أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد الحمداني - نوري السعيد / الحلقة التاسعة















المزيد.....


نوري السعيد / الحلقة التاسعة


حامد الحمداني

الحوار المتمدن-العدد: 4920 - 2015 / 9 / 9 - 14:35
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى

أولاً: انقلاب بكر صدقي والأحداث التي رافقته:
نبذة عن حياة بكر صدقي:
ولد بكر صدقي عام 1866، ودرس في الاستانة في المدرسة الحربية وتخرج منها ضابطا في الجيش العثماني، انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه المحتلون في 6 كانون الثاني 1921 برتبة ملازم أول.
رغم كون بكر صدقي من أبوين كرديين فقد كانت له ميول قومية عربية، ولذلك فقد تلقفه أنصار القومية العربية من الطبقة العراقية الحاكمة، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن في عهد الملك غازي، واشتهر بالقسوة والعنف عندما قاد الجيش العراقي ضد ثورة الآشوريين عام 1933،على عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد الحركة البارزانية، وضد ثورة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك السيد حكمت سليمان الذي أحبه كثيراً.

اشتد الصراع بين وزارة [ياسين الهاشمي] الثانية والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان بكر صدقي الذي شغل منصب قائد الفرقة العسكرية الثانية يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف [حكمت سليمان]، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقادها للتأييد الشعبي، واختمرت لدى بكر صدقي فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري بالتعاون مع الفريق [عبد اللطيف نوري] قائد الفرقة الأولى الذي كانت تربطه معه علاقات وثيقة. (1)

واستطاع الاثنان أن يضما إلى صفهما قائد القوة الجوية العقيد [محمد على جواد]، وسارت الأمور بتكتم شديد، مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها، وعندما جاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936 وجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه الفرصة، فقد كانت خطة المناورات تقتضي إجراءها فوق [جبال حمرين]، في المنطقة الواقعة بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد، فيما تكون الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي في موقع الهجوم .
وفي 29 تموز 1936 سافر رئيس أركان الجيش الفريق [طه الهاشمي] شقيق رئيس الوزراء، في مهمة إلى خارج العراق، وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري، مما سهل على الانقلابيين الأمور كثيراً.

كان موعد المناورات قد حُدد يوم 3 تشرين الأول 1936 ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر بكر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات.
ففي يوم الثلاثاء المصادف 27 تشرين الأول جرى لقاء قبل التحرك بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، واتفقا على موعد تنفيذ الانقلاب وتفاصيل الخطة، وجرى الاتفاق على تسمية حركتهم [ القوة الوطنية الإصلاحية]،وطلبا من السيد [كامل الجادرجي] إعداد مذكرة إلى الملك غازي يطلبان فيها إقالة حكومة [ياسين الهاشمي] وتكليف السيد [حكمت سليمان] بتأليف الوزارة، كما تم إعداد بيان الانقلاب، وجرى إعداد عدد من الطائرات بقيادة العقيد [محمد علي جواد]، وبذلك أصبح كل شيء جاهزاً لتنفيذ الانقلاب. (2)

ففي ليلة الخميس المصادف 27 تشرين الأول 1936 زحفت قوات الجيش إلى بعقوبة، حيث وصلتها صباح اليوم التالي، وقامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد، واستولت على دوائر البريد والتلفون، وعدد من المواقع الاستراتيجية في المدينة، ثم واصلت القوات زحفها نحو بغداد في الساعة السابعة والنصف صباحاً بقيادة بكر صدقي.

وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهرت في سماء بغداد 3 طائرات حربية، وكان يقودها العقيد محمد علي جواد واثنين من رفاقه الضباط، وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب، والذي دعا الملك غازي إلى إقالة حكومة [ يسين الهاشمي] وتكليف السيد[ حكمت سليمان] بتشكيل وزارة جديدة.

