أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دينا سليم حنحن - قاطرة الزقاق















المزيد.....

قاطرة الزقاق


دينا سليم حنحن

الحوار المتمدن-العدد: 5214 - 2016 / 7 / 5 - 22:55
المحور: الادب والفن
    


قاطرة الزقاق
دينا سليم – روائية فلسطينية
حارة عبارة عن قاطرة كبيرة بباب واحد يؤدي إلى زقاق طويل ضيق ونوافذ مقفلة على ساكنيها، نسيها السائق وغادر وحده إلى دنيا أخرى غبية، أو ربما غيبته الدنيا قاصدة، لا أحد يعلم لماذا وكيف وصلت القاطرة إلى ذلك الحيّ الخالي من بعض سكانه، هم أنفسهم نزحوا إليه بعد انتهاء فصل آخر من فصول الحروب الدامية، وقد امتلأ الزقاق بالغرباء المنكوبين بعد سقوط أوطانهم.
انزرعت الأنفس المتعبة داخل الزقاق والتي هاجرت من الدول المختلفة، شخوص بلا أسماء ولا هويات، أمثال، فوّال الحيّ مصري الأصل، هو ذاته بائع فول المدمس المتجوّل، بشوش الوجه ضحوك، وجد في القطيعة مع وطنه، مصدرا للرزق يدر عليه المال الوفير، فرائحة اللهفة المنبعثة من (الفوالة) التي أدسمها زيتا نقيا أخذت السكان إليه صبيحة كل يوم، يغرف منها ويزيد موزعا نكاته للجميع.
أما السمكري التركي، دائم العبوس قليل الكلام وحاد النظرات، نادى (tesisatçı) سمكري سمكري طالبا رزقه، تعب ظهره بسبب الحمل الثقيل أثناء تجواله اليومي.
والمهندس المصري، متقاعد تبختر بالبرنيطة البيضاء وتغاوى بعكاز الخشب ذي النقوش الفرعونية، فقد ترفّع على أكلة الفول المدمس. أما المشرف على شبكة الكهرباء، غزّاوي الأصل، فقد اكتفى بسيجار فاخر رائحته تدل عليه عندما يدخل الزقاق. والمدرّس رأفت العسقلاني، رجل ملتزم، حضوره رهبة، أحبه الجميع، هرب الصغار من وجهه واختبؤوا خلف الجدران حتى يمر بسلام وهدوء، مروره أضفى شيئا من رائحة العلم والتهذيب، تمتلئ فتحات الأبواب برؤوس المشاغبين العاشقين لمعلمهم، يتأملونه خلسة قائلين بفخر (هذا أستاذي) حتى يظهر على إثره أمامهم حامل النفايات برائحته المزرية، يتقرفون منه ويلعنونه ساخطين (اذهب إلى الحمام يا kennies) يا (زبّال بالمالطية).
وعندما يظهر النجّار السلطي ينحني له الجميع احتراما، فمن ملك مهنة عظيمة كالنّجارة يكون من أثرياء القوم. أما المسحراتي فلم يعثر أحد له على أصل، مراوغ، كثير الكلام ومستفز، أرعب سكريانو الإسكافي الأرمني وزوجته حتى الموت. أما والدته فقد اعتمدت (الشحادة)، التسول، كمصدر رزق، مكروهة وقد نبذها أهل الزقاق.
لم يسمح ساكنو القاطرة بنزوح آخر من الحيّ ومنعوا دخول الغرباء خشية من التهجير، فقد ذاقوا ما يكفيهم من طعم الغربة والمرار، هكذا انفصلوا عن العالم الخارجي بكل أفراحه وأوجاعه وأتراحه، فكل عائلة تقيم في حضن عائلة أخرى نزحت سابقا من بيتها دون عودة، بعد ما لاقوه من رحلات البؤس والشقاء والذل، لذلك التزموا بإغلاق بوابة الزقاق بجذع شجرة سميكة منخورة في بعض طرفيها، بوابة تشبه الشراع ثقيلة وخشنة، أزاحتها أم سكينة السورية، عند الفجر للمارين وأعادتها في العاشرة ليلا لتسد بها الطريق، ربطت داخل النخرين حبال موثوقة إلى حربة حادة، تصل الحبال إلى جذع شجرة أخرى داخل ساحة بيتها الموثوقة بجرس، إن حاول أحدهم تحريك الجذع من مكانه يندفع عضض الحبل فيرن الجرس منبها.
