أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - الشيوعي - ثورة أكتوبر العظمى والتاريخ العالمي















المزيد.....



ثورة أكتوبر العظمى والتاريخ العالمي


الشيوعي

الحوار المتمدن-العدد: 1385 - 2005 / 11 / 21 - 10:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


من أسرة التحرير:
في السابع من تشرين الثاني الجاري حلت الذكرى الثامنة والثمانون لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ذات الأهمية العالمية الشاملة. ونأسف أن يكون موقعنا على الإنترنت في هذا التاريخ قد انتابته "وعكة" لم تدم طويلاً بفضل جهد فنيينا ورغم رغبة كارهينا في إغلاق جريدتنا التي تحمل إلى العمال والفلاحين، الموظفين والمثقفين، الكلمة الصادقة والحرة، الكلمة التي تعني ما تعنيه ضمن المفهوم الطبقي والتاريخي الملموس، فلا تتيه في متاهات التعمية والتعامي، ولا تنحرف عن الهدف المختار. وإننا نريد أن نستلحق المناسبة لنقدم هذه المقالة – الدراسة التي ترد على الكثيرين من مدعي الشيوعية بالأمس وهم لا يفتأون اليوم ينعون الاشتراكية والتجربة السوفياتية "الفاشلة" ويدعون إلى الانتهازية والسير في ركاب الكاوبوي الأميركي القوي الذي لا يقهر. أفلا يذكّر هذا بأولئك الذين كانوا في الأربعينيات يقولون الشيء نفسه حيال انتصارات هتلر؟ ولكن من المؤسف أن يكون تصفويو اليوم من مدعي النضال بالأمس. أما بالنسبة إلينا فتبقى ثورة أكتوبر حافزاً ومنارة للنضال في سبيل مستقبل أفضل لأبناء شعبنا البسطاء. وليس يضيرنا أن "تدعس" الاشتراكية الدعسة الناقصة، وأن تهزم الهزيمة المؤقتة. فالتاريخ لم ينتهِ، وثورة المضطهدين في الأرض لم تتوقف منذ ثورة سبارتاكوس وكومونة باريس وغيرهما من الثورات الشعبية. ولن تكون ثورة أكتوبر آخر الثورات الشعبية الكبرى في التاريخ، فالرأسمالية المقيتة التي تبتلي الشعوب، خاصة في "العالم الثالث"، بالفقر والتمييز الطبقي والاستغلال والحروب، هي التي ستلد ضديدها الخيّر، وستُنتج من وحشيتها إنسانية اشتراكية. والمثل يقول: "كم قردة خلّفت وردة!".
فهنيئا لكم أيها القراء الأعزاء بالذكرى العزيزة!

لا يكل أيديولوجيو البرجوازية اليوم يزعمون مراراً وتكراراً أن ثورة أكتوبر كانت انقلاباً عادياً قامت به قبضة من البلاشفة المتعصبين المتهورين، وأن أية مقدمات واقعية لم تكن لها إلى ما هنالك من تخرصات. والحق أن هذه التخرصات لا تحتوي على ذرة من الحقيقة، فهي ليست تعبر إلا عن رعب السادة البرجوازيين من الشيوعية وحقدهم عليها، وعن سوء معرفة البعض للتاريخ بسبب العمى الأيديولوجي لهذا البعض.
فعند تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين دخلت روسيا في تزامن تقريباً مع الدول الرأسمالية الكبرى مرحلة التطور الإمبريالي للرأسمالية. ففي صناعتها كانت الهيمنة للاحتكارات. فمع بداية الحرب العالمية الأولى كان يسيطر على اقتصاد روسيا 30 احتكاراً تقاسمت كل فروع صناعتها وأخضعتها لها.
وإلى جانب احتكارات الصناعة نشأت المجموعات المصرفية الكبرى وتدامجت بسرعة رؤوس المال البنكية والصناعية، فبرز رأس المال المالي الذي هيمن بسرعة فائقة هيمنة حاسمة على اقتصاد روسيا. وفي الوقت نفسه تحول رأس المال الاحتكاري إلى رأس مال تابع للدولة الاحتكارية، وسرّعت الحرب العالمية الأولى هذا التحول نظراً لضرورة حشد القدرات الاقتصادية خدمة للحرب. وقد كتب لينين آنذاك يقول: "إن جدلية التاريخ تقول إن الحرب بتسريعها تسريعاً غير عادي تحوُّلَ رأس المال الاحتكاري إلى رأس مال للدولة الاحتكارية قد قربت البشرية على نحو غير معتاد من الاشتراكية".
