أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد كودي - التمايز يمين / يسار : أية حمولة سوسيوجية؟















المزيد.....



التمايز يمين / يسار : أية حمولة سوسيوجية؟


محمد كودي

الحوار المتمدن-العدد: 1309 - 2005 / 9 / 6 - 11:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تشير الكثير من الدراسات والأبحاث إلى دور الصراعات السياسية والإجتماعية في ظهور الأحزاب السياسية. "فلا حاجة إلى وجود أحزاب إذا كان الكل متفقا على كل شيء"، حيث أن السياسي "كان دائما مكان المواجهة بين الفاعلين الإجتماعيين، فكل طرف يسعى إلى فرض مفاهيمه الخاصة لمبادئ تنظيم المدينة . وتأسيسا على ذلك يمكن القول أن الأحزاب ترمي بجذورها في الصراعات والتوترات الإجتماعية. وانطلاقا من ذلك يصبح التساؤل مشروعا عن الحمولة السوسيولوجية للتمايز يمين / يسار، وكيف تتبلور هذه الحمولة في السلوك الإنتخابي وهل يشكل التمايز يمين/يسار تعبيرا واضحا عن صراعات وتمايزات طبقية، أم أنه مجرد تفسيرا لتنافر نخب سياسية؟
أولا: السلوك الإنتخابي والتمايز يمين / يسار
إذا كانت السوسيولوجيا السياسية أولت أهمية كبيرة لمفهوم السلوك، كما تشهد على ذلك طروحات كل من "مريام"، "لاساويل" و"لازارسفيلد"، فإن السوسيولوجيا العامة أظهرت تحفظها تجاه هذا المفهوم، وذلك لكونها كانت تتوفر منذ بداية تأسيس هذا الحقل العلمي مع "ماكس فيبر" على مفهوم آخر أكثر غنى وأكثر إجرائية، ويتمثل في مقولة "الفعل"، على الرغم من أن هذا الأخير أقل تحديدا من مفهوم السلوك، إلا انه أكثر شمولية منه. والإستعمالات النظرية لمقولة الفعل الإجتماعي، تجعل من السلوك جزءا أساسيا من الفعل، لكون هذا الأخير هو "نشاط إنساني يتشكل تبعا لمنظومة من السلوكات المستلهمة من محفزات معينة وموجهة لتحقيق أهداف معينة، وهذا النشاط يمكن أن يكون ناتجا عن فرد أو مجموعة أو عـن كـلية النظام الإجتماعي".
والفعل الإجتماعي يشكل كلية حركية، الأمر الذي حدى ب Neil Smlser"" إلى بناء نموذج تناضدي لتحليل الظواهر المحايثة للسلوك الجماعي، حيث يعرف هذا الأخير بأنه "تعبئة غير مؤسسة لمصادر الفعل" التي من شأنها حل أو معالجة "شكل أو أكثر من أشكال التوتر". إلا أن الإشكال الأساسي هو متى يتحول السلوك الإجتماعي إلى سلوك سياسي؟ وفي هذا الإطار يرى "دانييل لويس شيلر" أن السلوك السياسي يتضمن بالأساس مختلف أشكال السلوكات الإجتماعية، كما أن السياسي يبقى حاضرا في كل ما هو اجتماعي. وفي نفس المنحى، تذهب طروحات "مادلين غرافيتس" التي ترى "أن كل ما هو اجتماعي هو قابل لأن يصبح سياسي" .
ولتفسير وتحديد السلوك الإنتخابي، تعددت الطروحات النظرية والدراسات السياسية، وهيمنت على هذا المجال نظرية الإختيار العقلاني لكل من ""بيدج" و "فارلي"، التي تفترض وجود سوق سياسي في الأنظمة الديمقراطية. وتركز تحليلاتها على وجود دالة للعرض تمثل السياسات العامة المتعبة أو المقترح إحداثها، وتلتقي هذه الدالة مع دالة الطلب التي تحدد أفضليات الناخبين. والنتائج التي تحصل عليها الأحزاب السياسية، تشكل نقطة الإلتقاء بين الدالتين. وهذه النظرية التي تستوحي نماذج التحليل الإقتصادي، تبقى بعيدة عن إرساء أية حقيقة علمية إمبريقية، حتى ولو طبقت على الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرف انتشارا واسعا لثقافة السوق، وشيوع الأنماط الإستهلاكية.
والملاحظ أن الطروحات التي حاولت مقاربة السلوك الإنتخابي انطلاقا من مفهوم السوق، عملت على استلهام وتوظيف مقاربة كل من "ماكس فيبر" و "شومبيتر" التي تماهي وتماثل بين آليات اشتغال الأحزاب السياسية والمقاولات الإقتصادية. إلا أن المرجعية الحقيقية لهذه الطروحات، تجد سندها في أعمال "انتوني داونز"، الذي كان أول من أثار مفهوم الناخب العقلاني أو الناخب الإستراتيجي. حيث يرى أنه "أثناء الإنتخابات العامة، يقدم المرشحون المتنافسون برامج، ويصيغون وعودا تكون بمثابة عرض لخيرات، ويمكن لهذه الأخيرة أن تكون تخفيفا ضريبيا أو تدابير اجتماعية أو سياسية (...). ويسعى الناخب لكي يرفع "فائدته" إلى الحد الأقصى، بمعنى أن يكون صوته مقابل تأثير أمثل على الشروط الملموسة لوجوده". والواضح أن هذه العملية تفترض مجموعة من الشروط، أولها تعرف الفرد على مصالحه، وقدرته على تصنيفها في سلم الأفضليات. وثانيها اطلاعه على الحصيلة الإقتصادية والإجتماعية للممثلين السياسيين المزاولين للحكم، بالإضافة إلى مدى مصداقية ووعود المرشحين المعارضين.