وفي الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل السيد حكمت سليمان سيارته إلى قصر الزهور حاملاً إلى الملك غازي المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك لإقالة وزارة ياسين الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي السيد[ رستم حيدر]. (4)

وما أن بلغ نبأ الانقلاب[ ياسين الهاشمي] حتى بادر إلى الاتصال ببكر صدقي الذي أبلغه خلال محادثته بالتلفون أن الملك غازي على علم بالانقلاب، ولم يكد ياسين الهاشمي ينهي المكالمة التلفونية مع بكر صدقي حتى سارع للتوجه إلى قصر الزهور لمقابلة الملك، وتدارس الأمر معه.
سلم [ رستم حيدر] المذكرة إلى الملك غازي، وكان يبدو على وجهه الذهول والاضطراب، وعلى الفور طلب الملك استدعاء كل من [ياسين الهاشمي] و[جعفر العسكري] وزير الدفاع، و[نوري السعيد] وزير الخارجية، والسفير البريطاني لتدارس الوضع، وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي، وسأله إن كان على علم مسبق بالانقلاب، لكن الملك نفى ذلك، وتحدث ياسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة، فأن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابيين، والا فأنه سيقدم استقالة حكومته. (5)

أما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير البريطاني أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث مالا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.(6)

مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بإلقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، ودائرة البريد القريبة من مسكن ياسين الهاشمي، ودار البرلمان، واضطرت الحكومة إلى تقديم استقالتها للملك في 29 تشرين الأول 1936، وتم قبول الاستقالة، وسارع الملك غازي إلى الطلب من السيد حكمت سليمان بتأليف الوزارة الجديدة بناء على طلب الانقلابيين، لكن حكمت سليمان طلب من الملك أن يوجه إليه تكليفاً خطياً لكي يشكل الوزارة. (7)

وفي الوقت الذي قدمت الحكومة استقالتها إلى الملك فأنها عملت على إفشال الانقلاب. فقد بعث [جعفر العسكري] إلى عدد من قادة الجيش داعياً إياهم للتحرك لحماية بغداد إلا أن تلك الرسائل لم تستطيع أن تفعل شيئا.

ثانيا: مقتل جعفر العسكري، وهروب نوري السعيد:
حاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيين نحو بغداد ، فاتصل ببكر صدقي ، وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته ، وأنه يحمل رسالة من الملك .
كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري ـ صهر نوري السعيد ـ والرجل القوي في الوزارة ، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله، وعندما توجه جعفر العسكري لمقابلة بكر صدقي ، وجد في استقباله النقيب إسماعيل عباوي مع عدد من الأفراد، وقام عباوي على الفور بتجريد جعفر العسكري من سلاحه وأجبره على ركوب السيارة منفرداً دون حمايته، ورافقه كل من النقيب [شاكر القره غلي] والرائد [ طاهر محمد ] مرافق الملك . وعندما وصلت السيارة التي تقلهم إلى نهر الوزيرية توقفت السيارة، ونزل منها الجميع وأرسل عباوي سائقه العريف [إبراهيم خليل ] ليخبر بكر صدقي بمقدم العسكري، ولم تمضِ سوى دقائق حتى وصل الضباط [جمال جميل] و [جمال فتاح] و [محمد جواد أمين] و[لازار برودس]، حيث شهروا مسدساتهم على جعفر العسكري، وأطلقوا عليه الرصاص فقتل في الحال .
ولما وصل خبر مقتله إلى نوري السعيد سارع إلى اللجوء للسفارة البريطانية التي استطاعت تهريبه إلى خارج العراق. (7)

استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد، حيث وصلت أبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر فلم يجد الملك بُداً من توجيه خطاب التكليف إلى السيد[ حكمت سليمان ] في 29 تشرين الأول. وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد، دون أن تلقى أي مقاومة، وكان [حكمت سليمان] قد عقد قبل يومين اجتماعا في دار السيد [كامل الجادرجي] ضم السادة [جعفر أبو التمن] و[محمد حديد] لوضع قائمة بأسماء أعضاء الوزارة في حالة نجاح الانقلاب، وقد طرح في الاجتماع اقتراح حول اختيار [نوري السعيد] في منصب وزاري لتطمين الإنكليز، لكن الاقتراح لم يلقَ القبول، فقد عارضه السيدان جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، واقترح بدلا منه السيد [صالح جبر] .

