، الموت في كل اتجاه يطلق أجنحته، ينشر ظله الوارف على هاته المنطقة التي لا شيئ فيها غير الكأبة وروائح الموت المتعددة.
لا يشبه الموت في قبيلتي الموت في الأمكنة الأخرى إلا في الإستكانة التامة، ببلدي حتى رائحة الموت تختلف، وطقوس الاحتفال به أكثر غرابة حتى؛ يموت أهل بلدتي كل يوم ليس بشيئ غير سلاح مدمر ينثر النار من فوهته التي يستمتع أهل قريتي بإشعالها لتقتلهم، ثاركا بقايا جريمته بجسد أتعبته السنوات القليلة حتى شاخ فجأة، شاخ جل من استطعت التعرف عليهم من خلال قسمات وجههم التي تغيرت جلها، تكدرت الوجوه واسودت واعتلت الرأس بقع قاحلة وأخرى طالها جفاف السنة حتى عمها البياض بغير أجل، كل شيء تغير ببلدتي تضاريسها، أزقتها، أناسها، كلابها وقططها أيضا، حتى هي لم تسلم من الموت، ولو باختلاف السبل إليه.
لم أعرف يوما أناسا بموتهم يحتفلون وبانتحارهم يستمتعون والابتسامة تعلو محياهم، لم أر يوما محتضرا يردد الحكايات وأساطير أناس القرية بكل فخر والموت يغازل شفتيه السوداويتين، لم أعلم أن الأمر قد يصل بأناس حد العبث بسلاح في فمه؛ عندما ينثر هذا المدمر بقايا رصاصته المعدنية محمرة يلتقطها شخص آخر ينتظر دور موته، يلتقطاها بجزمة نعل قديم مرقع يرفعها وكله حزم وإقدام وينزل بها على بقايا الرصاصة بكل قوة حتى تصبح غبارا ينتشر بكل بقاع المكان، غبار الموت ينتشرمداعبا أنوف أعظاء المجلس وسهرة الموت، التي الذي غالبا ماتقام أمام دكان القرية المركزي المطل على المقهى الرئيسة والتي صارت ساحة الموت أو دعونا نقول مقصلت الأعناق الضعيفة فيما بعد.
بالإجهاز على الرصاصة بعدما أجهزت على جلهم، أحس أنه ينتقم منها بشكل عفوي، ينتقم من القاتل بإبراز قوة ساعده التي تتلاشى يوما تلو الآخر، يموت القاتل بعد أن فعل فعلته داخل جسد أبناء بلدتي، وكأنه نحلة تنتحر بعد لذغتها، لكن النحلة تنتحر في سبيل الجماعة في حين ابن بلدتي بنتحر من أجل حكايات مذمومة تقال عنه بعد خلاصه أو بالأحرى بعد استقرار الرصاصة في صدره بشكل نهائي، سيقال عنه في مجالس الموت تلك "كان كلما نثر قنبا نعل الجماعة التي ترعرع ومات معها" ويقال عنه في بيته "نعل الله قنبه وما جاره علينا"، في الحالتين سيشار له بالبنان ولن يستقر في الذهن إلا أنه توفي منتحرا بقنب هندي عشش في صدره بل وتكاثر بعد أن ألف المكان وتوغل في كل البقاع، جل ابناء بلتدي يواجهون الموت اليوم في أي لحظة، وكأنهم يتعايشون معه والكل سعيد لذلك، بل وأحيانا أراه بين جنبات أسنانهم التي فقدت لونها بحلول السواد بها، أو بعد أن صارت بقايا الاسنان فقط، فقد يكون جفاف السنة مر على كل شيء فيهم. لكل موت شكل وللموت ببلدتي شكل آخر.
لا يمت أهل هذا المكان جسدا فقط، بل ماتت فيهم القيم والأخلاق والأنساب حتى الجماعات والمجالس ماتت فيهم اليوم، مجالس الموت التي حدثك عنها تععدت، صارت لكل منطقة مجلس موتها المختلف ومواضيعها التي تذم في غالب الأحيان المجالس الأخرى، أشك في أن الجاهلية لا زالت رواسبها فينا متغلغلة تأبا الاندمال، تثور فينا بين الفينة والأخرى كبركان يهمد لسنوات لكن عندما يثور يجرف كل شيء من حوله أوفي طريقه.
بركان بلدتي من نوع آخر، هو بركان جرف كل ما يوثق صلة أبناء المنطقة ببعضهم، بركان جعلهم فرقا وطوائف متصارعة في الخفاء والعلن على أتفه الاسباب أحيانا،بعد أن كانت البلدة عبارة عن أسرة واحدة متعددة الفروع، جعل مجالسهم الموحدة شبه منعدمة إلا في لحظات جنازة، لحظة وفاة تزف فيها جتة إلى مقامها بعد أن تخلصت من روحها المحملة بطائفيتها، هامدة تنعيها نظرات بحزن وأخرى بابتسامة، الابتسامة في الجنازة أحيانا قد تكون دليلا عن إعجاب بالموت أو بطريقته وليس ما قد توحي به للعقول الضعيفة، صارت القبيلة شيعا وطوائف وكأنها لم تكن يوما موحدة تحت لواء المصلحة العامة، بها اليوم شيعة تناصر فردا بكل السبل وشيعة أخرى تناصر آخر غير أبهين بالأواسر التي جمعتهم على مر تاريخ القبيلة، كل شيء أصبح منقسما وفق هاته التنائية وطال جل مناحي الحياة.
