أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عدنان غازي الرفاعي - أكذوبة الجزية بمفهومها التاريخي (بحث مفصل )















المزيد.....


أكذوبة الجزية بمفهومها التاريخي (بحث مفصل )


عدنان غازي الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 5005 - 2015 / 12 / 5 - 22:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بسم الله الرحمن الرحيم ...الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفى

الظلم أمرٌ يتناقض مع منهج الله تعالى ، لأنَّ منهج الله تعالى نور ، والظلم ظلام .. والظلام ليس إلاَّ مجرّد دليلٍ على عدم وجود النور ..
ويتجلّى الظلم بأبشع صوره حينما يمارسه الظالم تحت مظلة منهج الله تعالى ، ناسباً ظلمه لله تعالى ومنهجه .. هذا ما نراه في مسائل تكفير الآخرين وقتلهم لأنهم آخرون ، وفي فرض الجزية ( حسب المفهوم التاريخي ) عليهم نتيجة عدم اعتناقهم للإسلام ..
وهذا الظلم في تكفير الآخرين وفرض الجزية ( حسب المفهوم التاريخي ) عليهم ، هو في الدرجة الأولى إساءة لمنهج الله تعالى ، وافتراء على الله تعالى ، وبعد ذلك هو ظلمٌ للبشر واستعبادٌ لهم دون حق ..
سنتناول – بإذن الله تعالى – المفهوم التاريخي للجزية ، لنرى كيف أنَّه افتراءٌ على الله تعالى ومنهجه ، وأنَّه نتيجة جعل الأهواء والشهوات والأحلام السياسية ديناً يُنسَب ظلماً إلى منهج الله تعالى .. والآية الكريمة التي يحتجون بها في الجزية بمفهومها التاريخي هي ..

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) 29 التوبة

وسنبدأ بتفسير هذه الآية الكريمة بتبيان مفهوم القتل في كتاب الله تعالى ، كون هذه الآية الكريمة تبدأ بكلمة : ( قاتلوا)..
دلالات الجذر اللغوي ( ق ، ت ، ل ) في كتاب الله تعالى تدور في إطار محاولة القاتِل بإخراج المقاتَل من ساحة وجودِه ، إخراجاً نهائيّاً لا يعود بعدها إلى هذه الساحة .. فالقتل يحمل – ممّا يحمل من معنى – مفهوم إخراج المقتول من عالم الدنيا ، بمعنى هو استعمال وسيلة لإنهاء حياة إنسان ، بحيث لا يعود إلى حياته الدنيا بعد قتله أبداً ، ولذلك نرى أنَّ القتل يُعطَف على الموت ..

(ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون*ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) ال عمران 157
والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ) الحج 58

فالقتل يحمل – فيما يحمل من دلالة – معنى الموت بأداة ووسيلة يقوم بها القاتل .. وهذا معلوم ولا خلاف فيه ..
.. ومفهوم قتل النفس في كتاب الله تعالى ، يكون وفق أمرين اثنين :
1 – القتل الذي يؤدّي للموت ، بمعنى اتخاذ وسيلة لإزهاق النفس وإخراجها من جسدها خروجاً نهائيّاً لا تعود فيه إلى عالمها ، بمعنى لا تعود لجسدها الدنيوي نهائيّاً ..

(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم)) البقرة 85
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) [النساء: 29ـ30]

