دراسة موضوعاتية : الايقاع وتشكيل الدلالة نموذجا

انتصار كمون الرباعي

الحوار المتمدن-العدد: 5116 - 2016 / 3 / 28 - 12:05
المحور: الادب والفن
    

دراسة موضوعاتية : الايقاع وتشكيل الدلالة نموذجا
في قصيد
قبلة السحر
أ. حمد الحاجي
الناقدة : انتصار كمون الرباعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص : قبلة السحر
ـــــــــــــــــــــــــــ*****ــــــــــــــــــــــــ
قبَّلتني على عجل ثغرا لثغر
قبلتها ، حين اختلاط الدمع بالكحل
عيناها مثل القمر
وأخذتها من يدها .. ما أحلى القبلْ..!
********
سامقة كما الغيمة بالقيود
تمتشق الضباب..
تريد ان تهرب من ظلِّها
وتفرَّ من الحدود..
*******
تمتطي أجنحة الضوء
تحب .. تضيع ولا تعود
مثل النوارس والطيور
بين الأمواج والسدود
*******
وعلى مشارف العيون
أريد .. أقطف الكرز من فمها
فتفرُّ مني.. تلفُّ.. تدور
وتشرد خلف دوالي الجفون
********
هلمِّي نهيم معا في الدروب
و نسبح في الغاب حتى السحر
نعيد الغروب
و نوغل تحت ضياء القمر
********
أريد ان أهرب من الوجع
نديََّا بزخَات المطر
أريد أن أهدأ مثل طيور البجع..
وأرتاح أرتاح من السَّفر..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التصدير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبقى الليل ملهما للشعراء و زمنا مناسبا للخلق و الابداع من أوّله الى آخره ..
من شفقه الى سحره ..
و هو زمن اسراء خيالات العاشق الولهان ..
فيه تطول الساعات و تطفو الآلام والأحزان ..
و في الليل يحلو البوح و يصخب الصمت فيخرج الحب من عمق المقل .. أنيقا ..يلبس أبهى الحلل..
و يغدو شعرا رقيقا و قصائد غزل ...
و من ( ليل كموج البحر أرخى سدوله )عند امرئ القيس
الى ليل يسائله الحصري ليعرف: الصب متى غده أقيام الساعة موعده ؟
وصولا الى شاعر المرأة نزار قباني و ليالي العشق و الغرام في أشعاره تلك التي لا تنتهي ..
و يظلّ الليل موحيا لشعرائنا اليوم
و تظلّ لياليه ملاذ المحبّين المتيّمين فاذا فيه لحظة للهمس و الآهات و القبل ...
و فيه ( صوت هاتف في السحر ينادي غفاة البشر
هبوا املؤوا كأس المنى قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر
كما قال عمر الخيام
...هكذا يحلم العاشق بعشق آخر الليل يأتي اليه ساحرا في ( قبلة السحر )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبلة السحر عنوان القصيدة و عتبتها و هو نحويا مركب اضافي المضاف فيه قبلة لا مجموعة قبل
هي قبلة واحدة لا ندري ان كانت الأولى أم هي آخر القبل
اما المضاف اليه فهو السحر
و هو زمن يدل على آخر الليل
فهل هي قبلة اقتنصها العاشق أخيرا ساعة السحر بعد معاناة عاشها و تمنع قد طال من الحبيبة ؟
أم هي قبلة أخيرة وقت السحر كي يصوم العاشق بعدها عن القبل؟
أو لعلها قبلة مطبوعة في خيال عاشق بات يهذي حتى السحر ينتظر حبيبا قد تركه وولى و هجر ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الايقاع و دلالاته :
ـــــــــــــــــــــــــــ
اولا الايقاع الخارجي :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و فيه سأتوقف عند البحر و الروي فبحكم انتماء هذه القصيدة الى الشعر الحر فانها قد تحررت من تفعيلة البحر الواحد اذ نجد فيها غالبا ثلاث تفعيلات :
هي من بحر الخبب فاعلن و فعل و الكامل متفاعلن و المتقارب فعولن
و للبحور االخليلية في الشعر الحديث
و لتنوّع الايقاعات في القصيدة الواحدة انعكاس على المعاني و الدّلالات
اذ للخبب سرعة في الايقاع شبيهة بوقع أقدام الخيل أثناء جريها فالخبب من اختبّ و أخبّ الفرس أي أسرع في جريه و كان لحركة القبلة في المقطع الأول من االقصيدة سرعة عبرت عنها الحال المتمثلة في مركب الجر ...( على عجل ) كما ان الخبب هو من البحور الخفيفة الراقصة و قد وجدنا صدى لهذه الخفة وهذا الرقص
ـــــــــــــ في أخذ الشاعر العاشق الحبيبة من يدها
ـــــــــــــ ليرقصا معا رقصة الشفاه و القبل :
عبر عنها بقوله ( ثغرا لثغر ) و بعد القبلة الاولى تتتالى القبل متسارعة:
يقول الشاعر في آخر المقطع الأول مستعذبا تلك اللحظة (ما أحلى القبل )....