وتتأسس إشكالية الناخب العقلاني في منظور "داونز" حول "مفهوم الكسب القابل لأن يأخذ شكلا ماديا"(. وبالإضافة إلى هذا التفسير المبني على المكافآت المادية، هناك أشكال وأنماط أخرى من المكافآت، يمكن أن يحصل عليها الناخب ولا تكون لها أية قيمة مادية، مثل المتعة التي يجدها الفرد في الإنصياع إلى زعيم سياسي، يتوفر على شخصية كاريزماتية (تسليم الذات) أو متعة التماثل والتماهي مع قضية سياسية كبيرة. وفي هذا الإطار يرى "فيليب برو" أن هذه النظرية ( ... أكثر واقعية لأنها أقل قابلية للإختزال في مقاربة اقتصادية تقوم على البحث عن مكاسب مأمولة"كما أن السلوك الإنتخابي مثل كل أشكال السلوكات الأخرى، يمكن أن "يتعلق بعقلانية غير قابلة للنقاش من دون أن يكون ثمرة حساب واع، فالأفراد على سبيل المثال تحركهم تدافعات يجهلون غالبا مصدرها المعقد ودلالاتها العميقة، ومع ذلك فإن أصوات الرفض ستكون على هذا الأساس".
إن نظريات الإختيار العقلاني تبقى عاجزة عن الإحاطة بكافة الدوافع التي تتحكم في الناخبين، لأن العملية الحسابية القائمة على مبدأي الكلفة والمزايا، تلعب دورا أساسيا في توجيه السلوك الإنتخابي، إلا أنها مع ذلك تلغي الأهمية التي يمكن أن تلعبها عوامل أخرى. فهذه العملية تفترض أساسا وجود مواطنين مهتمين بجزئيات الحقل السياسي ومطلعين على تفاصيله، بالإضافة إلى أن الحملة والشعارات أو الوعود التي يوجهها المرشح قد تكون غامضة أو غير مفهومة، الأمر الذي يجعل الناخب عاجزا عن تحديد اختياره بشكل عقلاني. أما "الفئة الثانية من التحفظات، فتتعلق بمفهوم السوق نفسه، وهو المكان الرمزي الذي يلتقي فيه العرض عرض محترفي السياسة وطلب الناخبين الباحثين عن إشباعات مثلى. إن جادبية التعبير كانت قوية إلى حد جعل استعماله يتجاوز بشكل واسع وسطه الفكري الأصلي، وينتشر بشكل خاص في علم الإجتماع السياسي الذي يستوحي أفكاره من بييربورديو". ومع ذلك يتعين تسجيل مجموعة من الملاحظات التي تحاول إرساء التمايز ما بين السوقين الإقتصادي والسياسي.
أولا: إن مفهوم "رأس المال السياسي" لا يتطابق تماما مع مفهوم خيرات الإنتاج الإقتصادي والمنافع التي يتوفر عليها هذا الأخير. فعلى الرغم من كون موارد الرأسمال السياسي تتضمن منافع مادية، إلا أنها بالإضافة إلى ذلك تتضمن مجموعة من التمثلات الإيجابية وهويات الإنتماء، وحمولات عقائدية يستحيل إخضاعها لأواليات العرض والطلب، أو لحساب الكلفة والمزايا. و إذا كان العديد من الناخبين يتوفرون على انتظارات من الفعل السياسي للمرشح من خلال العمل على تحسين شروط تواجدهم، إلا أن العديد منهم يمارس حق التصويت، ليس مقابل حسابات عقلانية، وإنما بكل بساطة ليعبروا عن إحساسهم بروح المواطنة الذي يستبطنونه من خلال تنشأتهم السياسية. فكل نظام سياسي يتوفر على رابط ناظم بين أفراده، يشمل تحديد الإتجاهات في خطوطها العريضة، أي "ثقافة سياسية والتي هي مجموع المعتقدات والقيم المتعلقة بالعيش في المجتمع، ودور الأنشطة السياسة في دعم وتوجيه التلاحم الإجتماعي (...) التي تمكن من التوافق المتبادل للسلوكات أو قبول التدخلات السلطوية الهادفة إلى فرض هذا التوافق". فالتفاقة السياسية تهدف إلى "ضمان التلاحم وديمومة النظام في مواجهة جميع الأطراف، ذلك أنها تؤثر على سلوكات الأفراد في أدوارهم ووظائفهم السياسية، والإكراهات السياسية التي تواجههم واستجابتهم للقوانين"
وتأسيسا على هذا الدور الذي تلعبه القيم وأنماط السلوك التي تشبع بها الفرد، تصبح المقاربة القائمة على أواليات العرض والطلب عاجزة عن تحديد وتفسير السلوك الإنتخابي للكثير من المواطنين. بالإضافة إلى التحليلات القائمة على مقولة الإختيار العقلاني، عرفت التحليلات البيئية تطورا مهما في مجال السوسيولوجية الإنتخابية. وإذا كانت الأولى تعطي مكانة أساسية للفرد، وتعزله عن باقي المؤثرات الإجتماعية، القيم والثقافة، الإنتماء الإجتماعي، الفئة العمرية، الجنس ( ذكر أم أنثى)، فإن النماذج التفسيرية التي تتبناها التحليلات البيئية للسلوك الإنتخابي تقوم على دمج كل هذه المعطيات. وضمن هذا الإطار، يمكن تصنيف مؤلف "أندري سيجفريد" "اللوحة السياسية لفرنسا الغربية" الصادر سنة 1913، الذي يرى أنه لتفسير السلوك الإنتخابي يتعين الوقوف في مرحلة أولى على طبيعة الأرض وأسلوب السكن، ونظام الملكية، حيث "يمكن لتناسق هذه العوامل المختلفة بحسب الأقاليم أن يشجع على وجود مناخ اجتماعي وسياسي من نمط قائم تقريبا على المساواة، كما يمكن لتأثير الكنيسة أن يجد فيه وسط استقبال قابل للتأثر".
