أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمرو محمد عباس محجوب - من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (2) صناعة الثورات















المزيد.....



من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (2) صناعة الثورات


عمرو محمد عباس محجوب

الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 19 - 10:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ارتبطت التحركات في الثورات العربية كلها، بشكل عام ب"الاوضاع الاقتصادية". عاشت الشعوب عقوداً من الفساد السياسي والاداري، استشراء الراسمالية المتوحشة، موجات الغلاء المتلاحقة، شروط صندوق النقد الدولي وسباسات التكييف الهيكلي المعادية للشعوب من انسحاب الدولة من مسئولياتها الاجتماعية "خاصة التعليم والصحة"، الخصخصة، الغلاء، سياسات التسريح والتضخم. ادت كلها إلى انتشار الفقر، البطالة والتهميش. عانت الطبقات الفقيرة والمتوسطة، صغار الموظفين والعمال، وكان الشباب يمثلون الاعداد الاكبر وسطها.

حاضنة قوى الثورة: الطبقة الوسطى

يرجع الاستاذ توفيق المديني تكون الطبقة الوسطى تاريخياً إلى طور سابق لنشوء الراسمالية. كفئة بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين وارتبط تاريخها بأنبثاق نظام الأنتاج السلعي الحر، وبعملية التراكم البدائي للراسمال. اخذ مفهوم الطبقة الوسطى مدلولات سياسية واقتصادية واجتماعية جمة، على اساس أنها تشكل الغالبية الساحقة لمعظم مجتمعات دول العالم المتقدمة منها او النامية، ولما عرفت به من دينامية وطموح وامتلاكها لامكانات وقدرات متعددة، وساهمت بصورة واضحة في عمليات التغيير والتطوير في الكثير من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، حتى وصفها الباحثون باهم العلامات الايجابية للتطور والنمو. (توفيق المديني: الطبقة الوسطى العربية من الريادة إلى الأنهيار، الحياة - 09/03/07 )

لكن التطور المشوة الذى كان السمة الاساسية فى كافة البلدان ادى إلى التوسع المتوازى، فبينما ازداد الاغنياء غنى وتمددت احيائهم، ازداد عدد العشوائيات وكبر حيزها المكانى وتاثيرها الاجتماعى. ورغم ذلك شهدت الطبقة الوسطى اتساعاً فى حجمها العددى كما اعلن المعهد العربي للتخطيط في مايو 2011 من سلسلة جسر التنمية بعنوان الطبقة الوسطى في الدول العربية، الذي اعدّه الدكتور علي عبد القادر علي، أن حجم هذه الطبقة، مستوى معيشتها لم ينخفضا، خلافا للأنطباع السائد في هذا االشأن. أن الطبقة الوسطى في بعض الدول العربية بقيت ثابتة منذ منتصف تسعينات القرن العشرين.( الطبقة الوسطى العربية تحافظ على نسبة 79 % من السكان منذ التسعينات ، http://www.alazmenah.com ).

ارتبطت الطبقة الوسطى في نشاتها بالدولة مادياً ومعنوياً. على المستوى المادي عقدت الدولة العلمانية الاقصائية المتحولة عن الأنقلابات العسكرية، ولي النعم الذي يوفر التعليم والوظيفة واشكال الرعاية الاجتماعية الاخرى، عقداً غير مكتوب مع الطبقة الوسطى تتخلى فية عن الحريات والديمقراطية وتحصل على دولة الرفاة الاجتماعى. لكن الامر لم يستمر على هذا النحو في ظل العلاقات السلطوية القائمة بين الدولة وبين ابناء الطبقة الوسطى المرتبطين بشعارات الحرية ومقاومة الاستعمار، والذين نشئوا في احضان اتجاهات ايديولوجية متباينة جمعت بين اليسار واليمين والاصالة والمعاصرة. من هنا فقد حدث الصدام المعروف في الكثير من الدول العربية بين الدولة وبين الطبقة الوسطى الصاعدة، واحال الطبقة الوسطى إلى مجرد اداة أنتاجية في يد الدولة، او مجرد شريحة سكانية عاملة لديها مثلها مثل غيرها من الشرائح الاجتماعية الاخرى ومجرد اداة في يد الدولة واهوائها.