2-القتل الذي يؤدِّي لخروج النفس من الحالة التي هي فيها ، خروجاً نهائيّاً لحالةٍ أُخرى لا تعود فيها إطلاقاً إلى حالتها الأولى ..
يقول تعالى .
( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( 54 ) ) .البقرة
للأسف ذهبت معظم تفاسيرنا الموروثة في تفسير العبارة القرآنيّة : (فَاقْتُلوا أنفُسَكُمْ)... بأنَّها تعني : أن يقتل كلُّ واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن ، وقالوا عن قوم موسى : فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل كل من قتل منهم كانت له توبة وكل من بقي كانت له توبة .. هكذا فسّروا لنا هذه العبارة القرآنيّة ..
.. لكن ما نراه في هذه الآية الكريمة أنَّ العبارة القرآنيّة : (فَاقْتُلوا أنفُسَكُمْ)... تأتي بعد العبارة القرآنيّة : ) فَتُوبوَا إلـى بارِئِكُمْ ( ، والفاء في كلمة :) فَاقْتُلوا ( تجلّي هذا الترتيب :) ) فَتُوبوَا إلـى بارِئِكُمْ فَاقْتُلوا أنفُسَكُمْ ( ، وهذا ينفي تماماً مفهوم القتل الذي ذهبت إليه التفاسير الموروثة من طعن بالخناجر لبعضهم ليصبحوا موتى ، فعند حصول التوبة ) فَتُوبوَا إلـى بارِئِكُمْ ( يصبحون مؤمنين ، وبالتالي فالخطوة التالية بعد هذه التوبة هي خروج أنفسهم من حالة الظلم نتيجة اتخاذهم العجل ، خروجاً نهائيّاً إلى حالة تنزيه الذات الإلهيّة عن أيِّ شرك ، تنزيهاً لا يعودون فيه إطلاقاً إلى حالتهم التي اتخذوا فيها العجل .... وهذا ما تؤكِّده العبارات التالية مباشرة :
ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( 54 ) )
.. أمّا قول التفاسير الموروثة بأنَّ العبارة القرآنيّة ) فَاقْتُلوا أنفُسَكُمْ ( تعني : أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن ، وأنّهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل كل من قتل منهم كانت له توبة وكل من بقي كانت له توبة .. هذا القول تنقضه الصياغة اللغويّة لهذه الآية الكريمة ، وينقضه العقل والمنطق ، ورح المنهج الإلهي ..

.. ولننظر في النصِّ التالي ..
(83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ ) البقرة
.. هنا العبارة القرآنيّة ) ثُم أَنتُمْ هَـؤلاءِ تَقْتُلونَ أنفُسَكُمْ ( تعني القتل بمعنى الموت .. فهذا العبارة القرآنيّة تقابل عبارة في الآية السابقة : )لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ) ، كما أنَّ العبارة : ) وتُخْرِجون فريقاً منكم من ديارهم تَظَاهَرون عليهِم بالإثم والعُدوان) تقابل في الآية السابقة العبارة )ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم )
فمعنى القتل هنا والمتعلّق بسفك الدماء عرفناه من سياق النص .. فمن سياق النصّ المحيط بمشتق من مشتقات الجذر ( ق ، ت ، ل ) نحدِّد الدلالة المعنيّة في هذا النص ..
وهذه الآية الكريمة تؤكِّد لنا أنَّ القتل في النصِّ السابق لا يعني سفك الدماء وقتل أنفسهم بالخناجر كما ذهبت تفاسيرنا الموروثة .. فالله تعالى أخذ ميثاق بني إسرائيل ألاَّ يقتلوا أنفسهم قتل سفك الدماء: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تَسفِكون دمآءَكُم ) ، وبالتالي فلن يأمرهم الله تعالى بأن يقتلوا أنفسهم قتل سفك الدماء .. من هنا تتبين معنا – إضافة لما بيّنا من أدلة – أنَّ القتل المعني في قوله تعالى :
( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( 54 ) ) .
، هو إخراج النفس من الحالة التي هي فيها ( من اتخاذٍ للعجل ) خروجاً نهائيّاً لحالةٍ أُخرى ، لا تعود فيها النفس إطلاقاً إلى حالتها الأولى ..
.. هذا المعنى للقتل نراه أيضاً في النصِّ التالي ، الذي يخاطب قوم النبيِّ محمّدٍ ص.