تم الانقلابيون تشكيل وزارتهم، وصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءا،ً وجاءت على الوجه التالي :
1 ـ حكمت سليمان ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ جعفر أبو التمن ـ وزيراً للمالية .
3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للعدلية .
4 ـ ناجي الأصيل ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ كامل الجادرجي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
7 ـ يوسف إبراهيم ـ وزيراً للمعارف .
أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من طه الهاشمي الذي أحيل على التقاعد.
أما يسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد فقد غادروا العراق على الفور، وبمساعدة السفارة البريطانية، خوفاً من بطش بكر صدقي.

أسرع السفير البريطاني إلى لقاء[الملك غازي] و[حكمت سليمان] ليقف على ما تنوي الوزارة عمله، وقد طمأنه حكمت سليمان بأن الوزارة تحترم تعهدات العراق، وتسعى للنهوض بالبلاد، في كافة المجالات، كما لقي السفير من الملك كل ما يطمئن الحكومة البريطانية.
أراد بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية[ يسين الهاشمي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني]،إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة.
كان من أولى المهام بالنسبة للوزارة الجديدة تثبيت سلطتها، حيث لجأت إلى إجراء تغيرات واسعة في أجهزة السلطة الإدارية، والدبلوماسية، وإبعاد كافة العناصر المؤيدة للوزارة السابقة.
وفي الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعو فيها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على بغداد فقط ، بل امتدت إلى سائر المدن العراقية .
وبعد أن ثبتت الحكومة أقدامها، وبسطت سلطتها على كافة أنحاء البلاد أقدمت على حل المجلس النيابي الذي جرى انتخابه على عهد الحكومة السابقة، واستصدرت الإرادة الملكية بحله في 31 تشرين الأول 1936 تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.

وفي الوقت نفسه تقدمت الحكومة بمنهاجها الوزاري الذي أكد على تعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه، ومع بريطانيا، لما فيه مصلحة الأطراف جميعاً، وتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، وتحسين أدائه، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وتحسين أحواله الصحية والثقافية، وتوسيع الخدمات العامة، وتنظيم السجون، وجعلها أداة إصلاح للمسجونين، والعمل على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وملافاة العجز في الميزانية، وتطوير الزراعة والصناعة في البلاد، وإصلاح الجهاز القضائي، وإعادة النظر في القوانين والمراسيم التي أصدرتها الوزارات السابقة.

كما أكد المنهاج على تقوية الجيش، وتدريبه وتسليحه، ليكون سياجاً حقيقياً للوطن، وإصلاح جهاز التعليم، وتوسيع معاهد المعلمين، وفتح المزيد من المدارس، وإلغاء أجور الدراسة المتوسطة والثانوية وجعلها مجانية، وبناء المزيد من المدارس.

وفي واقع الأمر كان لدى الوزارة الجديدة خططاً طموحة لتغير وجه العراق، فقد أطلقت سراح المسجونين الذين أدانتهم المجالس العرفية، وأعادت كافة الأموال المصادرة منهم، كما أعادت كافة الصحف التي أغلقتها الوزارات السابقة، وسمحت بدخول الكثير من الكتب التقدمية التي كانت ممنوعة في العهود السابقة، وإعادة الموظفين المفصولين لأسباب سياسية إلى وظائفهم، وأصدرت الحكومة قانون العفو العام .

لكن بكر صدقي بعد أن أحكم سيطرته على مقدرات البلاد استهوته شهوة الحكم، وأراد أن يحكم من وراء الستار، متجاوزاً حلفائه الإصلاحيين [حزب الإصلاح الشعبي ] الذين يمثلون الأغلبية في الوزارة، وكان باكورة خطواته الطريقة التي جرى فيها انتخاب مجلس النواب.
فقد عقد بكر صدقي مع فريقاً من ضباطه، وعدد من القوميين اجتماعاً في داره لوضع الترتيبات للانتخابات، وإعداد قوائم المرشحين، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين، وجاءت قوائم المرشحين في معظمها من المؤيدين لبكر صدقي شخصياً، فيما كانت حصة الإصلاحيين أقل بكثير، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937، وجاءت النتيجة كما خطط لها بكر صدقي سلفاً.
كان منهاج حزب الإصلاح الشعبي يرمي إلى إجراء تغيرات شاملة في حياة الشعب العراقي مستهدفاً إجراء إصلاح حقيقي سياسي واجتماعي، واقتصادي شامل في البلاد، وإعادة توزيع الثروة بصورة عادلة، وتفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين، التقليل من الفروق الطبقية بين أبناء الشعب، وإطلاق كافة الحريات الديمقراطية، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة وضمان حقوق الشعب، وحرياته العامة، وقد لقي منهاج الحزب هذا دعما كبيراً من الحزب الشيوعي، ومن عدد كبير من صغار الضباط، ولعب الحزب الشيوعي دوراً بارزاً في تحريك الجماهير للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم العامة.

لكن بكر صدقي أراد أن يجعل من نفسه [أتاتورك العراق]، ويحكم البلاد على هواه، وقد ظهر فيما بعد أن تقرب بكر صدقي من الإصلاحيين وضمهم إلى الوزارة كان يهدف من ورائه استخدامهم وسيلة للوثوب إلى السلطة المطلقة، فلما أدرك الاصلاحيون أن الحكومة لا تحكم، وأن الحاكم الحقيقي هو بكر صدقي، فلم يكن أمامهم سوى تقديم استقالتهم من الوزارة، وخصوصاً بعد أن أقدم بكر صدقي على استخدام القوة العسكرية ضد انتفاضة العشائر في السماوة، في 13 حزيران 1937، ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، حيث قضت تلك الأحداث على آخر أمل للإصلاحيين من البقاء في الحكم، فأقدم السادة [جعفر أبو التمن] و[كامل الجادرجي] و[يوسف عز الدين] على الاستقالة من الحكومة، وقد تضامن معهم [صالح جبر] وقدم استقالته من الحكومة أيضاً، فلم يبقَ في الوزارة سوى وزيرين فقط هما [عبد اللطيف نوري ] و[ ناجي الأصيل ]. (8)

وفي الوقت الذي استقال الاصلاحيون من الوزارة، أخذ الاستقلاليون [القوميون] يتصلون ببكر صدقي، ويحرضونه على العناصر الماركسية واليسارية التي أخذت شوكتها تشتد، أعربوا له عن استعدادهم الكامل لدعمه إذا ما وقف ضد هذا التيار الجديد، والعمل على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وإبعاد تلك العناصر من البرلمان الجديد، وقد وعدهم بكر صدقي بتحقيق ذلك، وتم ترقيع الوزارة بتاريخ 24 حزيران 1937، حيث دخل الوزارة كل من [محمد علي محمود] و[عباس مهدي] و[علي محمود الشيخ علي[ و]جعفر حمندي] و[مصطفى العمري].

ثالثاً: مقتل بكر صدقي وإسقاط حكومة حكمت سليمان
أصيب الشعب العراقي بخيبة أمل كبيرة، بعد أن تبين له أن كل ما يهم بكر صدقي هو السلطة، متناسياً ما وعد به الشعب. وجاءت استقالة الوزراء الإصلاحيين من الوزارة لتزيد من انعزال حكومة بكر صدقي عن الشعب، وسحب الثقة بها، وبذلك فقد بكر صدقي وحكومته أهم عامل دعم وإسناد وهو الشعب.

كان الإنكليز ورجالاتهم من الساسة العراقيين يراقبون الأمور عن كثب ويتحينون الفرصة للانقضاض على الانقلابيين، فقد كان قلق الإنكليز يزداد يوماً بعد يوم من توجهات بكر صدقي، وجاء زواج بكر صدقي من إحدى الغانيات الألمانيات ليزيد من قلق الإنكليز، خوفاً من تقربه من ألمانيا، وأخيراً أخذت الأخبار تتوارد إلى السفارة البريطانية عن عزم بكر صدقي احتلال الكويت، مما زاد في قلق الحكومة البريطانية، ودفعها إلى التعجيل في تحركها للخلاص منه بأسرع وقت ممكن. وجاءت الفرصة المناسبة عند ما قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، واتخذ الإنكليز قرارهم بتصفيته، وهو في طريقه إلى تركيا.