بين اهم الجوانب الجديدة التي رافقت تطور الطبقة الوسطى العربية ضعف مكانتها المجتمعية، فلم تعد تملك المكانة التي تمتعت بها سابقاً، بوصفها الطبقة المتعلمة القادرة على قيادة المجتمع وصناعة الافكار والتوجهات السياسية والايديولوجية على السواء. ففي ظل التدهور المادي فقد اعضاء هذه الطبقة قدرتهم على الحافظ على وضعيتهم المجتمعية، كما أن ضعف الدولة والعائدات المرتبطة بها، جعلت الملايين من العاملين في مؤسساتها اقرب لحالة الفقر والعوز منها لحالة الستر والكفاية. لقد اصبحت الطبقة الوسطى واقعة بين ضغط الفئات الفقيرة والعاملة من ناحية وشراسة الطبقات الغنية والطفيلية الصاعدة من ناحية ثانية، وأنسحاب الدولة وتغير ولاءاتها من ناحية ثالثة.
النخب العربية تاريخها وتطورها

كانت الدول المستعمرة فى المنطقة العربية –لن نتحدث هنا عن دول الجزيرة العربية- اغلبها دولاً ملكية (المغرب، ليبيا، مصر والسودان، الاردن، العراق واليمن). تشكلت فى كل هذة الدول (بالاضافة إلى لبنان وسوريا) نخب ليبرالية ذات احزاب ديمقراطية وصحافة حرة فى ظل ملكية دستورية. رغم أن الأنظمة اللاحقة حاولت مسح هذة الفترة من ذاكرة شعوبها، الا أن كل التراث الديمقراطى والتحديث والعصرنة كان نتاجاً لتلك الفترة. فى وسط الاستقطاب العالمى الحاد، ولاسباب متعددة، فقد أنتهى الامر بكل هذة الأنظمة إلى الأنقلابات العسكرية واحدة تلو الاخرى حسب الاهمية الجيوسياسية لكل دولة (العراق، مصر، سوريا ، ليبيا ،اليمن والسودان) اما دول الملكية الدستورية فقد تحولت إلى ملكيات مطلقة (المغرب والاردن).

يمكن النظر إلى النخب العربية من خلال مواقف النخبة الليبرالية سواء تحت أنظمة ملكية او جمهورية، تياراتها سواء القومية او الوطنية. تم استهداف القوى الليبرالية من النخب العسكرية الصاعدة تحت شعارات العدالة الاجتماعية، مركزية القضية الفلسطينية...الخ. وتحت دعاوى حرق المراحل صفيت كافة وسائل النمو الطبيعى السياسية والاجتماعية (الأنتخابات، الصحافة الحرة وحقوق التعبير...الخ) ومقايضتها لصالح نموذج موحد من التطور الاقتصادى والتحرر من بقايا الاستعمار. لقوى الليبرالية التى شكلت النخبة السياسية فى عالم ما بعد الحرب كانت تعانى من تراكم تخلف تاريخى، فعجزت عن تقديم بديل تاريخى يستهدف معالجة القضايا الاساسية للاوطأن، وغرقت فى نزاعاتها السياسية وخانت حتى مبادئها الاساسية. هذا لايعنى ابدا أن البديل – النخبة العسكرية- كان افضل.