وتأسيسا على هذا يرى "اندري سيجفريد" بكون المناطق الغرانيتية التي توجد فيها مساكن مبعثرة وغير منتظمة ( بلاد الأحراج) و تهيمن فيها الملكيات الكبيرة المقرونة بالإستثمارات الصغيرة (مزارع)، استمرت فيها الكنيسة في تأدية وظيفتها الدينية وتجذرها داخل النسيج القيمي والإجتماعي لسكان هذه المناطق. ويخلص بكون هذه الأخيرة تشكل قلاعا يمينية. أما المناطق الكلسية التي تلعب فيها ندرة المياه دورا أساسيا في تجميع السكان حول ملكيات صغيرة ومتوسطة، فساكنتها تكون أكثر ميلا للأفكار القائمة على المساواة والقضاء على الفوارق الإجتماعية وتشكل هذه المناطق القلاع الإجتماعية لليسار السياسي. ويشير "اندريه سيجفريد" بأنه لا يتعين التعامل مع هذه القاعدة بإطلاقية. وأظهرت بعض الدراسات خصوصا تلك التي قام بها كل من "شارل تيلي" حول "فاندي" " La vende " و "بول بوا" حول "السارت" محدودية هذه الطروحات في الإلمام بكافة تشعبات وجزئيات الفعل الإنتخابي.
والواضح أن التحليل الذي يستند إلى مقولة المجال الجغرافي كمحدد للسلوك الإنتخابي، "قد شاخ لأنه كان يأخد كموضوع له مجالا من الأراضي ذات الحضارة الريفية، حيث بقيت الإتصالات والمبادلات بالمعنى الجديد محدودة جدا، ومع ذلك فإنه يبقى مثالا ساطعا جدا للتحليل العلمي للسلوك السياسي". ونجد امتداد التحليلات التي تستند على المقاربة الجغرافية في طروحات كل من "ف.غوغيل" و"ايف لاكوست" بشكل خاص، فأعمالهما تشير إلى بقاء الحساسيات المحلية على الرغم من تراجع الخصـوصـيات الأكثر وضوحا، حيث أن القـلاع الجغرافية اليسارية أو اليمينية لازالت تطبع الإنتخابات الفرنسية مع تسجيل نوع من التراجع النسبي. ففي منطقة "البيرينيه الوسطى" لازالت الثقافة السياسية الراديكالية اليسارية تطبع توجهات الناخبين، وفي المقابل لازالت الثقافة السياسية ذات الحمولة العقائدية الكاثوليكية توجه الفعل الإنتخابي إلى اليمين.
أما المدرسة الثانية للتحليل البيئي فهي لا تستند على مفهوم المجال الجغرافي، وإنما تعتمد أساسا على أهمية العوامل الإجتماعية في تحديد السلوك الإنتخابي. ومن بين المؤسسين الأوائل لهذه المدرسة "لازار فيلد" و"بيرسلون"، وهذا التقليد الذي إبتدأ معهما تمثله بشكل خاص أعمال مركز أبحاث جامعة "مشيغان". وامتد إشعاع هذه المدرسة إلى فرنسا خصوصا مع "ألان لانسلو"Lancelot" A." وباحثوا "Cevipof"، وتستند على تحقيقات بواسطة السبر واستطلاعات الرأي، وتقوم تحليلاتها على الربط والتلازم الضروري بين الإنتماءات الإجتماعية والتصويت إلى اليمين أو اليسار.