.. ولننظر في النصِّ التالي ..
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) النساء
.. ما نراه أنَّ فعل قتل النفس هنا : ) أقتلوا أنفسكم ( في حال حدوثه يؤدّي إلى نتيجة هي :
(66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
وهذه النتيجة لها تعلُّقها بالحياة الدنيا قبل الممات ، فالتثبيت والهداية هي مسائل لها علائقها في الحياة الدنيا ..
إذاً .. قوله تعالى : ) اقْتُلوا أنفُسَكُمْ ( يعني : أخرِجوا أنفسكم من حالة العصيان التي أنتم فيها ، إلى حالة العبادة الصادقة المخلصة ، التي لا عودة فيها إطلاقاً لحالتكم التي أنتم فيها ..
.. لذلك فكلمة )Ÿ-;-قتال ( ليست محصورة بالجهاد بالسيف ، إنّما تعني أيضاً الجهاد بالكلمة والحجّة والبرهان لإخراج الآخرين من حالة الظلام التي يغرقون فيها إلى حالة النور الذي لا يعودون فيها إلى حالة الظلام نهائيّاً .. ولذلك نرى أنَّ كلمة ) قِتال ( تتعلَّق في كتاب الله تعالى، بالله سبحانه وتعالى ..
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون 30 التوبة
. فلا يمكن لعاقل أن يتخيل العبارة القرآنيّة ( قاتلهم الله ) أنّها تعني حَمْلَ الله تعالى لسيفٍ يقاتل هؤلاء فيه في معركة حسيّة .. إنّما تعني أنَّه بسبب جحودهم أخرجهم الله تعالى من ساحة الهداية إلى ساحة الضلال ، خروجاً لا يعودون بعده إلى ساحة الهداية ..
.. إذاً كلمة قاتل ليست محصورة أبداً بجانب القتال الحسي في معركة يحاول فيها المقاتِل أن يجعل الآخرين من الموتى ، فدلالاتها واسعة ، ونعرف الدلالات التي تحملها في كلِّ نصٍّ من خلال السياق القرآني المحيط بها .. مثلاً في الآية الكريمة التالية ..
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا 76 النساء
وهنا سوف نرى أنَّ القتال هنا مسألة مفتوحة ، تبدأ بالدعوة إلى الله تعالى لإخراج الغارقين في سبيل الطاغوت من حالة الظلام إلى حالة النور ليصبحوا في صراط سبيل الله تعالى ، وإن اعتدوا على المؤمنين بالسيف ، عندها فقط ، يتوجب قتالهم بالسيف ..

وهذا المعنى نراه أيضاً في قوله تعالى ..
وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (التوبة , 36
العبارتان القرآنيّتان وقاتلواالمشركين كافه كما يقاتلونكم كافه( ، لا يمكن حصر القتال بهما بقتال السيف ، فالمشركون كافّة ليسوا في حالة قتال بالسيف مع المؤمنين كافّة دائماً وأبداً ، بينما القتال الدائم بين المؤمنين والمشركين ، هو قتال الفكر والمعتقد ، ونشره بين الناس ..
.. بعد هذا التبيان لمفهوم القتال ، لنعد إلى قوله تعالى :
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) 29 التوبة
لكلمة الأولى في هذه الآية الكريمة هي : ) قاتلوا) .. فما هو القتال المعني ؟ ، وما الهدف منه ؟ ..... كلمة : ) (قاتلوا ( في هذه الآية الكريمة ليست محصورة بقتال السيف ، لأنَّ الهدف من هذا القتال هو : حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .. وبالتالي .. بقاء المعني حيّاً ليعطي الجزاء المترتِّب عليه هو أمرٌ مطلوب .. فمن يأمر الله تعالى بمقاتلته ، عليه جزية لا بدَّ أن يعطيها ، وبالتالي فالهدف ليس قتله ، الهدف من القتال هو أن ينصاع للجزاء المترتّب عليه ..

