وائل زمو
الحوار المتمدن-العدد: 5076 - 2016 / 2 / 16 - 19:45
المحور:
المجتمع المدني
يطرح بعض المعارضين السوريين شعار وهدف بناء مجتمع "متعدد". وهذا الطرح يبدو غريباً جداً من أن يتبناه حزب او تجمع او حتى شخص سياسي. اذ يبدو وكأنه يريد مجتمعاً متشظياً تماماً كما في الحالة السورية التي فجرت ثورة الشعب السوري. فالأصح في اللغة العربية القول مجتمع متنوع. فالتنوع يعني ضمنياً الغنى.
عموماً يبدو الطرح الذي يريد مناديه ان يعبروا به عن "الحداثة" ناتجاً عن ترجمة لكلمة من اللغة الفرنسية Multiculturel/le (متعدد ثقافيا). هنا ايضا يظهر الخطأ نفسه. لا يوجد أحد لا فيلسوف ولا سياسي يريد ان يبني مجتمعاً "متعدداً". فالأصح أن يكون الهدف هو بناء مجتمع موحد بثقافة تشمل جميع الثقافات التي توجد بين ابنائه اي "Pluriculturel /le". وهو "كلٌّ" ناتج عن اتحاد المجموع كما يعبر عنه الشعار الامريكي على الدولار. E pluribus unum (من مجموع, واحد).
التعدد الثقافي ناتج عن ضرورة الاعتراف بالاختلاف اي الاعتراف بخصوصية اي مكون ثقافي في المجتمع. ومن هنا يقع اي شخص بعيد عن الفلسفة المدنية في الخطأ عند المناداة بهذا كشعار. لأن أي مجتمع يحتاج في النهاية الى ثقافة تميزه عن غيره من المجتمعات التي لا يمكن ان تكون مستمدة من ثقافة طائفة او مجموعة معينة. هنا ايضا يرتبط مفهوم الثقافة بمفهوم الجنسية. فلا يستوجب لشخص سوري مثلا ان يعرف عن نفسه بانه "كذا" سوري فهذا عمليا ينطوي على التشظي الانتمائي للفرد. وعليه فثقافة المجتمع السوري هي هوية الفرد السوري التي لا بد أن تعبر عن ثقافة المكونات المجتمعية و الاثنية المؤلفة للمجتمع السوري. ويستوجب بناء هذه الثقافة ليست فقط الاعتراف بالثقافات المختلفة الموجودة بالمجتمع السوري وإنما القيام بعملية تدعى "التفاعل بين الثقافات "Interculturel/ le ". وهذا يمكن طرحه كألية لبناء الثقافة المواطنية التي هي بناء المجتمع نفسه واسنادها الى مؤسسات التنشئة الاجتماعية و خاصة المدرسة. فليس المطلوب هو "العيش المشترك" فقط بين المكونات وهو إن كان هدفاً نبيلاً الا انه لا يمكن ان يبني مجتمعا على المدى البعيد. فالمجتمع لا يمكن ان يقوم على مجرد العيش بسلام بين مكونات المجتمع وانما لا بد من فلسفة ومشروع يجمع بين أفراد المجتمع على اختلاف انتماءاتهم. هذا المشروع هو مشروع "المواطنة".
يبقى ان نقول إن هناك نماذج مختلفة للتعامل مع التعدد الثقافي ولكنها يمكن أن تكون على درجات من نموذجين متمايزين الى حدا ما وهما النموذج الفرنسي والنموذج الامريكي. يقوم الاول على أساس التمييز بين الحيز العام والحيز الخاص. اي يمكن لأي شخص ان يمارس ما يشاء ويعتقد بما يشاء ولكن ضمن إطاره الخاص الذي لا يجب ان يتداخل مع الحيز العام الذي يتميز بقيم عامة يشترك بها جميع البشر تعبر عنه الدولة بالحيادية "Neutralité" تجاه المكونات. في الحيز العام يمنع ان تقوم بسلوك خاص بانتمائك "الضيق" لا يتوافق مع القيم الشاملة التي ينتمي لها جميع افراد المجتمع. تبدو هذه النظرة متأثرة بعلم الانسان Anthropologie. ملخص الاستناد ان الانسان قادر على تطوير اي ثقافة بمجرد التعرض لها.
اما النموذج الثاني الامريكي فيقوم على أساس الاعتراف بالاختلاف، والمساواة بالاعتراف بهذا الاختلاف اي "التسامح/ Tolérance Toleration والحق في ممارسة هذا الاختلاف بعد أن كان يستند الى فلسفة "بوتقة الانصهار" « The melting-pot » التي باءت بالفشل بعد ان كانت ذائعة الصيت في الكتابات الاجتماعية و الثقافية لفترة ليست بالقصيرة من القرن الماضي. أما الان فهناك فلسفات جديدة في التعامل مع هذا التعدد بالاستناد الى مبدأ "الاعتراف" Recognition/Reconnaissance يعبر عنها بمصطلحات جديدة كوعاء السلطة « Salad bowl ». اي ان محصلة الثقافات تعطي ثقافة خاصة تماما كخلطة السلطة مع المحافظة على خصوصية كل مكون. عموما هذه النظرة تبدو متأثرة بعلم الإثنيات "Ethnologie". ملخص الاستناد ان كل مكون اثني يتميز بثقافة خاصة لا يمكن الا الاعتراف بها.
اخيرا: تبقى الاشارة الى أن الإسقاطات التربوية لهذه الفلسفات السياسية, و التي تعبر عن المشروع العملي لهذه الفلسفات (مشروع المواطنة), تتمايز أيضا بين كلا النموذجين. ففي النموذج الفرنسي يغلب الطابع "الدوركهايمي" (نسبة لدوركهايم) للتربية. ملخصه ان الفرد ينبغي ان يتحضر للاندماج ضمن ثقافة المجتمع الموجودة سلفا وهو دور المدرسة وترك ثقافة البيت وأماكن العبادة وغيرها ليعبر عنها في الحيز الخاص.
اما النموذج الامريكي فيقوم حسب الفلسفة "الجون ديوية" (نسبة الى جون ديوي) على أساس اشتراك جميع الافراد والانخراط ضمن عملية التعلم وتبادل "التجارب" والخبرات وإغنائها لإغناء المجتمع نفسه فيما بعد. هكذا يهيأ الفرد للمجتمع المتنوع من خلال الاختلاط مع الكل والذي توفره المدرسة وبنفس الوقت تسمح هذه التجارب للفرد نفسه ان يطور قيمه الخاصة من خلال "الخبرة" التي يحصل عليها نتيجة تعرضه لثقافات اخرى على اعتبار ان الطفل لا يأتي "صفحة بيضاء" الى المدرسة كما كان يظن سابقا. وهكذا يطور كل فرد قيم وعادات هي في النهاية محصلة التفاعل بين كل المكونات.
هكذا تتحقق فكرة المجتمع المتنوع الغني بالاعتراف بثقافاته الفرعية اولا وبتفاعلها واغنائها لبعضها ثانيا ضمن مشروع يجمع أبناء المجتمع الواحد.
#وائل_زمو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