وفي هذا الإطار تحدد "نونا ماير" و"باسكال بيرنيو" نمط هذا التحليل بقولهما: "إنه نموذج يمكن وصفه بالإجتماعي. ويجعل من الجماعات التي ينتمي إليها الأفراد العامل الحاسم في سلوكهم الإنتخابي. إلا أن الأمر لا يتعلق بنموذج حتمي، لأن المتغيرات لا تقود إلا إلى احتمالات قوية إلى هذا الحد أو ذاك، بالتصويت لصالح اليسار أو لصالح اليمين، كما أنه لا يتعلق بنموذج سببي، فهو يفترض كمسلمة تقوم على الربط بين المتغيرات الثقيلة والإختيارات السياسية". والتحليلات البيئية تقوم على ثلاثة نماذج من المتغيرات التي تظهر بشكل واضح في الجدول التالي:

الإنتخابات الرئاسية لعام 1988
الدورة الثانية(1)

من أصل 100 صوت عبر عن رأيه ميتران شيراك
المجموع 54 46
رجال 53 47
نساء 55 45
24-18 سنة 60 46
34-25 سنة 63 37
49-35 سنة 51 49
64-50 سنة 51 49
65 فما فوق 47 53
مزارعون 35 65
حرفيون - تجار - رؤساء مشاريع 37 63
أطر - مهن فكرية عليا - أساتذة 36 64
مستخدمون 61 39
عمال 68 32
غير نشيطين - متقاعدين 52 48
عاملون لحسابهم 33 67
أجراء 62 38
منهم اجراء القطاع العام 66 34
منهم أجراء النظام الخاص 60 46
التعليم الإبتدائي 58 42
التعليم الثانوي 51 49
التعليم التقني والتجاري 56 44
التعليم العالي 49 51
كاثوليك يمارسون الشعائر بإنتظام 27 73
كاثوليك يمارسون الشعائر بالمناسبات 44 56
كاثوليك لا يمارسون الشعائـر 58 42
بدون دين - أديان أخرى 75 25





1 - المتغيرات الإجتماعية السكانية.
وتشمل الجنس، السن ومكان الإقامة، ويلاحظ في الجدول السابق أن التمايزات القائمة على الجنس أصبحت تتراجع شيئا فشيئا، فالرجال والنساء يتوزعون بطريقة متساوية تقريبا بين اليمين واليسارعلى الرغم من استمرار ظاهرة تحفظ النساء إتجاه الأحزاب المتطرفة. وتظهر الدراسات واستطلاعات الرأي في فرنسا بكون النساء تتحفظن أكثر اتجاه اليسار، ولذا كانت أغلبية الأصوات النسائية تجد مكانها الطبيعي في اليمين. وفيما يخص السن تظهر نفس الدراسات أنه كلما تقدم الفرد في السن، إلا وتغير سلوكه الإنتخابي من اليسار إلى اليمين، "فالأشخاص المسنون لديهم تفضيل مؤكد لليمين والوسط".
وفي نفس الإتجاه القائم على تراجع المتغيرات القائمة على السن والجنس في تحديد السلوك الإنتخابي، يرى "Aninick Percheron" أن لا مبالاة النساء، وعدم اهتمامهن بالشأن العام، أصبح مسألة نسبية، خصوصا في بعض الأوساط الإجتماعية الميسورة. بالإضافة إلى ظهور عوامل جديدة تتمثل في تراجع الأدوار التقليدية التي كانت تقوم بها المرأة، وذلك بالنظر إلى كونها أصبحت تحتل مواقع هامة في الحقل السياسي والإجتماعي والإقتصادي .كما أن السن أصبح متغيرا ضعيف الأهمية في تحديد السلوك الإنتخابي، خصوصا إذا أخذنا بعين الإعتبار ظاهرة تقارب الأجيال ودورة الحياة، والعوامل المرتبطة بالديمغرافيا. لهذا يمكن القول أن السن والجنس، كمؤشرات لتحديد السلوك الإنتخابي تعتبر غير كافية، ومع ذلك يبقى إدراجهما ضروريا لتفسير السلوك الإنتخابي.
2 - المتغيرات الإجتماعية والإقتصادية.
تشمل هذه المتغيرات الإنتماء السوسيو مهني ومستوى الدخل وامتلاك ذمة مالية. وفي هذا الصدد برهنت "نونا ماير" على أهمية التمييز بين العمال المستقلين والعمال المأجورين. فبالنسبة للأوائل غالبا ما يصوتون بنسبة عالية لصالح اليمين أو الوسط بغض النظر عن المجال الذي يشتغلون فيه، أي سواء كانوا مزارعين أو تجارا أو صناعا صغار. وفي المقابل تصوت الشريحة الأخيرة -العمال المأجورين- لصالح اليسار. "ففي داخل عالم الأجراء يبدو تصنيف الفئات الإجتماعية المهنية تبعا لميلها نحو اليسار مسـتقرا إلى حد كبير. فأجـراء القـطاع العام هم أكثر تأييدا له من أجراء القطاع الخاص. كما أن العمال والأطر الوسطى يؤيدون اليسار أكثر من المستخدمين والأطر العيا". ويشير كذلك "جاك كابدوفيل" و"إيليزابيت دوبوارييه" بكون " النسبة المائوية للتصويت لليمين تزداد بمقدار تزايد عدد عناصر الميراث الممتلكة".
