أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سعدون الركابي - ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد- 3















المزيد.....



ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد- 3


سعدون الركابي

الحوار المتمدن-العدد: 5423 - 2017 / 2 / 5 - 23:50
المحور: سيرة ذاتية
    


السعي ومشيئة الله, مفتاح النجاح

كان ذلك في صيفِ سنةِ 1980, أواخر شهر حزيران. بعد إنتهاءِ السنةِ الدراسيةِ في الصفِ الأول في كليةِ الإدارة و الإقتصاد جامعة بغداد, و نجاحي في جميع الإمتحانات, و إنتقالي الى الصف الثاني. إذ سافرتُ مباشرةً في الباص, الى تركيا. و بعد إستراحةٍ قصيرةٍ في إستنبول, سافرتُ بالقطار الى بلغاريا التي بقيتُ فيها حوالي الإسبوع. ثم إستقليتُ القطار من صوفيا الى بوخارست, عاصمة رومانيا. حيث أمضيتُ إسبوعآ آخرآ في بوخارست. لقد إلتقيتُ بعددٍ من الطلبة العراقيين الذين يدرسون إنذاك في بلغاريا. و حصلتُ منهم على مُختلفِ المعلومات عن الدراسةِ في بلغاريا و تكاليفها. و أذكرُ إنني كُنتُ قد شعرتُ بِشيء من الغرابة و النفور من حروف اللغة البلغارية " السلافية ", التي تختلفُ كثيرآ عن حروفِ اللغة الإنكليزيةِ. كما إلتقيتُ أيضآ مع بعضِ الطلبة العراقيين الدارسين وقتها في بوخارست. و لستُ أدري, لِماذا أحببتُ رومانيا من أولِ نظرة. فطِيبة أهلها, و قرب بعض طباعهم من طباعنا, و طبيعتها الجميلة, و سلاسة لُغتها و حروف هذهِ اللغة الشبيهةِ بحروفِ اللغةِ الإنكليزية, التي كُنتُ أُجيدُها بمستوىً لا بأسَ بهِ, و نصيحة بعض الطلبة الدراسين في بوخارست لي, بأنَّ رومانيا هي إختيارٌ جيد, جعلني أختار رومانيا, كبلدٍ مُناسبٍ للدراسةِ في إحدى جامعاتِها. و اليوم, و بعد مرورِ أكثر من 37 سنة أمضيتها في هذا البلد المُعطاء, رومانيا. عايشتُ فيها عن قُرب, الشعب الروماني الودود الطيب, الذي إحتضننا بكُلِّ طِيبةٍ و إلفة, أشعرتنا كأننا بين أهلنا. أشكرُ الله, بأنني أنا هنا في هذا البلد الطيب. إذ عِشنا من خيراتهِ, و تعلمّنا في جامعاتهِ, و منحَنا الأمن و الأمان, و ضمّنا الى مواطنيهِ, كمواطنين كاملي الحقوق. شكرآ لرومانيا و شكرآ للشعب الروماني. لقد جئتُ الى رومانيا, و كان عمري أقلّ من عشرين سنةٍ بقليل. و إذا كان العراق, بلدي الأول, بلد أمي و أبي, الذي وُلِدتُ فيهِ, و أكلتُ من زادهِ و شربتُ من ماءهِ و إستنشقتُ هواءهُ, و تعلّمتُ الكثير في ربوعهِ المعطاء و بين أهلهِ - أهلي - الطيبين الكرماء أهل الغيرة, إذا كان هذا العراق العظيم, بلدي العزيز الأول, فإنَّ رومانيا, هي بلدي العزيز الثاني و هي أيضآ, بلدي الثالث.
بالرغم من حداثة سني و قِلَّة خبرتي في الحياة, إلا إنني خطَّطتُ لموضوعِ الحصول على مقعدٍ للدراسةِ في إحدى الدولِ الأوربية, بحكمةٍ. إذ قرّرتُ أن أتركَ لي خطآ للرجعة. ففي حالة, فشلِ هذا الأمر, و حتى إذا ما فقدتُ سنةً دراسيةً في كُلِّيةِ الإدارةِ و الإقتصاد, فإنني سأُقدمُ طلبآ لعمادة الكُلِّيةِ المذكورة لتأجيلِ سنةٍ دراسيةٍ. ثُمَّ أعودُ بعد سنةِ إنقطاعٍ لإكمالِ دراستي, في الصفِ الثاني في الكُليةِ ذاتها. فأنا سأحاولُ و أبذلُ أقصى الجهود, لتحقيقِ حُلمي للحصول على القبول في كُليةِ الطب, في إحدى الدول الأوربية. دون أن يكونَ قد تبلور في ذهني, إسم بلدٍ بعينهِ. إذ كُنتُ مُستعِدآ لقبولِ أيةِ فرصةٍ ستسنحُ لي للدراسةِ, بغض النظر عن بلدِ الدراسة. سواء أ كانت هذهِ الفرصة, في بلدٍ أوروبي أو حتى في بلدٍ غير أوروبي. إذ قدَّمتُ مرةً, طلبآ الى مكتبٍ تمثيلِ المصالح المصرية في بغداد. إذ كانت وقتها قد قطعت معظم الدول العربية, علاقاتها الدبلوماسية مع مصر. و ذلك بعد زيارة السادات الى تل أبيب سنة 1977. و لقد إستفسرتُ عن السفارة التي ترعى المصالح المصرية, و زرتها. رغم