ومع عدم اختلاف الإمبريالية في روسيا في سماتها الرئيسية عن إمبريالية أوروبا والولايات المتحدة فقد كانت لها سلسلة من الخصائص المميزة لها بالذات. فتنامي رأس المال المالي والصناعي تنامياً هائلاً تواءم مع التخلف المريع في القطاع الزراعي ومع الأمية وبؤس معظم السكان وبقايا الإقطاع والقنانة. وعلى الرغم من التقدم الهائل في الصناعة والنقل والعمليات المصرفية بقيت روسيا دولة زراعية متخلفة تقنياً واقتصاديا إذا ما قورنت بالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا. واستمر تملك أصحاب العقارات الكبار للأرض. فمع حلول القرن العشرين كان للملاكين العقاريين من ذوي الألقاب ما يقرب من 62 بالمائة من الأراضي التي لا تملكها الدولة. وكان الفلاحون محرومين من الأرض ومضطرين لدفع مال كثير لاستئجارها وتعوزهم المعدات الزراعية ولو في حدها الأدنى. وهكذا انضم الفلاحون في صراعهم ضد الملاكين إلى الطبقة العاملة الصناعية في صراعها ضد البرجوازية.
ومفهوم أن هذا التطور العاصف للرأسمالية والبرجوازية ما كان من شأنه إلا أن يفضي إلى تطور عاصف للبروليتاريا وتكونها كطبقة عاملة. وإن ثورة عام 1905، ومن بعدها ثورة عام 1917 لم تسقطا من السماء ولم تكونا نتيجة مؤامرة نفذها البلاشفة أو غيرهم، بل جاءتا نتيجة حتمية لكفاح العمال المضطهدين. ففي عام 1917 بلغ عدد البروليتاريين في المدن والأرياف 15 مليون شخص تقريباً، قرابة 3,5 ملايين منهم عمال مصانع وفبارك. ولئن لم يبلغ تعداد الطبقة العاملة هذه إلا نسبة 10 بالمائة من مجمل السكان في روسيا (كان عدد سكان روسيا عام 1913 يبلغ 159,2 مليوناً)، فإن قوتها لم تكن في نسبتها هذه، بل، كما قال لينين: "في كون الطبقة العاملة تسيطر اقتصاديا على مركز وعصب كل النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكذلك لأن الطبقة العاملة تعبر اقتصاديا وسياسيا عن المصالح الفعلية للأغلبية الساحقة من العاملين في ظل الرأسمالية".
لقد ولّد تطور الرأسمالية في روسيا بداية القرن العشرين تركيزاً شديداً للطبقة العاملة. ففي عام 1915 كان يعمل ما يقرب من نسبة 60 بالمائة من مجموع العمال في المؤسسات الضخمة التي يربو عدد عمالها على الـ500 (هذه النسبة كانت في الولايات المتحدة فقط 33 بالمائة)، وما يزيد على نسبة 35 بالمائة من مجموع العمال في المؤسسات الضخمة التي يربو عدد عمالها على الـ1000 (هذه النسبة كانت في الولايات المتحدة فقط 17 بالمائة). وإن احتشاد العمال في المؤسسات الكبيرة وفي كبرى مدن البلاد (الدنباس، الأورال، كريفوي روغ وباكو) وظروف العمل المخيفة والاستغلال الشنيع والظلم السياسي وعسف الطبقات المهيمنة هي أمور أنضجت الوعي السياسي لدى الطبقة العاملة الروسية وثوريتها وانتظامها وساعدت على تكوين طليعتها الثورية: الحزب العمالي الماركسي. هذا الحزب بالذات هو الذي أنشئ في بداية القرن العشرين بقيادة لينين. فاجتماع كل صنوف الظلم والاضطهاد من جانب ملاكي العقارات والرأسماليين والظلم القومي، زد على هذا كله سياسة التسلط القيصرية، قد جعل الجماهير الكادحة في وضع لا يمكن تحمله، فدفعها دفعاً إلى الثورة.