غادر بكر صدقي بغداد في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد [محمد علي جواد] قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار، لكنه أحس بوجود مؤامرة ضده وقرر السفر بالطائرة.

وصل بكر صدقي إلى الموصل، ونزل في دار الضيافة، وبصحبته محمد علي جواد، وقد وجد المتآمرون فرصتهم في الإجهاز عليه في الموصل، حينما انتقل بكر صدقي إلى حديقة مطعم المطار البعيد والمنعزل، وبينما كان بكر صدقي جالساً في الحديقة مع قائد القوة الجوية محمد علي جواد، والمقدم الطيار[موسى علي] آمر القاعدة الجوية بالموصل يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نائب العريف [عبد الله التلعفري] نحوهم، ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدساً تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي، اخرج مسدسه وصوبه نحو جمجمته، وأطلق النار عليه فقتل في الحال، ثم أقدم العريف على إطلاق النار على العقيد محمد علي جواد وقتله أيضاً.
وتم إلقاء القبض على القاتل، وأوسع ضرباً، وقد أعترف بأن الذي جاء به لينفذ الجريمة هو الضابط [محمود هندي] الذي اختفى بعد مقتل بكر صدقي، ورفيقه محمد علي جواد، وتبين فيما بعد أن المتآمرين قد هيئوا عدة مجموعات لقتل بكر صدقي، ووزعوها على[كركوك] و[التون كوبري] و[ أربيل ] و[الموصل ]، على احتمال أن بكر صدقي سوف يمر من إحدى هذه الطرق في طريقه إلى تركيا، وقيل أن العقيد [ فهمي سعيد] كان لولب الحركة، وأن الضابط [محمود خورشيد] هو الدماغ المفكر لعملية تنفيذ الاغتيال، وسرت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل، هو الذي دبر عملية الاغتيال، وكان المقدم الطيار[ موسى علي] آمر القاعدة الجوية بالموصل قد تحدث إلى السيد عبد الرزاق الحسني بأن المقدم محمد علي جواد قائد القوة الجوية والساعد الأيمن لصدقي كان
قد أبلغه بأن الإنكليز يرمون قتل بكر صدقي وقتل.(9)

حاولت الحكومة إجراء تحقيق واسع لمعرفة الذين كانوا وراء عملية الاغتيال، وقد أرسلت لجنة تحقيقية إلى الموصل برئاسة نائب المدعي العام [أنطوان لوقا] حيث باشر في إجراء التحقيقات التي أخذت تتوسع شيئاً فشيئاً، مما أثار خوف وقلق الضباط المشاركين في المؤامرة من أن تصل التحقيقات إليهم، فأعلن أمر حامية الموصل اللواء [أمين العمري] العصيان على بغداد، واعتقال نائب المدعي العام، وجرى تمزيق أوراق التحقيق. كما جرى تسريح كافة الضباط الموالين لبكر صدقي وللحكومة في بغداد، وأصدر بياناً يعلن فيه انفصاله عن حكومة بغداد. (10)

ورغم اتصال الملك غازي بأمين العمري، ودعوته له لإطاعة أوامر القيادة العسكرية، إلا أن الانقلابيين أصروا على موقفهم، وطالبوا الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة[ جميل المدفعي ]، كما رفضوا تسليم الضباط المتهمين بمؤامرة اغتيال بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد.