ذلك, فإنَّ توجهي الأول, كان هو الحصول على القبول الدراسي في إحدى دول أوروبا الشرقية, و خاصةً بلغاريا أو رومانيا. و ذلك لرخصِ تكاليفِ الدراسةِ و الحياةِ المعيشية في هذهِ الدول. كُلُّ هذهِ المعلومات و غيرها, حصلتُ عليها من الأشخاص الذين كُنتُ ألتقيهم, أثناء مُراجعاتي المُستمرةِ الى السفارات الأجنبية. و ذلك خلال فترة السنة الدراسية, التي أمضيتها في كُليةِ الإدارة و الإقتصاد. و فيما بعد, عرفتُ هذهِ الأمور و غيرها, مباشرةً من مصادرها. و ذلك عند زيارتي لبلغاريا و لرومانيا. لقد تهيأتُ أثناء فترة الدراسة في كليةِ الإدارة و الإقتصاد, للحصول على الجواز و الحصول على الفيز السياحية اللازمة من السفارات, التركية و البلغارية و الرومانية. و لقد إستجاب لي الوالدان على مضض. بعد أن عجزا عن إقناعي, بالعدول عن موضوع ترك دراستي في كلية الإدارة و الإقتصاد, و السفر للدراسةِ في أوروبا. ذلك إننا أُناسٌ فقراء, لا طاقة لنا على إحتمالِ مصاريفِ الدراسةِ في الخارج. إلاّ إنهُ كان عندي أملٌ كبيرٌ بالحصولِ على البورصة الدراسيةِ من الحكومةِ العراقية. إذ إنني كُنتُ قد سمعتُ من الكثيرين, بأنّهُ و من أجلِ الحصول على البورصة المذكورة, فعلى الطالب الحصول على مقعدٍ دراسيٍّ في إحدى الجامعات الأجنبية أولآ. و أن يقوم الطالب, بإنهاءِ سنةٍ دراسيةٍ بنجاح, في تلك الجامعة, و على حسابهِ الخاص. و بعد ذلك, يمكنهُ تقديم طلبه الى السلطات العراقية, من أجلِ الحصول على البورصة. هذا الأمل, كان هو الأمر الحاسم, الذي شجّعني من أجلِ السعي الجاد, لتحويل الحُلم شبه المستحيل الى حقيقة. إذ باع المرحوم والدي بعض المواشي, و أعطاني مبلغ 500 دينار. كي أشتري بها الدولارات من البنك, لسدادِ تكاليف السفر الى اوروبا. إذ إستلمتُ أكثر من 1500 دولار أمريكي من بنك الرافدين في بغداد, بعد تدقيق الجواز و الفيز المختومة فيهِ. كانت أولُ سفرةٍ لي الى تركيا, و منها الى أوروبا. في ذلك الوقت, كان الملايين من العراقيين, يسافرون الى مختلفِ بلاد الأرض في فترةِ العطلة الصيفية, و خاصةً الى تركيا و أوروبا الشرقية. لقد كان العراق ينعمُ بفترةِ رخاءٍ و بحبوحةِ عيش. و كان العالم ينظر الى العراقيين, نظرة إحترام. إذ كان العراقي يُعامل مُعاملةً مُميّزةً, سواء من قِبلِ موظفي سفارات الدول المُعتمدة في بغداد, أو من قِبلِ سلطات تلك الدول و مواطنيها, عند وصولهِ الى أراضيها. و أثناء وجودي في بوخارست, ذهبتُ الى السفارة العراقية في بوخارست. و إستفسرتُ من الملحق الثقافي في السفارة, حول مُعاملات القبول الدراسي. و قدّمتُ طلبآ للملحقيةِ للحصولِ على مقعدٍ دراسي, في كُليةِ الطب في رومانيا. و أبلغني الملحق, بأنّ تقديم الأوراق الدراسية, يتمُّ فقط, عن طريقِ دائرة البعثات في بغداد. و ستقوم دائرة البعثات بإرسالها الى السفارة. و أضاف المُلحق؛ نحنُ سنسعى مع السلطات الرومانية, للحصولِ على الموافقات الدراسية. و لأنك قدَّمتَ لنا الآن الطلب, فسنقوم بتسهيلِ قبولكَ في إحدى الجامعاتِ الرومانية. و لقد أكدَ لي الملحق, عند مُصافحتي في نهايةِ اللقاء, أعتبرها مضمونة من جانبنا. و لقد جئتُ الى صوفيا و الى بوخارست برفقةِ البعض من العراقيين الذين سافرتُ معهم بالباص من بغداد الى إستنبول. و عند عودتي الى إستنبول, عدتُ مع هؤلاء العراقيين السياح. إذ جاء بعضهم, برفقةِ عوائلهم. و في إستنبول إلتقيتُ بالكثير من العراقيين. سواء البعض مِمن جاءوا معنا أو مِمن جاءوا في باصاتٍ أخرى. إذ كانت إستنبول تعجُّ بالعراقيين. و لقد سكنتُ في فندقٍ متواضعٍ بالقربِ من بازار إستنبول الكبير. و في الغرفةِ التي سكنتُ فيها, كانت توجد الكثير من الأسِرَّة. و رغم ذلك, لم يكُن يسكن يومها, في تلك الغرفة, سِوى شابآ مصريآ, لا يتجاوز عمرهُ العشرين سنة. و لقد تحدّثتُ معهُ, فترك في نفسي, إنطباعآ حسنآ. إذ إدَّعى, بأنّهُ من عائلةٍ مصريةٍ مُحترمةٍ من مدينة أسيوط. و إنَّهُ يدرسُ في جامعة أسيوط في كُلية التجارة, كُلِّية مرادفة لكلِّيةِ الإدارة و الإقتصاد في العراق ( أصبحنا زملاء! ). و إنّ عمّهُ عميد الكلية المذكورة. كُنتُ أحملُ في يدي, حقيبةً دبلوماسية. وضعتُ فيها, وثائقي الدراسية, و جنسيتي و شهادة الجنسية و غيرها. و ذلك لحاجتي لهذهِ الوثائق, لتقديم طلبات الدراسة. و بالفعل إحتجتُ لها في السفارة العراقية في بوخارست, عند تقديم أوراقي الثبوتية في الملحقية الثقافية. شيئان لم أكُن أحتفظ بهما في الحقيبة, و هما جواز سفري و دولاراتي التي لم يبق منها إلا القليل جدآ. و لقد راح هذا المصري, يُغدقُ علي بالنصائح المجانية, بعد أن كسِب ثقتي بهِ. بأن لا أترك حقيبتي عند موظفي إستقبال الفندق, خوفآ من السرقة! و لأنني عراقي ( العراقيون عندهم فلوس كثيرة ), فلقد إعتقد هذا المصري, بأنّ هذهِ ( الشنطة ), مليئة ب ( المصاري ). و لأنني عراقي " فطير ", و العراقيون " ينقطون عروبة و قومية, فهم بطبيعتهم يحبون العرب و يميلون لهم. بينما أخونا العربي, كان ينظر لي كما ينظرُ الثعلب للحَمَل! في حقيقة الأمر, هكذا ينظر العرب للعراقيين!! و لقد كان من المُقرّر أن أبقى في إستنبول يوم أو يومين. و بعدها سأُسافر مع الأخوة العراقيين الذين جئتُ معهم و مع نفس شركة النقل التي جلبتنا من بغداد. و في لحظةِ غفلة, رُبما ذهبتُ الى الحمّام أو لشراء الطعام, تركتُ حقيبتي الدبلوماسية, في الغرفة. و كان ذلك المصري موجودآ فيها, مُمدّدآ على فراشهِ. و لقد وضعتُ فيها مبلغ 90 دولار, آخر ما تبقى عندي من مصرفي, أحتفظُ بها لدفعِ إجور الباص من إستنبول الى بغداد. و ساعتي اليدوية و وثائقي, ما عدا جواز سفري الذي كان يرافقني مثل خيالي. و عندما عدتُ, لم أجد " الشقيق العربي " المصري و لا الحقيبة. لقد جنَّ جنوني. فلقد أضعتُ وثائقي الدراسية. و لم يبق عندي إلا " فراطة " من الدولارات. و عليَ أن أدفع إجرة الباص, من إستنبول الى بغداد. و كان عندي القليل من الفلوس العراقية, وضعتها في الحقيبة التي سُرقت, إدخرتها لأُدبِّر أموري بعد دخول العراق. و كذلك لأدفعُ إجرة الباص من النهضة الى الرفاعي. أهلي في الريف, لا توجد أية وسيلة إتصال بهم و لا هم يحزنون. بكت أمي عندما أردتُ السفر, كما بكى المرحوم والدي, و هو يودعني قرب باب الباص الذاهب الى إستنبول. أنا ولدٌ عاق! أخبرتُ موظفي الفندق, فوجدتُ إنَّ هذا " الشقيق " المصري, كان قد قدَّم لهم وثيقةً بإسمٍ آخر. و لقد بحثتُ عنهُ مع بعض العراقيين في منطقة البازار. و وجدنا بعض المصريين الذين قالوا إنّهم يعرفونهُ بإسمٍ آخر. و لقد كذّبوا إدعاءاته لي. و أكدَّوا بأنهُ " حرامي ". و إتصلتُ بالشرطة التركية. و كان طلبي الوحيد أن يُعيد لي هذا " الشقيق " وثائقي فقط, و لا أُريدُ منهُ شيئآ آخر. لا الساعة و لا الدولارات و لا الهدايا التي إشتريتها الى أهلي و سرقها شقيقي المصري أيضآ. بل سأكون شاكرآ لهُ إذا فعل ذلك, و سأعفوا عنهُ. و لقد تكفّلَ رفاقي العراقيين بدفعِ إجور نقلي في الباص معهم, من إستنبول الى بغداد. كما تبرّعوا لي ببعض الفلوس العراقية, كي أدفع إجور النقل من محطة الباص في علاوي الحِلّة الى باب النهضة. و كذلك أجور الباص من باب النهضة الى الرفاعي. و مصروفات الأكل, طيلة الطريق. و قالوا لي نحنُ إخوتك. هذهِ هي الغِيرة العراقية, التي يفتقدها الكثيرون, سِواء من العرب أو مِن غير العرب! و لم أنم ليلتها, و شعرتُ باليأس, بأنَّ حُلمي قد تبخَّر. و إنقلبت فرحتي الى حزن. إذ بكيتُ ليلتها كثيرآ. و عدّتُ الى أهلي باكيآ. و لقد فرِحوا بعودتي لهم سالمآ. و لقد قال لي والدي, عساها " بيها صالح ". و معناها, إنَّ ما حدثَ لكَ, هو علامة شؤم و تحذير لك من