أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفوت فوزى - عزف منفرد















المزيد.....

عزف منفرد


صفوت فوزى

الحوار المتمدن-العدد: 5412 - 2017 / 1 / 25 - 19:40
المحور: الادب والفن
    


نكبر فتضيقُ بنا الطُّرُقات. تفتحُ صدرَها الواسع للممتلئين شبابًا وحياةً، وتُزيحُنا نحنُ إلى جوانبِ الطريقِ. غزَا الشيبُ هاماتِنا، تهدَّلتِ الجُفونُ، وتغضَّنتْ منَّا الوجوهُ. مِنَّا مَنْ صَارَ جَدًّا ومنَّا مَن ينتظر. حياتُنا رتيبةٌ ينخُرُ فيها المللُ. تحاصِرُنَا هواجسُ الوحدةِ، وفرَاغاتُها التي لا تحد. نقضمُ الصبرَ ونتجشَّأ الفراغَ. نكسر طعمَ الأيامِ المالحةِ بالتَّلاقي. تجمعُنا المقاهي، نزرعُ فيها كلامًا مكرورًا لا يمنحُ ثمرًا ولا ظلًّا. يبتلعُنا الزِّحامُ والصَّخبُ ولعبُ الورقِ والطاولةِ والشطرنج. ننشغلُ– بلا هدفٍ– في مباراةِ دومينو، نعرفُ مسبقًا أنَّ نتيجتَها لنْ تغيِّر مِن طعمِ الأيام. نتلهَّى بمتابعةِ العابرينَ والعابرات. نراقبُ عن كثب اتِّساقَ ساقٍ جميلةٍ أو تموُّجاتٍ فائرةً لردفٍ ما. ننتشي بتدفُّقِ الحياةِ في سيرِهَا الدَّائمِ الذي لا يتوقَّفُ، ونأسى على أيامٍ مَضَت ولَيسَ بالإمكانِ استعادتُها. نوقنُ في دواخِلِنا أنه ليس لنا منها إلا نظرات أخيرة واهنة. لكن الوجدَ والصبابةَ في قلوبِنا للحبِّ، والجمالِ، والحياة، لم تزلْ. نتوقُ إليها، ونتلمَّسُها فيما حولِنا، وفيمن حولنا.
هذا المساء، الميدان يغمره الضوءُ، وتحفه المحلاتُ والمقاهي المليئة بالضجيج. هواء طوبة البارد يتسلَّل إلى العظام. تمتدُّ الأيدي إلى ياقات المعاطف لتضمَّها وتُحكِمُ وضعَ الكوفيَّات حولَ العُنق. تتَّسعُ حلقاتُ الحديثِ استجلابًا لدفءٍ مفقودٍ. أخلعُ نظَّارَتِي رافعًا إيَّاها إِلى فَمِي، أنفُخُ فيها، رذاذُ دقيقٍ يكسو عدساتِها، بمِنديلي أمسَحُها. من خلفِ العدساتِ النظيفةِ بدا العالمُ مشرقًا وقريبًا. ينتشي أحدُنا فينطلقُ مترنِّمًا بمقاطع من أغاني أم كلثوم وعبد المطلب. يردِّد آخر بحسرةٍ: "ليت الشباب يعود يومًا!"
اصطبغ الأفقُ باللونِ الرَّمادِيّ الدَّاكن. ينعقُ البرقُ في خطفاتٍ سريعةٍ فتبرقُ السماءُ في ضوءٍ فضيٍّ باهر سريعًا ما يختفي، تتلوها بعدَ ثوانٍ قرقعةُ الرَّعدِ المليئةُ الصدر كطبلٍ ضخم، وينهمرُ المطرُ غزيرًا. زخاتُه تداعبني وترشُّني فترجُّني من الدَّاخل. ينتشي القلبُ وتغمرُني بهجةٌ طفوليةٌ.
بنزقٍ يليق بعجوز مثلي، اندفعتُ خارجًا وحنينٌ جارفٌ يشدُّني، فيما ارتفع صوتُ صديق: "رايح فين يا مجنون؟ لو أخدت برد ها تموت".
أسيرُ في الشَّوارعِ العتيقةِ، أنضو عنِّي ما علق بي من تعبٍ، أنفضُ هذا السأم الرخو، وكأني أغادرُ جِلدي المنكمش، إذ تتهلَّل ملامحي. مرتجفًا أفرُّ لحنانٍ بعيدٍ، يودُّ القلبُ– من وراء الوعي– أن يستعيده، يجترَّه ويستطعمَه.
أمضي إلى أماكن تعرفني وأعرفُها. الأماكن التي ارتكبنا فيها أخطاءَنا الصغيرة، وتلك التي عاقرنا فيها لحظات من المتعةِ والسعادة. أماكن لا يعرفنا فيها أحدٌ سوى نادلٌ وحيدٌ في مقهى منزوٍ ضيِّق مرشوشة أرضيته بنشارةِ الخشب.
هل تذكرين؟ ذلك المساء البعيد، وبراءة الوجه الصافي، والعينين السوداوين العميقتين، وارتجافة تسري في البدن النحيل إذ يهطل المطرُ، والسحب الدكناء تَعِدُ بالمزيد، ويداي كضفتي محارة طيبة دافئة تحتضن بداخلها أصابعكِ الرقيقة، وأنا أنظر في عينيكِ بمحبةٍ تشبه العناق.
تغتسلُ شوارعُ مدينتنا القديمة فتبدو لامعةً تعكس أنوارَ الطريق. تخلو الشوارعُ لنا فنجري كطفلين عابثين. جدائل شعركِ تتماوج على الكتفين، وشفتاكِ ترفلان برفيفِ البسمة، وتمتلئ عيناكِ محبةً وحنانًا.