وبشكل عام فإن المحدد السوسيواقتصادي يفترض أن الأفراد يمتلكون نظاما رمزيا يشتغل لدى كل واحد منهم، كنظام لإدراك العلاقات السياسية، وتراتبية المواقع الإجتماعية، والأعمال المشروعة وتلك اللامشروعة، وحتى السلوكات المتطابقة مع المشاكل التي يمكن أن تعترضهم في حياتهم اليومية. وفي هذا الصدد يرى "ج كورفيتش" بأن الطبقات هي تجمعات معينة تتسم بعدم تنظيمها، لكنها مع ذلك تبقى ملتحمة بواسطة مجموعة من الذهنيات المشتركة، والمتمثلة أساسا في الرموز والتمثلات الإيديولوجية، وكذلك وجود وعي طبقي مشترك. إلا أن هذا الوعي الذي قد يكون له تأثير على العملية الإنتخابية من خلال وجود تصويت طبقي، لا يوجد إلا لدى أنصار الأحزاب اليسارية المعروفة بتشبعها بالفكر الإيديولوجي، حيث تقوم بحشد أنصارها على هذا الأساس، لذلك يقوم الحزب الشيوعي الفرنسي باعتباره حزب الطبقة العاملة باجتداب لصالحه أغلبية أصوات العمال والفلاحين.
والملاحظ أن الإنتماء الطبقي لا يتعين اعتباره محددا كافيا، خصوصا لدى بعض الفئات السوسيو مهنية التي ترى في تصويتها لفائدة مرشحين من شرائح المجتمع العليا، والمنضوين تحت لواء أحزاب يمينية نوعا من الإرتقاء الإجتماعي. كما أن هناك بعض الأفراد وبالنظر إلى تبعيتهم المادية إلى مشغلهم فإنهم يتماهوا معه، الأمر الذي ينعكس على سلوكهم الإنتخابي. ويرى المحلل الألماني ( رايش W. Reich"" أن الشعور بالتماهي يوجد خصيصا لدى الموظفين والعمال والمستخدمين، لأن شعورهم بالتطابق مع رئيسهم يكبر شيئا فشيئا بسبب تبعيتهم المادية المزمنة حتى يتحول إلى كينونة في اتجاه الطبقة المسيطرة.
3 - المتغيرات الإجتماعية الثقافية.
وأهم هذه المتغيرات المستوى التعليمي والإنتماء إلى عقيدة دينية. ويتم قياس المتغير الأول انطلاقا من الشهادات التي يحصل عليها الفرد، "الأمر الذي يدخل تفاوتات بين الشرائح الأكثر سنا والأكثر شبابا بين السكان، لأن عدد الحاصلين على الشهادة الثانوية في كل فئة من فئات السن تطور كثيرا خلال الأربعين سنة الأخيرة".
والملاحظ أنه كلما ارتفع مستوى التعليم إلا وإزداد الإهتمام بالسياسة. ومن الممكن أن يساهم هذا العامل في التبني الأكثر تواترا وتكرارا لسلوك "الناخب الإسترايجي" دون أن يؤدي ذلك بالضرورة للمبالغة في صيرورة ومدى هذا التطور.
ويلعب العامل أو المتغير الديني دورا مهما في تحديد السلوك الإنتخابي. ففي فرنسا حافظ الكاثوليك الممارسين للشعائر الدينية على تحفظهم وترددهم اتجاه أحزاب اليسار، على الرغم من كون هذا المتغير قد تراجع نسبيا خلال خمسة عشرة سنة الأخيرة. لأن الكاثوليكي الممارس بانتظام للشعائر الدينية "أضحى أكثر تسامحا، وأقل صرامة في استطلاعات الرأي". فلم يعد ذلك الفرد الذي يقوم بالشعائر الدينية كل أسبوع بل أصبح يعتمد على ذهابه للقداس مرة كل شهر. وتشير الدراسات الإنتخابية، إلى أن الكاثوليكي الذي يمارس بانتظام شعائره الدينية، والذي يتوفر على وضع اجتماعي- مهني وسن متشابهين يصوت في الغالب لصالح الوسط أو اليمين بخلاف الناخبين الآخرين . لأن أنظمة وأنساق الفعل التي تفرزها الكنسية الكاثوليكية والقيم المرتبطة بها، بالإضافة إلى نظام الرمز الذي تحافظ عليه، وتتعهده المجموعات المرجعية، له انعكاس قوي على السلوكات الإنتخابية، بدءا من التسجيل في اللوائح الإنتخابية، وانتهاءا بالأفضليات المعبر عنها ففي فرنسا يبدو أن تأثير المتغير الديني أكثر أهمية من تأثيرات متغير الطبقة في تفسير التغيرات التي تطرأ على الأفضليات السياسية. ويمكن قياس الصلة الوثيقة بين التصويت وموقع الأفراد على سلم الإندماج الديني، والذي يتم بناؤه مع الأخذ بالحسبان نظام الممارسة والقدرة على التعاطي مع مقولات وتطورات الإعتقاد الديني (الكاثوليكي).