الله, بأن تترك هذا الأمر. و لكنني, و أنا الإنسان العنيد الذي لا يقبل الهزيمة, رفضتُ أن أترك هذا الأمر. و في صباح اليوم التالي, سافرتُ مع والدي الى بغداد لإستخراج البدل الضائع لشهادةِ الجنسية. و بعدها الى المحافظة لإستخراج الجنسية. و الى إدارة ثانوية الرفاعي, لإستخراج شهادة التخرُّج من الثانوية. و لقد ساعدني الله, فساعدني الجميع, و إستلمتُ هذهِ الوثائق بسرعةٍ فائقة. و لقد عرفتُ بأنَّ تقديم الوثائق للحصول على الدراسة في الخارج, يتمُّ عن طريق الإتحاد الوطني لطلبةِ العراق, في مقرهِ المركزي في بغداد. و أسرعتُ الى هُناك. و بعد إكمال معاملة التقديم, وعدوني كما وعدوا الآخرين مثلي, بمراجعة مقر الإتحاد بعد حوالي الشهر. و أودّ الإشارة هُنا, بأنني إستلمتُ من البريد, و بعد حوالي الشهر من عودتي من إستنبول, إستلمتُ جميع وثائقي, ما عدا الفلوس و الساعة. و معها رسالة إعتذار من المصري, مُعربآ فيها عن ندمهِ على فِعلتهِ الدنيئة تلك! و في الموعدِ المُقرّر, حضرتُ الى مقرِ الإتحاد الوطني لطلبة العراق.. فأخبرني الموظف, بأنّهُ كانت قد وصلت قائمة من أسماءِ المقبولين في رومانيا, قبل حوالي الإسبوع. و هي هُناك مُعلّقةٌ على لوحة الإعلانات. و لقد كانت هناك قوائم من مختلف الدول. و لقد بحثتُ في قائمة رومانيا, و لم أجد أثرآ لإسمي. و كانت صدمةً, كُدتُ أفقدُ الوعيَ خلالها. و ذهبتُ الى الموظف, فقال لي؛ بأنَّ عدد الذين يتقدَّمون بطلباتهم للقبول, هو أكثر من عدد المقاعد الدراسية التي تمنحها حكومات الدول للعراق في كُلِّ سنةٍ دراسية. لقد خدعني الملحق الثقافي إذآ؟! أنا كُنتُ أعرفُ ذلك الأمر, لذلك ذهبتُ الى السفارة العراقية في بوخارست, و قابلتُ الملحق الثقافي شخصيآ. و لقد تركتُ لهُ نُسخةً من وثائقي. و ذلك كي تكون عندي ضمانة للقبول. كما إنني قدّمتُ نُسخةً مُطابقةً لها الى مقر الإتحاد الوطني, لإرسالها الى الملحقية الثقافية في بوخارست! ماذا حدث, هل أُهملت وثائقي من قِبلِ المسؤؤلين في الإتحاد, لتقديمِ وثائقِ طالبٍ إخر " بالواسطة "؟ أم فعلها المُلحق؟ فطلبتُ مُقابلة رئيس الإتحاد آنذاك, محمد دبدب. فقيل لي تعالَ غدآ صباحآ للمقابلة. و الآن, سأخبركم بحادثتين, حدثتا معي فيما بعد. سأخبركم بهما بالضبط, كما حدثتا. و أقسمُ بالله, بأنني لم أكذب. و أرجو أن تجدوا لهما تفسيرآ. فلقد كانتا دليلآ قاطعآ, بأنَّ هناك قدرةً إلهية أو قدرة إمامٍ ما, قد تتدخّل لتجعل غير المُمكن مُمكِنآ. و لا أُغامر بالقول, إذا ما قُلتُ, بأنها تجعل من المستحيل مُمكِنآ. الحادثة الأُولى: خرجتُ من مقر الإتحاد, و إتجهتُ الى مرقد الإمام الكاظم عليهِ الصلاة و السلام. إذ كُنتُ في حالةٍ يُرثى إليها, و لقد شعرتُ بأنَّ حُلمي بدأ يتبخر من بين يديَ. لقد ضاع الحُلم, و ضاقت الدنيا في وجهي. و زرتُ الإمام, و صليتُ و بكيتُ و دعوتُ. و أخذني النوم, و نمتُ في ركنٍ هادىءٍ. و صحوتُ بعد بضعِ ساعات, على أصوات زوارِ الإمام. و صليتُ و دعوتُ و بكيتُ. و في المساء ذهبتُ الى أحد الفنادق. و حاولتُ النوم, و لم أستطع. كما لم آكل شيئآ, طيلة نهار ذلك اليوم. و نمتُ جائعآ. و في الصباح, و في حدود الساعة العاشرة, ذهبتُ الى مقرِ الإتحاد. فقال لي الموظف في المقر: لقد وصلت الى الإتحاد صباح هذا اليوم, برقيةً بالفاكس, مُرسلةً من الُملحقيةِ الثقافية في بوخارست. فيها ملحق لقائمةِ الأسماء التي أُرسلت قبل فترة. عسى أن يكون إسمك فيها. و أبحث عن هذهِ القائمة. أ تعلمون ماذا وجدت فيها؟ لقد وجدتُ فيها ثلاثة أسماءٍ فقط, كان إسمي الثاني فيها!! و لم أُصدِّق ما تراهُ عينايَ. و كدتُ أطيرُ من الفرح. و لكنني إكتشفتُ بعدَ أن صحوتُ من لحظة النشوة, بأنّني قد حصلت على مقعدٍ للدراسةِ في رومانيا, و لكن ليس في كُلِّيةِ الطب, بل في كُلِّيةِ هندسة النفط. فعادت ليَ حالة الكآبة من جديد. و لكنني إستعدتُ رباطة جأشي, عندما طمأنني بعض الحضور من الطلبة في مقرِ الإتحاد, بأنني قد أتمكن من تغيير الكلية في رومانيا. و إذا لم أستطع, فهذا الأمر خيرٌ من لا شيء. ثُمَّ إنَّ كُلِّيةِ هندسة النفط, هي كُلِّيةٌ مُحترمةٌ في العراق, و لها مُستقبلٌ مُحترم. و لقد رفعتُ يدييَ الى السماء, و شكرتُ الله. و لكن, لماذا يا تُرى أرسلت الملحقية, ثلاثة أسماءٍ اليوم, بعد أن كانت قد أرسلت أسماء جميع الطلبة المقبولين في رومانيا قبل حوالي الإسبوع؟ فأخذتُ تأييد القبول من مكتب الإتحاد, و ذهبتُ الى دائرة البعثات, لمعرفةِ ما يجب فعلهُ بعد ذلك. فقيلَ لي؛ عليك أن تجلب موافقة دائرة تجنيد منطقتك, و تأشير دفتر خدمتك. خذ هذا التأييد الذي يؤكد حصولك على القبول الدراسي في رومانيا , و قدِّم نسخةً منهُ الى دائرة التجنيد. و عندما تأخذ تأييد دائرة تجنيد الرفاعي, تذهب الى جوازات ذي قار للحصولِ على موافقتهم, لتأشيرِ جوازك و منحك موافقة السفر. و موافقة التجنيد هذهِ, ليست بالسهلة, و لكنها ليست بالمُستحيلة. لقد إتبعتُ طريق الكتمان طيلة الفترة الماضية. فلم أُخبر أحدآ غير أهلي, عن محاولاتي للحصول على فرصةٍ للدراسة في أوروبا. و حتى سفرتي الى أوروبا, لم أخبر أحدآ عنها. و هذا كان تصرفآ حكيمآ, و كما سنرى. إذ روَّجتُ بين الناس, بأنني أنوي السفر الى الكويت, لأشتغل في البناء هناك, لجمعِ بعض مصروفات الدراسة, في فترةِ العطلة الصيفية. إذ إنَّ الجميع, يعرفون إنّني أدرسُ في كُلية الإدارة و الإقتصاد في جامعة بغداد. لقد كُنتُ أمامَ مأزقٍ و حالةٍ مُعقَّدةٍ, و فيها بعض المخالفات القانونية. مِمّا تستدعي الكثير من الحذر و الحِكمة, و الحيلة و الكذب الأبيض, الذي لا يؤذي أحدآ. و ذلك للحصولِ على الموافقاتِ اللازمة. إذ أوضحوا لي في دائرة التجنيد الأمور. ففي حالة نية السفر الى دول الخليج, فيجب عليَ أن أجلب موافقة الكلية أو مكان العمل. و أن أجلب كفيل غير والدي و أخوتي, يكفلني بمبلغ 5000 دينار, أي ما يُعادل 16000 دولار في ذلك الوقت. و إذا شئتُ السفر الى أوروبا للسياحة, فسأُمنح موافقة التجنيد, دون الحاجة الى الكفيل. و من ثُمّ موافقة دائرة الجوازات. أمّا إذا كان هدف السفر الى أوروبا للدراسة, فلابُدَّ من جلبِ كتاب تأييد من مكان العمل. في حالتي, مكان العمل كان هو كُلِّية الإدارة و الإقتصاد. إضافةً طبعآ لكتاب تأييد دائرة البعثات, الذي يُؤكد حصولي على القبول الدراسي. و هنا هو المأزق الكبير. إذ لو ذهبتُ الى كُلية الإدارة و الإقتصاد, لطلبِ مِثلَ هذا التأييد, فليس أمامهم سِوى إلغاء قبولي في الكلية. و لكن قبل ذلك, يجب عليَ أن أ دفع جميع مصاريف الدراسة في الكلية, عن عامٍ دراسي كامل, و مصاريف القسم الداخلي في ذلك العام. و من أين لي بكُلِّ هذهِ الأموال؟ كما إنَّني لا أُريدُ فقدان كلية الإدارة و الإقتصاد. و لو سمِع الناس, بأنني أُريد السفر الى أوروبا للدراسة, فلن يتورَّط أحدٌ لكفالتي بمبلغ 5000 دينار. ذلك إنّها غير مضمونة, عودةَ الذي يذهب الى أوروبا. أمّا في الكويت, فالكويت قريب. و ليس هناك مجنونآ يترك كُلِّيتهُ و مستقبلهُ, من أجل أن يبقى عامل بناء في الكويت. و هكذا, فلقد قدّمتُ طلبآ الى دائرة تجنيد الرفاعي, للسفر الى الكويت في العطلة الصيفية. و أخفيتُ قصة السفر الى أوروبا للدراسة, و بالتالي, أخفيتُ كتاب دائرة البعثات. فطلبوا مني في دائرة تجنيد الرفاعي, كتاب تأييد من كلية الإدارة. ذلك, إنَّ لديهم تأشيرة في صفحتي و في دفتر الخدمة العسكرية, بأنني أدرسُ في هذهِ الكلية. فأسرعتُ الى بغداد, و طلبتُ من سكرتارية العمادة, كتاب تأييد الى دائرة التجنيد. و ذلك لتسهيل سفري الى الكويت في العطلة الصيفية. بعد ذلك, طلب مني ضابط التجنيد, جلب كفيل من غيرِ عائلتي. و