في هذه الآيةِ الكريمةِ نرى ورودَ عبارةِ (( الذين أوتوا الكتاب )) ، دون عبارةِ : (( أهل الكتاب )) .. فعبارةُ (( أهل الكتاب )) مُصطلحٌ قرآنيٌّ خاصٌّ بمتّبعي رسالتي موسى وعيسى عليهما السلام .. بينما المصطلحُ القرآنيُّ (( الذين أوتوا الكتاب )) يشملُ أهلَ الكتاب والمسلمين ، وذلك حَسبَ السياقِ القرآنيِّ المُحيطِ بهذه العبارة .. وفي العباراتِ القرآنيّةِ التاليةِ دليلٌ على ذلك ..

(( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن المشركين أذى كثيراً )) [ آل عمران : 186 ]

(( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله )) [ النساء : 131 ]

(( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم )) [ المائدة : 5 ]

(( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء )) [ المائدة : 57 ]

.. فورودُ العبارةِ القرآنيّةِ (( من قبلكم )) خلفَ العبارةِ القرآنيّةِ (( الذين أوتوا الكتاب )) ، دليلٌ على أنّنا من الذين أوتوا الكتاب .. والعبارةُ القرآنيّةُ (( من قبلكم )) هي للإشارةِ إلى أهل الكتاب تَمييزاً لهم من جملة المعنيين بالعبارة القرآنية (( الذين أوتوا الكتاب )) ، التي تشمَلُنَا وتشمَلُهُم ..

. إذاً قولُهُ تعالى (( ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب )) ليست خاصّةً بأهلِ الكتابِ كما تذهبُ تفاسيرُنا التاريخية .. والعبارة القرآنيّة .. (( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) ، تُبينُ لنا الهدفَ الذي من أجلِه يأمُرُنا الله تعالى بمقاتلةِ المعنيين في هذه الآيةِ الكريمة .. وهذا ينفي تماماً مفهومَ الجزيةَ بمعنى دفع الأموالِ بدلاً عن اعتناقِ الدين ، أي بمعنى الخيارِ الآخر لاعتناقِ الإسلام ..

.. فاللهُ تعالى لم يقل .. (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُؤمنوا أو يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) .. فالجزيةُ حصراً هي هدفُ القتال ، حيث ينتهي القتال حينما (( يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) ..
وبالتالي يكونُ معنى العبارةِ القرآنيّةِ (( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ )) .. هُوَ : حتى ينصاعَ أصحابُ تلك الجناياتِ إلى الجزاءِ المُقابلِ لِجِنَاياتِهِم ، وهم أذلاء منصاعون لما حرّمَهُ اللهُ تعالى ورسولُهُ صلّى الله تعالى عليه وسلم ..

.. وفي العطف بين العباراتِ القرآنيّةِ المُشيرةِ إلى صفاتِ أصحابِ تلكَ الجنايات .. (( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ )) بيانٌ إلى أنَّ قتالَ هؤلاء يكون حينما يتّصفون بجميع تلك الصّفات ، ومن هذه الصفات (( وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ )) .. وهذا يؤكّدُ أنَّ المسألةَ مسألةُ جناياتٍ وحقوقٍ مُستحقّة ، فأصحابُ الرسالات الأُخرى ليسوا مُلزمين باتّباعِ الخصوصيّاتِ التي حرَّمَها الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم على المسلمين ..
.. فالآيةُ الكريمةُ إذاً تعني أصحابَ الجناياتِ الذين لم ينصاعوا لِلأحكامِ التي ترتبتْ عليهم نتيجةَ جناياتِهِم تلك ، وذلك من المسلمين أو من أهلِ الكتابِ داخلَ الدولةِ الإسلاميةِ الذين لَهُم ما لها وعليهم ما عليها ..