محنة النخب: النخب العلمانية الاقصائية

النخب اليسارية (القومى والشيوعى) كانت السائدة طوال ما بعد الحرب العالمية الثانية ، فالمزاج الشعبى فى مرحلة التحرر الوطنى تاثر بعدة معطيات اهمها أنتصار الاتحاد السوفيتى على المانيا، صمودها البطولى وتاييدها المطلق لحركة الشعوب. الامانى والاحلام التى وعدت بها هذة التيارات كانت تخاطب العاطفة، وكانت اجهزة دعاية الدول الاشتراكية تقدم أنجازاتها فى صورة الفردوس الارضى الخالى من الفقر، البطالة، الامية والذى يتوفر فية التعليم والصحة والثقافة ( وهذا صحيح فى مجملة ولكن الذى ادى إلى سقوطها لم يكن هذه كلها)، هذا بالاضافة إلى التنظيم الحديدى والمحكم للاحزاب اليسارية بكافة أنواعها. وكان اهم من ذلك وضوح هدفها فى الوصول إلى الدولة لتغيير المجتمع، كما فصلها لينين فى الدولة والثورة. ورغم أن الوسيلة المعتمدة كانت الحراك الشعبى وخلق ازمة ثورية ومن ثم لحظة التغيير وفق شروط فصلت فى كتابات ماركسية كثيرة، فلم تصل أي احزاب يسارية للسلطة فى اغلب الاحيان عن طريق الثورات ولكن عن طريق الأنقلابات
.
الذى حدث أن اليسار القومى (احزاب البعث فى العراق وسوريا والوحدويين فى مصر، ليبيا، اليمن وسودان النميرى والجزائر ويمكن اضافة تونس بورقيبة) كان لايتورع البتة عن الأنقلابات العسكرية وتسلم السلطة لاحداث التغيير المنشود. ربما تعطينا نشاة التجربة المصرية وتحولاتها النموذج الكلاسيكى الذى سيمثل المخطط النموذجى خاصة فى السودان، ليبيا واليمن.

كانت هزيمة 1967 هى الايذان بسقوط المشروع القومى على مستوى العالم العربى وربما كافة الدول النامية. لكن عند تخوم العالم العربى تجاوبت النخب العسكرية فقامت عدة أنقلابات ( العراق، الجزائر، سوريا، السودان وليبيا). عند رحيل الزعيم ناصر ووصول الرئيس السادات للسلطة وتوجهه يميناً وللخلاص من التيارات اليسارية التى حاصرتة باطروحات تحرير الارض، اعاد السادات التحالف مع الاخوان ليصبحوا طرفاً فاعلاً فى المعادلة السياسية والاقتصادية المصرية. واستمر التحالف المصلحى بين نظام الرئيس مبارك والاخوان المسلمين فقد تمت مقايضة التحكم السياسى والاقتصادى للسلطة ببعض الوجود المحسوب للاخوان للسيطرة على الشارع ومنع بزوغ اى تيارات مؤثرة ولعب دور الفزاعة الدائمة للخارج عند طرح اى قضايا من حقوق الانسان، الديمقراطية او اى ضغوط اخرى.

كل النخب العلمانية، التى كانت اكثر ميلاً إلى اليسار طرحت العدالة الاجتماعية والتحديث والعصرنة كبديل عن الحريات المختلفة، وقد وجدت فى المجتمعات ذات الثقافة الريفية والقبلية قبولاً واتجهت نحوها مباشرة (الاصلاح الزراعى، التاميم، القطاع العام ...الخ). تمت عسكرة الحياة المدنية، السياسية والاجتماعية وتولى اعضاء التنظيمات العسكرية قيادة مؤسسات الدولة واتبعت فيها الضبط والربط المعهود فى الجيوش، تمثلت هذة المظاهر بجعل الحزب الحاكم الحزب الاوحد، والنقابات تابعة لها ومنظمات المجتمع المدنى منبثقة عنها والاعلام معبراً عن فكرها وخزينة الدولة جيبها الخاص.

مثلت اتفاقية كامب ديفيد بين النظام المصرى واسرائيل، برعاية امريكية، الأنهيار الكامل للنخب العلمانية الاقصائية، فقد فقدت مبررات وجودها القائمة على مقايضة الحريات الديمقراطية، بالدفاع عن الوطن، وهزيمة المشروع الصهيونى، والحفاظ على الكرامة الوطنية وتوفير سبل العيش الكريم. فحرب اكتوبر التى مثلت استعادة الكرامة القومية أنتهت إلى معاهدة، ولم تستطع النظم الرافضة تقديم اى بدائل ملائمة وترك بعدها الشعب الفلسطينى ليواجه مصائر محزنة من مذابح صبرا وشاتيلا وغزو لبنان والحرب اللبنانية الاهلية الطويلة.