وفي هذه الأوساط، يبدو أن السلوك الإنتخابي بصفة عامة يبقى خاضعا لثقافة فرعية حقيقية. ومن هذا المنطلق، توجد صلة وثيقة بين التماهي الشامل والجوهري، مع المجموعة الإثنية. والتماهي الحزبي هنا لا يشكل إلا جانبا جزئيا من الظاهرة المعنية، لكن في بعض الحالات قد نجده يساهم في التماهي مع نسق لتنظيم معقد وشامل ( الأحزاب الشيوعية، الأحزاب الديمقراطية الإجتماعية في أوروبا، الأحزاب الأصولية الإسلامية الخ...). ومن الواضح أن هذا التنوع في التماهي كيفما كانت تأثيراته الأخلاقية والعاطفية على الأفراد، فليس له حجم وقوة التماهي مع مجموعة تأخذ بعين الإعتبار كل أوجه الحياة الأسرية، المهنية والثقافية لهؤلاء الأفراد، لكن هذا لا يعني أنه ليس له تأثير على الأفضليات المعبر عنها أثناء عملية التصويت.
إن التحليلات البيئية للسلوك الإنتخابي سواء تلك التي تهم النموذج السوسيولوجي، أو المقاربات ذات الطابع السلوكي لنموذج "ميشيغان" التي تعتمد في تفسير السلوك الإنتخابي على عوامل ذات مدى طويل، كالإنتماء الحزبي أو العامل الديني أو الإنتماء الإجتماعي الطبقي، أصبحت تتراجع نسبيا حيث أكدت العديد من الأبحاث أن سلوك الناخب أصبح حساسا لظروف الحملة الإنتخابية وللعوامل ذات المدى القصير، حيث قد يغير الناخب اختياره في ظرف وجيز.
وفي فرنسا، يلاحظ أن الأبحاث طورت تدريجيا نموذجا يمزج بين تقليد التحليلات البيئية وبراديغم "ميشيغان" بحيث يتم تفسير التصويت لصالح اليمين أو اليسار من خلال الاعتماد على متغير الدين والطبقة الإجتماعية، أي التركيز على العوامل ذات المدى الطويل، ومقولة الناخب العقلاني المستقل، والحساس لبنية العرض الإنتخابي، فالناخب الإستراتيجي يحسب اختياره لزيادة استفادته من الآليات المتحكمة في توزيع السلطة.
ثانيا: اليمين واليسار: صراع طبقات أم تنافر نخب؟
لاشك أن الحمولة السوسيولوجية لمفاهيم اليمين واليسار تثير الكثير من الإشكالات النظرية والمعرفية، فهل يتعلق الأمر بصراع طبقي اجتماعي، تتحدد هويته انطلاقا من التمايز يمين / يسار؟ أم أن هذه المفاهيم تختزل تناقضا آخر يتمثل في التنافر بين النخب التي تتشكل منها الطبقة السياسية؟ لكن قبل الوقوف على هذه الإشكالات، ما المقصود بمفهوم النخبة؟ وهل يمكن الحديث عن نخبة واحدة منسجمة، أم أن ما يحكم هذه الأخيرة هو التناقض والتنافر والتعدد؟ وفي هذا الإطار، يرى "رايمون أرون": "أنه من الخطأ أن نتصور بأن المجتمعات المعاصرة يمكن تعريفها بواسطة الطبقة الحاكمة، حيث أن هذه الأخيرة تتميز بالتنافس ما بين الوحدات الحاكمة وتوحدها استثناء أكثر مما هو قاعدة" .
إن مفهوم النخبة استعمل إبتداءا من القرن الثاني عشر، وتحولت حمولته إلى المعاني التالية مع القرن الرابع عشر، حيث أصبح يعني "المنتخب" « Elu » أو "المختار" «Le choisi» و"الشهير أو المعروف" « Eminent » أو "المميز" « Le distingue"، وهي صفة للشيء أو للشخص المميز ضمن مجموعة من الأشياء أو الأشخاص. وتأسيسا على ذلك، يتم أحيانا الحديث عن "نخبة الجيش" و"نخبة المجتمع"... الخ، وسواء استعمل بشكل مفرد أو جمع، فهو يعني ما هو ضد الكتلة أو الجماهير، أي الأغلبية التي تتواجد في المراكز التحتية من التراتبية الإجتماعية. وظهرت مجموعة من الطروحات السياسية والفكرية تعارض بين الجماهير والنخب. وضمن هذا المنحى يمكن إدراج الفكر السياسي لكل من "أدموند بورك" و "جاك مولي ديبو" "jacque Molet du pau" و "جوزيف ديميستر"، و"لويس بونالد"، و "توكفيل". ويتساءل هؤلاء عن نتائج عودة الكتل إلى الساحة التاريخية، والأخطار التي يمكن أن تحملها هذه العودة على السياسة والمعرفة. وفي رأيهم أن الزعماء الذين يمثلون أقلية في المجتمع هم القادرون وحدهم على ضمان الحريات في مواجهة النزعة المساواتية الإطلاقية التي تتدافع الكتل بوعي أو بدون وعي من أجل إقرارها.
والواضح أن التعارض بين الكتل والنخب يرتكز على عناصر فلسفية وتاريخية، ترى بأن الجماهير لم يكن لها أبدا ولن يكون لها في المستقبل أي دور إبداعي. وفلسفة التاريخ هذه تجد مصادرها الأساسية في نظرية الأوليغارشية التي ترتبط بالنظامية المقترحة من طرف "جون بودان". لأن الحكومات كانت دائما حكومات أقلية، ولا يهم شكل النظام هل هو اشتراكي أم ليبرالي، وهذه الحكومات هي التي تتوفر على سلطة القرار والتوجيه بمعزل عن شكل النظام. وتأسيسا على ذلك، فالسيادة يتم مصادرتها لصالح عدد قليل من الأشخاص. ولاشك أن هذه المقاربة قد تم استلهامها من طرف مجموعة من الطروحات التي حاولت ملامسة إشكالية السلطة.