كيف يأمر الله تعالى بمقاتلة الآخرين لإجبارهم على دخول الدين الإسلامي ، والله تعالى يقول في كتابه الكريم
(لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)..البقرة 256
..أفانت تكره الناس حتى يكونوا مومنين)..يونس99
..(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن) ومن شاء فليكفر الكهف 29

كيف من الممكن لإنسان عاقلٍ يدرك الحدَّ الأدنى من قواعد اللغة العربيّة ، ويؤمن بهذه الآيات الكريمة ، وعنده روح ، كيف من الممكن له أن يتصوَّر المفهوم التاريخي للجزية بأنَّه حكمٌ من عند الله تعالى ؟!!! .. كيف ؟!!! ..
.. من هنا نرى أنَّ كلمة ) قاتلوا ( في بداية هذه الآية الكريمة تصف بذل الجهد ليس في قتل المعنيين من أجل فرض الإسلام عليهم أو إعطائهم الجزية كبديل لذلك ، أبداً ، إنّما تصف بذل الجهد في الإتيان بأصحاب الجنايات لينصاعوا للأحكام المترتّبة على جناياتهم التي ارتكبوها ، مهما كان معتقدهم ، ولا فارق في ذلك بين مسلم وغير مسلم ..... وموضوع الجزية كمبلغ يدفعه الآخرون كبديل عن اعتناقهم للإسلام ، هو أكذوبة كبرى ، لُفِّقَت على منهج الله تعالى ، ومنهج الله تعالى منها براء ..

حينما كُتِبَ القتالُ على المؤمنين وهو كُرْهٌ لهم ، لمْ يُكتَبْ عليهم لإكراهِ الناسِ على دخولِ دينِ اللهِ تعالى ..

.. فأمرُ الله تعالى للمؤمنين بأن يُقاتِلوا في سبيلِهِ ، لا يعني أبداً فرضَ الدينِ بالقوّة .. إنّما هو بِسَبَبِ مُحاربةِ الآخرين لِلمنهجِ الذي أنزلَه اللهُ تعالى على رسولِه صلّى الله تعالى عليه وسلّم .. أي بسببِ الجنايات التي يرتكبُها أولئك الذين يأمُرُنا اللهُ تعالى بِمُحارَبَتِهِم .. وفي النصِّ القرآنيِّ التالي دليلٌ على ذلك ..

(( إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم جزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم (33) إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنَّ الله غفور رحيم )) [ المائدة : 33 – 34 ]

.. فالعبارة القرآنيّةُ (( الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً )) ، تشملُ كلَّ الموصوفين بهاتين الصفتين ، سواءٌ كانوا مسلمين ، أو غيرَ مسلمين .. وفي تَكرارِ كلمةِ (( أو )) بين حالات الجزاء في قولِه تعالى : ((أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض )) ، في ذلكَ بيانٌ في اختلافِ الأحكامِ التي يستحقِّهُا هؤلاء كَجَزَاءٍ على جناياتِهِم ، وذلك حسبَ جنايةِ كُلٍّ منهم ... وبالتالي فنحنُ أمامَ جناياتٍ مُتعدّدة ، جزاؤها بدرجاتٍ مختلفة ..... وقولُهُ تعالى .. (( إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنَّ الله غفور رحيم )) ، يُؤكِّدُ لنا أنّنا أمامَ جِناياتٍ غُفْرَانُها يَحتاجُ إلى توبة ، وجزاؤها المُبيَّنُ في هذا النصِّ القرآنيِّ ، لا يَسْقُطُ إلاَّ بتوبةِ الجاني قبلَ أن يُقْدَرَ عليه .. فالله تعالى يقول : (( إلاّ الذين تابوا )) ، ولم يقل : (( إلاَّ الذين آمنوا )) ، ولم يقل : (( إلاَّ الذين أسلموا )) .. فالمسألة مسألة رجوع عن جنايات يرتكبها المعنيّون في المجتمع الذي يعيشون فيه ..



#عدنان_غازي_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل معجزة العدد 19 ذُكِرَت في القران الكريم؟؟
- الرد الشافي على الذين يؤولون ايات القران لمجاراة فرضية التطو ...
- تفسير أية انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله.....


المزيد.....




- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...
- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عدنان غازي الرفاعي - أكذوبة الجزية بمفهومها التاريخي (بحث مفصل )