لقد تكاثر كالفطر اليوم عدد مدعي الانتماء إلى فئة المثقفين المتشدقين بكلام عن "قدسية" روسيا ما قبل الثورة، عن القيصر "العادل" و"الصالح" وغير ذلك من الخرافات.. هؤلاء السادة الذين يتّبعون مبدأ "ليست هناك طبقات، بل أناس"، لا يريدون، طبعاً، أن يروا الاستغلال الشنيع والفقر المدقع وحال التوحش والضيم التي كانت تسود روسيا. ويتهم أنصار الحياة البرجوازية هؤلاء البلاشفة بإشعال نار الثورة وبالإرهاب وغير ذلك. وإنْ هذا إلا اختراعات أتت بها عقولهم. فالتاريخ يصنعه البشر، ولكنهم يصنعونه دائما في ظل أوضاع وظروف محددة. وليس بوسع المرء أن يصنع التاريخ على هواه وكما يريد. فالثورة تحتاج لتشتعل نارها إلى وضع ثوري لا يريد في ظله من هم "تحت" أن يستمروا على العيش بالطريقة القديمة، كما لا يستطيع من هم "فوق" مواصلة الحكم بالطريقة القديمة، تحتاج إلى أزمة وطنية عامة تطاول المستغِلين والمستغَلين على حد سواء. فلا مجال لأي حديث هنا عن تسعير مفتعل للثورة الاشتراكية من قبل البلاشفة في رحاب البلاد الروسية "المقدسة والهادئة" برئاسة قيصر صالح وعادل. فكل هذا إن هو إلا كلام يطلقه على عواهنه من تعودوا أن يصبوا الماء يومياً على رحى طاحونة العداء للشيوعية.
في بداية القرن العشرين باتت روسيا مثابة عقدة تناقضات الإمبريالية العالمية، وأضعف حلقاتها. وقد تكونت هنا الممهدات السياسية والاقتصادية للثورة الاشتراكية المقبلة، وأولى تلك الممهدات كانت ثورة أعوام 1905-1907 البرجوازية الديموقراطية الروسية الأولى. وقد كتب لينين يقول: "أماطت الثورة الأولى وما تبعها من حقبة مناهضة للثورة (1907-1914) اللثام عن كل جوهر الملكية القيصرية وأوصلتها إلى "شفا الهاوية" وكشفت عفنها وبشاعتها وكل حقارة واستهتار وخلاعة الزمرة القيصرية وعلى رأسها رأس الفظاعة راسبوتين، كل توحش آل رومانوف، هؤلاء الذين أهدروا دم العمال والثوريين". وإن الطبقة العاملة أتت إلى المعارك السياسية العظيمة عام 1917 حاملة معها تقاليد ثورية كبرى. فهي حملت خبرة الكثير الكثير من الإضرابات وخبرة ثورة 1905-1907 والمعارك الطبقية اللاحقة. وكانت الحرب العالمية الأولى التي بدأت عام 1914 مثابة عامل تثويري غاية في القوة. فهي عرّت بكل حدة تناقضات روسيا القيصرية وأدت رأساً إلى أزمة "الطبقات الدنيا" التي ظلمتها الحرب والحرمانات، و"الطبقات العليا" التي فقدت إمكان السيطرة على الوضع ومسار الأمور. وأفضى دخول روسيا الحرب الإمبريالية والخسائر المادية والبشرية الهائلة التي تكبدتها فقط لأجل الذود عن الإمبريالية البريطانية الفرنسية من الإمبريالية الألمانية إلى أزمة اقتصادية خانقة. فكان انهيار الصناعة والمواصلات والزراعة إذ توقف ما يقرب من ثلث المصانع عن العمل، ولم تعد تكفي للنقل السكك الحديدية القائمة ولا القطارات والعربات، وانخفض الإنتاج الزراعي واشتدت تبعية روسيا المالية للدول الأجنبية. وما غير الإجراءات الحازمة ضد القيصرية والرأسمالية التي زجت الشعوب جميعاً في أتون الحرب العالمية أنقذ البلد من الكارثة الاقتصادية الداهمة. قال لينين: "الحرب خلقت أزمة بلغت حدا من الاتساع، وأجهدت قوى الشعب المادية والمعنوية، ووجهت إلى مجمل التنظيم المعاصر للمجتمع ضربات جعلت البشرية أمام أمرين: إما الهلاك وإما إيكال مصيرها إلى الطبقة الأكثر ثورية لأجل الانتقال أسرع ما أمكن وبأكثر ما يمكن من الجذرية إلى أسلوب إنتاج أرقى".