وحسب هذه الطروحات النخبوية "فالسلطة هي في ملك نخبة تتوفر على نسبة من الوحدة"، ويرفض "ورايت ميلز" الطروحات الماركسية التي تؤسس مفهوم السلطة وتختزله في مقولة حيازة أو ملكية وسائل الإنتاج. فالنخبة هي أكثر من "مجموعة مراكز بالمعنى الفبيري ولا يمكن اختزالها في مفهوم الطبقة الإجتماعية، كما تتداوله الكتابات الماركسية". وتتشكل النخبة من توفر أعضائها على بعض "الأدوار الإستراتيجية، كما أنها تعني "الدوائر السياسية والإقتصادية والعسكرية، والتي من خلال مجموع معقد يقتسم القرارات على المستوى الوطني، وتكون الأحداث الوطنية موضوع هذه القرارات".
والجدير بالذكر أن المنظرين المعاصرين لأطروحة النخب قد تخلو عن فكرة السمو الطبيعي والفيزيائي والبسيكولوجي للزعماء، حيث أن المركز الإجتماعي للفرد هو الذي يجعله ينظم لشريحة النخب. وبعبارة أوضح، فلابد من وجود تراتبيات قيمية واجتماعية يتم فرضها وإنتاجها لتنحية الجماهير. لأن الهيمنة بالمعنى الفيبيري تفترض بالإضافة إلى وجود خيرات ثمينة، وجود إرادة الصراع لفرض تصوراتها وتمثلاتها، وتبعا لذلك فهي -أي الهيمنة- تطرح تمفصلا بين ثلاثة حقول أساسية: الحقل السياسي، الحقل الديني والحقل الإقتصادي والتوفر على رأسمال رمزي أو مادي ضمن هذه الحقول ، هو الذي يمنح الفرصة الموضوعية للفرد لكي يصبح مطاعا.
وتتعدد المقاربات النخبوية وتتراوح بين تلك التي ترى في النخبة كلا منسجما ومتلاحما، وأنصار النظرية التعددية للنخبة، الذين يرفضون اعتبار هذه الأخيرة وحدة كاملة وموحدة، ويؤكدون بأن الواقع يوضح بأن هذه النخب محكومة بتعدديتها وصراعاتها وتناقضاتها الداخلية، ولا يمكن مماهاتها مع مقولة الطبقة المسيطرة التي تتبناها الطروحات الماركسية. وفي هذا الإطار تندرج أطروجة "رايمون آرون" الذي يرى أنه من الممكن التمييز داخل النخب الحاكمة بين خمسة وحدات:
1 - الحائزين على السلطة الرمزية ( رجال الدين، المثقفين، منظري الأحزاب).
2 - الحائزين على السلطة الإكراهية ( كبار الجيش، البوليس).
3 -- مسيري العمل الجماعي للملكيات أو مديري وسائل الإنتاج.
4 - كبار الموظفين الحائزين على السلطة الإدارية.
5 - المناضلين النقابيين وأنصار الأحزاب السياسية.
وتأسيسا على هذه المقاربة، ألا يشكل تقليص التمايز يمين / يسار لمجرد تنافر داخل النخب السياسية، إفراغا لهذه الثنائية من أي محتوى سوسيولوجي؟ لاشك أن المقاربة التي تنزع إلى تقليص التمايز يمين / يسار إلى تنافر وتصارع داخل النخبة الواحدة، قد عرفت انتشارا قويا، خصوصا مع تزايد الحديث عن أزمة التمثيل السياسي، مع العلم أن هذه المقاربة لا تخلو من الصحة، حيث أن الأحزاب أصبحت تقطع نسبيا مع أصولها الإجتماعية، ف "الأسس المجتمعية قد ضعفت بمقدار ما خرجت البلدان المذكورة من طور المجتمع الصناعي الذي كان محكوما بتعارض أرباب العمل والمأجورين". والملاحظ في هذا الإطار أن الشرائح الإجتماعية، التي تنشط داخل المجتمعات الديمقراطية أصبحت تتمع بنوع من الإستقلالية، وبالتالي لا يمكن مماهاتها لا مع البروليتاريا العمالية ولا مع البورجوازية، بالإضافة إلى أن السمة الأساسية لهذه المجتمعات تتمثل في أنماط الإستهلاك والحراك الإجتماعي والهجرات، "مما يجعل من المستحيل بناء الحياة السياسية على نقاشات وسجلات، وعلى قوى فاعلة لم تعد تتجاوب إلا جزئيا مع الواقع الراهن". وهذا الإستنتاج هو الذي دفع بالبعض إلى الإعتقاد بأن على الأحزاب أن تتخلى عن أدوارها السابقة كآلية لتدبير الصراعات الإجتماعية، وأن تتحول إلى "فرقاء حكم يختار بينهما الناخبون بحرية. والملاحظ حاليا أن الصراعات الإجتماعية أصبحت تتخذ أشكالا جديدة تختلف عن تلك التي عرفتها المجتمعات الصناعية، لكون "الأحزاب كانت تمثل طبقات مجتمعية، فازداد اليوم تمثيلها لمشاريع حياتية"، حيث أصبحت تمثل حركة مجتمعية وسياسية، تتجاوز الإطارات