العامل الاخر المهم فى نظرى هو غزو الجيش السوفيتى لافغانستان في 25 ديسمبر 1979 حتى أنسحاب كافّة قواته بشكل رسمي من افغانستان في 15 فبراير 1989. فقد كان المثال السوفيتى الذى اتكأت علية النخب العلمانية الاقصائية ذات النموذج الاشتراكى. كان لهذا الغزو اثران مهمان على المنطقة: فهى اولاً نسفت مصداقية الدول الاشتراكية فى دعاويها الاساسية من عدم التدخل فى شئون الدول الاخرى؛ وثانيهما أنها وضعت الاساس المتين لبداية ما اطلق علية الصحوة الاسلامية. شهدت هذة الفترة تحمس كافة الأنظمة فى المنطقة لدعم الجهاد الافغانى وقيام منظمات المجتمع المدنى الاسلامية المختلفة وبداية مشاركة المحاربين العرب والمسلمين فى الحرب الافغانية.

بقوة شوكة هذة التنظيمات وتاثيراتها على المجتمعات وعلو صوت الاسلام السياسى، بدات المواجهة مع النخب العلمانية الاقصائية فى السلطة، وشهدت الثمانينات والتسعينات اقصى درجات العنف الاسلامى المسلح فى كافة دول المنطقة. تزامن هذا مع ضعضعة اطروحات اليسار بشكل عام والشيوعى بشكل خاص بفعل التآكل من جراء تحالفاتها مع النخب العلمانية الاقصائية والتى صادرت جميع شعاراتها لصالحها، والتراجع الهائل فى قدرات وامكانيات الكتلة الاشتراكية وفقرها سياسياً واقتصادياً، وفقدانها المصداقية الفكرية والاخلاقية حتى أنتهت بالأنهيار الكبير لحائط برلين في 9 نوفمبر 1989.

استمرت الأنظمة وبالرغم من أنتهاء صلاحيتها السياسية والاجتماعية بفضل تطورها عبر عشرات السنين إلى أنظمة قمع وفساد واستبداد. بدأت من راسمالية الدولة (سيطرة القطاع العام والتخطيط المركزى ومحاولات التصنيع الثقيل)، إلى راسمالية بيرقراطية لتنتهى إلى الفساد الكامل والفوضى ما عرف بالراسمالية الطفيلية، واقتصاد الدولة الفاسدة، والسمسرة، والعمولات مما تكشف فيما بعد نجاح الثورات العربية (ليس من نوايا هذة المقالات أن تتعرض للتحورات الاقتصادية التى شهدتها المنطقة، لكن هناك كثير من الكتاب الذين تصدوا لهذة المهمة الجليلة من كتاب ومراكز دراسات وتتواجد على الأنترنت)

يمكن تحميل بعض مآلات النخبة العسكرية للمثقفين الوطنيين، فعند قيام الأنقلابات وتسلمها السلطة اتجهت لهذة النخب تبحث عن الاغطية الفكرية والسياسية لما اتفقوا على تسميتها بالثورة. ولم تتاخر هذة النخب بل تدافعت مديرة ظهرها فى اغلب الاحيان لتاريخها "النضإلى" او الديمقراطى، إلى التكالب والتدافع إلى القادة الجدد. ولا مراء أن افتقادهم إلى رؤية مستقبلية وعدم القدرة على العمل الجماعى وبناء التوافقات جعلها تعتمد على مواهب العلاقات العامة. هؤلاء تواجدوا حول كل الزعامات ورؤساء الاحزاب وكرروا سيرة المتنبى حول سيف الدولة الحمدانى او كافور..الخ.