حاولت الحكومة بدفع من الضباط الموالين لبكر صدقي الزحف بالفرقة الثانية في كركوك إلى الموصل لإخضاع المتمردين على الحكومة، لكنها لم تستطع ذلك. ومن جهة أخرى حاول اللواء أمين العمري استمالة عدد من الوحدات العسكرية الأخرى إلى جانبه، واستطاع الحصول على دعم آمر معسكر الوشاش في بغداد [سعيد التكريتي] وساعده الأيمن المقدم [صلاح الدين الصباغ]، كما انضم إليهم آمر حامية الديوانية.
وهكذا بدا أن الجيش قد انقسم على نفسه، وأن الأمور قد باتت خطيرة جداً تنذر بوقوع حرب أهلية يكون عمادها الجيش، ولذلك اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها للملك غازي في 17 آب 1937، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.

وسارع الملك غازي إلى تكليف[جميل المدفعي] بتأليف الوزارة الجديدة، وكان واضحا أن التكليف جرى بضغط من السفارة البريطانية، وزمرة أمين العمري التي دبرت مؤامرة اغتيال بكر صدقي، حيث طالب أمين العمري الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتكليف المدفعي بتأليف وزارة جديدة، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف المدفعي في 19 آب 1937.
وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أعلن المتمردون في الموصل إنهاء تمردهم، وعادت الأمور إلى مجراها بعد أن تم التخلص من بكر صدقي وحكومته، وهكذا تبين أن مقتل بكر صدقي لم يكن مجرد حادث فردي، وإنما هو انقلاب عسكري جرى تدبيره بتخطيط من الإمبرياليين البريطانيين وأزلامهم العسكريين والسياسيين، وكانت تلوح رائحة الانتقام من كل العناصر التي ساهمت وساندت وأيدت انقلاب بكر صدقي، وكان على رأس أولئك المتعطشين للانتقام نوري السعيد، والذي وصل به الأمر إلى اتهام الملك غازي بالتواطؤ مع بكر صدقي.




#حامد_الحمداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هذا هو الطريق لإجراء الاصلاحات الجذرية في البلاد يا سيادة رئ ...
- نوري السعيد / الحلقة الثامنة
- نوري السعيد / الحلقة السابعة
- هكذا جرى تشريع الدستورالعراقي ، وهذه عوراته
- نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى - الحلقة الخامسة
- نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى - الحلقة الرابعة
- نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى - الحلقة الثالثة
- نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى - الحلقة الثانية
- نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى - الحلقة الاولى
- هذا هو السبيل لإنقاذ العراق من وضعه الكارثي
- آفاق تحرر المرأة في العالم العربي
- نوري السعيد / الحلقة السادسة
- هكذا تقاسمت الاحزاب الطائفية الشيعية والقومية الكردية العراق
- من أجل نهضة ثورية لنظامنا التربوي
- الأزمة العراقية الراهنة وآفاق الخروج من النفق المظلم
- متطلبات الاصلاح الجذري في العراق للخروج من ازمته الراهنة
- رسالة مستعجلة للسيد رئيس الوزراء حيدر العبادي
- المجد لثورة الرابع عشر من تموز وقائدها الشجاع عبد الكريم قاس ...
- هذا هو السبيل لانقاذ العراق وشعبه من وضعه الكارثي
- أزمة العلاقات الأمريكية الروسية من حرب جورجيا إلى حرب اوكران ...


المزيد.....




- اغتيال بلوغر عراقية شهيرة وسط بغداد والداخلية تصدر بيانا توض ...
- غالبية الإسرائيليين تطالب بمزيد من الاستقالات العسكرية
- السعودية.. فيديو لشخص تنكر بزي نسائي يثير جدلا والأمن يتحرك ...
- صحيفة: بلينكن سيزور إسرائيل الأسبوع المقبل لمناقشة صفقة الره ...
- الديوان الملكي يعلن وفاة أمير سعودي
- الحوثيون حول مغادرة حاملة الطائرات -أيزنهاور-: لن نخفض وتيرة ...
- وزارة الخارجية البولندية تنتقد الرئيس دودا بسبب تصريحه بشأن ...
- أردوغان يقول إن تركيا ستفرض مزيدا من القيود التجارية ضد إسرا ...
- وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظو ...
- مشاهد للوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير قبل لحظات من ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حامد الحمداني - نوري السعيد / الحلقة التاسعة