هكذا نرى أن ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى لم تكن البتة انقلابا، إنما كانت ظاهرة حتمية وضرورية. وهي من حيث طبيعتها ونتائجها التاريخية تحتل مكانة استثنائية في مسيرة تطور المجتمع البشري. والتاريخ يعرف العديد من الثورات التي لعبت دوراً عظيماً في تقرير مصير الشعوب، في تسريع تقدم المجتمع. ومن بينها الثورات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط مجتمع العبودية وقيام النظام الإقطاعي، والثورات البرجوازية التي أزاحت العقبات الإقطاعية من درب تطور الرأسمالية. هذه الثورات الاجتماعية التي حملت لواء الانتقال من تشكيلة اقتصادية-اجتماعية إلى أخرى أرقى منها، من العبودية إلى الإقطاعية، ثم من الإقطاعية إلى الرأسمالية، كانت تقدمية لأنها ساعدت على المضي قدماً في تطوير القوى المنتجة والعلم والثقافة. غير أن كل تلك الثورات كانت تفضي إلى إبدال شكل من أشكال التملك الفردي لوسائل الإنتاج بشكل آخر مثيلٍ له، إلى هيمنة طبقة مستغِلة بهيمنة أخرى مع إبقاء أغلبية الجماهير العاملة في مرابع الفقر المدقع الناجم عن استغلالها. وإن ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى لتختلف عن سابقاتها جميعاً اختلافاً مبدئياً. فمهمتها كانت لا إبدال شكل من أشكال الاستغلال بشكل آخر، بل القضاء على أي استغلال للإنسان من قبل إنسان آخر وإقامة دكتاتورية البروليتاريا أي دكتاتورية الأغلبية الساحقة من السكان، وهذا يعني الديموقراطية عينها، وتدبير المجتمع على أساس اشتراكي جديد لا طبقي.
يمكن للمرء أن يقول اليوم ما يشاء من الكلام حول فشل التجربة السوفياتية، وحول أنه لم يتم بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. غير أن الثابت هو أن ثورة أكتوبر وجهت ضربة قاصمة للرأسمالية العالمية وبينت أن بوسع الطبقة العاملة أن تدير شؤون البلد بنجاح من دون البرجوازية وضد البرجوازية، وأن بوسعها أن تطور القوى المنتجة من دون البرجوازية وضد البرجوازية، وأن بوسعها أن تتقدم بالبلاد خطوات إلى الأمام ناقلة إياها من الأدوات البدائية ومن الأمية المستشرية إلى السفن الفضائية وسؤدد الثقافة في خلال حفنة قليلة نسبياً من السنوات لا تتجاوز الأربعين سنة (إذا ما أخذنا في الحسبان الحرب العالمية الثانية المدمرة) من دون البرجوازية وضد البرجوازية. فالرأسمالية قبل أكتوبر والرأسمالية بعد أكتوبر رأسماليتان مختلفتان تمام الاختلاف. والبرجوازية الغربية خوفاً منها على فقدان سيطرتها أخذت تقلص يوم العمل وتشتري عمالها ببعض التقديمات الإضافية التي توفرت بفضل الأرباح الاحتكارية واستغلال المستعمرات (وبفضل الاستعمار الجديد اليوم الذي يتمثل في الاستعمار الاقتصادي، وفي أحيان كثيرة بفضل استعمار أشبه بالاستعمار القديم كما يحصل في العراق وأفغانستان وغيرهما). وهي بهذه الطريقة تذر بذور الانتهازية القبيحة وتخنق العمال وحركتهم الثورية وتطيل أمد وجود تشكيلتها الاقتصادية والاجتماعية التي أكل الدهر عليها وشرب. وإن "الدولة الاجتماعية" المزعومة التي راح السادة البرجوازيون يفاخرون بها في أواسط القرن العشرين، وشرعوا اليوم على قدم وساق في تفكيكها بحجة "محاربة الإرهاب" لم تكن لتنشأ آنذاك إلا بسبب خوف البرجوازية إزاء واقع الاشتراكية، إزاء إمكان وجود عمال من دون رأسماليين، إمكان وجودهم من دون استغلال وظلم. غير أن "الدولة الاجتماعية" إياها، مهما امتدحها أيديولوجيو "الرأسمالية الشعبية"، كانت منذ البداية دولة طفيلية، دولة تؤمن "العيش الكريم" لمواطنيها عبر نهب واستغلال بروليتاريي "العالم الثالث"، عبر الاستيلاء على أراضي الغير عسكرياً وإرهاب الشعوب تحت ستار الديموقراطية.