إستنجدتُ بأحد " المعارف " و هو من قرية خضر الفشاخ, و من غير الأقارب. و كُنتُ قد وجدتهُ في مقهىً في سوق سِعدة على حافةِ الشط. فشرحتُ لهُ موضوع سفري الى الكويت, و حاجتي الى الكفيل. فقال لي: من أجلك أنت أنا مستعد للكفالة. فأسرعنا الى دائرة التجنيد, و إستلمتُ الموافقة. رحم الله, ذلك الإنسان الطيب الشهم الذي ساعدني دون مقابل. أودُّ الإشارة هنا, بأنني بكذبتي البيضاء هذهِ, لم أنحرف عن مبادئي. ذلك إنني لا أنوي الهرب الى أوروبا, بل أنا أنوي السفر لغرض الدراسة. و لكن لو قلتُ الحقيقة, فستتعرقل كُلُّ أُموري. ثُمَّ إنَّ هذهِ الكفالة, هي سارية لسفرةٍ واحدة فقط. بمعنى إنَّهُ حالَ أول عودة لي الى العراق, ستسقط هذهِ الكفالة. قبل بضعِ سنين, كُنتُ أُتابعُ مع زوجتي حديثآ للفنان العراقي الشهير, قحطان العطار, على اليوتوب. فذكر قصة هروبهِ من العراق. إذ قال بأنَّهُ في صيف سنة 1982, كان قد نشر بين زملائهِ من الفنانين و بين الصحفيين خبرآ, مفادهُ بإنّهُ كانت قد جاءتهُ دعوة من بعض الفنانين الكويتيين, للسفر الى الكويت. و ذلك لإحياء بعض الحفلات الغنائية في الكويت. و من أجلِ تأكيد هذا الخبر, و نشرهُ على نطاقٍ واسع, طلب من أحدَ الأصدقاء الصحفيين في جريدةِ الجمهورية, نشر هذا الخبر في الجريدة المذكورة. و يُضيف قحطان أيضآ, فحملتُ الجريدة الى دائرة التجنيد و الى مديرية الجوازات. و بمساعدة هذا الخبر في الجريدة, حصلتُ على جميعِ موافقات السفر الى الكويت. فإلتفتُّ الى زوجتي مُبتسمآ, و قلتُ لها: أنا إستعملت حيلة السفر الى الكويت قبلَ قحطان بسنتين. و في دائرة الجوازات, حصلتُ على تأشيرة السفر, دون تحديدِ دولةٍ بعينها!! و هذهِ هي مساعدة أخرى من ربِّ العالمين. و ذهبت في اليوم التالي الى دائرة البعثات في بغداد. مُطمئآ بأنَّ الأمور تسيرُ على ما يُرام. و هنا سأُذكِّركم بالحادثة الثانية, التي تدخَّلت فيها قدرةٌ ما, رُبَّما قدرة إلهية, و قد تكون مُساعدة من الإمام الكاظم, بعونِ الله. من المعتاد أن يكون مُغلقآ باب الموظف في دائرة البعثات, المسؤؤل عن تدقيق وثائق الطلبة المبعوثين أو غير المبعوثين, الذين ينوون السفر للدراسة في الخارج. إلا إنَّ ذلك الباب كان مُفتوحآ في ذلك اليوم. و لم يكن أمامي إلا طالبآ واحدآ, ينتظر الدخول الى الموظف. فنادهُ الموظف للدخول. فشرح الطالب حالتهُ, بينما كان الموظف يفحص أوراقهُ. و كنتُ أسمعُ و أرى كلَّ شيءٍ. إذ قال الطالب المذكور؛ بأنّهُ كان قد حصل على موافقة الدراسة في بولونيا على حسابهِ الخاص, و هذهِ جميع الموافقات كاملة. وضعهُ كان شبيهآ بوضعي. و إذا بالموظف, يُفاجئهُ بسؤالٍ غير مُتوقّع. إذ سألهُ الموظف: هل أنت خريج هذهِ السنة من الإعدادية؟ فقال الطالب: لا إستاذ, أنا خريج السنة الماضية. فعاد الموظف لسؤالهِ: و هل حصلتَ على القبول في أحد الكليات العراقية؟ فأجاب الطالب: نعم إستاذ, أنا الآن ناجح الى الصف الثاني, في كلية التربية في جامعة الموصل. حالتهُ تشبهُ حالتي. فإذا بالموظف ينظرُ لهُ بغضبٍ و يقول: و كيف تريد السفر للدراسة في أوروبا, و أنت مقبولُ في إحدى الجامعات العراقية؟ فأجاب الطالب مُرتبكآ: لا أُريد هذهِ الكلية إستاذ. فأجابهُ الموظّف بعصبية: أ لم تسمع بقرار مجلس قيادة الثورة, بأنّهُ يُمنع على الطالب المقبول في إحدى الجامعات العراقية, الحصول على موافقة دائرة البعثات للدراسةِ في إحدى الجامعات الأجنبية. و يُمنع فتح ملفٍ دراسي لهُ. أي إنَّهُ حتى لو وجد منفذآ للدراسة في الخارج, فإنَّ دراستهُ هي غير مُعترف بها من قِبل العراق. لقد رأيت عيون ذلك الطالب قد إمتلأت بالدموع, و كاد أن يقع مُغمى عليهِ. فراح يُتمتم بأنصاف الكلمات: و ما العمل إستاذ؟ فأجابهُ الموظف بسخرية: ما عليك إلا الذهاب الى مجلس قيادة الثورة. فأخذ الطالب أوراقهُ و إنسحب يجُرُّ أذيال الخيبة و قد طواهُ الحزن. لا تسألونني ماذا حدث لي. لقد كُنت في حالةٍ يُرثى إليها. إذ إنسحبتُ بهدوءٍ, دون أن أتكلم مع أحدٍ. كُنتُ أُحاولُ أن أخفي دموعي عن الناس بصعوبة, و أنا أسحلُ نفسي سحلآ. و لستُ أدري, كيف وصلتُ الى مرقد الإمام أبي الجوادين عليهِ السلام. إذ قطعتُ المسافة من منتصف شارع السعدون, حيث دائرة البعثات, الى الكاظمية, مُتنقِّلآ من باصٍ الى باص, بدون أن أدري بنفسي. و هُناكَ وضعتُ رأسي على شباكِ الإمام الكاظم, و رحتُ أبكي. و لم أشعر بالخجل, فكُلُّ من كان من حولي, كان يبكي. فالبكاء هو بلسمُ العراقيين. و صلّيتُ و دعوتُ و قرأتُ القرآن. و نمتُ مُسندآ رأسي على حائط المرقد. و لم أصحو من النوم, إلا في المساء. فصلَّيتُ صلاة المغرب و العشاء. و خرجتُ الى الشارع, مُحمّر العينين من البكاء. و لم يكن عندي وسيلةً للحديث مع أحدٍ. كُنتُ ساعتها بحاجةٍ لمواساةِ أحدٍ من الأهل. و لكن عبثآ أنظرُ في الوجوه, فكُلِّ الناس من حولي كانوا غرباءآ. في القرية, لا توجد لا كهرباء و لا تلفونات و لا " بطيخ ", و لا حتى ماء صالح للشرب!! و ذهبت الى الفندق الذي إعتدتُ الحجز فيهِ في منطقة الباب الشرقي. و حجزتُ غرفةً لوحدي. و لم أضع لقمة واحدة في فمي, منذُ الصباح. و كُنتُ أنامُ ساعةً, ثُمَّ يوقظني كابوسٌ, فيمنعني ساعةً عن النوم, أقضيها بالبكاء. و هكذا حتى الصباح. و في الصباح, فكّرتُ بأن أُحاول مُحاولةً عبثية. و أذهب الى دائرة البعثات, و أُقدِّمَ أوراقي لهذا الموظف. فلن أخسر شيئآ, فسواء عرضتُ عليهِ أوراقي أو لم أعرضها, فالأمر محسومٌ. إذ من هو الذي يريد أن يتخلى عن نفسهِ و يخالف قرارآ لمجلس قيادة الثورة. أقسمُ بالله, بأنني لا أقولُ إلا الصدق. إذ دخلتُ الى نفس الموظف الذي طرد الطالب بالأمس. الذي كانت حالتهُ تشبه حالتي تمامآ. فقدّمتُ لهُ أوراقي. فسألني الى أين؟ قلتُ لهُ الى رومانيا. فسأل: الى أيِّ كلية؟ فأجبتهُ: كلية هندسة النفط. فأجاب مُمتاز. ثُمّ راح يفحص الملفات, واحدآ واحد. كتاب مكتب الإتحاد الوطني و كتاب الملحقية. تمام. كتاب دائرة البعثات. تمام. شهادة التخرّج من الثانوية. تمام. ترجمة الشهادة, مُصدّقة من وزارة العدل و الخارجية. تمام. موافقة دائرة التجنيد. تمام. موافقة دائرة الجوازات. تمام. شهادة القيد مُترجمة و مُصدّقة من وزارة العدل و الخارجية. تمام. نسخ من الجنسية و شهادة الجنسية و الصور و الطوابع. كلّه تمام. و بينما كان الرجل, يفحص و يؤكد, كُنتُ أنا أُحاولُ جاهدآ أن أخفي, إرتجاف قدميَّ و يديَّ, و " العرق " الذي كان يتصبب بغزارةٍ من على وجهي. كي لا ينتبه الموظف لحالتي, و يشكُّ في الأمر. كُنتُ أنتظرُ واثقآ, سؤالهُ القاتل؛ خريج أية سنة من الإعدادية, و هل أنت مقبول في إحدى الكليات العراقية؟ و كُنتُ خائفآ من خطر الجلطة. و إذا بهِ يلتفتُ نحوي و هو يضعُ ملفي بجانبهِ على المكتب فوق ملفاتٍ أُخرى, و يقول: لم يبق سِوى توقيع مدير البعثات.. راجعنا بعد بضعةِ أيامٍ لإستلام ملفك, إستعد للسفر. و شكرتهُ, و خرجتُ من دائرة البعثات مسرعآ, خوفآ من أن يلحقني هذا الموظف. و هو يصرخ خلفي, كي يسألني سؤالهُ المشؤؤم. و في الشارع, رفعتُ يديَ الى السماء. و أسرعتُ الى محطَّةِ الباصات, للوصول بسرعةٍ الى باب النهضة. كُنتُ في حالةٍ من النشوة و الفرح. و مع ذلك, كُنتُ خائفآ, أن يُدقق الموظف المسؤؤل فيما بعد, أو مدير البعثات, فيكتشفون بأنَّ شهادة تخرجي من الإعدادية, هي من السنة الماضية. فيرفضون الموافقة على تصديق مُعاملتي. أو أن ينفضحَ أمري في يومٍ من الأيام, و ذلك أثناء فترة دراستي في الخارج, فأُحاكم لأنني خالفتُ قرارآ لمجلس قيادة الثورة و تُلغى جميع موافقاتي الدراسية, حتى و إن كُنتُ في آخرِ سنةٍ من الدراسة في الخارج. و رُبّما سأضيعُ الى الأبد.