أما عن التفعيلات في بقية المقاطع فانها قد تعدّدت و اختلفت لكن أكثرها استعمالا..كما أسلفنا ... كا ن لتفعيلات البحر الكامل في المقطع الرابع مثلا و البحر المتقارب في المقطع الخامس
و لعل هذا الاختلاف في الأوزان الذي طبع هذه القصيدة و ميّز الشعر الحديث بشكل عام
هو نتيجة اختلاف تجربة الحب في القصائد الحديثة
اذ ما عادت الحبيبة خجولة متمنعة تخاف الواشي و الرقيب
انما صارت تبادل العاشق الهيام و القبل
أما بالنسبة الى توزيع التفعيلات على الأسطر الشعرية
فاننا نلاحظ أنّها قد توزعت توزيعا متقاربا لا متفاوتا
اذ نجد أن أغلب الأسطر كانت طويلة احتوت على تفعيلات تراوحت أغلبها بين الثلاثة و الأربعة تفعيلات
مثلا نجد في الأسطر الشعرية2و3و 13 ثلاث تفعيلات و
في السطر الشعري 1و4و17 أربع تفعيلات
و في الأسطر الشعرية فقط 6و8و11و19فقط نجد تفعيلتين ...
والسطر الشعري يطول ويقصر كما نعلم حسب الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر وحسب الفكرة او الصورة التي يريد ها ان تصل مكتملة للقارئ/ المتقبل ...
على هذا اساس ومن منطلقه يمكن ان نفسر طول السطرين الشعريين 1و2 مثلا
ففي السطر الشعري الاول وردت الحال مفصلَّة في مركب عطفي = عطفا بيانيا= (على عجل ثغرا لثغر ) عرفنا من خلاله نوع القبلة اذ هي قبلة العاشقين ..
اما المفعول فيه للزمان في السطر الشعري الثاني ( حين اختلاط الدمع بالكحل ) فقد جاء متمِّما لمعنى الجملة مبينا حالة المعشوقة الغارقة في الحب والحزن معا ...
هكذا اذن نتبين ان الايقاع الخارجي بكل تفاصيله نابع من وعي الشاعر اذ هو موظف توظيفا دلاليا يزيد القصيدة جمالا وثراء ...
وان الشاعر المعاصر تفطن الى نوع من الايقاع بديع حديث ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الروي :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الروي : يتميز الروي بالتنوع والتعدد :
ويمكن الحديث في هذه القصيدة عن روي نواة واقصد بذلك اكثر حرف تكرر في الأسطر الشعرية وقد تمثل هنا في حرف الراء وهوـ صوتيا ـ حرف مكرريتردد في الاذن حتى بعد انتهاء الكلمة ولعل ذلك ينسجم مع رقة المعاني الموجودة بالقصيدة والتي لا تفارق صورها القارئ اذ تنقل تجربة عشق فريد يبدو مؤلما....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و من الكلمات المنتهية بالراء رويا الثغر _القمر _الطيور تدور ..........