محنة النخب: نخب الاسلام السياسى الاقصائية

تبنى الاخوان المسلمين المصريين عند نشوئهم الاسلام فى عمومياتة والعداء للاحزاب خاصة اليسارية والليبرالية. طرحت الحركة نظرية الحاكمية للة حيناً والاسلام هو الحل احياناً اخرى والتى تقود إلى تطبيق الشريعة الاسلامية كشعار، وهي تعني فيما تعني: "أن الجماعة الاسلامية لا تريد الحكم لنفسها ، مثل بقية الاحزاب والتنظيمات الاخرى وأنما تريد الحكم لله. والهدف بطبيعة الحال، هو أن يقارن المواطن البسيط ، بين حكم الله وحكم البشر، فيختار حكم الله، ويؤيد الجماعة الاسلامية، التي تزعم أنها سوف تطبقه عليه ، متى ما وصلت إلى السلطة" ( عمر القراى، دستور ولاية الخرطوم، مكيدة سياسية، مقالات فى جريدة الصحافة).

لعبت النخب الاسلامية الاقصائية بمختلف اسمائها، ادواراً متباينة طوال العقود المنصرمة منذ أنقلاب 1952. فقد كانت فى عقود النزوع اليسارى فى كافة ارجاء المعمورة، اثناء مرحلة التحرر الوطنى وما بعده، تمثل قصب السبق فى التصدى للتيارات اليسارية وتتبنى اقتصاد السوق. جعلها هذا حليفاً استراتيجياً للغرب وتم دعمها سواء بشكل مباشر، عن طريق اقتصاديات النفط ودولة وكذلك تدجينها ونزع اى شبهات عن اى مفاهيم للعدل الاجتماعى. عند تفكك المنظومة الاشتراكية فى منتصف التسعينات. وعند احتياج الغرب لعدو استراتيجى جديد لحفظ التفاف جماهير بلادها بخلق عدو خارجى يهدد الرفاهية واسلوب الحياة بدا خلق العدو الاسلامى، ما اسمى صراع الحضارات. اكمتلت تهيئة وتكوين هذا العدو فى خضم "الجهاد الاسلامى" ضد الغزو السوفيتى لافغانستان وذلك بحشد المقاتلين من كافة ارجاء العالم الاسلامى عامة والعالم العربى خاصة ونشطت اجهزة الاستخبارات المختلفة فى التدريب وزرع العملاء ووضع الاجندة ...الخ.

تكشف هذا العدو سافراً منذ بداية التسعينات وصولاً إلى غزوة منهاتن فى 11 سبتمبر 2001 وما تبعها من غزو افغأنستأن والعراق. لعبت الأنظمة السياسية بقوى الاسلام السياسى فى معادلاتها وعلاقاتها مع العالم الخارجى فقد فتحت لها المجال الاجتماعى (بعد أنسحابها من الخدمات التعليمية والصحية) لتتمدد فيها وتغبش رؤية الجماهير، وتربكها بدفع الصراعات الجانبية حول الشريعة وطرح الشعارات العامة والغامضة، لتصرفها عن النضال الاجتماعى والسياسى وتغرقها فى جدليات المذهبية والطائفية والهوية مما ساد فى الساحة فى العقدين الاخيرين. وفى نفس الوقت حاصرتها السلطة سياسياً واعلامياً بهجمات امنية مكثفة وحرصت على منعها من الأنفتاح على القوى الاخرى وعرقلت تطورها الداخلى بزرع الفتن والأنقسامات.
أن الحركات الاسلامية فى الواقع هى أنعكاس موضوعى للسلطة التى كانت تعارضها وحملت كافة موبقاتها، ومن الطلائع التى رفضت الارتكان إلى تفسيرات الحركات، خرجت كل الأنشقاقات التى تبنت العنف المسلح والتكفير والاقصاء الشامل، وتبنت نفس المفاهيم المبسطة والافكار العمومية والغياب التام لاى برامج فى تعاملها مع عالم معقد. منعت هذة الافكار المشوشة أنخراط اغلب الطبقة الوسطى الفقيرة وقوى الارياف ومعدمى المدن فى أي تحركات جماهيرية وحفظتها فى تلاجة التخلف والسلبية لينحصر ميدان الصراع بين السلطة والحركات الاسلامية للمساومة فى اوقات الأنتخابات.