لكن البرجوازية لم تقرّ بهزيمتها وبذلت كل جهد ممكن لتدمير الاشتراكية ومنعها من التطور. ففرض الإمبرياليون الأميركيون المترئسون العالم الرأسمالي على الاتحاد السوفياتي تسابقاً على التسلح أنهك قواه. وتلك كانت وصية الزعيم البريطاني ونستون تشرتشل الذي قال إن الاتحاد السوفياتي بات خطَراً لا يمكن إبعاده إلا بمحاصرته اقتصادياً. ويتساءل كثيرون اليوم: لماذا خسر الاتحاد السوفياتي، يا ترى، سباق التسلح، لماذا فازت في هذا السباق الرأسمالية وليس الاشتراكية، لماذا سقطت الاشتراكية بينما الرأسمالية بقيت. ونقول لأن الاشتراكية على الرغم من أفضلياتها تجاه الرأسمالية كانت أكثر شباباً ويفعاً منها بكثير، وأقل خبرة تاريخية منها بكثير. وإن انحراف وانحطاط الحزب الشيوعي السوفياتي بعد الستينيات والبيروقراطية والإجهاد المفرط الناجم عن التسابق على التسلح أمور أودت جميعها بالاتحاد السوفياتي إلى أزمة السبعينيات والثمانينيات.
لقد اختارت البرجوازية لتوجيه ضربتها أنسب الأسلحة. فبدلا من التدخل مباشرة تدخلا تستعمل فيه القوة (كما فعل هتلر في حينه) استخدمت من الأسلحة أقدمها: سلاح الذمّ والكذب وخدمات "الطابور الخامس". وكانت "البيريسترويكا" قمة الانحراف في صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي، فجاءت بالنصر إلى هذا "الطابور الخامس" إياه الذي كان ينتظر بفارغ الصبر إمكان بيع روسيا إلى الولايات المتحدة الأميركية. و"الغلاسنوست" ("العلانية" أو "الشفافية")، هذا المبدأ التحريفي للمنحرف غورباتشوف الذي حصل حتى على جائزة نوبل لقاء انحرافه هذا، أعطى حرية القول إلى أعتى خصوم السوفياتات والشيوعية. والانحراف هنا كان بالذات في أنه لا يمكن أن تكون ثمة "علانية" و"شفافية" من خارج الطبقات والصراع الطبقي في عالم منقسم إلى نظامين متعارضين. فبإعطاء حرية الكلام إلى أيديولوجيي البرجوازية أعطى الحزب الشيوعي السوفياتي الإمبرياليين ولواحيقهم حرية التحرك. وثمة رسالة رائعة كتبها لينين إلى ميسنيكوف تحدث فيها بالذات عن "العلانية" وحرية الإعلان فقال: "حرية الصحافة ابتداء من أنصار القيصر وانتهاء بالفوضويين؟ "جيد جداً! لكن كل الماركسيين وكل من أمعن التفكير من بين العمال في تجربة السنوات الأربع من ثورتنا سيقول: لنرَ ما هي حرية الصحافة هذه؟ لصالح من؟ لصالح أية طبقة؟ ... إن حرية الصحافة في العالم كله حيث ثمة رأسماليون هي حرية أن تشتري الصحف، أن تشتري الكتّاب، أن تشتري وتبرطل وتفبرك "الرأي العام" لأجل صالح البرجوازية". وأضاف لينين في رسالته تلك: "وإن حرية الصحافة في روسيا السوفياتية الاشتراكية المحاصرة من قبل الأعداء البرجوازيين في كل أنحاء العالم ما هي إلا حرية التنظيم السياسي للبرجوازية وخدمها الأمناء. والبرجوازية (في العالم كله) لا تزال أقوى منا بمرات ومرات. ويكفي أن تعطيها إلى جانب قوتها هذه سلاحاً مثل حرية التنظيم السياسي (وهي تساوي حرية الصحافة لأن الصحافة مركز وأساس التنظيم السياسي) كي تسهل مهمتها وتساعدها كعدو طبقي. نحن لا نريد أن ننتحر ولذا لن نفعل هذا. نحن نرى بوضوح أن حرية الصحافة تعني في الواقع شراء البرجوازية العالمية في الحال مئات وآلاف الكتبة من بين الكاديت والاشتراكيين الثوريين والمناشفة وتنظيم دعايتهم ونضالهم ضدنا".