هدرت القاطرة بأهل الزقاق وبالزمان الذي فات، عاش كل واحد على سجيته وحريته، خنقتهم لهفة مجهولة، لهفة البقاء أحياء، والتي أوثقت خطواتهم نحو الانطلاق والحرية خارج الزقاق، مما أتاح لصوفي الحيّ (الفاروق) الذي عمل على ترويض رغباتهم بالنسيان والتأمل والرقص والدوران حتى الإغماء مناديا حيثما حلّ (الله حيّ، الله حيّ)، ومن ثقب خفيّ في الجدار تتبعتهم زوجة سكريانو بعين العارف ليلا، فيسرع زوجها إلى الثقب لكي يلتقط هو أيضا مشهدا طالما أقلقه.
لم يحتفل سكان الزقاق بالأعياد، اللهم فقط بعيد الفطر وصيام شهر رمضان، واقتصرت طقوس ليلة الميلاد ورأس السنة على عائلتين مسيحيتين فقط، فألمرأة الأرمنية لم تحتفل بأي عيد يذكرها بأيام الماضي البعيد، تلصصت على أطفال الزقاق بعيون الأم المنكوبة وذلك بعد أن فقدت وحيدها اثر مرض ما، وربما بحثت عن طفلها بين الوجوه، كلما مضت سنة على وفاتة ذبحت نيصا أمام فتحة بيتها طاردة شبح الشيطان، تصلي وتدعو بلغتها أن يبعد الله عنهم شر الحروب والدماء المسفوكة خاصة يوم العيد، صنعت من أشواك النيص شمّاعة غريبة، ثبتتها في الواجهة وعلّقت عليها الأحذية التي تم إصلاحها حتى يستلمها أصحابها، أوفى طريقة ابتكرتها، بما أنها لا تتقن العربية إلا لماما.
عملت زوجة سكريانو بحياكة ملابس صوفية للمواليد الجدد باعتها إلى أهالي الزقاق، ووزعت على سيدات الحيّ والجارات إكراما لروح ابنها الفقيد، بداية كل فصل شتاء، مفرش زينة، أو شال صوف، وكلما سألتها إحداهن عن سبب عدم احتفالها بالعيد تجيب بالأرمنية ( ոչ Տոնական لا عيد).
في آخر يوم من شهر رمضان، نادى المسحراتي التركي الأهالي (غدا عيد Eid yarın، درهم البشارة يا قوم) وقف أمام فتحة بيت الإسكافي ونادى بأعلى صوته، دق على الباب فرحا بقدوم العيد وانتظر الدراهم ضاربا على التنكة بعصا الخيزران، ارتعد الزوجان خوفا وبدءا يتصوران أشياء أخرى غير تهاني العيد، تسلّح الاسكافي بمطرقة الأحذية وتسلحت زوجته بصنارة الصوف، المسحراتي يطلب العيدية وهما يجيبانه (لا عيد)، يكرر حازما (غدا عيد Eid yarın، افتحوا الباب... درهمين درهمين)، والزوج يسأل زوجته موبخا إن كانت ذبحت نيصا أم فأرا عجوزا.
التمّ الجيران على الصوت، المصري يقول (إنت عايز إيه منهم)؟ والسلطي يقول (الله يرضى عليك مش تتركهم بحالهم أحسن) و (المالطي يتمتم بالمالطية غير المفهومة) والسمكري يتمتم بلغة غير مفهومة أيضا، وقد دسّ بيده درهمين لكي يتركهما وشأنهما، تدخل الزبال في الموضوع لكي يبدي رأيه هو أيضا، اجتمعت جميع اللكنات في أذني المسكينين اللذين لم يفهما شيئا من الغوغاء سوى أن يرحلا عن الحيّ، ورحلا خلسة دون أن يودّعا أحدا، حملا أدوات العمل وتركا باب بيتهم مفتوحا، عبرا فوق آثار دماء النيص التي لم تنشف بعد والجميع نيام.