من خمس سنوات والأكيد أن الأمر سيحتدم خلال الأسابيع القليلة المقبلة، نشب مع السباق عن الصدارة سباق عن تزعم القبيلة، سباق جعل المقدس مباح خرقه والأعراف هدمها غير مدنس، جعل كل شيء يقف في طريق المصلحة العامة غير ذي قيمة أمام مصلحة شخص أو شخصين، الكل يدعي المعرفة والعلم ومصلحة المنطقة لكن كل هذا يضيع بين أصابع هؤلاء، حتى إنك عندما تجالس البعض فإن أول حديث يستهل به المجلس- ليس مجلس الموت- هو الحديث عن الإقتراع والصراع الثنائي أو الرباعي ومن خلاله الصراع بين طائفتين أو قبيلتين داخل نفس القبيلة.
يذكرني الأمر بسمات الجاهلية التي اطلعنا عنها في الكتب الصفراء، لكن ما يعوز تلك الكتب هو أنها غفلت أن حياة الجاهلية كانت في بعض نواحيها اليومية أكثر تنورا وانفتحا مما تعيشه قبيلتي اليوم، كما فاتها الإشارة إلا أن الإسلام لم يزل الجاهلية فينا ولو تباعد زمننا عنها. صحيح أن الإسلام غير منا كثيرا لكن بقبيلتي الإسلام بالفطرة لا غير، وما عدا ذاك فالقيم جاهلية ولو ادعينا غير ذلك فسيكون الأمر من باب التنميط لا غير، ولو أدعينا والتنوير كذلم فلن نكون عدا مقلدين للغرب مقتبسين منهم نمط حياة دون إخضاعها للقيم الإسلامية لأنها ببساطة تعوزنا.
يموت أهل هاته البلدة كما هي بلدات أخرى ببلدي الكبير، بمغربي السحيق البعيد والمتوارى عن الأنظار بأشكال مختلفة، أعتقد أن التفرقة التي لعب عنها الكثير في هاته المناطق كانت بغاية الاستفادة أكثر من خيرات هاته البقعة الغنية بمواردها وضيعاتها الوارفة، حيث عمل المسؤولون عن مبدإ التفرقة بغية إحكام القبضة على كل شيء، وجدوا الموت سبيلا للخلاص من أهل هاته القرية،خيروا أهلها بين الموت أو الرحيل فأختار جل شبابها الرحيل عوض الموت. حاملين بين ثنايا أمتعتهم أملا صغيرا يكبر يوما فيوم، أمل في حياة بعيدة عن هاته المنطقة التي تعج بجتة شبابها وشيوخها كما تعج بصراعاتها.
ليست هاته المنطقة بمغربنا العميق الذي يقدم دمه عربون محبة لقطعة أرضية قيل لنا أن حبها من الإيمان، بل هي قريبة من المركز قربها للشمس، لعل حرارتها هاته تشي بتغلغل الصراع الطائفي في باطنها، وزيارات المسؤولين كل خمس سنوات هي تفقدية من أجل الوقوف عند أوراق ستوضع في صندوق وتحسب ثم تحرق وعها فلتحرق المنطقة على عروشها.
هكذا هي الصورة العامة وفي التفاصيل يكمن الشيطان، لذلك فلن نصل إلى التفصيل إلا حينما تمر بعض الأسابيع التي تنذر بواقع أكثر طائفية خاصة أن الشجرة ماتت في هاته المنطقة. لكن للأسف نحب هاته البلدة كثرا، هذا الحب الذي يجعلنا نعود هنا كل سنةلنجدد الولاء، صرنا نجد الأمر يسير وفق شكل مخزي في السنوات الأخيرة ، كل المناطق تتقد إلا هاته فبتقدما تتراجع للوراء، تسير وفق مبدإ معكوس" خطوتين للوراء، خطوة للأمام" أصبحت الدور الاسمنتية في كل مكان حتى القلوب معها أصبحت إسمنتية والخراب يعم بعضها الآخر، ما أقبح خراب الدور والقلوب، يتشابهان حد اندثار المميزات حنما تصبح القلوب مدخة دم فقط كما تصير الدور مرتع القطط ومكان توالدها لا غير.

هي الحياة اليوم تتأرجح بين طائفية وقنب هندي ، ولعل هذا يشي بالموت الجماعي القريب، الذي لا منقد منه غير الحب الذي ننتظر بفارغ الصبر أن يعلو الوجوه يوما.
أحبوا بعضكم البعض ودعوا كل أمر لصاحبه، ابعدوا الموت من أفواهكم تبتعد من قلوبكم.
s.bouhi



#سفيان_البوحياوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سنة يعوزها عنوان


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سفيان البوحياوي - بلدة تموت بشكل آخر