غياب الشعارات الاسلامية عن ثورات المنطقة العربية ليس بعامل الصدفة او تخطيطاً مؤامراتياً من احد لكنها تعكس أنصراف الجماهير الفاعلة والحية عن مفاهيم فقة الضرورة ومخالفة الفعل للقول والذرائعية. كما أن اختيار التجمعات الشعبية ليوم الجمعة لة دلالات نزوع هذة الجماهير لأنتزاع الدين من يد السلطة الاشعرية التاريخية، والنى وظفتة الأنظمة لحياكة دين على مقاسها لتبرير الفساد والاستبداد، وايضاً من قوى الاسلام السياسى التى ادخلت الدين فى الحياة السياسية لاحتكار كلاهما. ارادات التكتلات أنتزاع الدين كطاقة ملهمة فى حياتها واستلهام الفضائل النبيلة وتحكيمها فى حياتها اليومية.

محنة النخب: النخب الليبرالية

الظروف التاريخية لتطور الاحزاب الليبرالية فى طول العالم وعرضة، جعلت قيادة هذة الاحزاب تتشكل من تحالف الاقطاعيين والراسمالية الناشئة والمتعلمين، كان هذا صحيحاً فى كل مكان، ولكن لضعف الراسمالية ونقص تاهيل المتعلمين، كان دور الاقطاع اكثر بروزاً فى العالم العربى. ما اصاب النخبة الليبرالية فى مقتل كان أنشغالها بقضايا الحريات والدستور وفعلها القليل فى مجالات الخدمات. أن الجماهير والمواطنين العاديين لا ياكلون الديمقراطية ولايشربون الدستور ويمرضون ولا تكفيهم حرية الاعلام. الناس تحتاج بجانب هذا إلى التعليم لابنائهم والعلاج ووسائل الرزق الشريف والكريم. أن من اكبر الاخطاء أن نظن أن استقرار الديمقراطيات العالمية يكمن فى نظامها السياسى والبرلمانى فقط، لكن فى الخدمات العامة التى توفرها الدولة وتحرص عليها. بريطانيا مستقرة لأن لديها نظام صحى يوفر العلاج لكل مواطن، ومقعداً للدراسة لكل طفل وفرصة عمل او دعم اجتماعى لكل مواطن، ما يمكن اجمالة فى توفير الخدمات لدافع الضرائب.

القوى الجديدة

رغم أن مجموعات من قوى النخبة السياسية، الاحزاب السياسية، المفكرين وغيرهم ساهموا بشكل كبير وفاعل للتحضير للثورة، المناداة بها ونشر صور الفساد، القمع، التزوير وكبت الحريات، إلا أن الفضل الاكبر يعود للقوى الحركية الجديدة من الشباب. هذه القوى هي التي نقلت التحركات من التكتيكات التقليدية: البيانات المنددة والشجب، تحالفات واتفاقات سياسية تعقد لتنفض، وقفات احتجاجية من بعض التاشطين في مناسبات محسوبة، الاضرابات العمالية والفئوية المتنوعة وغيرها، إلى المواجهات العنيفة مع الدولة والاضراب السياسي الشامل.

هذه القوى، التي تشكلت اساساً من الشباب ما بين 18-30 عاماً، كانت تمتلك ميزتين كبيرتين عن ما عداها من القوى ذات المصلحة في التغيير السياسي. اولاً: لم تكن هذه القوى جزءاً من تناحرات النخبة الفكرية والسياسية وتنازعاتها، لم يكن لديها حسابات ارباح وخسارة او طموحات آنية (سوف نرى أن تدخلات النخب وتجاذبها لمحموعات من القوى الشبابية سيؤدي لنقل امراض التشرذم داخلها كما سوف نعالجها في دروس الثورات). ثانياً: الميزة الكبرى أن هذه المجموعات الشبابية في كافة الدول لم تكن هدفاً للاجهزة الامنية، غابوا عن سجلاتها، وبعيدين عن ذهب المعز ومُتَحَدِين سيفه. رغم ذلك فقد انتظموا في شبكات واسعة، استعملت اسلحة الجيل الجديد من مختلف انواع وشبكات التواصل، وخلقوا مناخاً سهل تحركها والتصاقها بكافة فئات الشعب.