مرّ الليل طويلا على الجميع، بات كل واحد داخل سريره استعدادا لاستقبال العيد، لكن وفجأة ودون سابق إنذار، اهتزت القاطرة بساكنيها عندما صرخت الشحادة بُعيد منتصف الليل، اهتز الهلع داخل النفوس فاستيقظ سكان القاطرة من سبات النسيان، برقت العيون الدامعة، نظروا إلى المجهول وبحثوا عن القمر الذي اشتعل في السماء، جيلا بعد جيل ترقب البدر كل شهر حتى تجمعت السنوات الحافلة بالغربة والضياع، استيقظ شعور مختلف داخل القلوب العالقة في سرداب العمر هذه المرة، جفلت العيون الضائعة داخل عتمة القاطرة المغلقة عليهم وهم يتلقفون آخر خبر لم يتوقعوه.
- (ابني مات، أحدهم قتل المسحراتي يوم العيد، ابني انقتل صباحية العيد يا جماعة، سكريانو ومرتو قتلوه وهربوا من الزقاق، حتى شوفوا آثار الدماء على عتبة بيتهم)!
- لقد وصل القتل إلى القاطرة المغلقة على ساكنيها أخيرا، فما من مكان آمن بعد اليوم، لكن ليسا هما القتلة، قال الأستاذ رأفت وهو يصفق يدا بيد.
صباحا...خلع أهل الحيّ المسمار المثبت داخل الجذع دون أن يستأذنوا صاحبة الشأن، أم سكينة السورية لكي لا تتمنع وتقف لهم بالمرصاد، أنزلوا الحبال فانكمش الشراع، أزاحوه وصرخوا بصوت واحد... (افتحوا النوافذ)، صرخ النجار: (لنفتح النوافذ إلى العالم، العالم بحاجة لي الآن، أعلم جيدا كيف أدق المسامير في النعوش). وصرخ الزبال قائلا: (لنخرج من هذه القاطرة الملعونة، لنخرج من هذا السجن فالقتل وصلها مهما فعلنا، لنخرج إلى الحياة، هناك ينتظرني عمل وفير، وداعا أيها الفقر). وخرج المهندس من بين الجموع قائلا: (سأخرج لكي أقوم بهندسة العالم من جديد، ولنضع رؤوسنا مع باقي رؤوس الناس، لقد أصبحت الحياة مصائب ومكائد وقتل، فلا مناص إلا بعلم الهندسة)! اعترض الفوال على مشروع الخروج، لقد أدرك بخروجهم، أنه سوف يتسول اللقمة فاعترض قائلا: (سنبدّل اسم الحارة، سندعوها حارة الفول، هكذا يصطلح حالنا، لا ترحلوا)! أما مشرف شبكة الكهرباء فقد أطفأ السيجار ووضع ما بقي منها في جيبه وقال: (تنفع ليوم عوزة أكيد، أهم شيء عندي السيجار، وليذهب الجميع إلى الجحيم)!
صرخة الشحادة أم الفقيد أسكتتهم عن الكلام قائلة:
- لنأخذ بثأر ابني، دعونا نأخذ بثأره الآن...من سيأتي معي؟ فأنا أملك من مال الدنيا ما لم تتوقعوه، سأمنح كل نفر ألف دينار، سأوزّع عليكم كل ما منحتموني إياه في يوم ما، بالمال وحده تشتعل كل النيران!




#دينا_سليم_حنحن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا يمكن أن تكونَ خائنا
- ضمائر
- رقم البيت ...صفر
- إمرأة... والتنانير فضفاضة
- سباعية المستحيل
- عروس بدون زواج
- يا بو الشويرة الحمرا – تي رشرش
- نقوش على الرمال
- نظرات الانتظار
- شبشب أمي
- اشترينا تلفزيون جديد
- تحت العشرين
- ريشة الفرح
- من مكيدة الشيخوخة إلى جحر الرومانسية
- عالم الغرباء
- عن رواية -الحلم المزدوج- لدينا سليم: سيرة عن هجر الوطن وأوجا ...
- دبابيس
- هلوسات يوم حار
- الفأر الأكثر حظا
- لا أترك البحر وحيدا


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دينا سليم حنحن - قاطرة الزقاق