رأسي وأذناي تقطعان الهواءَ البارد ورذاذَ المطرِ، ذراعاي أخالهما جناحين، أحلِّق بهما في فضاءٍ شفاف، تهدهدني مويجاتُه، أتأرجحُ فرحًا في فضاءٍ شاسعٍ يمتدُّ ما شاء لي.
هذه الطرقات أخذت من روحي، أكلت من حياتي سنينًا وصنعت ضنًى ووجعًا وحركت اشتياقًا وألمًا. أمضي في الطريقِ أدندن بأغنيةٍ قديمةٍ، أضربُ أسفلتَ الشارعِ المبتلِّ بخطواتٍ سريعةٍ، أتوق أن أرى وجهَها وأشربَ معها كوبَ ليمون.
وحدي والمقعدُ الشاغرُ. أستلقي تاركًا قطرات المطر تعزف لحنَ عشقٍ منفردًا لا تفصحُ عنه الكلمات. النَّهرُ الذي رَعَى بدايتَنا المُثقَلة بالحنين، يتمدَّدُ مستريحًا، غير ملتفِّت إلى ما مضى ولا عابئ، فقط، يجري باحثًا عن منتهاه.
ذاكرتي تتوهَّجُ، تخلعُ ثوبَها شيئًا فشيئًا. أتذكَّر يومَها، عائدًا من المطبخ حاملًا فنجان قهوتي المرة. أخبرتني أمي أنكِ ستتزوجين وترحلين. قالتها واستدارت فكان لها وقعُ اصطفاقِ بابٍ ثقيلٍ في وجهي؛ فانقبضت روحي وأحسستُ وحشةً تجثمُ على صدري، تتدافعُ ثقيلةً بطيئةً كأنَّها موجاتُ طين.
ها أنا الآن وحيدٌ يسكنني الصمتُ، استشعرُ بردَ الليلِ وهو يتسلَّلُ إلى عظامي. في ذهني كلماتٌ فارغةٌ، وجوعٌ لا يرتوي، قِطَعٌ من صورٍ مُمزَّقة في سَلَّةِ مهمَلاتٍ، وعود– زكائب كثيرة من وعود– بلغها العفنُ مع النُّضجِ، وأحالها الزَّمنُ أجسادًا تطلب المواراة، أوراقًا جافةً تدفعها الريحُ.
وطويتُ فيكِ كلَّ الأشياء، كلَّ الآمال والخيبات، صورَ الذين مروا وتركوا آثارهم مطبوعةً على الروح، القمر الماضي في العلو، صمت الهزيع الأخير من الليل، وسرب العصافير التي كانت تحلق من أعشاشها وتنتهي في أيدينا.
ها أنذا أعودُ لأجوسَ، كالسَّائرِ نائمًا، عبرَ الأزقَّة والذكريات. تسألني عيونُ العابرين، والواجهاتُ الزجاجيةُ للمحلات، ونوافذُ البيوت، والجارة الثِّرثارة، فلا أحير جوابًا. كيف تجردتُ من معطف ارتباطي بالحياة وضاجعتُ الموتَ في إحدى محطَّاتِ حياتي البائسة؟
وبعد كلِّ هذا العمر، عرفتُ كثيرًا من المدن والشوارع، كثيرًا من النساء، وكثيرًا من لحظاتِ السعادة، وإذ ينهمرُ المطرُ تأخذني قدماي إلى الشوارعِ القديمةِ بحثًا عن وجهٍ أعرفه، وجدائلِ شعرٍ تنهمرُ على الكتفين، وعينان كانتا نبعَ حنانٍ.
أنا شيخٌ فتى وطفلٌ عجوز. في قلبي ما يزال الصبحُ يشرقُ، ويغسقُ الليلُ. أُرهِف السمعَ لوشيشِ الريحِ في هاماتِ الشَّجرِ. أعرفُ أنَّ الموتَ يترصَّدُ خُطاي، بعد أنْ رَحَلَ مَن عشتُ بينهم ويأتونني الآن في الأحلامِ يستحثونني على المجيء.
مستندًا على الحائطِ أستجدي أنفاسًا كانت متاحةً كالماء والهواء وقريبةً كراحةِ اليد، أحملقُ في الفراغ، يراوِدُني حضورُها المعتمُ، والليلُ يوغلُ، ومخازنُ السَّماءِ لا يفرغُ ظلامُهَا. كنتُ أراني أذبلُ قليلًا قليلًا كأنني بالونةٌ- تدفع خارجًا– آخر ما بها من هواء، وعلى الرغم من كلِّ هذا العمر، كلِّ هذه الخيبات، أنا أذكرُ، أذكرُ كلَّ شيءٍ.
------------------



#صفوت_فوزى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أول الفقد أول الوجع
- همس الحيطان
- فى حضرة الغياب
- امرأة
- عبور الممر الضيق
- رجع الصدى
- لو تصُدقى
- الصوت والصدى
- ليلة شتا
- الغنا
- يامه جوزينى
- الخروج
- الكلمة
- بعاد
- إختيار
- هاتف
- الموت جبان
- الاعتقاد فى الخرافة
- التهمة .. أنثى
- خراط البنات


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صفوت فوزى - عزف منفرد