بعكس المعارضات التقليدية والحزبية المهترئة، قامت هذه القوى بشيئين عجزت النخب منذ عقود على انجازها. إنها استطاعت بفضل ترابطها الشبكي والشعبي، أن توصل رسائلها لمجموعات سكانية مختلفة، بطرق متنوعة ومبتكرة، اغلبها بشكل مباشر. سوف يعطي هذا التواصل المدد المستمر للموجات الثورية المتعددة التي حدثت في كل الدول، والتي لازالت مستمرة في ليبيا واليمن. الشيء الاخر إنها بعكس النخب والقيادات الحزبيةـ حازت على ثقة الجموع الشعبية وجعلتها تشارك في مليونيات عديدة، عن طريق تواجدها في الصفوف الاولى للمواجهات وتقديمها الشهداء من اوساطهم.

قادة الشارع

الذين تقاطروا على الشوارع والميادين كانوا شباباً في أغلبهم، لم ينتموا لأحزاب بشكل متواصل، جيوشهم تتكون من الذين يعانون البطالة والمحبطين سياسياً واجتماعياً والذين أغلقت في وجوههم النوافذ إلى المستقبل. ولأنهم أبناء المرحلة العالمية الحالية فقد حددوا أهدافهم بوضوح فى رحيل الأنظمة وتفكيكها بالكاملن اجتثاث الفساد وتغيير الانظمة الى ما استقر فى القاموس اليومي فى الحوارات السياسية فى أرجاء الكون وحوتة الوثائق العالمية للمنظمات والجمعيات العالمية من قبيل الدستور الديمقراطى، حكم القانون، حرية التعبير والتنظيم والاعلام واستقلال القضاء..الخ

الذين تقاطروا الى الشوارع، الميادين والساحات هم أبناء الطبقة الوسطى والفقراء الذين فتحت أمامهم فرص التعليم فى كافة المجالات في مرحلة دولة الرفاه في دول ما بعد الاستقلال، وتوفر وتوسع التعليم المجانى وأحيانا المدعوم. القوى التي خرجت الى الشوارع والميادين هي سليلة هذة الطبقة والتي جردت من كافة قواها الحية من الأحزاب ووسائل التعبير وحوصرت في رزقها وقمعت طموحاتها، فلم تجد سوى الانفجار وحمل احلامها فى حياة كريمة وتوزيع عادل وشفاف للثروة.

رغم الوصف الدارج عن الذين قادوا إرادة الثورة، وحققوا اسقاط الانظمة بالشباب، إلا أن واقع الحال أنهم تشكلوا من تحالف ضخم مكون من ممثلين لقطاعات سكانية متنوعة من حركات شبابية منتظمة فى تكوينات، هذه المنظمات تضم مستقلين، شباب الأحزاب، منظمات المجتمع المدنى. دخلت المرأة فى هذه الثورة كأحد أهم العناصر الفاعلة، من واقع تصديها لمتطلبات الحياة اليومية والمحافظة على الأسر وأيضا من واقع أنها الأكثر حضوراً فى قاعات الدرس والوظائف العامة. في كل الدول تم ضم مجموعات كانت محايدة في تكوينها ومثالها الاشهر جماعات الالتراس الرياضية.

على عكس كل التحركات السابقة فقد واجهت الانظمة هذه المجموعات وهي عمياء أمنياً عن نوعية المشاركين فيها، فهم ليسوا اعضاء أحزاب يستطيع أن يخمدها عن طريق اعتقال القيادة التي فى يديها كل الخيوط ، وهم غير قابلين للبيع والشراء والمناصب والأهم من هذا كله أنهم لايستمعون لوسائل اعلامه، أو يفراؤن صحفه، أو ينصتون لخطابات الرئيس الحماسية. باختصار هؤلاء جيل لم يكترث النظام أن يتعرف عليهم فى سنواته الطوال. جيل تربى على الفضائيات والانترنت والموبايل والانفتاح على العالم كان عصيا ًعلى أنظمة قائمة على فكر جامد، منغلق ومسطح. عندما واجهتهم الانظمة أعتقدوا أن العنف المفرط والشتائم السوقية سوف تخيفهم وترعبهم وترجعهم الى مهاجعهم، المدهش أن الذي تحدى هذا كانت النساء والشابات واللواتى أبدين صلابة وجسارة وقوة أفقدته التوازن، وجعلتهم جميعاً يلجأون للضرب للقتل، الاعتقال المكثف، التعذيب والاغتصاب وغيرها.