لينين لم يرد أن ينتحر لأنه كان يدرك أن البرجوازية العالمية ستشتري في الحال المثقفين البرجوازيين الهلعين من "أهوال الثورة"، الراغبين بتسمية الصور الخلاعية (البورنو) والعلاقات الجنسية الشاذة فنّاً، ليبدأوا يجعجعون من ثم حول طغيان الرقابة، وليعدوا العدة كاملة لقيام الثورة المضادة و"غسل دماغ الجمهور" في سبيل جره إليها.
أما غورباتشوف فعلى العكس من ذلك جر البلاد كلها إلى "الانتحار" (بعض المعلومات يقول إن الأميركيين بذلوا 3 تريليونات دولار لتدمير الاتحاد السوفياتي والمضي في تدمير الاقتصاد الروسي). واليوم يقولون: لو لم يسقط الاتحاد السوفياتي لبدأت حرب أهلية بما أن أحداً في الجمهوريات السوفياتية لم يكن يريد البقاء مع روسيا في هذا الاتحاد. هذا مجرد كذب وهذيان! يحب هنا بدايةً أن نجيب عن سؤال: من الذي موّل الحركات الانفصالية في الجمهوريات، من عمد إلى شراء حكوماتها، أفلم تصوت كل شعوبها بلا استثناء في الاستفتاء العام لصالح بقاء الاتحاد السوفياتي؟! لقد أفضى الشكل الجديد من أشكال القتال إلى نتيجة فاقت التدخل المباشر باستعمال القوة: فالقدرات العلمية والتكنولوجية دمِّرت ومصادر الخامات والطاقة احتُلَّت من قبل رأس المال العابر حدود القارات والدول.
غير أن هزيمة الاشتراكية المؤقتة في العالم لا تفصح عن طوباوية فيها وعن سرمدية في النظام الرأسمالي. فنحن نرى كيف أن الرأسمالية تروح يوماً بعد يوم تتخبط أكثر فكثر في مشاكلها وتناقضاتها المستعصية على الحل. فمن أصل الستة مليارات إنسان يعيشون على سطح كوكبنا ثمة فقط مليار ونصف مليار يستفيدون من كل خيرات المجتمع، أما المليارات الأربعة والنصف الباقية فلا تشبع ولا ترتع في المسكن اللائق وتتعرض للاستغلال الاستعماري الجديد وتموت من الإصابة بالأمراض إلخ. وكل ما يصدر عن الأمم المتحدة من إعلانات ومواثيق حول مساعدة آسيا وإفريقيا يبقى كلاماً بكلام لا أكثر. فالعالم المتقدم يغتني أكثر فأكثر، والعالم النامي يفتقر أكثر فأكثر. هوذا وضع الاقتصاد العالمي المعاصر. وفاقة الجزء الأكبر من البشرية هذه ليست البتة مرتبطة بتقاليد الشعوب القومية، ولا بـ"تخلفها عن معارج التطور" ولا بخصائص عرقية ما. فالذنب في هذا كله ذنب الرأسمالية الاحتكارية العالمية التي ركّزت في قطب واحد هو قطبها ثروة طائلة، وفي القطب المقابل فقراً وفاقة وجوعاً واستغلالاً وتوحشاً.