و لعل السكون الذي وجدناه مع حرف الراء حركة يدلّ على انحباس الدمع في العين و انحباس الكلام في الحلق انسجاما مع معاني الوجع المبثوثة في أرجاء القصيدة مجسدة في كلمات مثل ( الدمع _الضباب _القيود _الوجع _ السفر )..........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما عن بقية حروف الروي في قصيدة قبلة السحر فانها قد خضعت لنظام أساسي هو نظام التناوب ( مثلا: ثغر كحل قمر قبل ) في المقطع الأول
أو( الدروب السحر الغروب القمر) في المقطع الخامس
أو في المقطع الأخير:( الوجع _المطر _البجع السفر )
و في التناوب تشكيل ثنائي يتناغم مع ثنائية تقوم عليها العلاقة الغرامية و أقصد الشاعر العاشق و المرأة المعشوقة
أما النظام الثاني الذي خضع له الروي في القصيدة فهو نظام الاختلاف مثلا ( القيود الضباب ظلّها) في المقطع الثاني أو (فمها تدور الجنون) في المقطع الرابع
و لعلّنا نرى في ذاك الاختلاف تشتتا لعواطف الشاعر و تمزقا يعيشه بين الاستمتاع بلحظة الوصال او التداني و الخوف من ساعة الفراق او التنائي ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انّ هذا الايقاع الخارجي الذي قد درسنا فيه البحر و الروي يتكامل مع الايقاع الداخلي ليقدّما قصيدة ثرية وزنا و دلالة لتمسي الأسطر الشعرية كلّها في قصيدة قبلة السحر أنشودة للحبّ و ارادة للحياة ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
2_ الايقاع الداخلي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انّ أوّل ظاهرة تطالعنا في دراستنا للايقاع الداخلي لهذه القصيدة :
استعمال كلمات من نفس الجذر متتالية مثلما وجدنا في المقطع الأول ثلاث كلمات من جذر _ق_ب_ل (كقبلتني _قبّلتها _القبل )
كما نتبين ظاهرة الترديد و التكرار
في المقطعين الأوّل و الأخير في عبارتي (ثغرا لثغر) في البداية و فعلي (أرتاح أرتاح) في النهاية
و في التكرار تأكيد للمعنى و تفسير و ترسيخ له فالشاعر قد وضّح من خلال ظاهرة الترديد في البداية صورة لقبلة تفصّل ما ورد مجملا في العنوان قبلة السحر
أما تكرار الفعل في نهاية القصيدة فالغاية منها تأكيد المعنى لأهميته في حياة الشاعر اذ هو ينشد الارتياح من عناء السفر
هي رغبة في الاستقرار العاطفي و البحث عن وطن للقلب .. للحبّ ....
للقبل في كل وقت لا فقط في ساعة السحر...
ـــــــــــــــــــــــ
و مما يزيد القصيدة جمالا و يعطيها نغما ووزنا اختيار الشاعر لكلمات لها نفس الوزن في نفس المقطع مثلا (القيود _ الحدود ) في المقطع الثاني أو( العيون الجفون ) في المقطع الرابع أو (الدروب الغروب و السحر القمر) في المقطع الخامس
كذلك (الوجع و البجع _المطر السفر ) في المقطع الأخير
ان انتقاء مفردات ذات وزن واحد يجعلنا أمام ايقاع داخلي للنص الشعري يرسمه الشاعر رسما و يقصده قصدا و يضع لكلماته عن وعي نغما و لحنا ...
بالاضافة الى ما تقدم يمكن أن نضيف ظاهرة بلاغية تثري ايقاع القصيدة و تضيف اليه و هي ظاهرة الموازنة التركيبية
مثلا أريد أن أهرب /أريد أن أهدأ
انّ لتلك الموازنة قيمة ايقاعية و قيمة دلالية
فالشاعر يؤكد على فعل الارادة مع تغيير في الأمر المراد
فاذا كان المراد في التركيب الأول هروبا فهو هدوء في التركيب الثاني
و هكذا يكمل الثاني الأول معنويا فالغاية من الهروب تكمن في البحث عن الهدوء و الراحة
انه الهروب من الواقع و أوجاعه و السكن بين الشفتين في قبلة تغوص بالعاشق في بحر العشق كما البجع يعيش هانئا في الماء رمز الخصوبة و الحياة ..
ان الشاعر يبحث عن عشتار و قد مل طول الانتظار
و يبحث عن سبل تجعله يثمل بنبيذ من القبل
لا بقبلة واحدة مقيدة بزمن هو السحر...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاتمة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يمكن الحديث عن الشعر بعيدا عن الموسيقى و عالمها اذ هو نابع من الشعور ..و المشاعر هي أنغام القلب و موسيقاه ..و الشعر كما عرفه السابقون ( كلام موزون مقفى له معنى )
فلا يمكن الخوض اذن في مسألة الايقاع بعيدا عن مسائل الدلالة و المعاني اذ يتواشج المعنى مع المغنى فيولد توأمان كلمة و لحن لا ينفصلان ...
أما نحن القراء و السامعون فنولد من جديد بقبلة السحر
و نحلق هناك بعيدا في سماء الموسيقى و الشعر
و نغوص في بحار العروض و البلاغة ..
و لا نتوقف عن الكلام و البوح الا بعد انقضاء السحر و انبلاج صبح في تلك .القبل .........
لا عدمناك دكتور حمد حاجي شاعرا
متمكنا جعل النغم للكلمة سكنا
و عاشقا متبصرا جعل المرأة مستقرّا ووطنا......

#انتصار_كمون_الرباعي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات