أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد حمدان - الإستراتيجية الفلسطينية .....وضرورة التغيير 3/3 البديل تقصير المسافات















المزيد.....


الإستراتيجية الفلسطينية .....وضرورة التغيير 3/3 البديل تقصير المسافات


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 5018 - 2015 / 12 / 19 - 22:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الإستراتيجية الفلسطينية ..........وضرورة التغيير
3/3
البديل : تقصير المسافات
كنت قد ختمت الحلقة الثانية بالعبارة التالية : وبدل استثمار هذا الدعم المتنوع ، وطرح إستراتيجية نضال جديدة ، وتعبئة الجماهير على الهدف القابل للتحقيق ، هدف استعادة الدولة الفلسطينية التي أطاحت بها النكبة ، جرى رفع سقف الأهداف . ويا ليت الأمور وقفت عند هذا الحد ، ذلك أن الفعل على الأرض جرى على عكس النوايا والأماني تماما ، فالسؤال : كيف ؟
كان تطبيق شعار التحرير يقضي اعتماد إستراتيجية عسكرية مغايرة لتلك التي اعتمدتها فصائل الثورة . إستراتيجية تقوم على بناء قوة عسكرية فلسطينية فعالة ، تخترق فرقها الحدود ، تحتل رؤوس جسور لتحرير باقي الأرض . صحيح أنه كان عليها أن تبدأ بتكتيك حرب العصابات ؛ اضرب واهرب ، أي الدخول بمجموعات صغيرة ، تضرب العدو وتعود من حيث أتت. لكن هذا التكتيك استمر ، واحتل مكان إستراتيجية التحرير .
ولم يمض كبير وقت حتى أحكمت إسرائيل إغلاق الحدود ، وفرضت على الثورة الانتقال إلى الدفاع بديلا للهجوم . وبدلا من الاقتراب ، ولو خطوة صغيرة ، من هدف التحرير ، أُجبرت الثورة بداية على إخلاء الأغوار ، والتراجع للجبال ، ثم ، وبفعل القصف الجوي ، الانكفاء إلى المدن ؛ عمان ، السلط ، مادبا ، الزرقاء وإربد ...الخ . وفي هذا الوضع الجديد ، برزت وتفاقمت كل سلبيات إستراتيجية النضال المعتمدة .
كانت فترة حرب العصابات ، والتي امتدت لقرابة السنتين ، قد شهدت تدفقا هائلا للشباب على الانضمام للثورة ، وهو أمر شديد الإيجابية . لكنها أيضا شهدت تفريخا لفصائل ، تقدم انتماؤها لنظم عربية على انتمائها لفلسطين . وبعد الإبعاد القسري عن الحدود ، والانكفاء إلى المدن ، وتخمة التنظيمات ، بعشرات آلاف " الفدائيين !" ، وانعكاس صراعات الأنظمة العربية ، أخذت السلبيات في البروز واحتلال المشهد برمته .
في كتابي ؛ " دخول إلى حقل المحرمات " ، قلت أن المشهد بدا وكأن الثورة عاشت حالة من العطالة الثورية . ولم يجد الآلاف من الشباب المسلحين ، متعددي الانتماءات الفصائلية ، وبعد توقف دوريات العبور ، وتفاقم حالة ضعف الانضباط ، غير التبختر بسلاحهم في الشوارع ، وغير صرف طاقاتهم فيما لا يمت إلى أهداف الثورة بأية صلة . وبدا المشهد ، لمراقب مطلع ، كعودة لأخريات ثورة 36 -39 .
كانت هناك أيضا قيادة عامة للثورة . لكنها قيادة بصلاحيات أدبية معنوية ، أكثر منها صلاحيات فعلية . وظل كل قائد فصيل يعمل باستقلالية شبه تامة . وفي ظل الأمية السائدة ، والسياسية خاصة ، ضعف الانضباط ، وسياسة فرق تسد الاستعمارية ، كان لا بد للسلبيات – انتفاخ الذات ، الشعور بالقوة ، تعاظم النفوذ ..... الخ - من الظهور ، فالنمو على حساب أهداف النضال . فكانت كل تلك التجاوزات المرعبة التي دمغت نهاية الثورة .
صورة شبه كربونية سادت الثورة الجديدة بعد انكفائها للمدن . وكان لافتا للانتباه ما حظيت به التجاوزات وتصاعدها ، من تبرير القيادات ودعمها . وكانت النتيجة خسارة الحاضنة الشعبية الشاملة ، الأردنية عموما والفلسطينية بنسبة أقل ، ومنح النظام ، الذي كان يستعد جهارا نهارا ، فرصة الانقضاض ، وطرد الثورة – أيلول الأسود - ، وغلق الحدود الأردنية ، الأطول مع العدو ، في وجهها .
لبنان :
وبعد انتقال الثورة إلى لبنان ، تكرر ذات المشهد متمثلا في : 1- احتضان شعبي ووطني واسع وعميق . 2- التفاف عربي ودولي ، نظم وجماهير ، أيضا واسع وعميق . 3- تدفق للسلاح ولسائر متطلبات العمل . 4 – تدفق شبابي . 5 – سيطرة شبه مطلقة على الجنوب ، حتى تسميته بفتح لاند . 6 – إغراق بالمال والمساعدات المادية ، وبغرض إفساد الثورة من داخلها . 7 –ولادة فصائل مسلحة جديدة بارتباطات عربية تتقدم على الولاء الوطني . 8 – التعامل مع المخيمات الفلسطينية باعتبارها دفيئات تفريخ للمقاتلين . وأخيرا استئناف تكتيك حرب العصابات – الدخول بمجموعات صغيرة - ، ودون التفكير في التحول إلى إستراتيجية التحرير ، وبناء الوحدات العسكرية المؤهلة للاجتياح وإقامة رؤوس جسور ، لتحرير المزيد من الأرض .
وكما حدث للجبهة الأردنية ، لم يطل المقام حتى حدث الانتقال من حالة الهجوم إلى الدفاع ، فالانكفاء شمالا ، وعلى مراحل ، وحتى التمركز في صيدا والبقاع وبيروت ....الخ . وزاد الحال عن الأردن أن أقامت المقاومة دولة الفاكهاني – الحي الصغير داخل بيروت الغربية - مقاسمة ومتجاوزة للدولة اللبنانية في صلاحياتها . ولأن المقاومة ، بأعداد مقاتليها الكبير ، وضعف الانضباط ، وسيادة مظهرية السلاح ، قد باتت مجددا في حالة من العطالة الثورية ، فقد عادت لتكرار ذات التجاوزات ، وبصورة أوسع من سالفتها في الأردن ، ولتنتهي بذات النتيجة : حرب أهلية طاحنة ، وتعاون فاضح لجهات لبنانية مع إسرائيل ، فخروج كامل للمقاومة ، وانغلاق الحدود مع إسرائيل .
غياب :
وكنت في " دخول إلى حقل المحرمات " قد توقفت عند حرب تشرين العام 73 ، ودور المقاومة الفلسطينية فيها . وذكرت بأن الضغط على الدول العربية ، للتسريع في إعادة بناء جيوشها ، واستئناف حرب التحرير ، شكل الهدف المركزي للثورة الفلسطينية حينها . لكن وعند اندلاع الحرب ، كان غياب دور المقاومة أبرز علاماتها . صحيح أن وحدات من جيش التحرير الفلسطيني كانت حاضرة ، لكن ضمن دور حددته لها قيادات الجيوش المحاربة . وأشرت إلى أن المقاومة التي كانت تسيطر على الجنوب ، خاصرة إسرائيل الضعيفة ، خلدت إلى الهدوء ، بديلا للعبور ، واحتلال الأرض ، بدءا لعملية التحرير . وطرحت السؤال التالي : ما الذي كان سيحدث لمعنويات الجيش الإسرائيلي والسكان ، لو عبر لواء فلسطيني الحدود ، واحتل قريات شموناه - الخالصة – مثلا ، وهدد بالزحف لنهاريا ؟ . لكن ذلك لم يحدث ، فلماذا ؟ لأن إستراتيجية النضال الفلسطيني ، رغم الشعارات النارية ، استبعدت أي دور لها في التحرير ، واكتفت ، كما قبل النكبة ، بإلقاء عبئه على عاتق الدول العربية ، وبناءا عليه لم تحدث أي تطوير في بنية وحداتها المقاتلة ، والملائمة لحرب العصابات .
ولم يحدث ، لا بعد الخروج من الأردن ، ولا من لبنان ، أن دفعت هذه الانتكاسات ، قيادة ولو فصيل واحد ، لوقفة مراجعة وتقييم . وعلى العكس واصلت القيادات الوفاء للتقليد الذي تكرس في ثورة 36 – 39 ، والقائم على تقديس الفعل والفاعل في الثورة ، ومن ثم عدم الاقتراب ، إلا بالمديح للمزايا والبطولات والانجازات ، الأمر الذي أدى إلى تراكم السلبيات ، وإعادة إنتاجها في الشتات الجديد .
وعلى أية حال ، فقد أسفرت حرب تشرين 73 ، عن خروج مصر ، بعقدها لاتفاقية الصلح مع إسرائيل ، من أية مواجهة مستقبلية مع إسرائيل ، ولتلحقها الأردن في اتفاقية وادي عربة . ولم يستدع سقوط هذا العامل الأساسي في إستراتيجية النضال الفلسطيني ، أية ردة فعل فلسطينية في اتجاه إعادة النظر في إستراتيجية نضالها ، رغم انعكاسه المباشر ، بإطلاق يد إسرائيل في الانفراد بالثورة الفلسطينية ، وإرغامها على الخروج من لبنان ، وإغلاق آخر جبهة مواجهة مع إسرائيل . ربما يعود ذلك إلى ظهور جبهة الممانعة بقيادة سوريا ، وشمولها ، ولو معنويا ، العراق وليبيا والجزائر وإيران ، ورغم ما بين أطرافها من تناقضات وصراعات . ومع أن هذه الجبهة تفككت في حرب تحرير الكويت ، ورغم إشارات سوريا الواضحة ، عن استعدادها للتخلي تماما عن القضية الفلسطينية ، أثناء التحضير لمؤتمر مدريد ، أبقت القيادة الفلسطينية على موقفها الثابت من عدم إعادة النظر في إستراتيجية نضالها . واستمر هذا الحال إلى اليوم ، أي بعد ما أصاب أطراف جبهة الممانعة من نتائج حروب الدمار القائمة على أراضيها ، وخروجها قسريا من أية مواجهة محتملة في العقود القادمة .
وكان أن عاد تيار الإسلام السياسي الفلسطيني ، لالتقاط المبادرة ، بطرحه اعتماد وحدة الأمة الإسلامية بديلا للقومية العربية ، طريقا لتحرير فلسطين . والمدهش أن جماهير فلسطينية غير قليلة ، رأت في هذا الطرح ، رغم إدراكها لاستحالته وعبثيته ، مخرجا من حالة التردي الناتجة عن اعتماد الإستراتيجية السابقة . لكنها نامت على وهم استعادة الخلافة ، متناسية أنها – الخلافة – هي ، واستنادا إلى وقائع دامغة ، من وضعت أسس ضياع فلسطين . ووجد هذا الوهم مجالا للنمو من جديد ، عندما أعلنت داعش قيام خلافتها . وربما لهذا السبب نلمس هذا التعاطف من المتأسلمين الفلسطينيين مع داعش ، رغم وحشية الجرائم التي تواصل ارتكابها .
وعلى صعيد آخر لم يستدع انهيار إستراتيجية اليسار الفلسطيني خاصة ، والشيوعي في المقدمة ، واليسار العربي عامة ، والقائمة على تأجيل حل القضية الفلسطينية ، حتى تحقيق الحتمية التاريخية بسقوط الرأسمالية وانتصار الاشتراكية ، ومن ثم تحول البلدان العربية إلى الاشتراكية ، لم يستدع هذا الانهيار أيا من قادة هذه الأحزاب ، لإعادة النظر في إستراتيجيتها هذه ، والبحث الجدي عن بديل .
تفكير جديد :
لكن ذلك لم يكن هو المسار الوحيد للأحداث . ذلك أن القيادة الصهيونية أولا ، ثم دولة إسرائيل لاحقا ، كانت قد نجحت ، وعلى مدى يزيد عن الستين عاما ، وباستغلال إستراتيجية النضال الفلسطيني في قلب هرم الصراع ، بإيقافه على رأسه . نجحت ، وبشكل مبهر ، في تقمص دور الضحية المهددة بالإبادة ، وفي إلباس الشعب الفلسطيني ثوب الجلاد . ونجحت ماكينات الدعاية والإعلام الصهيونية ، متعددة الأذرع ، وهائلة القدرة والإمكانيات ، في إدخال وتثبيت هذه الإدعاءات ، في أذهان وعقول أصدقائها على اتساع العالم ، فابتزاز مساعدات متنوعة ، هائلة ، ثابتة ومستمرة ، تحت مسمى المساهمة في درء وإبعاد شبح الإبادة ذاك . وبدل أن تعمل ماكينة الدعاية والإعلام الفلسطينية ، محدودة وهزيلة الإمكانيات ، على التصدي لهذه الفرية ، فقد عملت بكل طاقاتها على تثبيتها . فعلت ذلك من منطلق الالتزام بإستراتيجية النضال ، والتي ترى في صورة الفلسطيني بطلا لا ضحية .
لكن خصوصية العلاقة بين جماهير الداخل ، وبين إدارة الاحتلال ، أوصلت هذه الجماهير ، بقياداتها وقواها الوطنية ، لقناعة عميقة وراسخة ، بضرورة إنتاج وتطوير فلسفة نضال جديدة تبلورت في : 1- مسؤولية حل القضية الوطنية تقع على عاتق شعبها في المقام الأول . 2- إجتراح أشكال وأدوات للنضال ، تنتزع المبادرة من يد العدو ، وتغادر حالة رد الفعل التي نجح العدو في تثبيت النضال الوطني عليها ، وعلى كامل عقود الصراع . 3- تحييد أسلحة العدو المتفوقة في كل المجالات ، تحقيقا لمبدأ التكافؤ في المواجهة و4- إعادة هرم الصراع المقلوب للوقوف على قاعدته ، من خلال استعادة الدور الحقيقي ، دور الضحية ، وإظهار الاحتلال على حقيقته ، كمجرم وجلاد .
أوصلتنا هذه الفلسفة الجديدة إلى انتفاضة العام 87 ، والتي اندلعت ، غير عابئة بسلاسل الهزائم المتتالية على الجبهات ؛ العربية ، الإسلامية والاشتراكية . وحققت الانتفاضة العديد من المكاسب . وقربت الشعب خطوات من تحقيق هدفه الأول ؛ إنهاء الاحتلال والظفر بالاستقلال . ومع ذلك لم تر القيادة فيها غير التهديد لمكانتها ، وغير الخروج على استقرار آليات نضالها . ولذلك لم تدفعها إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها ، خصوصا عامل مسؤولية الشعب الفلسطيني عن قضيته ، ومن ثم العمل على رفع قدراته ، للقيام بعبء هذه المسؤولية . وعلى العكس جرى النكوص عن أهم آليات الانتفاضة بعسكرتها ، فإهدار إنجازاتها ، في المفاوضات اللاحقة . وبعد مضي هذا الوقت الطويل ، بان أن الانتفاضة وإنجازاتها ، لم تكن في نظر القيادة إلا متكأ ، استخدمته لتبرير تراجعها عن هدف التحرير الذي أمضت عقودا في تعبئة الجماهير عليه ، للقبول بإعلان أوسلو ، الذي قزم حق تقرير المصير ، إلى مجرد حكم ذاتي على القطاع ، وأجزاء من الضفة .
البديل : تقصير المسافات
إذن فإن نظرة مدققة لحال العالم العربي ، لا بد وأن توقف صاحبهاعلى حقيقة ساطعة ، مؤداها انتفاء أي احتمالية لمواجهة عربية مع إسرائيل في العقود القادمة . ومؤداها أيضا أن مسؤولية تحرير الشعب الفلسطيني ، عادت إلى مكانها الطبيعي ، أي أن يتحمل هو عبئها الأساس . لكن نظرة أخرى إلى طرفي معادلة الصراع الجديدة ؛ فلسطين وإسرائيل ، تكشف ذلك البون الشاسع بين قدراتهما . قدرات شعب يقبع قرب قاع العالم الثالث ، تواجه قدرات دولة تحتل موقعا متقدما بين دول العالم الأول . قدرات إذا ما بدأنا في تعدادها واحدة بعد أخرى ، يدهشنا اتساع تلك المسافة الفاصلة بين كل منهما . ومعنى ذلك أن مواصلة النضال مائة سنة أخرى ، بذات الإستراتيجية ، وبنفس الآليات والأدوات ، لن توصل لأكثر من تحسين شروط الحكم الذاتي .
في الحلقة الأولى من هذه الورقة ، أشرت إلى أن مسلسل هزائمنا ، ومنذ أول صدام في العام 1882 ، وإلى يومنا هذا ، تعود أسبابه إلى هذا العامل الحضاري بالذات . وقلت أنه من المؤسف أن قيادات الشعب الفلسطيني ، وعلى مدار القضية ، لم تول أي اهتمام لهذا العامل ، ومن ثم لتضييق هذا البون الحضاري . وإذا كان من الممكن التماس العذر لقيادة عقدي الثلاثينات والأربعينات ، لافتقادها مؤهل الوقوف على دور هذا العامل ، ومن ثم عجزها عن وضع رؤيا لتضييقه ، فما الذي يمكن قوله عن القيادة الجديدة ، ذات التركيبة المناقضة ؟
كمثال ،قلت أن قيادة الثلاثينات عهدت إلى الانتداب البريطاني عملية إخراج شعبها من مستنقع الأمية والجهل الذي كان يرسف فيه . وقلت رغم أن الانتداب وضع حجر الأساس للنظام التعليمي ، إلا أنه لم يُعْنَ بجودة التعليم ، كما كانت تفعل القيادة الصهيونية . وما لم أقله أن أيا من الأحزاب التي نشأت في تلك الفترة ، لم تسترع انتباهه هذه المسألة . وبعد النكبة توزعت مسؤولية النهوض بالتعليم على أكثر من جهة . وكالة الغوث ، الأردن ومصر . ومع أن أيا منها لم يضع جودة التعليم في اعتباره ، فإن برامج الأحزاب التي نشأت ، خلت منها أيضا . وكمثال فإن الحزب الشيوعي الذي حمل عبء مهمة التنوير ، غابت جودة التعليم عن برنامجه . والأمر ذاته انطبق على الخدمات الأخرى ؛ الصحة ، الزراعة ، الإدارة ، القانون ، القضاء ، الأمن ، البيئة ، الخدمات الاجتماعية .........الخ .
وكان من المفترض أن تحتل مسألة تقدم إسرائيل العلمي والحضاري ، رأس أولويات قيادة الثورة الحديثة ، كونها قيادة متعلمة ، تعي وتدرك دور هذا التقدم على عملية الصراع الجارية . لكن القيادة الجديدة ، وقد بدأت من حيث انتهت سابقتها ، ليس فقط لم تلتفت لهذه المسألة ، بل وبذلت أقصى طاقاتها لزيادة هذا البون مع عدوها ، باعتمادها لعامل الديموغرافيا ، بديلا لعامل النوع ، في إستراتيجية نضالها . فليس فقط أنها لم تهتم بجودة التعليم ، بل ووضعت التعليم ذاته في تناقض مع البندقية . وزادت على ذلك أن هوت بالتعليم درجات أخرى ، حين قررت منح المناضلين شهادات علمية - توجيهي السجون - كمكافأة تعويضية . وحين جاءت السلطة زادت الطين بلة بتغاضيها عن منح الجامعات شهادات عليا لمسؤولين ، ولأقارب لهم ، لم يطأوا أرض الجامعة .
يقول كثيرون أن ذلك غير صحيح ، وأن تقدما حدث على كل الصعد . ولا يرون أن المسألة ليست مسألة مقارنة مع ما كنا عليه في الثلاثينات والأربعينات ، ومع الدول العربية ، أو غيرها من دول العالم الثالث . ولا يتذكرون أن قضيتنا وصراعنا ليست مع أي من هؤلاء . فما لا يجب أن يغيب عن أعيننا ولو للحظة ؛ أن عدونا يصعد سلم الحضارة بسرعة صاروخية ، ويمتلك كل مقوماتها وتقنياتها ، ونحن نصعد جبل التقدم ، على ظهر حمار أعرج وهزيل . يقولون أن انحياز أمريكا المطلق ، والتي تحتل كرسي قيادة العالم ، لإسرائيل ، هو المسؤول عن عدم تحقيق نضالنا لنتائجه المرجوة ، وأن الأمر سيتغير مع حلول التغيرات العالمية القادمة . وهذا القول إلى جانب ما فيه من الصحة ، يعكس وعيا وإدراكا لأهمية ميدان النضال العالمي هذا . لكنه من جانب آخر لا يعكس فهما لمقتضيات هذا النضال ، ومنها أن المصالح وليس المبادئ هي محرك الدول في تحديد مواقفها . ولذلك يبرز السؤال : ما الذي أعددناه للتعامل مع المتغيرات القادمة ؟ وحتى نقرب المسألة أكثر ، تعالوا نسأل : هل هناك مجال للمقارنة بين أداء جهازنا الدبلوماسي وجهاز إسرائيل الدبلوماسي ؟ وهل هناك مقارنة بين أداء أجهزتها الدعائية والإعلامية وأجهزتنا ؟ والجواب لا ضخمة ، بل وشديدة الضخامة . والسؤال لماذا ؟ وهل علينا القبول بهذا الحال إلى ما شاء الله ؟. وإذا ما انتقلنا لميادين النضال الأخرى ، وأداء أجهزتنا وأجهزتهم فيها ، ألا نقف على الحقيقة المرة لأقصى درجات المرارة ، أن الأمر ذاته ينسحب على كل مؤسساتنا ، وبلا أي استثناء ؟ . والأمر المستهجن ، والصادم ،أننا نعرف الجواب على السؤال ؛ ولماذا؟ هو الفارق الحضاري ، الآخذ في الاتساع بيننا وبينهم . وأعيد : نحن شعب يستقر على مقربة من قاع العالم الثالث ، يحارب بوسائله البدائية ، وفي ميادين المواجهة المتعددة – ميدان الأرض المحتلة واحد منها - ، دولة نووية ، تعمل ، ليس على تثبيت ، بل على تطوير وتقدم موقعها بين دول العالم الأول . وننتظر ، ويا للعجب ، أن نحقق نتائج إيجابية في المائة سنة القادمة .
البديل تقصير المسافات :
والآن ، وإذا ما توفرت لدينا القناعة ، نتيجة العرض السابق ، بعدم صلاحية إستراتيجية النضال التي رافقتنا منذ بدء القضية ، يبرز السؤال ؛ ما هو البديل ؟ لكن وقبل الإجابة ، تعالوا نعيد طرح السؤال : هل استقرارنا قرب قاع العالم الثالث ، ومن ثم وجود هذا البون الحضاري بيننا وبين إسرائيل ، هو قدر لا فكاك منه ؟ والجواب بسيط وواضح ؛ ليس قدرا . ولكي نحافظ على مجرد بقائنا ، قبل تحقيق أية مكاسب لقضيتنا ، تتوجب مغادرته وإلى العالم الأول .
إذن وضح البديل . 1- المسؤولية عن قضيتنا تقع على عاتقنا نحن . ومطالبنا من أخوتنا العرب هو تقديم ما يستطيعون من عون ؛ سياسي ، مادي ، أدبي ، معنوي ....الخ ، وربما نتوقع منهم ما هو أكثر من باقي الأصدقاء . 2- هذه المسؤولية تفرض علينا تبني إستراتيجية جديدة ، قوامها العمل على الانتقال بشعبنا من العالم الثالث إلى العالم الأول . وكما أسميتها في العنوان ؛ إستراتيجية تقصير المسافات كمرحلة أولى . وحين نحققها ننطلق لمرحلة تساوي المكانات . والسؤال : هل مثل هذه الإستراتيجية ممكنة التحقيق ؟ والجواب نعم وبكل تأكيد . وسؤال آخر : وكيف يكون ذلك ؟ والجواب يحتاج لبعض التمهيد .
كلنا ندرك اتساع المسافة بين واقعنا ، كبلد من العالم الثالث ، وبين واقع العالم الأول ، ويعنينا منه إسرائيل . لكن ولأننا قبلنا التحدي ، ومنذ البدء ، أي حين كنا نئن تحت طبقات من ركام الجهل والأمية ، على مواجهة المخطط الصهيوني ، وأثبتنا قدرتنا ، يتوجب علينا قبول هذا التحدي الأصعب ربما . لقد ظللنا نلاحظ ، ونحن نواصل الدفاع عن قضيتنا ، كيف أن الضعف في ميدان من ميادين المواجهة ، كميدان الدبلوماسية ، ظل يطيح بانجازاتنا في ميدان آخر ؛ إضراب 36 ، وقراري التقسيم كمثال . وفي الثورة الجديدة لاحظنا ضعف قدرتنا على تفعيل كافة ميادين نضالنا ، عملها بالتوازي ، وردفها الواحد للآخر . والانتقال للعالم الأول يوفر لنا الحل لسد هذا العجز .
وكما قلت فإن الانتقال من قرب قاع العالم الثالث إلى موضع قدم في العالم الأول ، هو تحد كبير ، ولكنه ممكن ، فقط إذا اقتنعنا بضرورته الحيوية . أعرف أن هناك من سيبادر إلى الاعتراض والقول : أن هذه الإستراتيجية تحتاج وقتا طويلا ، ونحن لا نملك مثل ترف الوقت هذا . وأقول : نعم نحتاج وقتا طويلا ، ما بين خمسة عشر وعشرين عاما ، من بدء التطبيق . وهذه فترة أقل بما لا يقاس من الفترة التي نحتاجها لمجرد تحسين شروط الحكم الذاتي . وكما أشرت سابقا ؛ لا نستطيع ، بالاستمرار في إستراتيجية نضالنا الحالية ، الوصول إلى أهدافنا ، في مائة سنة . وعلى العكس ، ومهما علت موجة الدق على العواطف ، وتحفيز الغرائز ، سيواصل حالنا التردي ، الأمر الذي يهدد بفنائنا كشعب . وسيعترض آخر : وهل علينا إيقاف نضالنا عشرين سنة ؟ وأقول : لا . علينا أن نواصل ، ولكن بعقلانية أكثر .
اختيار مثال :
وبديهي أن مثل هذه الإستراتيجية تحتاج لتفاصيل كثيرة ، ولمساهمات ومبادرات أكثر . ولكنني على ثقة بأننا نملك الكفاءات القادرة على ذلك . لكن ، وحتى لا نتوه في سراديب من أين نبدأ ؛ من التعليم ، بشقية المدرسي والجامعي ؟ من الصحة ؟ من القضاء ؟ .....الخ ، سأسمح لنفسي بطرح التصور التالي :
للبدء بخطوة تقصير المسافات علينا أن نختار مثالا . نحدد بلدا . نقول أننا نطمح لبلوغ مستواه بعد عشرة أعوام ، خمسة عشر عاما ...الخ . بلد كانت ظروفه فيها شيء من المقاربة لظروفنا ، تخطاها وانتقل للعالم الأول . مثل هذا البلد يقع في جوارنا . قبرص ، مالطة والبرتغال . الأولى والثانية خضعتا لقرون من الحكم العثماني ، ولعقود من الاستعمار البريطاني ، والثالثة تجمعها بنا قرون من الوجود العربي في الأندلس . وفي البعيد ، في آسيا : سنغافورة ، كوريا الجنوبية ونيوزيلندة . وإذا ما قررنا واحدة منها ، ولتكن نيوزيلندة ، نتفق مع حكومتها ومؤسساتها على استقبال مجموعات نرسلها ، تدرس عمل مؤسساتها ، وتعود مؤهلة لنقل التجربة . وبتوضيح أكثر : نرسل بعثة متخصصين في التعليم مثلا ، تتطلع ، تدرس ، تتعلم ، تنقل كل عملية التعليم بتفاصيلها ، وتعود حاملة مشروع تطبيقها على مدارسنا وجامعاتنا . والأمر ذاته في سائر مؤسساتنا التي تتبع للثلاثة وثلاثين وزارة ، ولغيرها من المؤسسات والهيئات المدنية . وبديهي أن ذلك يتطلب إجراء تعديلات أساسية ، وتغييرا للأولويات في الميزانية ، وتتبعها فيما بعد عمليات جراحية كبرى، تكفل نقل المؤسسات والهيئات لمستوى نظيراتها من العالم الأول . وأخيرا علينا أن نتوقف ، كليا وقطعيا ، عن المقارنة مع شقيقاتنا العربية . فمثل هذه المقارنة لا تفعل غير شدنا إلى قاع العالم الثالث ، وبالتالي الاستمرار في حصد النتائج السلبية لنضالنا ، عظمت ما عظمت تضحياتنا .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإستراتيجية الفلسطينية ......وضرورة التغيير 2/3 الحركة بفعل ...
- الإستارتيجية الفلسطينية .......ضرورة التغيير 1/2 النشأة والأ ...
- في السياسة ......حديث ذو شجون
- الحجاب بين الاجتماعي والفرض الديني 2/2 القرآن ومجتمع المدينة
- الحجاب بين الموروث الاجتماعي والفرض الديني 1/2
- أوروبا ، الغرب .....والإسلاموفوبيا 2-2 تشخيص النبي ومفهوم ال ...
- أوروبا ، الغرب ......والإسلاموفوبيا 1-2
- قراءة في ثورة الشباب المصري 19 براءة مبارك
- ياحضرات المثقفين .....لطفا بتاريخنا السياسي 2 هل نحن أمام سا ...
- يا حضرات المثقفين .......رفقا بالتاريخ الحزبي 1
- بوكو حرام في نيجيريا ....داروين حرام في فلسطين
- في الذكرى ال 66 للنكبة ....ولكن آفة شعبنا قياداته
- انحدار التعليم إلى أين ؟ وإلى متى ؟ .....التلقين وطريق الخرو ...
- تلك نظم ولى زمانها
- تقاطعات بين الديان 2 صفات الآلهة
- تقاطعات بين الأديان 1 عبد المطلب ( جد الرسول ) هل كان نبيا
- حوار أملاه الحاضر 19 عدالة الإسلام 3 فلسطين اللبن والعسل
- حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية
- حوار أملاه الحاضر 17 العدالة في الإسلام 1 الغنائم
- من فتنة عثمان إلى فتنة مرسي


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد حمدان - الإستراتيجية الفلسطينية .....وضرورة التغيير 3/3 البديل تقصير المسافات