هذا التناقض هو في صلب الرأسمالية وفي دمها، في إنتاجها البضاعي إياه. فالتناقض فيما بين القيمة الاستهلاكية والقيمة الفعلية يولد في خاتمة المطاف تناقضا فيما بين العمل ورأس المال، والأمر الأخير يخرج عن نطاق الحدود القومية ليكتسب صفة التناقض فيما بين حفنة من البلدان غير الكادحة والعائشة على الربا وعلى إصدار الأوراق النقدية، وأغلبية هائلة من البلدان المستعمرة استعماراً جديداً والمستغَلة استغلال التابعين المساكين. وهذه الأغلبية الهائلة تشكل الكتلة البروليتارية في عالمنا المعاصر. أضف إلى ذلك أن الرأسمالية الاحتكارية المعاصرة، وعلى رأسها رأسمالية الولايات المتحدة، لا يسعها أن تتطور التطور السلمي. فلأجل التغلب على تناقضاتها الداخلية وبخاصة على ميل نسبة الربح إلى الانخفاض تضطر هذه إلى الاستيلاء على الجديد والجديد من الأسواق وإلى إقامة "الثورات المخملية الملونة" وإلى التدخل في شؤون الدول ذات السيادة تحت ستار مكافحة الإرهاب وإلى زرع أنظمة الرجعية والنهب أفظعها.
إن تطور رأسمالية الدولة الاحتكارية وضرورة ضبط ساعة الاقتصاد من قبل الدولة ليدلان على المقاييس الهائلة لجعل الإنتاج العصري إنتاجاً اجتماعياً وعلى أن الرأسمالية لم يعد بوسعها أن تتطور تطوراً عفوياً وفوضوياً فقط بفضل آلية السوق. وقد وصف لينين رأسمالية الدولة الاحتكارية بأنها "الإعداد المادي الكامل للاشتراكية وغداتُها وتلك الدرجة في سلم التاريخ التي لا درجات مرحلية بينها وبين الدرجة المسماة الاشتراكية".
والاقتصاديون البرجوازيون لا يفتأون يكررون أن أساس تطور المجتمع المعاصر تطوراً مستقراً هو السوق، وأن تحرير السوق ضرورة، وأن تدخل الدولة يضر بالاقتصاد إلى ما هنالك. غير أن هذه المزاعم لا تتضمن في الحقيقة شيئا سوى التلاعبات والأحابيل الأيديولوجية. فإذا ما أخذنا مثلاً الولايات المتحدة نفسها رأينا أن تأثير الدولة في الاقتصاد عظيم جداً هناك. وليس يصعب على المرء أن يدرك أن لعبة قوى السوق الحرة بدون تدخل الدولة ستؤدي حتماً في ظل المستوى الحالي من تطور القوى المنتجة التي فاقت في نموها منذ زمن بعيد علاقات الإنتاج ودخلت في نزاع معها إلى سقوط الرأسمالية. في ظل هذه الظروف ليس "تحرير السوق" (تدمير القطاع العام وتشجيع المنافسة "الضارية") إلا سياسة يفرضها صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة على البلدان النامية والبلدان الاشتراكية سابقاً بهدف تحرير اقتصادها من الصناعة أساس التقدم المعاصر، وإخضاعها نهائياً لرأس المال العالمي. وهذا الأمر عانته روسيا ولا تزال تعانيه حتى يومنا هذا. ففي بداية التسعينيات تمثل هذا النهج في "علاج الصدمة" الذي قام به تشوبايص وزمرته، والآن في "السياسة الاقتصادية" لغريف وكودرين. وهكذا ليس أمام الرأسمالية سوى التعفن والانتقال من الديموقراطية البرجوازية الشكلية إلى الفاشية السافرة والإرهاب غير المستتر، وهو ما نراه في مثال الولايات المتحدة. فالإرهاب الدولي ليس أبداً وليد "الإسلاميين الملتحين"، بل هو وليد الإمبريالية. إنها صورة عدو العالم الجديدة. فلئن كان الإمبرياليون قبل الآن يحاربون الشيوعية، ها هم الآن، حين تم لهم سحق الشيوعية، بحاجة إلى حجة جديدة لمواصلة فتوحاتهم العسكرية. وهذه الحجة هي "الإرهاب الدولي" المزعوم الذي زرع بذوره وأمدّها بالغذاء وأسباب النمو الإمبرياليون أنفسهم. وما من شيء أكثر مجوناً وفرّيسية وإثارة للاشمئزاز من قول بوش وهو يتوجه إلى الأمة إن أميركا ستواصل نشرها للديمقراطية في كل أرجاء المعمورة، لأنه بهذه "الديموقراطية" لا يقصد إلا شيئا واحداً فقط هو إخضاع الجميع لرأس المال العابر القارات.
ما يحصل اليوم في العالم: في يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وفلسطين، وما يحدث في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا، ومجازر أنديجان، وما يجري في لبنان من تحريض مستمر على سوريا "غير المتعاونة" في العراق وفلسطين، ليس إلا الحرب العالمية الثالثة الدائمة الزاحفة التي أعلنها رأس المال العالمي في وجه العالم أجمع. والتخلص من أوزار هذه الحرب، من استغلال حفنة من البلدان للأغلبية الهائلة من البشر ليس يضمنه سوى ثورة اشتراكية جديدة. فالسؤال المطروح الآن هو: إما الاشتراكية وما يرافقها من حركة إلى الأمام، وإما رأسمالية الدولة الاحتكارية والفاشية والتوحش والهمجية. ولا سبيل ثالث خلافهما. فأمام الحركة الشيوعية العالمية اليوم، وبالأخص الشيوعيين الروس، مهمة اختراق جبهة الإمبريالية العالمية مجدداً كما تم فعل هذا في أكتوبر عام 1917 أي لـ88 سنة خلت. ولروسيا خبرة 70 سنة في بناء الاشتراكية، وهذه أعظم خبرة في التاريخ علينا أن نستعرضها استعراضاً نقدياً وأن نستخلص منها العبر المناسبة. زد على ذلك أن بلادنا تقبع في أزمة خانقة وهي في أسار رأس المال العالمي، ولذا أمامنا من الفرص الكثير مما يتيح لنا تمزيق القيد الإمبريالي مرة أخرى.
أمام الشيوعيين اليوم مهمة من أعقد المهام ألا وهي أن ننتظم فنضحي قوة فعلية ضد الرأسمالية والاستغلال. هذا أمر غاية في الصعوبة، وليس لنا أن ننكر هذا الأمر. ولكن علينا أن نبدأ، أن نبدأ نستجمع حركتنا حبة حبة، أن ننقيها من العناصر المتأرجحة والانتهازية. فجُلُّ الذنب في ما يجري في العالم اليوم ذنب الانتهازيين بالذات الذين باستحماقهم عمال أوروبا وأميركا وبشرائهم إياهم بالمغريات المادية لـ88 عاماً خلا، لم يمكّنوا الثورات الاشتراكية من أن تنتصر هناك على الرغم من أن كل ما يمهد لقيامها كان حاضراً، فأبقوا بذلك على الاستغلال الرأسمالي. هؤلاء الانتهازيون فضلوا على القضية النبيلة والعظيمة، قضية إعتاق البشرية من نير الرأسمالية، مصالحهم الآنية الضيقة وإمكان ملء جيوبهم. ولذا ليس ممكناً من دون محاربة الانتهازية والتحريفية والنزعة البرجوازية الصغيرة النضال في سبيل الاشتراكية. هذا الدرس على الشيوعيين ان يستوعبوه أيما استيعاب. فهزيمة الاشتراكية اليوم ليست سوى هزيمة تسبق بداية النضال العظيم! وليس لنا أن نخاف البتة، فـ"من يخف الهزائم قبيل النضال العظيم لا يمكنه أن يسمي نفسه بالشيوعي إلا للهزء والسخرية من العمال" (لينين).
إن قضيتنا لمحقة.
وإن النصر سيكون حليفنا!
عاشت الذكرى الثامنة والثمانون لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى!
عاشت الحركة الشيوعية العالمية!
عاشت الثورة الاشتراكية!



#الشيوعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسبوع الماركسية في لندن
- اليونان: مدرسة في المقاومة- مقابلة مع عضو القسم الدولي في ال ...


المزيد.....




- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...
- الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بانتهاكات ...
- بعد اعتقال متظاهرين داعمين للفلسطينيين.. شكوى اتحادية ضد جام ...
- كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة القوة في اعتقال متظاهرين مؤي ...
- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - الشيوعي - ثورة أكتوبر العظمى والتاريخ العالمي