تكتيكات الثورات

شكلت هذه الميزات والسمات العمود الفقري في تكتيكات الثورات. في اسابيعها الثلاث، وضعت الثورة التونسية ملامح التكتيكات التي سوف تطورها الثورة المصرية وتضع النموذج الاسترشادي، التي سوف تتبغها كافة الثورات بعدها. واجهت كافة الثورات السؤال الاكبر عن كيفية اخراج المجموعات السكانية الضخمة إلى الشارع.

رصد محمد الشيوخ في مقال بعنوان "مراحل ثورات الربيع العربي وعوامل النجاح"، ابرز مظاهر عوامل النجاح حصرها الشيوخ في: الحشد الشعبي في ميادين كبيرة موحدة، وايام محددة مقل مليونية ايام الجمع، إتساع النطاق الجغرافي للاحتجاجات ( بدأ الحشد من الحواري والأزقة ودعوة المواطنين للنزول للشارع ثم يتجه إلى الأسواق المحلية ثم إلى الميادين الصغرى، لتنطلق المسيرات من الميادين الصغرى في توقيت واحد صوب الميدان الرئيسي)، اختيار التوقيت المناسب لتجد الدعوة الوقت الكافي للانتشار، وحتى تستعد وسائل الإعلام لتغطيتها، أختيار الأماكن الحيوية للاعتصام، التصعيد التدريجي للاحتجاجات والحفاظ على الطابع السلمي للحراك.

يضع محمد الشويخ بعض تكتيكات تحييد وكسب الجيش من نحو: الالتزام بالسلمية، اشتراك كافة شرائح المجتمع: من شيوخ ورجال ونساء وأطفال وأسر، صنع حواجز بشرية أمام الأليات العسكرية، حمل علم البلد وترديد النشيد الوطني، ترديد الشعارات التي تنم على وحدة الشعب والجيش، بناء علاقات صداقة مع أفراد الجيش عبر تقديم المشروبات والأطعمة مما يخلق حالة من الأخوة والحميمية بين أفراد الجيش والمتظاهرون، الخروج بحشود ضخمة. مما يساعد على تحييد ابراز الجيش المكاسب السياسية التي سوف تحقق مكانة قوية للجيش وتعيد إمتيازاته (محمد الشيوخ: مراحل ثورات الربيع العربي وعوامل النجاح: http://middle-east-online.com/?id=147384)



#عمرو_محمد_عباس_محجوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (1) الطريق إلى ثورات الربيع ...


المزيد.....




- مفاجأة غير متوقعة.. شاهد ما فعله ضباط شرطة أمام منزل رجل في ...
- بعد فشل العلاقة.. شاهد كيف انتقم رجل من صديقته السابقة بعد ت ...
- هيئة المعابر بغزة ومصدر مصري ينفيان صحة إغلاق معبر رفح: يعمل ...
- لماذا يتسارع الوقت مع التقدم في السن؟
- بلجيكا تبدأ مناقشة فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات ضد إسرائيل
- رداً على -تهديدات استفزازية- لمسؤولين غربيين .. روسيا تعلن إ ...
- تغطية مستمرة| الجيش الإسرائيلي يستعد لاجتياح رفح ويدعو السكا ...
- غارات إسرائيلية ليلية تتسبب بمقل 22 فلسطينيا نصفهم نساء وأطف ...
- أول جولة أوروبية له منذ خمس سنوات.. بعد فرنسا، سيتوجه الرئيس ...
- قاض بولندي يستقيل من منصبه ويطلب اللجوء إلى بيلاروس


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمرو محمد عباس محجوب - من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (2) صناعة الثورات