الطبقية السابقة بدون أن تلغيها، و"هذا التحديد الموضوعي للقوى المجتمعية الفاعلة هو الذي دب فيه الضعف". إلا أن هذا التراجع لا يعني بتاتا فك الإرتباط بين الإختيارات السياسية والإيديولوجية للفاعلين السياسيين والمواقع الإجتماعية لهؤلاء الفاعلين. وفي هذا الإطار يرى "ألان تورين" أنه إذا كان "التحديد الموضوعي للقوى المجتمعية الفاعلة يعطي للأحزاب السياسية حق احتكار معنى العمل الجماعي، وذلك بحكم كونها تعبيرا عيانيا عن "وعي الطبقات الإجتماعية / المجتمعية لذاتها" في ظل المجتمع الصناعي، فإن هذه الوظيفة ستعرف تطورا مهما دون أن تقطع مع حمولتها السوسيولوجية، خصوصا "عندما يتحدد العمل المجتمعي باعتباره مطالبة بالحرية، ودفاعا عن البيئة والمحيط، ونضالا ضد "تسويق" جوانب الحياة بأسرها، فإنه يصبح بالعكس مسؤولا عن معناه الخاص، بل بوسعه أن يتحول إلى حزب سياسي، أو أن يفرض على الأقل أولوياته على حزب من الأحزاب، إذ يدعمه ويعزز مواقفه".
إنطلاقا من ذلك، يمكن القول انه على الرغم من التراجع الواضح الذي أصبح يمس التحديد الموضوعي للقوى الإجتماعية، ومدى تماهي هذه الأخيرة مع الأحزاب السياسية، إلا أن ذلك لا يعني تراجع المسألة الإجتماعية، وانمحائها بصفة نهائية، أو القول بأن التمايز يمين/يسار يهم فقط النخبة السياسية التي تقطع مع أصولها الإجتماعية وامتداداتها السوسيولوجية. إن الحمولة السوسيولوجية للأحزاب السياسية لم تعد في مثل نقائها السابق، حيث كانت الشريحة العمالية أكثر ارتباطا بالأحزاب اليسارية والشيوعية على الخصوص، وكانت ارتباطات الطبقة البورجوازية بالأحزاب اليمينية، وهذا يعود بالأساس إلى التحديات الجديدة التي تواجهها المجتمعات، سواء تلك التي تنتمي إلى الشمال والتي أصبحت جدالاتها السياسية تتجاوز الصراع بين القوى المنتجة وأرباب العمل إلى إشكالات جديدة تتمثل أساسا في مسألة العناية الطبية والإجهاض، أو أساليب منع الحمل، والعلاج الجنسي، والإستنساخ، والقتل العمد، والإيدز، والبيئة، والهجرة، حيث من شأن هذه الإشكالات أن تجعل التمايز يمين / يسار يخرج من صورته الأولى المحكومة بنقائها الإجتماعي إلى فضاء اجتماعي واسع، تتداخل فيه قوى إجتماعية، تختلف قيمها الثقافية ومرجعياتها الدينية وحمولاتها السياسية.
ولاشك أن هذا الوضع يسري كذلك على دول الجنوب، حيث أن رهان الديمقراطية، جعل التمايز يمين / يسار في حمولته السوسيولوجية، يتجاوز حدوده الطبقية ليفسح المجال أمام تحالفات جديدة. وبالتالي لم يعد اليسار شيوعيا ولا اشتراكيا، كما أن حمولته السوسيولوجية لم تعد تتأسس على الطبقة العمالية والبورجوازية الصغرى، بل انضافت إليها قوى اجتماعية من الطبقات الوسطى، وحتى الشرائح المتنورة من البورجوازية التي تسعى إلى إرساء الديمقراطية ودولة القانون، والقطع مع الأساليب السابقة القائمة على ثقافة الإقصاء ونبذ الإختلاف.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول أن التحديد الموضوعي للقوى الإجتماعية عرف تغييرا واضحا وحمولة نوعية جديدة تؤسس للتمايز يمين / يسار سوسيولوجيا، الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هذا التمايز لا يمكن اختزاله في مجرد تنافر داخل النخب السياسية، المعزولة عن امتداداتها الإجتماعية، بل هو محكوم بحمولته السوسيولوجية التي تتداخل فيها الشرائح الإجتماعية بمختلف تموقعاتها ومصالحها، وذلك لكون الأحزاب السياسية هي في أساسها نتاجا لتناقضات اجتماعية، تسعى الأحزاب السياسية لتدييرها ضمن ثقافة توافقية.



#محمد_كودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التمايز يمين / يسار : بحث في نظام التسمية2
- 1 اليمين/ اليسار: مقاربة نظرية لشروط النشأة وآليات التصنيف ا ...


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد كودي - التمايز يمين / يسار : أية حمولة سوسيوجية؟