كانت الساعة حوالي الواحدة بعد الظهر. بينما أنا كُنتُ جالسآ في سيارة النقل, أنتظرُ بفارغ الصبر إنطلاق سيارة ال OM الى الرفاعي. و في الطريق, و بالقرب من مدينة العزيزية, و بينما كان البعضُ من الركاب يُحاولون النوم على كراسيهم و البعض الآخر يُدردشون فيما بينهم, كُنتُ أنا أتصفحُ مجلةً. و كانت إذاعة بغداد, التي تُسمع من مذياع السيارة, تُذيع البرامج العادية و الأغاني. و إذا بالمذيع يبدأ فجأةً بإذاعة التنويه بعد التنويه؛ السادة المستمعون, نُلفتُ إنتباهكم, بأننا سنُذيعُ عليكم بعد قليل, بيانآ هامآ جدآ من القيادة العامّة للقوات المُسلحة. صحيح, إنَّ الأوضاع كانت مُتوتِّرةً في تلك الفترة بين العراق و إيران, إلا إنّهُ لم يخطر ببالِ أحدٍ, إمكانيةِ نشوبِ حربٍ شاملةٍ مع إيران. لأنّ التصوّر السائد بين العراقيين إنذاك, بأنَّ العراق لا يجرأ على شنّ الحرب على إيران. كما إنَّ إيران كانت في وضعٍ لا تُحسد عليهِ, كي تُغامر في الحربِ على العراق. خاصةً, بعد الإضعاف الشديد الذي تعرَّضت لهُ قواتها, بعد ثورة الخميني التي حدثت في بداية العام الماضي, 1979. هذا الإضعاف للقواتِ الإيرانية, هو الذي شجَّع صدام حُسين و من ورّطهُ, كي يدخل في حربٍ مُدمِّرةٍ مع إيران. كنا نحنُ رُكاب السيارة نتسائل و ندعو؛ إنشاء الله خير. و إذا بصوت المذيع العراقي المعروف صاحب الصوت الجهوري الذي يُثير الرعب, رُشدي عبدالصاحب, و بعد المقدمة الحماسية من القيادة العامة للقوات المُسلّحة, يُعلنُ بأنّهُ و في الساعة كذا من ظهر هذا اليوم, قامت أكثر من 120 طائرة عراقية, بالإغارة على المطارات الإيرانية و القواعد العسكرية في مختلف أنحاء إيران. و قد نجح صقور العراق الأشاوس في تدمير طائرات العدو و مطاراتهِ, و قواعد تمركز قواتهِ . هجوم مُباغت على الطريقة الإسرائيلية! كان ذلك, ظهر يوم 22 أيلول 1980. سادت لحظات من الصمت في السيارة, و إذا بإحدى النسوة, تبدأ بالبكاء. فتبعها الجميع بالبكاء, رجالآ و نساءآ. و تحوّلت سيارة ال OM الى مأتمٍ مُتحرِّك . بينما كانت بعض النسوة, اللواتي - رُبما - كان لهُنَّ أولاد في الجيش, قد رُحن يصرخنَ في السيارة؛ يابوي.. يابوي. و حتى سائق السيارة, كان يقود السيارة و يبكي. هذا هو الشعب العراقي, شعبٌ مُسالم, حوَّلهُ الديكتاتور الدموي صدّام الى شعبٍ يتخبّطُ في دماءهِ. كُنا ركاب تلك السيارة, نعتقد بأنَّ إيران هي الأقوى. و كُنا نبكي خوفآ على العراق و أهلهِ. هذا هو التصوّر الذي تركهُ الشاه في نفوسِ العراقيين آنذاك. و في حقيقة الأمر, فكُلّ دارسِ للتأريخ, يُدرك قوة عِنادِ و إصرار الإيرانيين على القتالِ و التضحية. و لو أُبلغت أجهزة النظام, ببكائنا ذلك في السيارة, لتمَّ إعتقالنا. فالموقف الصحيح, حسب وجهة نظر النظام, هو الهتاف و التصفيق و الغناء مع الأغاني الوطنية, في تلك اللحظة! و بعد إنتهاء البكاء و هدوء الناس, و بينما كان كُلٌّ مِنّا يُفكرُ بليلاه, و و سط البيانات التي كان يُذيعها المذيعون و الأغاني الحماسية, غبتُ أنا بين خيالاتِ أفكاري السوداء و القلق من النتائج. إذ فكّرتُ بأنَّ إندلاع حربٍ شاملة, بين العراق و إيران, و هي إندلعت الآن حقآ, قد يُؤدي - رُبَّما - الى صدور قرارٍ بمنع العراقيين من السفر الى الخارج.



#سعدون_الركابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد- 2
- ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد
- حرب الخليج ( الملّف السري )....الحلقة الخامسة عشرة
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الرابعة عشر
- أمةُُ النكاح و شاربي بول البعير تقتلُ العراقيين!
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الثالثة عشر
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الثانية عشر
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الحادية عشر
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة العاشرة
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة التاسعة
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الثامنة
- المال هو رب البشر الحقيقي و القانون البشري دينهم!
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة السابعة
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة السادسة
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الخامسة
- حرب الخليج ( الملف السري )... الحلقة الرابعة
- حرب الخليج ( الملف السري )... الحلقة الثالثة
- حرب الخليج ( الملّف السري ).... الحلقة الثانية
- حرب الخليج ( الملف السري )
- صابر و العربُ و المسلمون!


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سعدون الركابي - ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد- 3